الرشيد في قصر الخلد
تولية الرشيد
في هذا الوضع، وفي هذا الجو، وفي بغداد هذه، وعلى هذا النظام الذي ذكرنا بعضه تولى الرشيد … وقد جلس على العرش في قصر فسيح يُسمَّى «قصر الخلد»، بناه جَدُّه المنصور، وجعله في الجانب الغربي من دجلة — وهو يقع في منحنى نهر دجلة بإزاء باب خراسان — حتى إذا شبت نار الثورة كان في استطاعته أن يفر إلى خراسان، وهي أهم مُؤسَّسٍ للدولة العباسية، وفي ناحية من نواحيه على الشاطئ الآخر قصور البرامكة … هذا قصر يحيى، وهذا قصر جعفر، وهذا قصر الفضل.
وله فناء واسع قد مُلئ بالجواري والغلمان على مختلف الأشكال والألوان، وقد كان الرشيد يغالي في أثمانهن، وخصوصًا إذا كانت الفتاة جميلةً أو متعلمة الغناء، أو أديبةً. واشتهر من جواري القصر اللاتي غلبن على الرشيد: ماردة، وهي التي ولدت منه المعتصم، وهيلانة، وهي يونانية كما يدل عليها اسمها، وقد ماتت، وحزن عليها الرشيد حزنًا شديدًا، وقال الشِّعر فيها:
ويقول فيها أبان اللاحقي على لسان الرشيد:
وهذا القصر كأنه مدينة صغيرة له أجنحة متعددة … هذا جناح للخيزران أُمِّ الرشيد بكتبها وغلمانها وجواريها.
وكانت مواكب الأمراء تأتي إلى بابها فنهاها الهادي عن ذلك، وقال لها: «متى وقف ببابك أمير ضربت عنقه، أمَا لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو سبحة؟!» فقامت الخيزران، وهي ما تعقل من الغضب، وقد ذكروا أنها كان لها شأن في الدسيسة التي حيكت حول ابنها الهادي حتى قتل، فلما تولى الرشيد أعاد لها سطوتها وسلطانها.
ولكنها لم تطُلْ مدتها … فماتت بعد ثلاث سنوات من خلافته، وكان يوم وفاتها يومًا ممطرًا فمشى الرشيد في جنازتها، وكانت امرأة عاقلة قوية السلطان كبيرة الشخصية تتدخل في شئون الدولة وتسيرها، يعينها على ذلك يحيى البرمكي وأولاده، وقد خاف ابنها الهادي من سطوتها، وتدخلها وشخصيتها، فحجر عليها فكرهته …
وهذا جناح زبيدة زوج الرشيد، وهي كذلك شخصية قوية خَيِّرة، لها خدمها الخاصون، وغلمانها، وجواريها، وكانت كالخيزران في تدخلها السياسي، غيْر أنها لم تكُنْ مِثْلَها في دس الدسائس، بل كانت بارَّةً محسنةً، تنفق الأموال على الملاجئ والمستشفيات، ومن آثارها الخالدة عين الماء المسماة باسمها، والتي أنشأتها في الحجاز، ومدت بها الماء إلى مكة، ثم كان في حجرها ابنها محمد الأمين.
وهذا جناح عَليَّة أخت الرشيد، وكانت شاعرة جميلة مفتنة لها عشاقها، وزوارها، ومجالس أنسها، وسرورها.
وهذا جناح العباسة أخت الرشيد، فتاة جميلة أيضًا، شاعرة تحب جعفر البرمكي وتراسله.
وأخيرًا جناح الرشيد، وهو أعظم الأجنحة، فيه جواريه الكثيرة، وغلمانه الكثيرون، وأطباؤه، ومضحكوه، ومغنوه إلى آخر ما هنالك.
وعلى الجملة فكان القصر يموج بالفتيان والفتيات، والكبار والصغار … هذه جارية فارسية تتكلم بالفارسية، وهذه يونانية تتكلم باليونانية، وهذه حبشية تتكلم بالحبشية، وهذه بربرية تتكلم بالبربرية … إلخ، ثم كانت تموج في القصر تيارات مختلفة … تيارات سياسية من الخيزران وزبيدة، فالخيزران توالي البرامكة وتؤيدهم، وتكره الفضل بن الربيع وتبعده، وتيار من زبيدة تكره البرامكة وتعاكسهم، وتؤيد الفضل بن الربيع وتقربه، ثم تيارات أخرى غرامية بين شابات القصر وشبانه، والعباسة وعلية، والجواري والغلمان.
