إلى هربر صموئيل
ألقى يهودا محاضرة تاريخية، ذكر فيها مدنية العرب في الغرب والشرق، ولما أتمها قام هربر صموئيل، المندوب السامي من قبل إنكلترة في فلسطين، وألقى على القوم كتابًا مؤنقًا، وعدهم فيه مواعد سياسية سر بها الحاضرون الذين كانوا قد حضروا بدعوة من راغب بك النشاشيبي رئيس بلدية القدس، فقال الرصافي هذه القصيدة مسجلًا بها ما قاله المندوب، وشاكرًا له على ذلك.
خطابُ يهودا قد دعانا إلى الفكرِ
وذكَّرنا ما نحن منه على ذُكْر
ومجَّدَ ما للعُرْبِ في الغرب من يدٍ
وما لبني العباس في الشرق من فخر
لدى محفل في القدس بالقوم حافل
تبوَّأه هِرْبر صَموئيلَ في الصدر
دعاهم رئيسُ القدس ذو الفضل راغبٌ
إليه فلبَّوْا دعوة من فتًى حُرِّ
فأمسوا وفي ليل المحاق اجتماعُهُم
يَحفُّون من هِربَرْ صَموئيلَ بالبدر
فيا ليَلةً كادت وقد جلَّ قدرُها
تكون على عِلاتها ليلةَ القدر
ولمَّا تناهى من يهودا خطابُه
وقد سَرَّنا من حيث ندري ولا ندري
تصدَّى له هربر صموئيل ناطِقًا
بسحر مقالٍ جلَّ عن وصمة السحر
فصدَّق ما للعُرب من تالد العُلَا
وما لهمُ في العلم من خالد الذكر
وزاد بأن أوما إلى ما لصنعهم
على صخرة البيت المقدَّس من إثرِ١
وقال وقد أصغى له القوم: إننا
سنرأب ما أَثْأَتْه منكم يدُ الدهر
ونُنْهضُكم في مَنهج العلم نهضةً
مقوِّمةً ما اعوجَّ فيكم من الأمر
فكانت لهذا القول في القوم هِزة
سرورية من دونها هِزَّة السكر
•••
حنانيك يا هربر صَموئيل كم لنا
على الدهر من حقٍّ مُضاعٍ ومن وتر!
لنا قَلبَ الدهرُ الخئون مجنَّه
وكرَّ علينا لابسًا جِلْدة النَّمْر٢
وأغرى بنا الأحداث مبتكرًا لها
فلم يأتنا إلا بحادثةٍ بكر
وقد أفنت الأيَّام كل عَتادنا
سوى ما ورثنا من إباءٍ ومن صَبْر
فلسنا وإن عضَّت بنا اليوم نابُها
نَقَرُّ على ذلٍّ وننقادُ عن ذُعر
فمن سامَنا قسرًا على الضيم يلقنا
مصاعيبَ لا نعطي المقَادة بالقسْر
لنا أنفسٌ تحيا بثروة عِزِّها
وإن نشأت بين الخَصاصة والفقْر
إذا نحن عاهدنا وَفيْنا ولم نكن
إذا ما ائتُمِنَّا جانحين إلى الخَتر
فإن شئتَ يا هربرْ صموئيل فاختبرْ
خلائقَ منا لا تميلُ إلى الغدر
•••
وعدتَ فأمسى القوم بينُ مشكِّك
ومنتظر الإنجاز منشرح الصدر
فكذِّب — وأنت الحرُّ — مَن ساء ظنُّه
فقد قيل: إن الوعدَ دينٌ على الحر
ولسنا كما قال الألى يتهمُوننا
نعادي بني إسرائيل في السرِّ والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهمُ
يَمتُّ بإسماعيلَ قِدْمًا بنو فِهْر؟!
وإنِّي أرى العُرْبيَّ للعُرب ينتمي
قريبًا من العِبْرِيِّ يُنمَى إلى العِبر
هما من ذوي القُربى وفي لغتيهما
دليل على صدق القرابة في النَّجْر
ولكننا نخشى الجلاءَ ونتقي
سياسة حكم يأخذ القوم بالقهر
وهل تثبِت الأيامُ أركان دولة
إذا لم تكن بالعدل مشدودة الأزْر
وها أنا قبل القوم جئتك معلنًا
لك الشكرَ حتى أملأ الأرض بالشكر
١
أوما: أصله أومأ؛ أشار برأسه.
٢
المجن: الترس يتقي به المحارب قرنه، وقلب المجن كناية عن
الاستعداد للمنازلة في الحرب.