ذكرى الرجال من حياة الأمم
أراد شبان فلسطين أن يقيموا حفلة تأبين لروحي بك الخالدي، وكان الرصافي إذ ذاك في القدس، فطلب إليه أحد أصدقائه، وهو عادل أفندي جابر، أن ينشدهم في الحفلة المذكورة ما يناسب المقام، فقال هذه القصيدة:
لعمرُك لو كانت حديدًا جسومنا
لأبلته من كرِّ الليالي مَباردُ
فكيف وَلسْنا بالحديد وإنما
جوارحنا هذي الدماءُ الجواسد؟!١
إذا ما افتكرنا في الحياة وأصلها
وغايتها هانت علينا الشدائد
وماذا عسى يُجدي التوجُّع والأسى
من الموت إذ كلٌّ على الموت وارد
تُعين منايانا علينا بحزننا
فيقرب من آجالنا المتباعدُ
وليس برزءٍ أن نرى المرءَ هالكًا
إذا حييتْ بالذكر منه المحامد
بل الرزءُ كل الرزءِ أن يذهب الفتى
وليس له من بعده الدهرَ حامدُ
ويُدفن في الترْب اسمه دَفنَ جسمِه
فلم يتفقده من الناس فاقد
ومن تَفْنَ بعد الموت آثار مجده
فآثار روحي الخالديِّ خَوالد
فتًى أغمدت منه المنون مهنَّدًا
وأيُّ حُسامٍ ما لَهُ الدهرَ غامد!
يُعدُّ بألفٍ من رجال زمانه
على أنه في الألمعيَّةِ واحد
لقد بقيت للخالديِّين بعده
مناقب غُرٌّ دونهن الفراقد٢
وكم حَبَّرت أقلامه من صحائفٍ
بجيد العلا من دُرِّهن قلائد
نماه إلى المجد الصراع متمِّمًا
به فخره السيف الإلهيِّ خالد
دعانا ابن جبرٍ أن نُلمَّ بذكره
لدى محفِل قد ضمنا وهو حاشد
فقمنا لذكرى مجده بعد موته
نباهي به أحياءَنا ونماجد
ونستشهد الدنيا على حسناتهِ
وقد كثرت فيها عليها الشواهد
وإني وإن لم أحظَ منه برؤيةٍ
ليشهد لي من «عادل» فيه شاهد
ألا يا ابن جبرٍ أنت أيقظتَ للعلا
عواطف كانت وهْي فينا رواقد
فقلت: اذكروا يا قومُ فضلَ رجالكم
ففي ذكر فضل الغابرين فوائد
وسيروا على آثارهم واهتفوا بها
لينشطَ كسلانٌ وينهض قاعد
ففي الغرب أمواتٌ أقيمت لذكرهم
تماثيل في كل البلاد أوابد٣
أعادلُ قد أنهضت للعلم جُثَّمًا
فأنت لنا في نهضة العلم قائد
أقمت لذكرى الخالديِّ مَقامة
بها حسُنت للقوم منك المقاصد
وجاهدت في إنهاض حيٍّ بميِّتٍ
فجهدك في إنهاض قومك جاهد
ذكرتَ مزاياه وذكَّرتنا به
وهل يذكر الأمجاد إلا الأماجد
فسعيك مشكور ورأيك صائب
وفعلك محمود وسيرُك راشد
١
الجواسد: الدماء اليابسة.
٢
الفراقد: يقصد بها الفرقد، وهو نجم قريب من القطب يهتدى
به.
٣
الأوابد: الغرائب التي لا مثيل لها.