وكانت جواري الرشيد فيما يقولون تبلغ نحو ألفي جارية مختلفة الأجناس … منهن الروميات، والسنديات، والفارسيات، وقد قال خبير بالرقيق وأنواعه: إن لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها، فالهنديات وديعات لينات الجانب، هادئات قادرات على حسن ورعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول، واشتهرت السنديات بالخصر النحيف، والشعر الطويل، واشتهرت مولدات المدينة بالدلال، والميل إلى السرور، والفكاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء، وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، وعرفت الإماء البربريات المغربيات بأنهن لا يُبارَين في حسن الإنتاج، وهن لدماثة خلقهن، ولين عريكتهن صالحات لأن يتعودن القيام بمختلف الأعمال.
والمَثَلُ الأعلى للجارية — كما يقول أبو عثمان الدلَّال — أَمَةٌ تكون مِن أصْل بربري فارقت بلادها في التاسعة مِن عُمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة مِن عُمرها لتتثقف بثقافته … فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت من جودة الأصل، ودلال المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.
والسودانيات كنَّ يغمرن الأسواق، وقد عُرِفن بقلة الثبات، والإهمال، كما عرفن بالميل إلى الضرب بالدف والرقص، وهن أحسن خلق الله بياض أسنان، ولكن يعاب عليهن نتن الإبط، وخشونة الملمس، والحبشيات عُرِفن بالضعف والترهل، والاستعداد لمرض الصدر، وهن على عكس السودانيات لا يُحسنَّ الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخَلْق مَوْضع للثقة أَهْل للاعتماد عليهن.
قصر الخلد
ولا يخلو قَصْر كهذا من العلاقات الغرامية، ولذة الوصال، وأَلَمِ الخصام، ونحو ذلك من ضروب العواطف؛ حتى لَيَحْكون أنَّ سبب اتصال الرشيد بأبي يوسف أنَّ الرشيد رأى مَرَّةً مَنظرًا غراميًّا لم يعجبه، فاستدعى أبا يوسف لسؤاله: هل على الخليفة إذا رأى هذا المنظر أن يَحُدَّ الجناةَ؟ فأفتاه بِلا؛ لأنَّ القاضي لا يقضي بعلمه، فَسُرِّيَ عن الرشيد، وأجزل لأبي يوسف الصلات، وتوثقت الصلة بينه وبين أبي يوسف من ذلك الحين، حتى عيَّنه قاضيَ القضاة.
تُضِيف إلى عظمة قصر الخلد عظمة بغداد؛ فقد كانت مملوءة بالقصور الفخمة، والميادين الفسيحة، والأسواق الحافلة بالدكاكين الممتلئة بالسلع، وكان يأتيها من مصر البلسم، والكتان، والقمح، والنحاس، والذهب، وزمرد النوبة، ويأتيها من الحبشة العاج، ومن الأندلس الحرير، والصيني، والجلود، والأسلحة الصلبة، ومن اليونان النباتات ذات العطر الطيب، والصمغ، ومن سوريا الزجاج، والبللور، والأصداف …
•••
ومن بلاد العرب البخور، ومن سوماطرة البخور الجاوى والزعفران والقرفة، ومن جاوى الماس، والعاج، والأخشاب الثمينة، والصندل، ومن خليج فارس اللآلئ، والصدف.
ومن سيلان الياقوت، واللازورد، ومن فارس الأصواف، ومن سيراز الفيروز، والعقيق، والمرجان، ومن أصفهان الأقمشة المختلفة، ومن بخارى الأصواف، والسجاجيد، والأقمشة، ومِنْ مَرْو الزبرجد، ومن الموصل صفائح الصلب. ومن سمرقند الأطلس، والفضة، والأقمشة الناعمة، ومن الصين الصيني، وحجر الشب، والحرير الخام، والصمغ، ومن التبت المسك، وهذه كلها تحول أحسن ما يرد إلى قصر الخلد، والقصور حوله، وأحيانًا كثيرةً يسير الشابان هارون الرشيد وجعفر ووراءهما مسرور الخادم متخفين للوقوف، وشراء خير ما في الأسواق … كما تروي لنا ألْف ليلة وليلة.
