من مضحكات الدهر
سأبدي لدهري ناجذَ المتضحِّك
ولو كان يجري بالذي هو مهلِكي
فما أنا راجٍ بعد ذا اليوم خيرَه
ولا خائفٌ من شره المتحرِّكِ
إذا الدهر لم يُعتب من الناس جازعًا
فأضْيَعُ ما فيه شكاية مشتكي
على أنَّ ضِحْكي منه لا عن سفاهةٍ
ولك كضِحكِ العَفِّ من متهتِّكِ
ولو سَبَرَ الناس الحوادث بالنهى
لما حصلوا منها على غير مُضحِك
وما حادثات الدهر إلا خوابطٌ
كعشواءَ تمشي مِشية المترهْوكِ١
وتنهض للإرقال في غير مَنهضٍ
وتبرك أَحيانًا على غير مَبْركِ
وما حُكْم هذا الدهر إلا تحكُّمٌ
كحكم فصوص النرد في نقل مُهرَك٢
كأنَّا من الدنيا ببيت مقامرٍ
حوى من سهام القَمْر كل مُدَمْلَك٣
فمِن قامرٍ قد فاز باليَسر قِدحُه
وآخر مقمور بقدح التصعلُك
وما الحِرَف اللاتي يجيد احترافها
سوى شبَكٍ منصوبة للتملك
وإنَّ طبيب القوم ناصبُ كِفَّةٍ
ليصطاد فيها بالدواء الممصطك٤
ومن مضحكات الدهر حاملُ سُبَحة
تُقبَّل جهلًا كفُهُ للتبرُّك
وآخرُ تركيٌّ تعرَّبَ وادَّعى
على عربي هُجنة المتترك٥
وتحديثُ غِرٍّ مطريًا عدل دولة
برايتها رسم الصليب المشبَّك
وما الناس إلا خادعٌ أدرك المنى
وآخر مخدوع لها غير مدرك
فلا تُبدِ من زير النساءِ تعجبًا
ولا تغترِرْ بالزاهد المتنسك
فما دارت الأفلاك إلا وقطبها
بحكم الهوى حب الكَعاب المفلِّك٦
وإن أبصرتْ عيناك يومًا حقيقةً
تخالف ما قد قلتُه فتشكَّكِ
فإنك لم يُنبئك مثلُ مُجَرِّبٍ
خبير ولم ينصحك مثل مُحنَّك
فهذا لعمرُ اللَّه رأيي فخذ به
فقد فُزتَ منه بالجُذَيل المحَكَّك٧
١
المترهوك: المضطرب، الذي تراه كأنه يموج في مشيته.
٢
المهرك: واحد المهارك، وهو قطع مستديرة من خشب أو غيره يلعب
بها في النرد.
٣
سهام القمر: قداحه التي يقارع بها في القمار. والمدملك: من
السهام المخلق، أي: المسوى الملمس، لما جعل أحكام الدهر في
البيت المتقدم كأحكام كعاب النرد، ناسب أن يجعل الدنيا في هذا
البيت بيت مغامرة، والناس فيها بين قامر ومقمور، وأوضح ذلك
بالأبيات التالية.
٤
الكفة: حبالة الصائد التي يصيد بها الظباء، وهي بضم الكاف
وتكسر. والدواء الممصطك: المخلوط بالمصطكي.
٥
حاصل معنى البيت أن من المضحكات تركيًّا تعرب، فصار يعير
بالهجنة عربيًّا قد تترك.
٦
الكعاب: كسحاب؛ الجارية الناهد. والمفلك بصيغة الفاعل واللام
مشددة؛ التي استدار ثديها، يقال: فلكت الجارية: استدار ثديها
كفلكة المغزل.
٧
الجذيل المحكك: الذي يشتفى برأيه، والجذيل: تصغير جذل، وهو
عود كانوا ينصبونه في العطن لتحتك به الإبل الجربى، ثم صار
يضرب مثلًا للذي يستشفى برأيه.