عندما تحرَّك الجدار!
مرَّت دقائق. كان الشياطين يلتقطون فيها أنفاسَهم، فلا أحدَ يعرف بالضبط ماذا يمكن أن يحدث بعد لحظة؛ فقد يحدث هجومٌ مفاجئ عليهم، وقد يتصرَّف «بيتر» تصرُّفًا لم يفكروا فيه. لكن فجأة، قطع تفكيرَهم صوتُ أقدام تقترب. تسمَّع «أحمد» في تركيز شديد إلى صوت الخطوات حتى يحدِّد عددَ القادمين، واستطاع فعلًا تحديدَه. فلم تكن الأصواتُ إلَّا صوتَ قدمَين فقط، هما قدمَا «بيتر».
فجأةً ظهر «بيتر». كان في حدود الأربعين من عمره، قوي البنيان، مفتول العضلات، يلبس ملابس هادئة الألوان، شعره كثيف، يُعطيه قدرًا من ملامح الشراسة. كان يضرب الأرض بقدمه في قوة. عندما اقترب صاح في حدَّة: أين «كوبر»؟
ابتسم «أحمد» ابتسامة هادئة، وهو يقول: استدعَته قوات الحرس في مهمة عاجلة، ويبدو أن هناك أحداثًا غير طيبة.
ظهرَت الدهشة على ملامح «بيتر»، وقال في حدَّة: مَن أنت؟
ردَّ «أحمد» مبتسمًا: أنا الذي جئت من أجله.
فجأة، كان «خالد» و«رشيد» قد قفزَا من مكانهما في سرعة البرق، وبحركات خفيفة مدروسة، كانَا قد أمسكَا بذراعَي «بيتر»، فنظر إليهما في دهشة. ثم نظر إلى «أحمد»: ماذا يعني هذا؟!
أجاب «أحمد» في هدوء، وبابتسامة صغيرة: يعني أن تُعلن موافقتك على التفاهم معنا.
ارتسمَت علاماتُ الدهشة على وجه «بيتر»، وقال متسائلًا: ماذا تقصد؟
ردَّ «أحمد»: ما أقصده هو ما جئنا من أجله.
كان يبدو أن «بيتر» يفكِّر في شيء ما؛ فقد استعرضهم بنظرةٍ طويلة ثم قال: أنا لا أفهم شيئًا، وما تفعلونه الآن خطير … أنتم لا تعرفونني!
ابتسم «أحمد»، وقال في هدوء متعمَّد: يا عزيزي «بيتر»، نحن نعرف عنك كلَّ شيء؛ فأنت السكرتير الخاص للسيد «فورميو»، وأنت كاتم أسراره، وأنت الذي تعرف كلَّ شيء عنه حتى أدق أفكاره. كان وجه «بيتر» يبدو جامدًا؛ فما قاله «أحمد» لا يعني شيئًا هامًّا، وهذا نفسه ما قصده «أحمد»؛ ولذلك أضاف دون أن يكونَ كلُّ ما يقوله صحيحًا: نحن نعرف عنك كلَّ شيء، ولدينا دراسة كاملة عن تاريخ حياتك، بما فيها معرفتك بمكان مذكرات السيد «فورميو».
كانت هذه الكلمات كافية لأن تجعل «بيتر» يستغرق في التفكير. لكن «أحمد» أسرع يقول: إن خلفنا مجموعةً كبيرة من الرجال في انتظار إشارة واحدة. ونحن لا نريد أن نلجأ إلى العنف خصوصًا وأن القصر يمكن أن ينفجر في أية لحظة، بمجرد إشارة منَّا، ثم دق على المكتب مرتين، فظهر «عثمان» من مكانه، فنظر له «بيتر» مندهشًا، بينما كان «أحمد» يبتسم، وبنظراتٍ فَهِمها أسرع إلى «بيتر»، وأخرج من حقيبته السرية حبلًا رفيعًا، ثم أخذ يوثق يدَي «بيتر» ولم يُبدِ «بيتر» أيَّ حركة مقاومة، لكنه نظر إلى «أحمد» وقال متسائلًا: لماذا تفعلون كلَّ ذلك؟
ردَّ «أحمد»: نوع من الأمان لك، ولنا. فأية حركة تبدو منك، قد تكون فيها نهايتك.
