بني وطني
بني وطني ماذا أؤمل بعدَما
تفشت سعايات لكم بالتجسسِ
أقول لمن قد لامني في تشدُّدي
على كل تدليسٍ أتى من مُدَلِّس:
لوِ اسودَّ وجه المرء من قُبح فعله
لما كنت تلقى بيننا غير مُدْفِس١
ولو نال بالإخلاص مُثرٍ ثراءَه
لما كنت تلقى بيننا غير مفلس
نحاول عزًّا بابتذال نفوسنا
فنشري خسيسًا بالثمين المقدَّس
ومن جهلنا استكراهنا في معاشنا
شقاء نزيهًا للنعيم المدنَّس
سأرحل عنكم للذي قد أقامني
على موحِش من أمركم غير مؤنِس
أبيْت لنفسي أن تحل مكانة
من العيش إلا فوق عز مؤسس
ولو أن هذا الصبح كان انبلاجه
بغير شروق الشمس لم يتنفس
فلا أبتغي بالذل عيشًا مرفهًا
ولو عشت في العزَّى بفول مدمس
وما أنا كابن العبد إذ عانق الرَّدَى
لجدوى أبتْها رغبة المتلمس٢
إذا ابتسمت لي عفتي ونزاهتي
فلست أبالي بالزمان المعبِّس
أقابل أخلاق الرجال بمثلها
وأعرف منهم وجهها بالتفرس
فأغوى لمن يغوى وأقسو لمن قسا
وأظهر كالغطريس للمتغطرِس
ولست أجازي المعتدي باعتدائه
ولكن بصفح القادر المتحمس
وما أنا من أهل الدعارة والخنا
ولا من أولي حمل السلاح المسدس
ولكنَّ لي فيكم يراعًا إذا شدا
أتاكم بكافٍ من عُلاه ومُخرِس
وما خالق الأكوان إلا مهندس
وإن جلَّ عن تعريفه بالمهندس
تجلَّى على أكوانه بصفاته
وأغلس فيهم كنهه كل مُغلس
وأقبسهم نورًا شديدًا جَلاؤه
فساروا به كالعمي في كل حندس
وألبسهم حمر الغرائز فاغتنوا
بحمرتها عن كل ثوب موَرَّس٣
وما مُقبس عند النهى غير قابس
ولا لابس عند النهى غير ملبس
فأيَّان جال الطرف لم يرَ غيره
إذا كان في ألحاظه غيرَ مُبلس٤
حقيقة مخلوقاته لم تكن سوى
حقيقته دعْ عنك حدس المحدِّس
ألا إنني للكائنات موحِّد
ولو أرغمت كلُّ المذاهب مَعطسي٥
١
المدفس: الذي اسود وجهه من غير علة.
٢
ابن العبد: طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي، والمتلمس: جرير بن
عبد المسيح شاعر معروف، ولهما قصة في وفادتهما على عمرو بن
هند، ومنادمتهما أخاه قابوس.
٣
حمر الغرائز: كذا بخطه، ولعله يريد الغرائز المعجبة، فإن
الحمرة شعار الحسن. والمورس: المصبوغ بالورس، وهو
الزعفران.
٤
المبلس: من الإبلاس، وهو الحيرة.
٥
المعطس: الأنف.