أبو دلامة والمستقبل
قضت المطامع أن نطيل جدالا
وأبَيْنَ إلا باطلا ومِحالا١
في كل يوم للمطامع ثورة
باسم السياسة تستجيش قتالا
ما ضرَّ من ساسوا البلاد لوَ انَّهم
كانوا على طلب الوفاق عِيالا٢
أمِنَ السياسة أن يقتِّل بعضنا
بعضًا ليدرك غيرنا الآمالا
لا درَّ دَرُّ أولي السياسة إنهم
قتلوا الرجال ويَتَّموا الأطفالا
غرسوا المطامع واغتدوا يسقونها
بدم هريقَ على الثرى سيالا
نثروا الدماء على البطاح شقائقًا
وتوهموها الروضة المِحلالا٣
تفنى الجيوش ولا ضغائن بينها
سبقًا ولا تِرةً ولا أذحالا٤
قالوا: كرهت الحرب؟ قلت: لأنها
دارت لتغتصب الحقوق ألالا٥
وأجلت فكري في الحروب فلم أجد
أبدًا لهنَّ سوى الخمور مثالا
طاشت منافعها الصغار عن الورى
ورست مآثمها الكبار جبالا
ما أجشع الحرب الضروس، فإنها
تحسو النفوس وتأكل الأموالا!
كم سحَّ من رهج الحروب على الرُّبا
وبل الدماء فَزَادَها إمحالا
لولا الحروب ومحرقات صواعق
منها لأبْقَلتِ الرُّبا إبقالا
قَبُحتْ بنا الأرض الفضاء وما حوت
في غير ما زَمنِ الفِطَحْلِ جَمالا٦
•••
أبَني السياسة إن سَلَكتم بالورَى
طُرُق الرشاد فعلموا الجُهَّالا
إن جرت الحربُ الكمالَ لأمةٍ
فالعلم أحرى أن يجرَّ كمالا
إن الحياة كثيرة أعمالها
فدَعُوا الأنام وحاربوا الأعمالا
وتقحَّموا حرب الحياة فإنها
للحرِّ أضيق مأزقًا ومَجالا
واستلئموا زَرَد الوفاق وأشرعوا
فيها تعاونكم قنًا ونصالا٧
واقْنوا لكم بيضَ المساعي شُزَّبًا
تجري رعالًا للمُنى فرعالا٨
واعلُوا على صَهواتهنَّ رواكضًا
للمَكرمات تُسابق الآجالا
ودعوا صيالًا في المَلاحم إنَّ في
هذي الحياة مَلاحمًا وصيالا
أوَكلَّما طمع القويُّ شراهةً
أكل الضعيفَ تحيُّفًا واغتالا؟!
لا غَرْوَ أن يلدَ الزمان بمرِّه
كأبي دُلامة من بنيه رجالا
إذ راح يقتل بالعواطف قِرْنَهُ
قتلًا أدام حياته وأطالا
إذ جهَّز «المنصور» جيشًا قادَهُ
«رَوْحٌ» يريد من «الشراة» قتالا٩
فمضى وفيه أبو دُلامة مُكرَهًا
للحرب أخرج كي يُصيب نكالا
حتى إذا التقت الجيوش وعُبِّئت
صفًا وصفًا يَمنةً وشمالا
برزَ الكميُّ من الشُّراة مُجرِّدًا
للسيف يطلب من يُطيق نزالا
فأجال رَوْحٌ في الجنود لحاظَه
والقوم ينتظرون منه مَقالا١٠
فدعا إليه أبا دُلامة قائلًا:
يا ليثُ دونك ذلك الرِّئبالا١١
فجرى إليه أبو دُلامة هازلًا
ثم استقالَ فلم يكن ليقالا
فشكا لرَوْحٍ جوعَه فأزاده
بدجاجتين، وحثهُ استعجالا
فانصاع عن عَجَلٍ وسمَّط زاده
ومضى يُخبُّ لقرْنه مختالا١٢
•••
فأتى وقد شَهر الكميُّ بوجهه
سيفًا يَروع غراره الأغوالا١٣
فدنا إليه أبو دُلامةَ قائلًا:
مَهْلًا فأغمِدْ سيفَك القصالا
إني أتيت وما أتيت مقاتلًا
من لَسْتُ أطلب عندهَ أذخالا
فاسمعْ مقالة من أتاك ولم يكنْ
فيما يقول مُخادعًا محتالا
واعلم بأني لا أخاف مَنيَّتي
جُبنًا ولا أتهيَّب الأبطالا
لكن أرى سفك الدماء محرَّمًا
وأعيذ رأيكَ أن تراه حلالا
أمن المروءة أن نُرِيق دماءنا
سَفَهًا لمطمع طامع وضلالا؟!
