الفصل العاشر

بولتون في حيرة شديدة

كانت مدة يومَين كافيةً لإثبات أن الحادث الذي وقع لثورندايك لن يتسبَّب في أي عواقب مَرَضِيَّة دائمة؛ إذ أخذت جروحه تلتئم واستطاع استئناف أعمالِه وهواياته المعتادة.

كانت زيارة الآنسة جيبسون — ولكن لماذا أُشير إليها بهذه الطريقة الرسمية؟ فيما يخصُّني، حين أفكِّر فيها، وهذا يحدث كثيرًا، أرى أنها جولييت، ربما مع إضافة صفةٍ ما؛ سأشير إليها من الآن وصاعدًا بجولييت (لكن من دون الصفة)؛ حيث لا أريد أن أخفي شيئًا عليك يا عزيزي القارئ — أقول كانت زيارة جولييت تُمثِّل نجاحًا كبيرًا؛ لأن زميلي كان مسرورًا بما حظِي به من اهتمام، وتصرَّف بودٍّ وهدوء ملأ زائرتنا بإحساسٍ بالابتهاج والسرور.

تحدَّث كثيرًا عن روبين، واستطعت أن أرى أنه كان يُحاول أن يبتَّ في المسألة العويصة والمُحيرة المُتمثلة في علاقتها بموكلنا التعيس الحظ ومشاعرها تجاهه؛ لكنني لم أستطع أن أكتشف ما توصَّل إليه من استنتاجات؛ لأنه كان مُتحفِّظًا في الكلام بعد أن غادرت جولييت. ولم يحدث كذلك أن كرَّرت جولييت الزيارة، الأمر الذي أصابني بحسرةٍ كبيرة، فكما قلت، كان زميلي قادرًا في غضون يومَين على استئناف حياته بصورة طبيعية.

كان أول الأدلة التي رأيتها على تجدُّد نشاطه وعافيته حين عدتُ إلى مقرِّه في حوالي الحادية عشرة صباحًا، ووجدت بولتون يحوم حزينًا في أرجاء غرفة الجلوس؛ إذ كان على ما يبدو يحاول «التنظيف» قدْر ما يسمح به سكن شخصٍ أعزب.

قلت: «مرحبًا بولتون! هل خطَّطتَ للانفصال عن المُختبر لساعة أو نحو ذلك؟»

فأجابني متجهمًا: «كلَّا يا سيدي. المُختبر هو الذي انفصل عني.»

سألته: «ماذا تقصد؟»

«لقد أغلق الطبيب الباب على نفسه وأخبرني ألَّا أُزعجه. سيكون غداؤنا اليوم من بقايا طعام أمس.»

فسألته: «ماذا يفعل في المختبر؟»

فقال بولتون: «آه! هذا بالضبط ما أريد معرفته! لقد أعياني الفضول. إنه يُجري بعض التجارب ذات الصِّلة ببعض قضاياه، وحين يُغلق الطبيب على نفسه ليُجري التجارب، عادةً ما يتبع ذلك شيءٌ مُثير. أود أن أعرف ما سيحدث هذه المرة.»

اقترحت مبتسمًا: «أليس هناك ثقب للمفتاح في باب المختبر؟»

صاح بسخط: «سيدي! لقد خاب ظنِّي فيك أيها الدكتور جيرفيس.» ثم حين لاحظ أنني كنتُ أسخر، ابتسم وأضاف: «لكن ثمة ثقب للمفتاح إن كنت ترغب في تجربته، وإن كنتُ على استعدادٍ لأن أراهن أن الطبيب سيراك أكثر مما ستراه أنت.»

فقلت: «أنتما كتومان للغاية بشأن ما تفعلان، أنت والطبيب.»

فأجاب: «أجل. مهنة الطبيب هذه مهنة غير مألوفة، وتنطوي على أسرارٍ عجيبة. على سبيل المثال، ما رأيك في هذا؟»

أخرج من جيبه محفظةً جلدية، واستخرج منها قطعةً من الورق وأعطانيها. على الورقة كان يوجَد رسم دقيق ومُفصَّل لما بدا أنه بيدق من بيادق الشطرنج، وعلى حواف الورقة كُتبت أبعاد القطعة.

فقلت: «تبدو كبيدق — على نمط ستونتون.»

«هذا ما ظننتُه بالضبط؛ لكنه ليس كذلك. لقد تعين عليَّ أن أصنع منه أربعًا وعشرين قطعة، ولا أعرف على الإطلاق ماذا سيصنع الطبيب بها.»

فقلت ساخرًا: «لعله ابتكر لعبةً جديدة.»

«دائمًا ما يبتكِر ألعابًا جديدة ويلعبها في ساحات المحاكم، وحينها غالبًا ما يخسر اللاعبون الآخرون. لكن الأمر هذه المرة مُحيِّر تمامًا ولا شك. سأُسلِّم أربعةً وعشرين قطعةً من هذه بعد صناعتها من أفضل أخشاب البقس المُجفَّفة! ما الغرض منها؟ شيء له علاقة بالتجارب التي يُجريها في هذه اللحظة في الطابق العلوي، حسبما أتوقع.» ثم هزَّ رأسه، وبعد أن أعاد الرسم بحِرص إلى دفتره، قال بنبرة جادة: «سيدي، ثمة أوقات يكاد فيها الفضول يقتلني لمعرفة ما يفعله الطبيب. وهذا هو أحد هذه الأوقات.»