•••
ويقول الاقتصاديون: إنَّ الدينار والدرهم ليس لهما قيمة ذاتية، وإن قيمتهما بقدرتهما الشرائية، وكانت قيمتهما في عهد الرشيد كبيرة لا تقاس بما نحن عليه اليوم؛ فقد عُثِرت على قائمة بتثمين بعض الأشياء فيها أن الكبش كان يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلًا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، وكان الرجل يعمل في سور بغداد كل يوم بخمس حبات، وكان ينادى على لحم البقر في جبانة كندي تسعون رطلًا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلًا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، والأستاذ البناء بخمس حبات، ومن المعلوم أنه في أيامهم كانت الحبة ثلث درهم، والدانق سدس درهم، والدينار كانت تختلف قيمته تبعًا لنقاء فضة الدراهم، أو عدم نقائها؛ فكان يساوي مرةً عَشَرةً، ومرةً خمسة عشر، ومرةً عشرين، وكان مقدار الدينار ذهبًا يساوي ستين قرشًا مصريًّا تقريبًا …
ثقافة الرشيد
وكان الرشيد مثقفًا ثقافةً عربيةً واسعةً، عَلَّمَه الأدبَ المفضل الضبي، والنحوَ الكسائي، وملأه الأصمعي طرفًا من طرائفه الأدبية، ومُلحًا مِنْ مُلَحِه العربية.
وكان نديمه في الغناء إسحاق الموصلي، وتدلنا مناقشاته الكثيرة للعلماء والأدباء على بحر واسع في العِلْم والأدب.
وقد رُوي عنه أنه كان ينقد الشعراء في أشعارهم، وينقد المغنين في غنائهم، ويحصي غلطات هؤلاء وهؤلاء، ومزايا هؤلاء وهؤلاء، كما كان من أدلة ذلك ما جمع له من الأصوات الممتازة التي اختارها أبو الفرج الأصفهاني، وبنى عليها كتابه الأغاني.
ولعل أكبر ما يدل على ثقافته وصِيَّتُه المشهورة التي تقدم بها إلى الأحمر مُعَلِّم ولدِهِ محمد الأمين، إذ قال: «يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفْسه، وثمرة قلْبِهِ، فَصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرِّفْه الأخبار، ورَوِّهِ الأشعار، وعلِّمْه السُّنَن، وبَصِّرْه بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورَفْع مجالس القُوَّاد إذا حضروا مجلسه، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تُمْعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويأْلَفَه، وقَوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فَإِنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة»، وهي وصية حكيمة، وضع فيها الرشيد منهج التعليم، ومنهج الأخلاق … واتُّخِذت على مَرِّ العصور مُرْشدًا لكل مَن حاوَل التعليم، وأراد ممارسته.
•••
ويَرْوُون أن الرشيد مرةً دعا المفضل الضبي، والمأمونُ عن يمينه ومحمدُ الأمين عن يساره، قال المفضل فسلَّمْتُ فأومأ إليَّ بالجلوس فجلست، فقال لي: «يا مفضل!» قلتُ: «لبيك يا أمير المؤمنين!» قال: «كم من الأسماء في فسيكفيكهم الله؟» فقلتُ: «ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين» قال: «وما هي؟» قلتُ: «الياء لله عز وجل، والكاف الثانية لرسول الله ﷺ، والهاء والميم والواو للكفار» قال: «صدقْتَ»، كذا أفادنا هذا الشيخ؛ يعني الكسائي، ثم التفَتَ إلى الأمين، فقال له: «فهمتَ؟» قال: «نعم» قال: «أَعِدِ المسألة» فأعادها كما قال المفضل، قال الرشيد: «يا مفضل! هل عندك مسألة؟» قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين؛ قول الفرزدق:
قال الرشيد: «هيهات قد أفادنا هذا قبلك، فقد أخبرنا الشيخ — يعني الكسائيَّ — أن لنا قمريها يعني الشمسَ والقمرَ، كما قالوا سُنَّة العُمَرَين يريدون أبا بكر وعُمَر.»
وذلك أنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غَلَّبُوهُ فَسَمَّوا الأخير بِاسمه، فَلَمَّا كانت أيامُ عُمَر أكثر مِن أيام أبي بكر، وفتوحه أكثر غَلَّبُوه، وسَمَّوا أبا بكر بِاسمه، وقد قال الله عز وجل: بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وهو المَشْرق والمَغْرب، قال المفضل: «بَقِيَتْ مسألة» قال: «وما هي؟» قلتُ: «أراد بالشمس إبراهيم ﷺ خليل الرحمن، وبالقمر محمدًا ﷺ، والنجومِ الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين، وهو تفسير يرمي إلى نوْع من النفاق، قال: «يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألْف درهم ومائة ألْف لقضاء دَينه»، إلى كثير من أمثال هذه الحكايات التي تدل جملتها على ثقافة واسعة، واستفادة من المفضل والأصمعي والكسائي وأمثالهم.»
