في سلانيك
قالها عندما زحف جيش سلانيك إلى الآستانة بقيادة محمود شوكت باشا؛ وذلك لقمع الحركة الرجعية التي حدثت في ٣١ مارس سنة ١٩٠٨.
لقد سمعوا من الوطن الأنينا
فضجُّوا بالبكاء له حنينا
وناداهم لنُصرتهِ فقاموا
جميعًا للدفاع مسلَّحينا
وثاروا من مرابضهم أسودًا
بصوت الإتحاد مُزمجرينا
شبابٌ كالصوارم في مَضاءٍ
يُروْنَ، وكالشموس مُنوِّرينا
سلانيك الفتاة حوَت ثراءً
بهم فَنَضَتْ عن الوطن الديونا
لقد جمعوا الجموع فمن نصارى
ومن هود هناك ومسلمينا
فكانوا الجيش أُلِّف من جنود
مجنَّدة ومن متطوعينا
تراهم فيه متَّحدين عزمًا
وما هم فيه متحدين دينا
هي الأوطان تجعل في بنيها
إخاء في محبتها رصينا
وتتركهم أولي أنفٍ كبارًا
يرون حياة ذي ذل جنونا
وأن الموت خير من حياة
يظل المرء فيها مستكينا
•••
مشوا والوالدات مشيَّعات
خرجن وراءهم والوالدينا
يقلْنَ وهن من فَرَحٍ بَواكٍ
وهم من حزنهم متبسمونا
على الباغين منتصرين سيروا
وعودوا للديار مضفرينا
ولا تبقوا الذين قد استبدوا
وراموا كيدنا وتخوَّنونا
فإن لم تنقذوا الأوطان شرًّا
بدارِ الملك كي يستعبدونا
هم الأشرار باسم الدين قاموا
فعاثوا في المواطن مُفسدينا
فما تركوا من الدستور «شُورَى»
ولا أبقَوا لنغْمته «طنينا»١
•••
وكم قد قلن من قول شجيٍّ
لهم فتركنهم متهيجنا
ومذ حان الوَداع دنون منهم
فقبَّلْن الصوارمَ والجفونا٢
وما أنسَ التي برزتْ وقالت
وقد لفتوا لرؤيتها العيونا:
ألا يا راحلين لحرب قوم
لئامٍ ضيعوا الوطن الثمينا
خذوني للوغى معكم خذوني
ممرضة لجرحاكم حنونا
وإن لم تفعلوا فخذوا ردائي
به سُدُّوا الجروح إذا دمينا
•••
ولما جدَّ جِدُّهم استقلُّوا
على ظهر القطار مسافرينا
فطاروا في مراكبه سراعًا
بأجنحة البخار مرفرفينا
وظل الجيش صُبْحًا أو مَساءً
تسير جموعه متتابعينا
فلم يتَصرَّمِ الأسبوع إلا
وهم برُبا فَرُوق مخيِّمونا٣
هنالك قمتُ مرتحلًا إليهم
لأبصر ما أؤمل أن يكونا
•••
وباخرةٍ علت في البحر حتى
حكت بعُبابه الحصن الحصينا
يؤثر جريها في البحر إثرًا
تكادُ به تظنُّ الماء طينا
فتترك خلفها خطًّا مديدًا
بوجه البحر يمكث مستبينا
ركبت بها على اسم الله بحرًا
غدا بسكون لجَّتهِ رهينا
فرحنا منه ننظر في جمال
يعِز على الطبيعة أن يهونا
ومرأى البحر أحسن كل شيءٍ
إذا لبست غواربه السكونا٤
كأنك منه تنظر في سماءٍ
وقد طلعت كواكبها سفينا
•••
أتينا دارَ قسطنطين صُبحًا
وقد فتِحتْ لهم فتحًا مبينا
وظل الجيش جيش الله يشفي
بحدِّ سيوفه الداء الدفينا
فأزهق أنفس الطاغين حتى
سقاهم من عدالته المنونا
وردَّ الخائنين إلى جزاءٍ
أحلَّهم المقابر والسجونا
وحَطُّوا قَصْر يلدزَ عن سماءٍ
له فانحطَّ أسفل سافلينا
وأصبح خاشع البنيان يُغضي
عيونًا عن تطاوله عمينا
خلا من ساكنيه وحارسيه
فلم ترَ فيه من أحدٍ قطينا٥
هوى عبدُ الحميد به هويًّا
إلى درَكِ الملوك الظالمينا
وأُنزل عن سرير الملك خَلْعًا
وأفرد لا نديمَ ولا قرينا
فَسيقَ إلى سلانيكَ احتباسًا
له كي يستريح بها مصونا
ولكن كيف راحة مستبدٍّ
غدا بديار أحرار سجينا؟!
يراهم حول مسكنه سِياجًا
ويعجز أن ينيمَ لها عيونا
وموت المرء خير من مقامٍ
له بين الذين سَقوه هُونا
•••
لقد نقض اليمينَ وخان فيها
فذاق جزاءَ من نقض اليمينا
وقد كانت به البُلدان تشقى
شقاءً من تجبُّره مهينا
فكم أذكى بها نيران ظلمٍ
وكم من أهلها قتل المئينا
وكان يُديرُ من سَفَهٍ رحَاها
بجعجعةٍ ولم يُرِها طحينا
وقد كانت به الأيام تمضي
شهورًا والشهور مضت سنينا
ولمَّا ضاق صدر الملك يأسًا
وصار يردِّد الوطن الأنينا
أتى الجيش الجليل له مغيثًا
فصدَّق من بني الوطن الظنونا
وأضحى سيف قائده المفدَّى
على الدستور محتفظًا أمينا
حماه من العداة فكان منه
مكانَ الليث إذ يحمي العرينا
وأسقط ذلك الجبَّارَ قهرًا
وأنبأه بصارمه اليقينا
فقرَّت أعينُ الدستور أمنًا
وشاهت أوجه المتمرِّدينا
١
يشير إلى ما حل بجريدة طنين إذ ذاك وبمحل إدارتها من الهدم
والتخريب في تلك الحادثة.
٢
الصوارم: السيوف. والجفون: جمع جفن، وهو الغمد.
٣
لما حدثت حادثة ٣١ مارس في الآستانة، كان الرصافي في سلانيك؛
فلذلك قال: هنالك قمت …
٤
الغوارب: جمع الغارب، وهو في ذوات الخف ما بين السنام والعنق
وفي الكلام استعارة.
٥
قطينًا: أي قاطنًا وساكنًا.