عهد الصبا أو نهر الحياة

عهد الصِّبا سَقيًا لأيام الصبا
أشبَهُ شيءٍ بأزاهير الربا
إن الصبا كالورد في نضرته
وعُمْره واللون منه والشَّذا
واهًا على شَرْخ الشباب المشتهى
خلَّف ذاكره بقلبي ومضى!
لقد ذوَى غصن حياتي بعده
وكان ريَّان التَّصابي والمُنى
أطيب عيش المرء في شبابهِ
فإن تولَّى فهو هيشٌ مُزْدرى

•••

إنَّ حياة المرء ما عاش تُرى
أحوالُها مختلفاتٍ في الرُّؤى
كالنَّهَرِ الجاري الذي تغيَّرتْ
أوضاعه في الأرض كلَّما جرى
فهو لدى المنبع ضحْضاحٌ وفي
مَصَبِّه تلقاه بحرًا قد طَمَا١
بيناه يجري في الثرَى مُنعطفًا
إذا بواديه تمطَّى واستوى
طورًا كأسياف الوغَى مُنْحنيًا
في الأرض ينساب وطورًا كالقنا
وربما عادت مجاريه به
راجعةً من حيث جاءَ القهقَرى
وربما صادف غوْطًا فانهوى
فيه وقد خرَّ خريرًا ورغا٢
والماءُ فيه قد يُرى منبسطًا
وتارةً منزويًا فوق الثرى
وتارة تلقاه في مَشجَرةٍ
يجري وأخرى بين أصلاد الصفا٣
حتى إذا أبحر مجراه به
كان إلى الدأماءِ منه المنتهى٤
وهكذا أنهار أعمار الورى
تجري فتنصبُّ إلى بحر الرَّدَى

•••

وإنما العمر شبابٌ فإذا
زال فحزن وشقاءٌ وضنَى
ما كان أحلى العيشَ لو أنَّ الفتى
لم يجدِ الشيبُ إليه مُخْتطَى٥
ليت الفتى كالبدر في النشأة إذ
عاد هلالًا كل شهر فنَما!
أَو ليته كالشجر النابت إذ
يورق في الصيف ويَعرَى في الشتا!
أو ليت هذا الشيب إن كان ولا
بُدَّ من الشيب أتى قبل الصبا
شبيبة الإنسان مِرآة المُنى
بدائع الآمال فيها تُجتلى
والمرء فيها إنْ تمرأى راجيًا
أبدت له مبتسمًا ثغر الرجا
ويحَ شبابٍ فتك الشيب به
إذ لاح كالسيفِ عليه مُنتضى
بُردانِ: هذا من وقارٍ ونُهى
حِيك، وهذا من تصَابٍ وهوَى
لكن وقارُ الشيْب لا يعدِل ما
في طيِّهِ من لوثةٍ ومن وَنى

•••

يا مُسليًا ذا الشَّيب عن شبابهِ
بأنَّ وخْطَ الشيب أزهارُ النُّهى
أَقصِرْ هَذاذيكَ عن القول فلا
يُقاس ذَيَّالِكَ تالله بذا٦
وما الصبا بمانعٍ من الحِجا
بل هو في الشيخ يكون والفتى
وليس من أصبح يمشي الخيزَلى
في مَعرِض السبق كماشي الهيذبَى٧
وما إياة الشمس في تطفيلها
مثلَ إياة الشمس في رأد الضحى٨
وهل يطيب العيش للهمِّ الذي
إن همَّ بالنهضة خانته القُوَى؟!٩
يَبيتُ طول الليل في مضجعِه
مستأنس السَّعلة وحشيَّ الكرَى
وإنَّ ظهر الأرض يستثقل مَن
أَمْسى يَدِبُّ فوقها على العصا
١  ضحضاح: ليس عميقًا.
٢  غوطًا: أرضًا منخفضة. ورغا البعير: صوت.
٣  مشجرة: أرض كثيرة الشجر. أصلاد: جمع صلد، وهو الصخر الجلمد. والصفا: جمع صفاة، وهي الحجر الأملس.
٤  أبحر مجراه: اتسع كالبحر. والدأماه: البحر.
٥  مختطى: مصدر ميمي من اختطى، بمعنى خطا.
٦  هذاذيك: مشي هذاذ، أي: هذًّا بعد هذٍّ، والهذ: القطع، يريد: كف عما تقوله واقطعه ولا تعد إليه.
٧  الخيزلى: مشية تخاذل وتراجع وتفكك. والهيذبى، والهيدبى: ضرب من مشية الخيل سريعة. استوحى الشاعر هذا المعنى من المتنبي الذي فضَّل ابنة البادية على ابنة الحاضرة فقال:
ألا كلُّ ماشيةِ الخَيزلى
فِدى كلِّ ماشيةِ الهَيْذبَى
٨  إياة الشمس: شعاعها. والتطفيل: وقت الأصيل. ورأد الضحى: ارتفاعه ورونقه.
٩  الهم: الرجل المسن البالي، جمعه أهمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