تجاه الريحاني
شكواي العامة
هذه هي القصيدة التي أنشدها الرصافي في حفلة أقامها المعهد العلمي؛ تكريمًا لأمين الريحاني عند قدومه بغداد في أيلول سنة ١٩٣٣.
إن العراقَ بعرضه وبطوله
وبرافديه وباسقات نخليه
يهتزُّ مبتهجًا بمقدَم ضيفه
ويَبشُّ مبتسمًا بوجه نزيلِهِ
ومُرحِّبًا والشكر في ترحيبه
ومؤهلًا والحمد في تأهليه
بربيبِ لبنان، بريحانِيِّهِ
بكبير معشره، بفخر قبيله
بالعبقريِّ، بفيلسوف زمانه
بأديب أمته، بداهي جيله
بأصحِّ أحرار الأنام تحرُّرًا
في فكره وبفعله وبقِيله
إنا نبجِّل منه خيرَ مبَجَّلٍ
تبجيل كل الفضل في تبجيله
أأمينُ جئتَ إلى العراق لكي ترى
ما فيه من غُرَر العلا وحجوله
عفوًا فذاك النجم أصبح آفِلًا
والقوم مُحتربونَ بعد أُفوله
أوَما ترى قُطر العراق بحسنه
قد فاق مُقفِرهُ على مأهوِله
أما الحيا فيه فذيَّاكَ الحيا
لكنْ مَسيلُ الماء غير مَسيلِهِ
وربيعه ذاك الرَّبيع وإن شكا
من جهل ساكنه اشتداد مُحوله
فأقم به ولك الغنى بفرَاته
عن قطر مصر وعن موارد نيله
وانزل على وادي السلام ممتَّعًا
برَغيد عيشٍ تحت ظل نخيله
والْثُمْ به ثغرَ الطبيعة باسمًا
يشفي من المشتاق حَرَّ غليله
وترقَّبَنْ أسحاره حتى إذا
هبَّ النسيم فُجسَّ نَبض عليله
وانظر محاسن أرضه وسمائه
وانشقْ أريجَ شماله وقبوله
فالجوُّ فيه مُنيرة أوضاحه
والحسن فيه دقيقهُ كجليله
والليل فيه مكلَّل بمرصَّع
وكواكب الإكليل من إكليله
وترى النَّهار به كذهنك واقدًا
بالشمس تُشرق في وجوه سهوله
وترى ضياء الشمس فيه مغلَّفًا
بنظيره ومُسَلسلًا بمثيله
وإذا وقفت بدارسٍ من مجدِهِ
فَكَوِقْفَةِ الباكين بين طلوله
وانحبْ كما نحب الحزين مُكفكِفًا
غرب الدموع بجانبيْ مِنديله
فلقد عفا المجد القديم بأرضه
وعليه جرَّ الدهر ذيل خُموله
وإذا نظرت إلى قلوب رجاله
فانظر حديد الطرف غير كليله
تجد الرجال قلوبها شتَّى الهوى
مدَّ الشقاق بها حِبالةَ غُوله
متناكرين لدى الخطوب تناكرًا
يعيا لسان الشعر عن تمثيله
فالجار ليس بآمنٍ من جاره
والخِلُّ ليس بواثق بخليله
والدينُ فيه يقولُ ذو قُرآنه
قولًا يُحاذر منه ذو إنجيله
وإذا تأوَّل قولَهم متأولٌ
صرفوه بالتفكير عن تأويله
وإذا تكلَّم عالم في أمرهم
خَفرُوا ذِمام العلم في تجهيله
حال لو افتكر الحكيم بكنهه
طول الزمان لعيَّ عن تعليله
من ذا يبدِّله فإن قوارعي
يئست لعمر الله من تبديله؟١
والجهل لا يُبقي على أربابه
كالسَّيف ليس براحمٍ لقتيله
أأمين لا تغضبْ عليَّ فإنني
لا أدَّعي شيئًا بغير دليله
من أينَ يُرجى للعراق تقدم
وسبيل ممتلكيه غيرُ سبيله؟
لا خير في وطن يكون السيف عنـ
ـد جبانه، والمال عند بخيله
والرأي عندَ طريده، والعلم عنـ
ـد غريبه، والحكم عند دخيله
وقد استبدَّ قليلُهُ بكثيره
ظلمًا، وذلَّ كثيرُه لقليله
إنِّي إذا جدَّ المقال بموقفٍ
فضَّلت مُجمله على تفصيله
وإذا المخاطب كان مثلك واعيًا
أغنى اختصار القول عن تطويله
يا من يكتِّم فضله متواضعًا
والناس مجمعة على تفضيله
شكوايَ بحتُ بها إليك وليس في
شكوى الزميل غضاضة لزميلهِ
إن المريض ليستريح إذا اشتكى
مما به لطبيبه وخليله
وكذا الحزينُ إذا تهيَّج حزنه
يَبْكي فيسكنُ حُزْنهُ بعويله
إنِّي لآنفُ أن أبوح بمضمَري
إلا لمقتدرٍ على تحصيله
ولديَّ إن وصل الحبيب تمسُّكٌ
بالعزِّ يمنعُ فايَ من تقبيله
١
قوارعي: جمع قارعة، وهي الكلمة الشديدة، تقرع الآذان
بشدتها.