صبح الأماني١
تبلَّجَ أفقُ الشرق من بعد ما اغبرَّا
وكشَّر عن صبح الأمانيِّ مُفترَّا٢
ولو كان صُبحًا ناصع اللون سرني
وبرَّد حرًّا كان في كبدي الحَرَّى
ولكنه صُبحٌ يلوح لناظري
بحاشية الزرقاء كالدم مُحمرَّا
أراه كوجه الغادة الخود راقني
بحسن ولكن قد تجهَّم وازورَّا
لمحت تباشير المنى من خلاله
ضِئالًا كمنهوك غدا يشتكي الضرَّا
ولم أدرِ لما استبهمت أخرياتُه
أأطمع أم أستشعر اليأسَ مضطرَّا؟
ولو كنتُ أدري ما وراء احمراره
تسرَّى عن النفس الكئيبة ما سرَّى
ولكنه وَرَّى عواقب أمره
فزادت شكوك النفس من أجل ما ورَّى
يهامسني بالوعد قولًا مجمجمًا
كأنْ هُوَ يخشى أن أذيع له سرَّا
وإني لأخشى أن أكون بوعده
وإن أسفرت أوضاحه الغرُّ مُغترَّا
وما كل صبح يرتجي الناس خيره
ولا كل ليل مظلم يُضمر الشرَّا
فإن كنت يا صبحَ الأمانيِّ صادقًا
بوعدٍ فحيا الله طلعتك الغَرَّا
•••
خليليَّ هل من عاذرٍ في قصيدةٍ
أقول بها حقًّا وإن قلته مُرَّا؟!
أرى هَبوةً سوداء في الجو أسبلت
حجابًا بآفاق العراقين مُمَترَّا٣
وأرخت بأرض الشام منها على الربا
سُدولًا بها جو السماء قد اغبرَّا
ومدت على بيروتَ منها غيابةً
بها عاد وجه الأفق أسفعَ مكدرَّا٤
وما هي إلا عارضٌ من تناكرٍ
به مربع الآمال أقفر واقورَّا٥
ترى القوم فيه نَوءُهم متخاذلٌ
وآمالهم أمست كتيبتها فُرَّى٦
•••
عجبت لقوم أصبحوا يُنكروننا
وقد عرفونا في الزمان الذي مرَّا
همُ أسمعونا نعرة عربية
فدوَّى صداها في المسامع مُضطرَّا
فكم من خطيب قام فيها مثرثرًا
فطرَّى لنا من يابس القول ما طَرَّى
وكم شاعرٍ قد أرخص الشعرَ دونها
وكم قلم فوق الطروس بها صرَّا
وكنَّا أجبناهم إليها إجابة
بها قد تركنا جانب الدِّين مزورَّا
رجاءَ اتحاد في طريقِ سياسة
تعمُّ مراميها بني يَعربٍ طرَّا
فمذ حان أن يخضلَّ غصن اعتزازنا
ويرجع بعد اليُبس رطبًا ويخضرَّا
نصبنا خياشيم الرجاء لريحهم
فهبت لنا نكباءَ عاتية صِرَّا
•••
لعمري لقد ساء الكرامَ ابنُ غَانم
بباريسَ إذ قد قال ما يُخجِل الحرَّا
نَفى عن مَنامِيه العروبةَ وادَّعى
جُزافًا وخلَّى منهج القوم وابترَّا٧
وهل حسِبوا أن العروبة في الورَى
من العَرِّ حتى أنكروا ذلك العَرَّا؟!٨
كأن لم يقم من بينهم ناعرٌ بها
ولم يك ضَرَّانا بها أمس مَن ضَرَّا٩
فما أحَدٌ منهم وفَى بعهوده
ولا أحدٌ منهم بما قال قد برَّا
وكان غَرورًا كل ما حالفوا به
وشر الحليفين الذي خان أو غرَّا
وعاد الذي كنا نؤمِّل منهمُ
إلى غير ما كنا نؤمِّل منُجرَّا
وقد صوَّحت تلك الأمانيُّ كلُّها
فحاكت نباتَ الأرض إذ هاجَ مصفرَّا
وأصبح فينا شامتًا كلُّ من غدا
لأبناء قَنْطوراءَ يغضب ممْقَرَّا١٠
١
نشرت الجرائد مقالًا لشكري غانم بباريس صرح فيه بالتبرؤ من الأمة
العربية، قائلًا: إننا — معاشرَ السوريين أو اللبنانيين — لسنا بعرب، وإن
تكلمنا بالعربية، وإنما نحن فينيقيون، فقال الرصافي هذه القصيدة؛ يرد على
شكري غانم.
٢
يشير بقوله: «تبلج أفق الشرق» إلى حكومة دمشق، وكنى عنها
بافترار الشرق عن صبح الأماني.
٣
يقال: امترَّ به؛ أي مرَّ به.
٤
الغيابة: كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه، كالغبرة والسحابة
ونحو ذلك. وأسفع: ذو سواد وشحوب. ومكدرَّا: أي كدر.
٥
اقورَّ: ذهب نباته.
٦
قوله: «نوءهم متخاذل»: أي ضعفاء. وقوله: «أمست كتيبتها
فُرَّى»، بضم الفاء وتشديد الراء: أي منهزمة.
٧
نفى عن مناميه: أي عن مناحيه. ابتر: من الابترار، وهو
الاعتزال والانفراد عن الأصحاب.
٨
العر بالفتح: العيب.
٩
قوله: ضرانا بها: أي أغرانا، يقال: ضراه بكذا تضرية؛ أي
ألهجه به وأغراه وعوَّده إياه.
١٠
أبناء قنطوراء: الترك. وقوله ممقرًا: أي ناتئًا عرقه، ويكون
ذلك عند الغضب.