على ضريح النائب
هي دنيا بقاؤها مستحيلُ
فَلْيقِفْ عند حدِّه التأميل
ليس يُغني فيها عن المرء شيئًا
شرف باذخ ومجد أثيل
إنما الراحة المُرجَّاة فيها
تعبٌ والهدى بها تضليل
كل شيء في أهلها مستعار
من سواه وكل حالٍ تحول
ليس ما قد جنى علينا بها الإفـ
ـقار أدهى مما جنى التمويل١
رتَّلت ألسن اللذائذ آي الـ
ـعيش فيها فغرَّنا الترتيل
فرجَوْنا طول البقاء وإن كُنـ
ـا علمْنا بأننا سنزول
وَطلَبْنا تعلَّة لنفوسٍ
ليس يُشْفي غليلها التعليل
قد قتلت الحياة خُبرًا ولكن
أنا منها بحيرتي مقتول
كل ما قيل في الحياة ظنونٌ
جرَّها في افتكارنا التخييل
قد وهمنا في البدء منها وأما
منتهاها فستره مسدول
إن يك العقل في دجى الشك نجمًا
فخفيٌّ مثل السها وضيئل٢
ويكَ إنَّ المعقول ما صحَّ عندي
فمتى صح عندك المنقول
كلنا خابطون في ظلماتٍ
حائر بائر بهن الدليل
إنَّ حبَّ الحياة أوهم أن الـ
ـموت نومٌ تحت الثرى لا يطول
إنما هذه الجسوم مَبَانٍ
قد بناها من الزمان عمول٣
نزلتها الأرواح حينًا فأضحت
عامرات ما دام فيها النزول
ثم لا بدَّ أن ترحَّل عنها
فيسمَّى بالموت ذاك الرحيل
إنما هذه الجُسوم رسومٌ
مُوحشات بعد الردى وطُلول
ما بِسِقْطِ اللِّوَى مَثلْنَ ولكن
بسقوط البِلى لهن مُثول٤
ليس يُسْلي الفتى عن الموت إلا
خَلفٌ صالح وذكر جميل
مثلما مات شيخنا «النائب» الحَبـْ
ـرُ فسالت من الدموع سيول
إن «عبد الوهاب» عاش جليل الـ
ـقدر فَرْدًا ومات وهو جليل
وقضى عادم المثيل فأمسى
ما لمنعاه في الخطوب مَثيل
حادث أظلمت به الأرض واستو
حش منها حُزونها والسهول٥
إن أسينا أسًى عليه كثيرًا
فكثير الأسى عليه قليل
كان فحل الفحول علمًا وفضلًا
فلهذا بكت عليه الفحول
كيف لا تجزع العلوم لمَنْعَى
رجل باعُه بهنَّ طويل
قد بكته مدارسٌ عامرات
هو فيها المدرِّس المسئول
وبكاه الكتاب ذو الذكر شجوًا
وعلوم إلى الكتاب تئول
وبكته آيٌ به محكمات
وبكاه التفسير والتأويل
وبكته أراملٌ ويتامى
جُذَّ عنها بموته التنويل
إن يكن أغمد الردى منه في القبـ
ـر حُسامًا فذكره مسلول
أو رمى حدَّه الردى بفلولٍ
فمعاليه ما بهنَّ فلول٦
أو خلت منه دُوره موحشات
فَذَرَاها بفضله مأهول٧
كيف لا؟! هؤلاء أبناؤه الغرُّ
شهودٌ بما أقول عُدول
كلهم في العلاء مثل أبيه
حسن الخلق فاضل بُهلول٨
هل تطيب الفروع في الناس إلا
حيث طابت فيهم لهن أصول
عِذرة يا أبا الحسين بماذا
نَصفُ الرُّزْءَ وهو رزء جليل
وإذا طاشت الحلوم بيوم
فيه فارقتنا فماذا نقول؟
أُخرسَ الشعرُ يوم منعاك لكن
ناب عنه تأوُّهٌ وعويل
وإذا أسكت المقاويلَ حزنٌ
ترجمت عنهمُ دموع تسيل
فصلتك المنون عنا ولكن
أنت بالحمد والثنا موصول
لك في العلم رتبةٌ لن تُسامى
فاضل القوم عندها مفضول
ومحيًّا صَلْتُ الجبين طليق
يتلالا كأنه قنديل
ويدٌ يجمع الشفاهَ عليها
كلما قد مددتها التقبيل
إنما قد ذكرت بعض مزا
ياك وإلا فشرحهن يطول
وإذا القول لم يفده اختصار
لم يفده الإطناب والتفصيل
١
التمويل: الغنى.
٢
السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى.
٣
العمول: المطبوع على العمل.
٤
سقط اللوى: موضع، ويشير هنا إلى بيت امرئ القيس الذي ذكر فيه
هذا الموضع.
٥
الحزون: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض وارتفع.
٦
الفلول: جمع فل، وهو الثلمة في الحد.
٧
يقال: فلان في ذَرا فلان؛ أي في ظله.
٨
البهلول: السيد الجامع لكل خير.