السد في بغداد
قال يخاطب حازم بك والي بغداد، بعد خروجه إلى سد «الحربوة» من شاطئ الفرات — الذي انكسر فأغرق بغداد — وهذه هي الحادثة التي قال فيها الشاعر قصيدة سوء المنقلب:
نجَّيتَ بالسدِّ بَغدادًا من الغرق
فعمها الأمن بعد الخوف والفرَق
قد قمتَ بالحزم فيها واليًا فجرتْ
أمورها في نظام منك متَّسق
لقد نجحتَ نجاحًا لا يفوز به
من خالق الحزم إلا حازمُ الخلق
ويح الفرات فلو كانت زواخرُه
تدري بعزمك لم تطفح على الطرُق
ولا غدت تجرُفُ الأسدَاد قاذفةً
منها بسيل على الأنحاء مندفق
حيث «الحربوة» أمست منك طالبة
رَتقًا لسدٍّ بطامي السيل مُنفتق
باتت تجيش بتيَّار وبات لها
أهلُ العراقين في همٍّ وفي قلق
حتى إذا أيقنت أرض العراق بأن
تفنى من الظِّمء أو تفنى من الغرق١
شمَّرتَ عن هممٍ تعلو النجوم وقد
أمسى الزمان إليها مُتلِع العنق٢
فكدت تملأ فرغ الواديين بما
حشرت مِن طبق يأتيك عن طبق٣
لما خرجتَ وكان الخرق متسعًا
والناس ما بين ذي شكٍّ ومتثق٤
قالوا: نحا شُقَّةً قصوى وما علموا
بأن عزمك يُدني أبعد الشقَق٥
فصدَّق الله ظنًّا فيك أحسنه
قوم وكذَّبَ ظنَّ الجاهل الخَرِق
إذ جئت والسدُّ تحت الغَمر مكتسحٌ
والنهر يرغو بموج فيه مُصطفق٦
وثُلمة السد كالمهواة واسعةٌ
يهوي بها السيلُ من فوقٍ إلى العمُق٧
سَللتَ صارم رأيٍ قد أزلت به
ما كان في السيل من طيش ومن نزق
فما تموَّج ماء النهر من غضب
وإنما أخذته رِعدة الفرَق
ثبَّتَّ عزمك في أمرٍ يذِلُّ به
عزم الحصيف لما يحوي من الزلق
تقضي النهارَ برأب الثأي مجتهدًا
وتقطع اليل بالتدبير والأرَق٨
حتى بنيتَ وكان النهرُ منفلقًا
سَدًّا عليه رَصينًا غير مُنفلق
أرسيته جَبلًا قامت ذُراه على
أصل مع الموج تحت الماء معتنق
فراحت الناس تمشي فوقه طَربًا
والنهر ينساب بين الغيظ والحنق
وصار مَعْكِس فَخْرٍ أنت مَرجعه
كالنور يرجع مَعكوسًا إلى الحدق
وقد رَكزتَ به الرايات خافقةً
ما بين طاقين مرفوعين في نسَق
من كل أحمرَ قانٍ وسطه قمر
يتلوه نجم بلون أبيض يَقَق٩
فظلَّ حاسدك المغبون منطويًا
على فؤاد بنار الجهل محترق
ودَّ الفراتُ حياءً منك يومئذٍ
لو غار يسلك تحت الأرض في نفق
لما اقتدحتَ زناد الرأي مفتكرًا
في الخطب ألهبتَ منه فحمةَ الغسق
فأدبرَ الهمُّ وانشقَّت غياهبه
كما قد انشقَّ سَجْف الليل بالفلق١٠
إن الأمور إذا استعصت نوافرُها
أخذتهن من التدبير في وَهَق١١
وإن تَصَاممتِ الأيام عن طلب
أسمعتهن بصوتٍ منك صُهْصَلقِ١٢
تنحلُّ بالرأي منك المشكلات لنا
كالنور ينحلُّ ألوانًا من الشرَق
وكلما زدت تفكيرًا بمعضلة
زادت وضوحًا لنا حتى على الشفق
فالفكر منك كأبعاد الفضاء بلا
حدٍّ يسابق خطف البرق في الطلق
يحكي الأثيرَ إذا أجرى تلاطمه
أبدى سواطع نور منه مُنبثق
لك الثناء علينا أن نخلِّده
نقشًا على الصخر لا رقمًا على الورَق
تالله لو بلغت زُهرَ النجوم يدي
من كل جِرم بصدر الليل مُؤتلق
رتَّبتها حيث كل الناس تقرؤها
سَطرًا بمدحك مكتوبًا على الأفقِ
١
الظمء: المدة التي يعطش فيها الحيوان بين الشربين، والمراد
هنا مطلق العطش.
٢
متلع العنق: ماد العنق من التطلع إليها.
٣
فرغ الواديين: اتساعهما، والواديان: دجلة والفرات. وحشرت:
حشدت وجمعت. والطبق: الجماعة من الناس، وعن طبق: أي بعد طبق.
يريد أنه جمع للعمل في إصلاح السد المنكسر جموعًا غفيرة من
الناس، يتلو بعضها بعضًا.
٤
متثق: مفتعل من الوثوق بالشيء.
٥
الشقة: الناحية، قصوى: شديدة البعد.
٦
الغمر: السيل الغزير الشديد.
٧
ثلمة السد: الموضوع المتهدم منه. والمهواة: الأرض المنهبطة
المنخسفة.
٨
رأب الثأي: إصلاح الفاسد، وهو من الرؤبة، وهي الرقعة يشعب
بها الإناء المكسور من الخزف ونحوه.
٩
يقق: بفتح القاف الأولى. أي خالص البياض.
١٠
السجف: الستر. والفلق: الصبح.
١١
الوهق: الحبل المفتول تجعل فيه أنشوطة، فتؤخذ فيه الدابة
والإنسان.
١٢
الصهصلق من الأصوات: الشديد، ورجل صهصلق الصوت: أي
شديده.