ويروي المفضل أيضًا أن الرشيد استدعاه، وسأله عن بيت من الشِّعر فأجاب وفق ما توقع الرشيد، فنزع الرشيد من يده خاتمًا قيمته ألف وستمائة دينار، فلما علمت الخيزران بذلك أعطته الألف والستمائة، وأخذت الخاتم منه، وردته إلى الرشيد؛ لأنه كان يعجب به، فرده الرشيد إلى المفضل، وقال له: «لا يليق بالخليفة أن يسترد ما أعطى»، فصفا له الألف والستمائة.
امتزاج الثقافات
وإلى جانب ذلك كان في عهد الرشيد اختلاط الثقافات كأنها جداول صغيرة تَكوَّن منها نهر كبير … فأولًا: كان من هذه الثقافات الثقافة الفارسية، وهي التي عظمت في الدولة العباسية مما ألفها عبد الله بن المقفع وأمثاله، وقد كسبت الثقافة الإسلامية العباسية من الفرس أشياء كثيرة منها الألفاظ اللغوية، وخاصةً ما ليس للعرب عهد بمدلولاتها، مثل ألفاظ المأكولات الفارسية، والنباتات االفارسية، وضروب الملابس، والأثاث، والرياش …
رُوي أنَّ فارسيًّا ناظَرَ عربيًّا بيْن يدَي يحيى بن خالد البرمكي … فقال الفارسي: «ما احتجنا إليكم قط في عمَل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا بأعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم، وما فيها على ما سمَّينا ما غيرتموها كالاسفيداج، والسكباج، والدوغياج، وكالسكنجين، والخلنجين، والجلاب، وأمثالها، وكالروزنامج، والاسكدار وأمثالها» فسكت عنه العربي، فقال له يحيى بن خالد: قل له: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة، بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم، ولا إلى شيء كان لكم»، ونقرأ في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، فنراه يَستعمل ألفاظًا كثيرةً من أصْل فارسي … فيسمي الطريق إذا التقى فيها أربعة طرق «جهارسو»، والجهارسو فارسية، ويُسمي السوق وازار، والوازار فارسية، وهكذا.
وثانيًا: نقلوا كثيرًا من كتب الأدب الفارسية الأصل … وكثيرًا من القصص الفارسية، ويحكون أنَّ كِتاب ألْف ليلة وليلة أصله فارسي، وقد تَرجم عبْد الله بْن المقفع كتاب كليلة ودمنة عن الفارسية، كما ترجموا عن الفارسية كتاب زرادشت المسمى افستا، ترجموه هو وما عليه من شروح، وقد ترجم الحسن بن سهل كتاب «جاويدان خرد» عن الفارسية.
•••
هذا إلى أن كثيرًا من الفرس كانوا قد أسلموا وتعلموا العربية، فكانوا ينقلون إلى العربية ما تعلموه من أفكار فارسية، كما نُقِل كثير من التوقيعات والحِكَم إلى العربية مِنْ غَيْر نصٍّ عليها، بل لعل مَن كان مِن أصْلٍ فارسي كله أو بعضه — كبشار بن برد وأبي نواس — لهم معان مأخوذة من أصل فارسي، ومن رأي ابن خلدون: أن كثيرين من واضعِي العلوم كسيبويه واضع النحو، وأبي حنيفة واضع الفقه، ونحوهما من أصْل فارسي، وأن الفارسيين في هذا الباب أكثر من العرب، وسواء صح هذا أو لم يصحَّ، فأقل ما يدل عليه أن كثيرًا من الفرس وضعوا كثيرًا من العلوم.
بل ذهب بعضهم إلى أنَّ شِعر أبي العتاهية لا يمتُّ إلى العرب بِصِلة؛ لأنه ليس مناسبًا لحياة الملوك وترفهم ونعيمهم في الحياة، وإنما هو شعر مستمَدٌّ من الفارسية، وخصوصًا من مذهب ماني الزاهد.
