السجايا فوق العلم وفوق العالم
وقد نظم الشاعر الكبير الأستاذ الرصافي هذه القصيدة الاجتماعية الجبارة؛ جوابًا عن قصيدة الشاعر الأمير عادل أرسلان، وقد كان الأمير عادل أرسلان قد اطلع على قصيدة الأستاذ الرصافي «العلِم والعَلَم» التي ينصح بها الأمة العربية، ويحضها على الجهاد في سبيل الحرية فنظم قصيدة يعارضها بها.
عِلمٌ يُعزِّزه من دَوْلةٍ عَلمُ
في كل عصر به قد سادت الأمَمُ
ودولة القوم لم تثبت قواعدها
إلا بأنَّ سجاياهم لها دِعَمُ
فليس للعلم مهما اعتزَّ جانبه
نفع إذا ما السجايا الغرُّ تنعدم
إذا استحالتْ سجايا القوم فاسدةً
فليس ينفعهم علم ولا عَلَم
وليس يَختلُّ حبلُ الملك مضطربًا
إلا إذا اختلَّتِ الأخلاق والشِّيَمُ
لولا سجايا على حُبِّ العلا جُبلتْ
ما سادت الناسُ لا عُربٌ ولا عجم
لا خيرَ في العيش يغدو فيه صاحبه
وأنفه باحتمال الذلِّ مُزدَلم١
ما بالُ قومي على الإرهاق قد صبروا
كأنَّ أَشْهُرَ قومي كلها حرُم؟!
قد أنهضتهم إلى العلياء وَحدُتهمْ
واليوم أقعدهمْ عنها أن انقسموا
كان التعاون غرزًا في غرائزهم
حازوا به الشَّرف الوضاح واغتنموا
ثم اغتدوا بعد حينٍ في جوانحهم
نارُ التخاذل بالشحناء تضطرم
قد زال روح التفادي منهمُ ونما
رُوح التعادي إلى أن ماتت الهمم
ألقى التخاذل ضَعْفًا في عزائمهم
فالأجنبي عليهم ظلَّ يحتكم
تعاظموا لعظامٍ يفخرون بها
وهل يكون بعظمٍ رمَّةٍ عِظَمُ
•••
داء التأخر منا في خلائقنا
فقد فشا الداء حتى استفحل السقم
كانت خلائقنا للعز ضامنةً
حتى فسَدْنَ فزال العز والشمم
وأصبحت عندنا الغايات تابعة
إلى هوى النفس، فيما شأنه عمَم٢
نمشي من الجهل في ظلماءَ ظالمةٍ
بليَّتاها علينا الظُّلْم والظُّلَم
حرية الفكر فينا غير جائزة
والحرُّ منا مُهانٌ ليس يحترم
•••
لا دَرَّ دَرُّ رجال الدين إنهمُ
قد أظهروا فيه مِنهمْ غير ما كتموا
واستعملوه كما تهوى مآربُهم
كأنَّه ليس إلا آلةً لهمُ
تالله ما كان في الإسلام من حَرجٍ
على الأنام ولا في نهجه غمَم
بل كله جاء تيسيرًا وتبصرة
للعاملين وأحكامًا بها حِكَم
لكنما القوم ظلوا جامدين على
ما منه قَدْ وِهموه، بئس ما وَهِموا!
إذا سلكت إلى الإصلاح مسلكه
فأنت في رأيهم بالكفر مُتَّهم
وإن تصادمْت بالعادات تُنكرها
فأنت في زَعمهم بالدِّين تصطدم
وإن أتيتَ ببرهانٍ فأعجزهم
لم يحسنوا الردَّ، بل من عجزهم شَتموا
وإن تقُل لهمُ قولًا لتقنعهم
شدُّوا عليك وردُّوا قبلما فهموا
خلائق كظلام الليل من يَرَها
يقل بأمثال هذي تُمْسَخُ الأمم
•••
لله دَرُّ بني معروفَ إذ صَبروا
على التجالد ما كلُّوا ولا سئموا
أخلوا منازلهم للكَرِّ ثانية
كالأسد ترتدُّ خلفًا ثم تقتحم
ولازموا القفرَ، عاشوا في مجاهله
عيش القناعة لا حلوٌ ولا دَسم
بذاك حُبهمُ الأوطانَ يأمرهم
إذ هُمْ بسيماء حب الموطنِ اتسموا
باتت دمشق لهم ترنو نواظرُها
كما رنا للطبيب المدنف السَّقَم
أيامَ لم يبقَ من بيتٍ بغوطتها
إلا ذكت فيه نارٌ أو أريق دم
ثم انضوى بعدما اجتيحت معالمُها
منها إلى جمعهم أبطالها البُهمُ
فاستقتلوا في سبيل الذَّود عن وطنٍ
صِينت له من قديم عندهم ذمم
كانوا أشدَّ مضاءً من صوارمهم
فليس يَثنيهمُ ثانٍ إذا هجموا
عند الهجوم كمَوج البحر تُبصِرُهمْ
وكالجبال الرواسي همْ إذا التحموا
صَلَّتْ سيوفٌ بأيديهم يَسلْنَ دمًا
حتى حكين الغوادي حين تَهْتزم٣
•••
من مبْلغٌ للأمير الشَهْم مألُكةً
كالشمس تشْرق إلا أنها كلِم٤
إلى فتى آل رسْلان الألى رَسختْ
في معدِن المجدِ من قِدْمٍ لهم قَدَم
لبعضهم شهرةٌ بالسيف واحدة
وبعضهم شَهْرتاهُ السيف والقلم
كعادلٍ وشكيبٍ في أكفِّهما
جال اليراع وصال الصارم الخَذم٥
صبرًا فديتك بالعُقْبَى وإن بعدتْ
للصابرين وعُقبى الخائن الندم
ولم يَفتْك نجاح في محاربةٍ
أقلُّ ما حزت فيها المجد والكرم
يا عادلًا كاسمه لا تنسَ مَظلمتي
عندي خصوم وما عندي لهم حَكم
١
مزدلم: مقطوع.
٢
أمر عمم: تام عام.
٣
صلت صليلًا: صوتت. والغوادي: جمع غادية وهي السحابة تنشأ فقط
غدوة. تهتزم: من الهزيم وهو صوت الرعد.
٤
المألكة والألوكة: الرسالة يؤديها الرسول بلسانه.
٥
سيف خذم: ومخذم: بكسر الميم: أي قاطع.