لم ينطق «بيتر»، بل نكَّس وجهه في الأرض، في حين أضاف «أحمد»: يمكن أن تستريح هنا.
ثم قدَّم له كرسيًّا. نظر له «بيتر» لحظة، ثم تقدَّم وجلس. مرَّت لحظات تبادل خلالها الشياطين نظراتٍ سريعة. وأخيرًا قال «بيتر»: ما الذي تريدونه مني؟
لم يردَّ «أحمد» مباشرة؛ فقد ترك برهة من الوقت تمرُّ، حتى يُثيرَ في «بيتر» كلَّ اهتمامه ثم قال: نعرف أن السيد «فورميو» في خطر.
ظهر الاهتمامُ على وجه «بيتر»، وسأل بلهفة: كيف؟
قال «أحمد»: أنت تعرف بالتأكيد أن السيد «فورميو» قد كتب مذكراته.
ازداد اهتمام «بيتر»، وسأل: كيف عرفتم؟
قال «أحمد»: لسنا وحدنا. هناك آخرون يعرفون. ومن المؤكد أنهم منتشرون حول القصر إن لم يكن داخله.
قال «بيتر» بسرعة: كيف؟
ابتسم «أحمد» وهو يقول: يا سيد «بيتر» أنتم تعيشون في عالم خاص. عالمكم الذي تصنعون من خلاله ما تريدون. وأنت أكثر مَن يعرف أن هناك رءوسًا كبيرةً مثل السيد «فورميو»، وأنهم يعرفون حكاية المذكرات، ويريدون الحصول عليها.
كان «بيتر» يُتابع «أحمد» وهو لا يصدِّق أنه يعرف كلَّ ذلك، لكنه لم ينطق بكلمة. أكمل «أحمد» كلامه: لا أريد أن أدخل في تفاصيل أخرى، وهي كثيرة. ما نريده هو أن نَصِل إلى السيد «فورميو» … إننا نعرف أنه ليس في القصر.
ثم سكت، حتى يعطيَ ﻟ «بيتر» فرصة؛ فقد ظهر الانزعاج على وجهه. مرَّت لحظة قبل أن يقول «بيتر» هامسًا: لا أستطيع.
فجأة، رن جرس التليفون. نظر «أحمد» إلى «بيتر»، ثم رفع السماعة، واقترب بها من فم «بيتر» الذي قال بسرعة: أمرك يا سيدي، ثم أخذ يستمع، بينما «أحمد» يتابعه هو والشياطين، ثم تردَّد صوتُه لحظة، قال: متعبًا قليلًا يا سيدي، غير أن الأوراق موجودة. نعم في مكتب «كوبر» يا سيدي. هل تُرسل مَن يأخذها؟
كان «أحمد» يفكر بسرعة، وهو يسمع كلماتِ «بيتر»، ويحاول أن يحلِّلَ هذه الكلمات؛ فربما كانت تنطوي على خدعة، لكنه مع ذلك، لم يُبعد السماعة عن «بيتر» الذي ظهرَت على وجهه ابتسامةٌ خفيفة وهو يقول: في الانتظار يا سيدي.
أعاد «أحمد» السماعة إلى التليفون، ثم ابتسم قائلًا: أظن أنك لن تحقق ما تفكر فيه.
فجأة، انسحب جزءٌ من أرضية الغرفة حيث يجلس «بيتر»، فاختفى بكرسيِّه لكن قبل أن تعود الأرضية كما كانت، كان «أحمد» قد قفز خلفه، ثم انغلقَت الأرضية. نظر الشياطين إلى بعضهم، وقال «عثمان»: لا بد أن أحدًا في الطريق إلينا!
قال «خالد»: ومن المؤكد أن «أحمد» سوف يدلُّنا على مكانه.