هل كنتَ من قبل اللقاء رأيتني
يومًا؟ وهل منِّي لقيتَ نكالا؟
أمْ هل طرقتُ خيام قومك جانيًا؟
أم هل خَربتُ بحيِّهم آبالا؟١٤
ماذا جرى بيني وبينك قبل ذا
مما يجرُّ خصومة وجدالا
حتى شَهرتَ عليَّ سيفك تبتغي
ضَربا يُقطِّع منِّيَ الأوصالا؟
فاربأ بنفسك أن تكون من الأُلى
زحفوا جنونًا للوغى وَخبالا
فرأى الكميُّ مقاله متعاليًا
حقًّا وكل حقيقة تتعالى
فعَنا وأذعن للحقيقة مغمِدًا
سيفًا أجادته القيون صِقالا١٥
ولوَى العِنان من المطهَّم قائلًا:
رُحْ بالأمان فلا لقيتَ وبَالا
فمشى إليه أبو دلامة مُخرِجًا
زادًا تعلَّق بالسُّموط مثالا
ودعاه يا ابْنَ أولي المكارم راشدًا
أكرم أخاك بوقفة إمهالا
إني لأرجو أن تكون مؤاكلي
في ذا الشواءِ ألا تحبُّ إكالا
فتدانيا متخالفين وأقبلا
وهما على فرسيهما إقبالا
حتى إذا أكلا شواءً أدبرا
بعد الودَاع وولَّيا الأكفالا١٦
•••
رجعا فسار أبو دلامة ظافرًا
والمهرُ يجفل تحته إجفالا
حتى اذا وافى الأميرَ وقام عن
كَثب ترجَّل دونه إجلالا
وغدا يقول وكان رَوْحٌ ضاحكًا:
إني كفيتُك قِرْنيَ الرِّئبالا
وقتلته بالقول لا بمهنَّدي
والحربُ أحرى أن تكون مَقالا
وأخذتُ في الهيجا عليه مواثِقًا
ألا يعود يُنازلُ الأبطالا
•••
إن الهواتف لا تزال بمسمعٍ
مِنِّي تقول إذا شكوت الحالا:
لا تيأسَنَّ فللزمان تنفسُّ
فارقبه أن يتبدَّل الأبدالا
والدهر طاهٍ سوف يُنضج أهلَه
بالحادثاتِ يزيدها إشعالا
إن الدهور وهنَّ أمهر سابكٍ
ستردُّ أضداد الوَرَى أشكالا
حتى كأني بالطِّباع تبدَّلت
غيرَ الطباع وزُلزلت زِلزالا
وكأنني ببني الملاحم أصبحوا
لأبي دُلامةَ كلهم أمثالا
١
المحال: المكر والكيد والاحتيال.
٢
عيالًا: جمع عيل، يريد متكلمين.
٣
الروضة المحلال: التي يحلها الناس كثيرًا، ويطلبونها.
٤
الأذحال: جمع ذحل، وهو بمعنى الترة؛ أي الثأر والحقد
والعداوة.
٥
الألال: كسحاب؛ الباطل، وهو هنا نائب عن المفعول المطلق؛ أي
اغتصابًا باطلًا.
٦
زمن الفطحل: زمن قديم قبل أن يخلق الناس على الأرض.
٧
استلئموا: البسوا اللأمة، وهي الدرع.
٨
شزبا: جمع شازب، وهو الضامر من الناس أو الخيل من غير هزال.
والرعال: جمع رعيل، وهو الجماعة من الخيل.
٩
الشراة: هم الخوارج، وروح: قائد من قادة أبي جعفر المنصور
الخليفة العباسي.
١٠
لحاظه: نظره بلحاظ عينه، وهو في مؤخرها.
١١
الرئبال: الأسد.
١٢
انصاع عن عجل: انفتل راجعًا. وسمط زاده: من التسميط، وهو
التعليق، يريد أنه علق الزاد على حصانه. والخبب: ضرب من السير
متقارب الخطو في سرعة خفيفة. والقرن: الذي ينازلك في
الحرب.
١٣
الكمي: البطل. والغرار: حد السيف. والأغوال: جمع غول، وهو
حيوان منكر الخلقة.
١٤
خربت: سرقت، والخارب: اللص.
١٥
القيون: جمع قين، وهو صانع السيوف وكل شيء من حديد.
١٦
الأكفال: جمع كفل، بتحريك الفاء، وهو مؤخر الحصان عند
ذيله.