ميلاد دولة
للدُّوَل عُمرٌ كالذي للأفراد … طفولة، ومراهقة، وشباب، وكهولة، وشيخوخة، وهي كالأفراد أيضًا … بعْضها يُولَد هزيلًا مريضًا يموت في مهده، أو بَعْد مهده بقليل، وبعْضها يُولَد صحيحًا معافًى تمتد حياته، ويطُول عمره، وهي كذلك كالأفراد … يعتريها أحيانًا موْت الفجاءة، وأحيانًا يدب الفناء فيها، وتموت عضوًا فعضوًا حتى ينتهي أَجلُها، وهي أيضًا قدْ يَطُول عمرُها وقدْ يَقْصُرُ، والملاحَظ أَنَّ الدول في أوَّل نشأتها كانت قصيرة العمر، ثُمَّ تعلَّم الخلَف مِن السلف، واتقَوْا أخطاءهم … فطال عُمرها؛ فنجِدُ مثلًا أنَّ عُمْرَ دولة الخلفاء الراشدين كان نحْوَ ثلاثين عامًا.
فجاءت الدولة الأموية فعاشت نحْو مائة عامٍ، ثم جاءت الدولة العباسية فعاشت أكثر مِنْ خمسمائة سَنَة.
والدول الغربية الحديثة تَعَلَّمَت مِنْ أسباب سقوط الدولة اليونانية والرومانية، واحترست مِنْ أَنْ تقع في مِثْل أمراضها … فطال عمرها كثيرًا، ولا يَعْلَمُ إلا الله منتهاها، ولكنها على كُلِّ حالٍ إلى النهاية المحتومة للأفراد والأمم، وهي الفَناء، والدولة الأموية التي سبقَت الدولة العباسية أخذَتْ في الفَناء مِنْ بَعْد وفاة عُمَرَ بْنِ عبْد العزيز، واستمرت في طلوع الروح نحْو ثلاثين سَنَة.
(١) أسباب سقوط الدولة الأموية
ولسقوط الدولة الأموية أسبابٌ، منها: أَنَّ الأمويين شددوا النكير على العلويين، وساموهم الخسف، وكان أولاد الحسين بَعْدَ مقتل أبيهم صغارًا، فلمَّا مضى الزمن شبُّوا، وحاولوا أَنْ يأخذوا بثأر أبيهم، وكان أَوَّل حَجَر في سقوط بني أمية قَتْل سليمان بْن عبْد المَلِك لأبي هاشم، وَقَدْ عَهِدَ أبو هاشم عِنْدَ قَتْلِه إلى محمد بْن علِيٍّ رأْس العباسيين، وكان الأمويون يحْذرون العلويين أَكْثَرَ مما يحْذرون العباسيين، وذلك أَمْكَنَ العباسيين أَنْ يَبُثُّوا دَعْوَتَهُم ضد الأمويين في اطمئنان.
والثاني: أَنَّ الدولة الأموية كافأَتْ رجالها العظام أسوأ مكافأة — والرجال العظام في الدول قليل — فلمَّا فقدَت الدولة الأموية رجالها فقدَت جانبًا عظيمًا مِنْ قوَّتها، فكان مِنْ رجال الدولة الأموية المخلصين: موسى بْن نُصَيْر فاتح الأندلس، وخالد بْن عبْد الله الْقَسْرِي، ويزيد بْن المُهَلَّب، وقتيبة بْن مُسْلِم، وَمِنْ خطأ الخلفاء الأمويين ظُلْمهم لأمثال هؤلاء الرجال، فقَتَلوا بَعْضهم؛ كخالد بْن عبْد الله، وقتيبة بْن مُسْلِم، ويزيد بْن المُهَلَّب، وزُجَّ بموسى بْن نُصَيْر في السِّجن.
