نفثة مصدور١
خليليَّ هل من مُنْصتٍ فأبثَّه
شجونَ فتًى يشكو الأليمَ من البثِّ؟
فإني سئمت العيش في عُنفوانه
ويسأم مثلي كلُّ محترثٍ حَرثي
أقول، وليل الغرب ليس بنائمٍ
أما لنيام القوم في الشرق من بعث؟!
لقد جاح هذا الشرقَ بعد اعتزازه
جوائح أودَتْ منه بالكِرْش والفَرث٢
فساءَ من الإملاق والجهل خلقه
وصار سمين القوم يَبطِش بالغثِّ
وعادَ هَزيلًا مَجده مُتلفعًا
بسَحق دريسٍ من مَفاقره رَثِّ٣
وهبَّتْ به هوج الرياح فلم تدعْ
من العلم جذرًا فوقه غيرَ مُجتثِّ
أرى غَثيانًا في النفوس وهل ترى
نفوسًا على خُبْث المطاعم لا تُغثي
فيا قومنا أين المساواة عندكم
فقد طال عنها في مواطنكمْ بحثي؟!
وأينَ مواثيق الأخُوةِ إنني
أرى حبلها في كل يوم إلى النكث؟!
وإنَّ بصدري للقريض لفَورَةً
يزيد بها من طول غفلتكم نفْثي٤
أراكمْ فأهجو ثم أطرق ذاكرًا
أوائلكم قبلًا فأندب أو أرْثي
وأبكي على المجد الذي كان دونه
على ركبتيه الدهر من خشية يُجثي
يقولون: إنَّ الإرث في الخَلق سُنةٌ
فهل بطلت في خَلقكم سنة الإرث؟
فهلَّا ورثتم ثلثَ ذاك الذي بَنوا
من المجد، لا لا، بل أقل من الثلث!
قعدتم وقاموا واستكَنتم وفاخروا
بعزٍّ على وجه البسيطة مُنبثِّ
وما أتعب المستنهضيكم فإنهمْ
يَحُثُّون منكم للعلا غير محتَثِّ!
أما والعُلا، واهًا لها من أليَّةٍ
عدمتُ العُلا إن بتُّ منها على حنثِ
لأحتَقرنَّ الموتَ في معرك المُنى
وأسْترُ أفق اليأس بالرَهَج الكثِّ٥
وأرْكبُ متنَ الهول دون لُبانتي
ولستُ أبالي بالكوارث من كرث
وأجري بمستنِّ الخطوب مشمِّرًا
وأخبط ليلَ المزعجات بلا لَبث
ولولا إبائي أن أخاطب ماجنًا
كتبتُ هجاء الدهر بالقلم الثُّلث٦
١
قال الرصافي هذه القصيدة وهو في الآستانة، وأنشدها بشبان العرب في
المنتدى الأدبي.
٢
أودت منه بالكرش والفرث: [يريد] أنها ذهبت منه بما عز وبما
هان.
٣
متلفعًا: متلحفًا. وسحق في قوله: «بسحق» صفة لمحذوف؛ أي بثوب
سحق، وهو البالي من الثياب. والدريس: الخلق، وكذلك الرث.
والمفاقر: وجوه الفقر، لا واحد لها.
٤
نفثي: أي نفخي من الغضب.
٥
الرهج: الغبار.
٦
القلم الثلث: أصله قلم الثلث، وهو الذي يكتب في ثلث الطومار،
والطومار: نوع من الورق، متفق على مقدار طوله وعرضه، وهذا من
اصطلاح كتاب الدواوين، وقد جرى الشاعر على أسلوب عامة
المتكلمين، فجعل الثلث وصفًا للقلم: يريد القلم العريض.