اليتيم المخدوع١
قضى والليلُ مُعتكرٌ بهيمُ
ولا أهل لديه ولا حميم
قضى في غير موطنه قتيلًا
تمجُّ دمَ الحياة به الكلوم٢
قضى من غير باكيةٍ وباكٍ
ومن يبكي إذا قتل اليتيم؟
قضى غَضَّ الشبيبة وهو عفٌّ
مُطهَّرة مآزره كريم
سقاه من الردى كأسًا دهاقًا
عَفافُ النفس والعِرضُ السليم٣
تجرَّعها على طرَبٍ ولكن
بكفِّ اليتم ليس له نديم
على حينَ الربابة في نواحٍ
يساجلها به العود الرخيم
بحيث رقائق الألحان كانت
بها الأشجان طافية تعوم
كأن ترنُّم الأوتار نعْيٌ
وصمت السامعين لها وجوم
فجاء الموتُ ملتفعًا بخزْيٍ
وملءُ إهابه سَفَهٌ ولومُ٤
فأطلق من مسدَّسه رصاصًا
به في الرَّمْي تنخرق الجسوم
فخرَّ إلى الجبين به «نعيمٌ»
كما انقضَّت من الشُّهْب الرجوم٥
فبانَ مودِّعًا بعد ارتثاثٍ
حياةً لا تُناط بها الوصوم٦
لئن لم تبكِ من أسف عليه
سفاهتنا فقد بكت الحُلوم٧
ولو دَرَتِ النجوم له مصابًا
بكتْه على ترفعها النجوم
عسى الشهباءُ تثأره فتُبدي
إلى الزوراءِ ما يبدي الخصيم٨
ولم يقتله «إبراهيم» فيما
أرى بل إن قاتله «سَليم»
أليس «سليمٌ» الملعون أغوى
«نعيمًا» فهو شيطان رجيم
وأخرجه من الشهباء غِرًّا
يتيمًا ما له أبدًا زعيم
وجاء به إلى بغداد حتى
تخرَّمه بها قتل أليم
سأبكيه ولم أعبأ بلاحٍ
وأندبُه وإن سَخط العُمومُ
ولمَّا أن ثوى ناديت أرِّخْ
ثوَى قتلًا بلا مَهلٍ «نعيمُ»
١
السبب الذي دعا شاعرنا إلى نظم القصيدة، أن رجلًا يهوديًّا مطربًا من حلب
اسمه «سليم» خدع غلامًا مسيحيًّا يتيمًا من أهلها، وأتى به من بغداد فأراد
منه المنكر بعض أهلها، فأبت نفس الغلام الزكية الطاهرة ذلك، فجاءه يومًا
وهو سكران والغلام في نادي طرب يضم المئات من الناس، وأطلق عليه الرصاص،
فسقط ذلك اليتيم المخدوع على الأرض، فحمل إلى مستشفى الغرباء هناك، وقبض
على الجاني وزج به في السجن، فنظم معروف الرصافي هذه القصيدة حاكيًا بها
هذه الحادثة المؤلمة.
٢
الكلوم: الجروح.
٣
دهاقًا: ممتلئة.
٤
الإهاب: الجلد قبل أن يدبغ.
٥
الرجوم: ما يرجم به، مفردها رجم.
٦
ارتث ارتثاثًا: بالبناء للمجهول؛ حمل من المعركة جريحًا.
الوصوم: العيوب.
٧
الحلوم: العقول.
٨
الشهباء: حلب. والزوراء: بغداد.