كذلك انتشرت الثقافة الهندية بدخول كلمات من الأصل الهندي إلى اللغة العربية، وقد سمَّوا السيف مُهندًا أخذًا من الهند، ومن أسمائهم النسائية: هند، وكليلة ودمنة الذي تُرجم إلى العربية من الفارسية من أصل هندي، وكان هناك علماء من أصل هندي تثقفوا بالثقافة العربية، ونشروا الأفكار الهندية كابن الأعرابي؛ فقد رَوَوْا أن أباه زيادًا كان من أصل هندي، كذلك نُقل إلينا أن التجارة بين المسلمين في العهد العباسي والهند كانت واسعة النطاق في التوابل وأنواعها، وقد نقلت إلى العربية مدلولاتها وأسماؤها، وحكى لنا البيروني أنهم كانوا مهرة في الحساب والهندسة، وأن لهم طريقة تخالف طريقة اليونان، هذا إلى أن كثيرًا من عقائدهم في الحلول ووحدة الوجود دخلت في التصوف الإسلامي.
•••
وهناك ثقافة يونانية دخلت في الدول العربية منها ألفاظٌ كثيرة، كما دخلها الطب والفلسفة، وكان في بلاد العرب كثير من المثقفين بالثقافة اليونانية كعلماء حران والإسكندرية، وغير ذلك. نعم! إن العرب لم يستسيغوا الأدب اليوناني في القديم؛ لأنه يبعد كثيرًا عن الأدب العربي، فلم يأخذوا منها كثيرًا، وإن أخذوا منها الطب والمنطق والفلسفة.
والثقافة الرابعة الثقافة الرومانية مِن مِثل ألفاظٍ التقطوها من الجواري الرومانيات ومن الرومانيين أثناء حروب المسلمين معهم، وأُسَرِهم الأسارى منهم، وكان مما عُنِي به في عهد الرشيد وخلفاء العباسيين عامَّة: الطب والتنجيم، فاتخذوهما من الوظائف الرسمية، وكان لكل خليفة طبيب خاص، ومُنَجِّم خاص. أما حاجة الخلفاء للطب فواضحة؛ إذ كان أكثر الخلفاء مرضى يحتاجون إلى طبيب يداويهم، ورووا أنَّ المنصور كان مريضًا بمعدته، ولم يستطع أطباؤه معالجته، فاستدعى طبيبًا من جنديسابور هو جرجيس بن بختيشوع، وكانت مدرسة جنديسابور مدرسة عظيمة، وتعد مصدرًا للثقافة اليونانية، ومركزًا لنشر فلسفتها وعلومها، أسسها كسرى أنو شروان، وبناها على شكل القسطنطينية، واستجلب لها أطباء من الروم، ثم خَلَفَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ مَنْ حَلَّ مَحِلَّهم مِن أهل البلاد، وكان الذي أنشأه فيه بيمارستانات لمعالجة الفقراء، فلما جاء الرشيد استطب جبريل بن بختيشوع، وأمره بإنشاء بيمارستان ببغداد على نمط ما لجنديسابور، وكانت عائلة بختيشوع كلها نصارى نساطرة.
•••
وطبيب الرشيد هو جبريل بن بختيشوع، وقد أراد الرشيد أول الأمر أن يمتحنه فأحضر له بَولًا مجهولًا فقال جبريل: ليس هذا بول إنسان؛ لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا رائحته، وكان جبريل بن بختيشوع هذا مشهورًا بالفضل، جيِّد التصرف في المداواة، علِيَّ الهمة، سعيد الجد، حظيًّا عند الخلفاء، رفيع المنزلة عندهم، تأتيه منهم الأموال العظيمة، ولما مرض جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي — أيام رضاء الرشيد عنهم — استدعى جبريل بن بختيشوع هذا فعالجه، وشاء الله أن يبرئه في مدة ثلاثة أيام، ومرةً تمطت حظية من حظايا الرشيد، ورفعت يدها فبقيت منبسطة، ولم ينفعها علاج الأطباء، ولا الأدهان … فاستدعى جبريل فاستحضرها، وأراد أن يكشف عن ساقها فانزعجت الجارية، وحركت يدها، وبرئت، وكان الرشيد ينتصح بقوله فيما يأكل، ومقدار ما يشرب، وبلغ عنده منزلةً عاليةً حتى قالوا: إنه كان كلُّ مَن تَقَلَّد عملًا من الرشيد لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يمر على جبريل، وقد ثار عليه العلوية لقربه من الرشيد حتى أرادوا أن يقتلوه، وعلى العموم كان طبيب القصر، وقد قال فيه أبو نواس:
وقال له المأمون يومًا:
الإيمان بالتنجيم
وأَمَّا التنجيم فكان الخلفاء يعتقدون أنَّ للنجوم أثرًا في أحداث الكون من موت وحياة وسعادة وشقاء وصحة ومرض وسعة وتقتير في الرزق، وغير ذلك، ونشأ في الناس الاعتقاد بهذا.
