مقدمة
طلبَتْ إليَّ دار الهلال أنْ أضع كِتابًا عن هارون الرشيد، فاغتبَطْتُ بهذا الطلب؛ لأني أحِبُّه، وربما كان سبَب حبي له أنه رَجُل عاطفي ذَوَّاق، يَخضع للمؤثرات الوقتية؛ فيصلِّي مائة ركعة كُلَّ يوم، ويَحُجُّ ماشيًا، ويَهِيم من ناحية أخرى بالجمال والغناء ومجالس الشراب، وَيُحَدِّثه أبو العتاهية حديث الزهد فيبكي حتى تَخْضَلَّ لِحْيَتُهُ، ويقول له ابن أبي مريم نكتة فيَضْحَك حتى يَسْتَلْقِيَ على قَفَاه، ويرضى عن البرامكة فيُطْلِق لهم العَنَان، ويَغْضَب عليهم فيَنْكُل بِهِمْ أَشَدَّ النكَالِ.
وَرَجُل كهذا يَكُون — عادةً — صريحًا صادقًا … وأُحِبُّه أيضًا؛ لأنه أعلى شأنَ الشرق في الغرب، فكلما ذُكر هارون الرشيد تَخَيَّل الغربيون الشرق بفتنته العجيبة، وجاذبيته الساحرة؛ والسبب في ذلك كتاب ألْف ليلة وليلة، وما أَضْفَتْ عليه علاقته بشارلمان من فخفخة وإجلال، وتوالي الوفود منه وإليه، وحركة التجارة بين الشرق والغرب في أيامه … إلى غير ذلك.
ويضاف إلى هذا كُلِّه ما رُزِقَ مِنْ حُسْنِ حَظٍّ؛ فكثير مِن الخلفاء قَبْلَه وبَعْدَه — كمعاوية، وعبْد المَلِك بن مروان، وهشام بن عبْد المَلِك، وعبْد الرحمن الداخل، وعبْد الرحمن الناصر، والمأمون — كانوا خيرًا منه.
وغلطة كغلطة البرامكة كانَت تَكفي لِأَنْ تَطُوح بِذِكْره، وتُصْغِرَ مِنْ شأنه … ولكِنْ هي الظروف، وهو الحظ، حتى إنَّ بَعْض كِبَار المؤرخين — كابن خلدون — نَصَبُوا أنفُسَهم للدفاع عنْه وتصويره كأنه نبي كريم لا يصحُّ أنْ يُغَنِّيَ، ولا أنْ يَشْرب، ولا أن يَزِلَّ!
كُلُّ هذا ونحْوه جعَله محبوبًا، عالي الذكْر، بَعِيد الصيت. وقد عَمَدْتُ إلى كتابته بأسلوب عصري سهْل يناسب جمهور القراء، فلَمْ أتعمقْ فيه تعمقًا يجعله ثقيلًا، ولا أغرقته بذكر المصادر كما يفعل الجامعيون، ومَنْ نحا نَحْوَهُمْ، والله يرزقه مِن الحظوة ما رَزَقَ الرشيد.