وسَبَب ثالث؛ وهو: تَبَاعُدُ أطراف المملكة بسَبَب الاتساع في الفتوح، فبلغت دائرة مُلْكِهم ما لَمْ تَبْلُغه قَبْلهم غَيْر دولة الرومان؛ فما بَيْن النهرين المعروف بالجزيرة، وإيران، وقِسْم مِن الأفغان، والتركستان، والقوقاز، وأرمينيا، وشِبْه جزيرة العرب، وسوريا، ومصر، والمغرب، والأندلس كُلُّها دخلَتْ في حوزة سُلْطانهم، وضَبْطُ هذه الأقطار المختلفة المترامية الأطراف صعْب جدًّا، وخصوصًا إذَا كان الخلفاء ليسوا بالأقوياء الحازمين، بلْ مِن الضعفاء الذين يَجْرون وراء شهواتهم، ولذلك كان مِنْ حَزْم الدولة العباسية، ومِنْ قواعدها الأساسية عَدَم التوسع في الفتوح.
يضاف إلى ذلك: ما حبا الله به العباسيين مِنْ أمثال أبي مسلم الخراساني الذي نجَح نجاحًا باهرًا في الثورة على الأمويين، والدعوة للعباسيين فاستطاع بذلك أَنْ يَنْتَقِم مِن العرب جزاءً وفاقًا لِمَا انتَقَمَ العرب مِن الفرس في مبدأ الإسلام.
وكان رجلًا عظيم الشخصية جبارًا، أدار الحرب على الأمويين في مهارة ونشاط وقسوة حتى نجَح، ومع ذلك كافأه أبو جعفر المنصور أسوأ مكافأة بقتله بعْد أَنْ مَهَّد له الطريق، وأزال منه كُلَّ ما اعترضه مِنْ عقبات … شأن الأمويين في نوادر رجالهم، وشأن الرشيد — فيما بعْد — فيما فَعَلَه مع البرامكة.
كُلُّ هذه الأسباب تجمعت، وكانت سببًا في سقوط الدولة الأموية، وقيام العباسيين بَعْدَهم يَنْكُلون بهم، ويفتكون بكُل مَنْ عثروا عليه مِنْهم.
(٢) الأمويون والعباسيون
على كُلِّ حالٍ ما أكبر الفرق بَيْن الدولة الأموية والدولة العباسية … كان الأمويون يحكمون البلاد حُكْمًا عربيًّا فيه بساطة وفيه عيوب القبلية، أَمَّا العباسيون فكانوا يحكمون البلاد حُكْمًا فارسيًّا، وكانت قصور الخلفاء الأمويين قصورًا فخمةً بسيطةً كالذي نشاهده مِنْ آثارهم، وكانت قصور العباسيين فخمة معقدة، وكان المَثَل الأعلى للأمويين أمراء غسان وأمثالهم، أَمَّا المَثَل الأعلى للعباسيين فالأكاسرة.
وكان الولاة في العهد الأموي ذوي عقلية عربية أمثال زياد ابن أبيه، والحجاج، وخالد بْن عبْد الله القسري، أَمَّا في الدولة العباسية فوزراؤهم أمثال البرامكة ممَّن يَنْزِعون نزعة فارسية، وهكذا …
وربما اتفق الأمويون والعباسيون على أشياء أهمها شيئان: أولًا: حصْر الخلافة في بيت واحد … هؤلاء يحصرونها في الأمويين، وهؤلاء يحصرونها في العباسيين، وتجري الخلافة على قانون الوراثة لا على قانون الشورى، ورأي أهل الحَلِّ والعَقد، وكذلك: يتفقون في أنهم قلَبوا الخلافة إلى مُلْك عضوض.
الملك العضوض
والفرق بيْن حُكْم الشورى والمُلْك العضوض: أنَّ الأَول لا ينحصر في بَيْت ولا في وليِّ عهْد، ولكنْ يستشار أهْل الحَلِّ والعَقد فيمن يَصْلح، ولذلك قالوا: إنَّ بَيْعة عُمَرَ لأبي بكر كانت فلتة، وقى الله المسلمين شرَّها.