وكان مِن أكبر مَن أشاعَهُ الشيعة، فنُسب إليهم كثير من التنبؤ بالحوادث، وربما كان من أكبر الأسباب في ذلك دعايتهم لأنفسهم عن طريق التنبؤات، ونُسب لِعَلِيِّ بن أبي طالب كثير من أخبار بني أمية وسقوطهم، وظهور بني العباس، وغير ذلك من الأحداث استنادًا إلى قوله: «سلوني قبل أن تفقدوني.»
وقد نسبوا إليه تنبؤات بأحداث في الدولة الأموية والدولة العباسية، ومقتل الحسين، وخروج عائشة يوم الجمل، وخروج الأمر من العلويين إلى العباسيين، وأحداث السفاح، وبعض أحداث بني بويه، ونحو ذلك، ولكن يظهر أن أكثرها وُضع بعد ظهور الحوادث، ثم أُسندت إليه على أنها من التنبؤات.
وشاع بين الشيعة لأجل ذلك علم الجفر، وهو الذي حُرِّفَ فيما بعد إلى «الشيفرة»، وسواء صحت هذه الأخبار أو لم تصِحَّ فإن الناس والخلفاء والأمراء كانوا يعتقدون فيها، ويبنون أعمالهم عليها، وكتاب الجفر هذا كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي — وهو رأس الفرقة المعروفة بالزيدية — كان له كِتاب صغير يُعرف بالجفر، يرويه عن جعفر الصادق، وفيه أخبار عما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وكان مكتوبًا عند جعفر على جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي، وسماه الجفر، والجفر في اللغة هو الصغير، فصار هذا الاسم عَلَمًا على هذا الكتاب عندهم، وشاع في الناس وتناقلوه، وزادوا عليه، وأنشأوا في ذلك ما يسمى بالملاحم، وهي أشعار تُروى في أخبار دولة على الخصوص، أو دول على العموم، وأكثرها موضوع … تروى فيه الحوادث الماضية صحيحة، ويرجع تاريخها إلى ما قبلها للدلالة على التنبؤ، أما ما يدل على المستقبل فغير صحيح غالبًا.
•••
ويروون أنه عُثِرَ في عهْد المهدي على كتاب في الجفر يروي أن مدة حكم المهدي عشر سنوات، وشاع ذلك في الناس، فَلَمَّا عَلِم الربيع — وزير المهدي — قال: إنَّ الخليفة المهدي لو علم ذلك لَقَتَلَنَا، فاستدعى الوراقين، وأمرهم أن يكتبوا الكتاب، ويجعلوا بَدَلَ العشْر أربعين، حتى يطمئن المهدي إلى مُدَّة حُكْمه، وهكذا من باب طرق الوضع، وسبب ذلك على ما يظهر لي أن لبعض الناس قدرة على معرفة الغيب، ويُسَمَّوْن بالملهمين، إما عن طريق ما يسميه الإفرنج بالتليباثي، أو بالتنويم المغناطيسي، أو نحو ذلك مما لم يكتشفه العلم إلى اليوم … وهذا لمعرفة الماضي والحاضر أو قراءة أفكار الإنسان.
•••
أما معرفة المستقبل فلا أظن أن أحدًا يعرفه؛ إذ قد استأثر الله بعلمه، والقرآن الكريم يقول على لسان النبي ﷺ: «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» فكيف بغيره، ولكن الناس تزيدوا، وابتدعوا طرقًا كثيرة من قراءة الكف والودع، ونحو ذلك، واعتقدوا بتأثير النجوم، وكان بعض العلماء معتدلين في ذلك، فقد كان بعض الفلاسفة يعتدل في الاعتقاد بالتنجيم، ويعلل بعضه تعليلًا معقولًا، وذلك أن للشمس والقمر والنجوم أحداثًا في الدنيا لا شك فيها كأثر الشمس في الفصول الأربعة، وأثر القمر في المد والجزر، وأثرهما معا في الرياح والسحاب والرعد والبرق، ثم لا ينكر أيضًا أثر هذه البيئة الطبيعية في أبدان الناس، وأثر الأبدان في النفس …
•••
غاية الأمر أن بعض هذه الأحداث ناشئ عن حسابات بسيطة لحركات هذه الكواكب كخسوف القمر، وكسوف الشمس، وحساب المد والجزر، ونحو ذلك، وبعضها صعب الاستنتاج لصعوبة المشاهدات التي نبني عليها احتمالنا.
