إلى الأمة العربية١
هو الليلُ يغريه الأسى فيطولُ
ويُرخي وما غيرُ الهموم سُدُول؟٢
أبيتُ به لا الغارباتُ طوالعٌ
عَليَّ ولا للطالعات أفول
وينشر فيه الصمت لبدًا مضاعفًا
فتَطويه منِّي رنَّة وعويل٣
ولي فيه دمع يلذع الخدَّ حرُّه
وحزن كما امتدَّ الظلامُ طويل
بكيت على كل ابن أروعَ ماجدٍ
له نَسَبٌ في الأكرمين جليل
يُليح من الضيم المذلِّ بغُرة
لها البدر تربٌ والنجوم قبيل٤
من العرب: أما عرضه فموفر
مصون، وأما جسمه فهزيل
له سلَفٌ عزُّوا فبزُّوا نباهة
ولم تعتورهم فترة وخمول٥
وساروا بنهج المكرُمات تقلُّهم
قلائصُ من سَعْي لهم وخلول
وكانوا إذا ما أظلم الدهر أشرقت
به غرَر من مجدهم وحجول
أولئك قوم قد ذوى روض مجدِهم
ولم تَسْرِ فيه نسمة وقبول
وقد أعطشته السحب حتى لقد علت
على الزهر منه صُفرة وذبول
رعى الله من أهل الفصاحة معشرًا
لهم كان فوق الفرقدين مقيل
ترامى بهم ريب الزمان كأنما
له عندهم دون الأنام ذحول
فأمست من العمران خلْوًا بلادهم
فهنَّ حُزون قفرة وسهول
وعادت مغاني العلم فيها دوارسًا
تجرُّ بها للرامسات ذيول
وقوَّضتِ الأيام بنيان مجدِها
فرَبع المعالي بينهن مَحول
•••
نظرت إلى عرض البلاد وطولها
فما راقني عرض هناك وطول
ولم تبدُ لي فيها معاهد عزها
ولكن رسوم رثَّةٌ وطلول
نظرت إليها من خلال ذوارفٍ
من الدمع طرفي بينهنَّ كليل
فكنت كراءٍ من وراء زجاجة
بعينيه كيما يَستبينَ ضئيلُ٦
ولم أتبيَّن ما هنالك من عُلًا
لكثرة ما قد دبَّ فيه نحول
هناك حنيت الظهر كالقوس رابطًا
بكفي على قلبٍ يكاد يزول
وأوسعتُ صدري للكآبة فاغتدت
بأرجائه تحت الضلوع تجول
وأرسلت دمع العين فانهلَّ جاريًا
له بين أطلال الديار مسيل
أأمنع عيني أن تجودَ بدمعها
على وطني؟! إني إذن لبخيل
فإن تعجبوا أن سال دمعي لأجله
فإن دمي من أجله سيسيل
وما عشتُ أني قد تناسيت عهده
ولكنَّ صبري في الخطوب جميل٧
وإن امرءًا قد أثَّل الهم قلبه
كقلبي ولم يلقَ الردى لَحمول
أفي الحق أن أنسى بلاديَ سلوة
وما ليَ عنها في البلاد بديل؟
أقول لقومي قول حيران جازع
تهيج به أشجانه فيقول:
متى ينجلي يا قوم بالصبح ليلكم
فتذهبَ عنكم غفلة وذهول؟!
وينطق بالمجد المؤثل سعيكم
فيسكتَ عنكم لائم وعذول!
تريدون للعُليا سبيلًا؟ وهل لكم
إليها وأنتم جاهلون سبيل؟!
أناشِدكم أين المدارس؟ إنها
على الكون فيكم والحياة دليل
وأين الغنيُّ المرتجى في بلادكم
يَجوُدُ على تشييدها ويطول؟
بلاد بها جهل وفقر كلاهما
أكول شروب للحياة قتول
أجل إنكم أنتم كثير عديدكم
ولكن كثير الجاهلين قليل
ولو أنَّ فيكم وحدة عصبية
لهان عليكم للمَرام وصول
ولكن إذا مستنهض قام بينكم
تلقَّاه منكم بالعِناد جهول
وأيُّ فريق قام للحق صده
فريق طلوب للمحال خذول
وإن كان فيكم مصلحون فواحد
فعول وألفٌ في مَداه قَئولُ
على أنَّ لي فيكم رجاءً وإن أكن
إلى اليأس أحيانًا أكاد أميلُ
ألستم من القوم الألى كان علمهم
به كل جهل في الأنام قتيل؟
لهم هممٌ ليس الظباةُ تفلُّها
وإن كان منها في الظباة فلولُ
ألا نهضة علمية عربية
فتنعش أرواح بها وعقول؟
ويشجعَ رعديد ويعتزَّ صاغر
وينشط للمسعي الحثيث كسول
فإن لم تقم بعد الأناة عزائم
فعتبي عليكم والملام فضول
١
مثَّل شبان العرب في الآستانة رواية وفاء السموءل في مسرح «نبه ماشي»
الكبير، الكائن في حي «بك أوغلي»، وطلبوا إلى الرصافي أن يحضر وينشدهم
شعرًا، فقال هذه القصيدة يعارض بها لامية السموءل المشهورة، وقد أنشدهم
إياها في المسرح المذكور، وكان المكان غاصًّا بمن كان في الآستانة من رجال
العرب، وكثير من رجال الترك.
٢
يغريه: يحضه؛ أي أن الأسى يحض الليل على الطول فيطول.
٣
اللبد، بكسر فسكون: كل شعر أو صوف متلبد.
٤
يليح: أي يخاف ويحاذر، والباء في قوله بغرَّة للمصاحبة، أو
هي للتعدية، على تضمين يليح معنى يحيد ويعدل، فيكون المعنى:
يحيد مليحًا من الضيم بغرة.
٥
عزُّوا فبزُّوا: أي غلبوا فسلبوا.
٦
شبه نفسه وهو ناظر إلى الديار من خلال الدموع الذوارف برجل
وضع على عينيه زجاجة ينظر من ورائها، والمراد بالزجاجة ما
تسميه العامة اليوم بالمنظرة أو بالعوينات.
٧
وما عشت أني: أي لأني، فحذف الجار، وحذفه قبل إن وأن
قياس.