لم يكن سقوط «أحمد» في بئر … لقد كان في غرفة أنيقة بيضاء اللون … والطريف أنه وجد نفسه جالسًا على مقعد أمام «بيتر» الذي كان يضحك، بينما كانت يداه لا تزالان مربوطتَين.
قال «بيتر»: ما رأيك؟ أظن أن العصابة التي تنتمي إليها لن تستطيعَ إنقاذَك.
ثم صمت لحظة وأضاف: ومع ذلك فسوف لا تُصاب بأذًى، إذا كنت ستتفاهم معنا. لم يردَّ «أحمد»، كان لا يزال يفكر في الشياطين ماذا يفعلون. وهل تم القبض عليهم أم أنهم بدءوا معاركَ لا داعيَ لها الآن. نظر إلى «بيتر» قليلًا، فابتسم، وقال: أظن أنك ما زلت لا تصدِّق ما حدث.
ثم أضاف: أنت الآن في عالم مختلف، عالم لا يعرفه أحد، ولم يدخله أحدٌ قبلك. إنني أملك أن أضغط زرًّا صغيرًا، فتكون في أعماق البحر. ثم ضحك ضحكة عالية، وقال: إنني أنصحك أن تتفاهم معي؛ لأنك سوف تجد عندي كلَّ ما تفكر فيه.
لكن «أحمد» لم يردَّ. كان فقط يُتابع كلماتِ «بيتر»؛ فهو لم يكن يملك ما يقوله الآن، وكان صمتُه يُعطيه فرصةً ليكشفَ «بيتر» أوراقه، فقال «بيتر»: لقد أدهشني أنك تعرف حكاية مذكرات السيد «فورميو»، وأيضًا أدهشني أن تعرف أنه ليس موجودًا في القصر. إن ذلك يعني أنك على اتصال بواحدة من المنظمات الكبرى في عالم المافيا.
صمت قليلًا، وقد حرَّر يدَيه من الحبل بطريقةٍ أدهشَت «أحمد»، كان يفكُّ الحبل بسهولة غريبة، فيبدو وكأنه ساحر يقدِّم استعراضًا وهو يقدِّم الحبل إلى «أحمد» قائلًا: ما رأيك؟ أليست هذه مقدرة غريبة؟
هزَّ «أحمد» رأسه، ثم قال: إنها بلا شك طريقة مدهشة.
اتسعَت عينَا «بيتر» وهو يدَّعي الدهشة، وقال: رائع، لقد نطقتَ أخيرًا. كنت أظن أنك لا تعرف الكلام. صمت لحظة، ثم أضاف: والآن ما دمت قد تحدثت، لماذا لا نتفق؟
ابتسم «أحمد» وقد فَهِم أن «بيتر» سوف يكشف أوراقَه. قال «أحمد»: أريد لقاء السيد «فورميو».
ظهرَت العصبية مرة أخرى على وجه «بيتر»، فوقف في حدَّة وهو يصرخ: قلت لك إن ذلك مستحيل، وإنك لن تستطيع رؤية السيد «فورميو»، لأنه شيء مستحيل.
ابتسم «أحمد» وهو يقول لنفسه: ما دام «بيتر» قد فقد أعصابه، فسوف أَصِل إلى نتيجة معه، ثم قال ﻟ «بيتر» في هدوء: يا سيد «بيتر»، كل ما أطلبه منك هو لقاء السيد «فورميو»؛ لأن هذه مسألة تهمُّه هو شخصيًّا.
مرة أخرى صرخ «بيتر»: لا يمكن!
ثم أضاف بعد لحظة: إنني أستطيع أن أنزع اعترافاتِك بطرقنا الخاصة، لكني لن أفعل ذلك؛ فأنا معجب بك كشابٍّ صغيرٍ، مع ذلك فسوف أُريكَ ما تدهش له.
ضغط زرًّا في المكتب الذي أمامه. فجأة تحرَّك جزءٌ من حائط الغرفة وظهرَت شاشةٌ كبيرة ووقعَت عينَا «أحمد» على منظر مثير.