فإن بعض الأوضاع للنجوم لا يتكرر مرةً ثانيةً في عمر الإنسان الواحد، ومرة واحدة لا تكفي لحكم صحيح، وحساب الحادثة الواحدة تسبقها إلى البروج كلها، وتأثير كل منها حساب عسير، فقد يحدث خطأ بسيط في حساب برج من البروج فيخطئ التنبؤ.
•••
وعلى كل حال فقد شاعت بين الناس حوادث التنجيم والإيمان بها، واستغل المنجمون الناس حتى الخلفاء، وقد رووا أن المنصور تخير وقتًا مُعَيَّنًا لوضع الحجر الأساسي لبناء بغداد، وتخير الفاطميون بعد ذلك وقتًا مناسبًا لوضع الحجر الأساسي للقاهرة، وليست حادثة المعتصم بعيدة عن الأذهان؛ فقد نصح له المنجمون بالخروج إلى الحرب أيام نضج التين والعنب حتى يكون النصر، ولكن الحالة الحربية اضطرته إلى الخروج في غير هذا الوقت فانتصر، وقال أبو تمام في ذلك قصيدته البائية المشهورة:
وكان الرشيد يؤمن بهذا التنجيم أحيانًا، ويستمع إلى أخبار المنجمين، وتنبؤاتهم حتى رووا أن مُنَجِّمًا يهوديًّا قال للرشيد: «إني أرى في أحكام النجوم أنك ستموت سريعًا.»
فاغتم لذلك اغتمامًا شديدًا، وأحضر جعفرًا البرمكي ليُسَرِّي عنه، فحضر ووجده كئيبًا حزينًا، فقال جعفر للمُنَجِّم: «أترى أن الخليفة يموت سريعًا؟» قال: «نعم!» قال له: «وماذا تراه في نفسك؟» قال: «أرى عمري طويلًا» قال: «اقتله يا أمير المؤمنين حتى يتبين كذبه» فقتله، واستراح الرشيد.
•••
ولقد كان هذا التنجيم وسيلةً لعلم الفلك، كما كان تحويل المعادن إلى ذهب سببًا في تعرف قوانين الكيمياء الصحيحة، فقد رووا لنا أن محمد بن إبراهيم الفزاري صنع زيجًا، ورووا أنه قَدِمَ على الخليفة المنصور رجلٌ من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم، وأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يُؤَلَّفَ منه كتابٌ يتخذه العرب أصلًا في حركات الكواكب، وبذلك ابتدأوا العلم بكثير من التخريف، وانتهوا به إلى التصحيح والتدقيق.
وظل أمر التنجيم إلى اليوم في التنبؤ بالسعادة لمن وُلد في شهر كذا، والشقاء لمن ولد في شهر كذا، وفي اختلاف أخلاق من ولد في بعض الشهور عمن ولد في شهور أخرى، ونحو ذلك.
ولو كان هذا صحيحًا لاطَّرَدَتِ النتائج فيمن وُلِدُوا في شهر واحد من سعادة أو شقاء أو سلوك، مع أنا نجد كثيرًا من الفوارق بينهم … ولكن هي طبيعة الإنسان تريد أن تخترق حُجُبَ الغيب، ويَستغل الدجالون غريزةَ الاستطلاع عند الناس، واللهُ أعلم.
تقدم العلوم
وَلِتَسرب هذه الثقافات المختلفة والعناصر المختلفة إلى المسلمين ظهر أثر واضح هو تحول العلوم من أشكالها البسيطة الدائمة إلى قواعد علمية، وتسابق العلماء في ذلك، كلٌّ يريد أن يؤسس عِلْمًا، وتشارك في هذا العمل علماء من العرب كالخليل بن أحمد الفراهيدي، وعلماء من الفرس كسيبويه، وأبي حنيفة، ومن الهنود كابن الأعرابي، وعلماء من المسلمين، وعلماء من النصارى، فكانت حركةً غريبةً حقًّا؛ فهذا النحو يتحول من نظرات بدائية ومسائل جزئية كالتي تُروى عن أبي الأسود الدؤلي إلى علم تام وقواعد منظمة كالذي كان من الخليل وتلميذه سيبويه.
