وا صديقاه!
قالها وهو في الآستانة، عندما بلغه منعى صديقه الشيخ محي الدين الخياط في بيروت.
تفكَّرت في كنه الحياة فلم أكن
لأزدادَ إلا حَيرة في تفكُّري
وكم بتُّ فيها أخبِط الليل راميًا
إليها بلحظِ الطارق المتنور
فلا أهتدي من أمرها لمقدَّم
ولا أنتهي من أمرها لمؤخر
على أنني مهما تقدمت نحوها
رجعت رجوع الناكص المتقهقر
وهبْها كما قد قيل أحلام نائم
أما في بني الدنيا لها من معبِّرِ
تأملت آثارَ الحياة فلم يَلُح
لعينيَّ منها وجه ذاك المؤثر
سوى أنني آنستُ شعلةَ قابسٍ
توقد في مُستنِّ هَوْجاءَ صرصر١
فبينا سناها يُبهج العين لامعًا
أتتْهُ كقِطْع الليل هَموةَ معُصرِ٢
فما هي إلا خَبوةٌ ترتمي بها
إلى ظلماتٍ صُبْحُها غيرُ مُسفر
كذلك محي الدين إذ غاله الردى
فأطفا منه نيِّرًا أي نيِّر!
عليكِ العفا بيروتُ هل لك بعدما
قضى فيك محي الدين من متصبِّر؟!
فتى كانَ ركنًا فيك للعلم والحِجا
وغُرِّ القوافي والكلام المحبر
فقدنا به صَلْتَ الجبين مهذبًا
كريم سجايا النفس عَفَّ المؤزَّر
لقد عاش شيخًا في العلوم مقدَّمًا
فما ضرَّه أن مات غيرَ معمَّرِ
وما مات من أبقى له طيِّبَ الثنا
لدى الناس من بادٍ ومن متحضر
نعاه ليَ الناعي فكان كأنه
لدى نعيه أهوى إليَّ بخنجر
ولو لم يكن شدِّي الحيازيمَ دونه
خَرَرتُ كما خرَّ الصريع لِمنخر٣
خليليَّ عوجا بي على قبر ماجد
ببيروت يحوي كل فضل ومفخر
قفا نحتقر دمعَ العيون تجلَّة
لمن فيه من ذاك الجليل الموقر
ونندبُ في مَلحوده المجد والعُلا
ونسقيه غيث الدمع من كل محجرِ٤
عسانا بذا نقضي له بعض حقه
وإن حلَّ أن يُقضى بدمعٍ محقَّر
١
القابس: طالب النار. والمستن: الطريق الواضح. والهوجاء:
الريح العاصفة. والصرصر: الشديد البرد أو الشديد
الهبوب.
٢
الهموة: الغبار تثيره في الجو. والمعصر: الريح ذات
الأعاصير.
٣
الحيازيم: جمع حيزوم، وهو وسط الصدر.
٤
الملحود: المدفون؛ أي الميت. ومحجر العين: العظم الدائر
بها.