أما الثاني فكان الخليفة يعمل على تولية مَنْ رأى أن يَخْلُفَه، ولو كان غيْر أهْل للخلافة، كما فعَل معاوية مع يزيد، وكما فعَل الرشيد مع الأمين.
ثانيًا: أنَّ كُلًّا مِن الأمويين والعباسيين خافوا العلويين وكرهوهم، وسلطوا عليهم سيوفهم، مما ألَّف سلسلةً طويلةً كالتي رواها أبو الفرَج الأصبهاني في كِتابه «مَقَاتِل الطالِبِيِّين.»
ولقد تَكَاتَف العباسيون والعلويون على إسقاط الدول الأموية … ثم انفرد العباسيون بالدعوة على أساس آخر.
(٣) نشأة الدولة العباسية
ذلك أنَّ الذي قام بهذه الدعوة أبو العباس عبْد الله بْن محمد، وكان على جانب عظيم مِن الدهاء والسياسة.
فأسس نظريةً جديدةً خلاصتها: أنَّ زعامة الإسلام الروحية بعْد مَقْتَل الحسين لم تَنْتَقل إلى علي بْن الحسين، إنما انتقلَتْ إلى محمد ابن الحنفية، الذي أوصى بهذه الزعامة إلى ابنه عبْد الله أبي هاشم، وهذا أوصى عنْد وفاته إلى محمد بْن علي بْن عبْد الله بْن عباس، وهذا أوصى إلى أبي العباس عبْد الله بْن محمد، ومِن بَعْده إلى أبي جعفر المنصور، فراجت هذه الدعوة في بعض البلاد، وعاوَنَهم في ذلك أبناء فاطمة أنفسهم؛ ظنًّا منهم أنَّ تعاوُن البيتين أولًا يُكْسبهم قوةً، حتى إذا أسقطوا جميعًا الدولة الأموية سهُل تغَلُّبهم على بني عبْد الله بْن عباس.
وكانوا في ذلك مخطئين … بلْ كان الأمْر هو العكس؛ فإنه لمَّا استطاع البيتان إسقاط الدولة الأموية تغَلَّب بيْت العباس على بيْت فاطمة، وأصبح للعباسيين خصمان كبيران: الأمويون والعلويون، فأخذوا ينْكُلون بهم جميعًا، وقَلَّما خلا خليفةٌ عباسي مِن قَتْل إمام عَلوي، ولمَّا حضرَت الوفاة محمد بْن علي بْن عبْد الله بْن عباس، أوصى بالخلافة لأولاده: إبراهيم المعروف بإبراهيم الإمام، وأبي العباس عبْد الله، وأبي جعفر الملقب بالمنصور فتولى أبو العباس الخلافة، ووضع للدولة بعْض أُسُسها، ونكَل بأعدائها، وجاء أبو جعفر المنصور فسار سيرة أخيه، وأكمل الأسس، وأتمَّ تشريد الأعداء.
وجاء بعده المهدي فصادف جماعةً ينقمون على الإسلام نجاحه، ويوَدُّون إرجاع الدولة الفارسية كما كانت، وديانة الفرس الوثنية كما كانت، فقتلهم المهدي تحت ستار أنهم زنادقة، وعهِد بالخلافة إلى ابنه الهادي ثم الرشيد … فجاء الهادي يريد أن يخلع الرشيد، ويَحمل الناس على البيعة لابنه جعفر، وكان الهادي شرسًا قويًّا جبارًا، وكان الرشيد لينًا مطواعًا، فلما علم من أخيه ذلك مال إلى إجابته.
ولكن عصاه يحيى البرمكي — وكان وليَّ أمره إذ ذاك — ولما اشتد الهادي على يحيى البرمكي والرشيد، نصح يحيى للرشيد بأن يسافر إلى مكان بعيد؛ ليختفي عن أعين الهادي فلا يذكر هذه المسألة إلا لمامًا.