وهذا الفقه يتحول من مذهب مُكوَّنٍ من جَمعٍ للحديث، واستنتاج منه إلى مَذْهب قياسيٍّ منطقيٍّ كالذي يضعه أبو حنيفة، وصاحباه أبو يوسف، ومحمد.
وهذه اللغة التي كانت تُجمع كلمةً فكلمةً قد تَمَّ جَمْعُها، وأخذوا يضعون معاجم في موضوعات خاصة كالخيل والإبل، ثم جاء الخليل بن أحمد هذا فوضع بكتابه «العين» أساس المعاجم اللغوية، وهذا الأدب الذي كان يُروى قصيدة أو قطعة قطعة، أخذ يُجمع في الكتب المطولة كالمفضليات للضبي، والأصمعيات للأصمعي، والنقائض لأبي عبيدة.
وهذا النقد الذي كان يعتمد على الذوق الفطري، فتُنقد الكلمة إذا كانت نابيةً مثل كلمة بوزع، أو ينقد المعنى إذا كان سخيفًا، كقول القائل:
فينتقده عبد الملك بأن هذا يقال لعامل من عماله، وأن الشاعر لو قال لو شاء ساقكم … لكان أحسن، فينقلب إلى نقد بقواعد، وقوانين كالذي فعل ابن سلام في طبقاته.
وهذا التاريخ الذي يعتمد على مجرد جمع الأخبار حيثما اتفق، يؤلَّف وينظَّم فيُجعل لكل أُمَّة مَوْضعًا، ولكل أُمَّة حوادث حسب السنين، وما جرى فيها منظمةً مرتبةً.
وهذه الأنساب التي كانت في الصدور كُتِبَت في السطور، ودونت تدوينًا مُنَظَّمًا كالذي فعل الكلبي في كتابه الجمهرة في الأنساب.
وهؤلاء رجال المحدِّثين الذين كان يُكتب عنهم كلمة في تعديلهم أو تجريحهم كانت سببًا في كَتْب التراجم الواسعة، يُعتمد فيها على الأخبار، ومعرفة حياة كل مُترجَمٍ له، ونحو ذلك، حتى لو قلنا إن كل طائفة من المعلومات انقلبت عِلْمًا، ووُضعت في قواعد، لم نكُنْ بَعِيدِين عن الصواب، فربما كانت مَعيشتُنا في القرون التي أتت بعد، ليس إلا تردادًا لما ذكروا، أو تعبيرًا عنه بلغة العصور المختلفة، أو تفريقًا لمجتمع، أو تجميعًا لمفترق من غيْر كثيرِ ابتكار.
يضاف إلى ذلك اختلاف المذاهب والنِّحَل، وأخْذُها أيضًا شكلًا عِلْميًّا؛ حتى إنَّ المذاهب التي كانت سياسية: كالمرجئة، والخوارج، وأهل السنة، والشيعة، انقلبت إلى مذاهب دينية عِلمية تُعلَّلُ تعليلًا علميًّا، وتُحلَّلُ تحليلًا فلسفيًّا … وتعددت المذاهب حسب العقليات، ومقدار الثقافة، والميول السياسية والدينية.
فهذا حُرُّ العقل واسع التفكير يذهب مَذهب الاعتزال، وهذا يتقيد بالنص وينهج منهج الرواية والجمع فيكون محدِّثًا، وهذا يحب عليًّا ويترحم على ابنه الحسين ويعطف بقلبه على من اضطُهد من العلَوِيِّين فيكون شيعيًّا، وهذا يحب أبا بكر وعُمَر ويمجِّد أعمالهما ويُفَضِّلُهما على عَلِيٍّ فيكون سُنِّيًّا، وهذا يَميل إلى منصبٍ وجاه، وتقرب إلى الخلفاء بالمذهب فيكون عباسيًّا، وهذا بَدَوِيٌّ لا يحب الرياسة ولا يَميل إلى التأقلم ومتابعة الظروف فيكون خارجيًّا، وهذا يعتنق الإسلام ظاهريًّا والوثنية باطنيًّا ويكره العرب من صميم قلبه ويود رجوع دولة الفُرْس إلى حالتها الأولى، قبل أن يهزمهم العرب ويأخذوا بلادهم فيكون وثنيًّا، وهكذا، وهكذا … مِنْ تَعَدُّد المذاهب، وتَنَوُّعها مما ليس له نظير في مجتمَع آخر.