رغم أنني لم أكن أعاني من فضولٍ حاد كمثل الذي كان يعاني منه بولتون، وجدت نفسي أتكهَّن بين الحين والحين بشأن طبيعة التجارب التي يُجريها زميلي وبشأن الغاية المرجوة من تلك الأشياء الصغيرة المُميزة التي كان قد طلب أن تُصنع لأجله؛ لكنني لم أكن على عِلم بأي قضيةٍ من القضايا الأخرى التي كان ضالعًا فيها، عدا قضية روبين هورنبي، ولم أستطع أن أجد رابطًا بينها وبين مجموعةٍ مكوَّنة من أربعة وعشرين بيدقًا مصنوعِين من خشب البقس. علاوةً على ذلك، في هذا اليوم، كان من المُفترَض أن أرافق جولييت في زيارتها الثانية إلى سجن هولواي، وقد انشغل ذهني بهذا الأمر انشغالًا من نوعٍ آخر.

وعلى الغداء، كان ثورندايك نشيطًا وكثير الكلام لكنه لم يكن غير مُتحفظ. قال إنه كان لدَيه «بعض الأعمال التي يجب أن يُنجزها بنفسه في المختبر»، لكنه لم يُشِر ولو من بعيدٍ إلى طبيعتها؛ وبمجرد أن انتهَينا من غدائنا، عاد إلى أعماله، تاركًا إياي أذرَع الممر جيئةً وذهابًا، أتسمع بشغفٍ شديد منتظرًا صوت العربة التي ستنقلني إلى النعيم، وبالتبعية إلى سجن هولواي.

حين عدت إلى منطقة تيمبل، كانت غرفة الجلوس فارغةً ومُرتبة ترتيبًا مُفرطًا، نتيجة جهود بولتون في تنظيفها تنظيفًا شاملًا. كان من الواضح أن زميلي كان لا يزال يعمل في المختبر، ولمَّا رأيتُ أن عُدة الشاي كانت موضوعةً على الطاولة وأن هناك غلايةً بها ماء وجاهزة للاستعمال موضوعة على شعلة الغاز بالقُرب من المدفأة، عرفت أن بولتون مُنشغل هو الآخر ولا يرغب في أن يُزعجه أحد.

ثمَّ أشعلتُ الشعلة وأعددتُ الشاي لنفسي، مؤنسًا وحدتي بأن أخذت أقلِّب في ذهني أحداث عصر اليوم.

كانت جولييت فاتنة — كعادتها — ومنفتحةً وودودة ومسرورة من دون تكلُّف برفقتي لها. بدا جليًّا أنني أروق لها ولم تكن تُخفي هذا — ولماذا يتعيَّن عليها أن تفعل ذلك؟ — لكنها كانت تُعاملني بحريَّة وبما يكاد أن يكون حنوًّا، وكأنني أخٌ مفضَّل لديها، الأمر الذي كان يبعث على البهجة والسرور، وكانت العلاقة ستُصبح مبهجةً أكثر لو استطعتُ أن أتقبَّلها على هذا النحو. أما بشأن مشاعرها تجاهي، فلم يكن لديَّ أدنى شك، ومن ثمَّ كان ضميري صافيًا ومرتاحًا؛ فجولييت بريئة كالأطفال، وبراءتها تعود لطبيعتها البسيطة والمباشرة التي لا تأتي على فعل سوءٍ ولا تبحث عن الدوافع الشريرة عند الآخرين. أما أنا، فكنت قد وصلت إلى مرحلة ميئوسٍ منها. كنت قد وقعت في حبها ولا بد أن أدفع الثمن فيما بعد، قانعًا بأنني لم أكن قد أخطأتُ بحقِّ أحدٍ سوى نفسي. كانت علاقةً تعيسة، وكانت تُبشِّر بأنني سأكابد آلامًا جمَّة في الأيام الموحشة المقبلة، حين أكون قد ودَّعت منطقة تيمبل وعدتُ إلى حياة عدم الاستقرار القديمة؛ ومع ذلك، ما كنت لأُغيِّر من الأمر شيئًا لو كان ذلك بيدي؛ ما كنت لأستبدل بذكرياتي الحلوة المُرَّة معها سلوانًا كليلًا.

لكن حدثت أمور أخرى أثناء رحلتنا غير تلك التي بدت لي كبيرةً بفعل أنانية حُبي. كنا قد تحدثنا عن السيد هورنبي وعن أموره، ومن حديثنا برزت معلومات مُعينة كانت ذات أهمية كبيرة للتحقيق الذي كنتُ ضالعًا فيه.

كانت جوليت قد علَّقت بقولها: «المصائب لا تأتي فُرادى»، في إشارة إلى عمِّها الذي تبنَّاها. وأردفت: «ثمة مشاكل تواجهها العائلة في المدينة، وكأن مأساة روبين لم تكن كافية. ربما تكون قد سمعتَ بما حدث.»

فأجبتُها بأن والتر كان قد أتى على ذكر الأمر لي.

فردَّت بضراوة: «أجل؛ لست واثقةً بشأن الدور الذي لعبه ذلك السيد المحترم في هذه المسألة. فقد اتَّضح، عرَضًا، أنه هو نفسه كان يملك حصةً كبيرة في المناجم، لكن يبدو أنه «أوقف نزيف خسائره» على حدِّ تعبيره، ونجا بنفسه؛ رغم أننا لا نستطيع أن نفهم كيف تمكَّن من دفع تلك الفروق المالية الكبيرة. نظنُّ أنه لا بد أن يكون قد جمع المال بطريقةٍ ما من أجل أن يفعل ذلك.»

فسألتها: «هل تعرفين متى بدأت المناجم تفقد قيمتها؟»

«أجل، كان الأمر مفاجئًا إلى حدٍّ كبير — ما يطلِق عليه والتر «انهيارًا» — وحدث قبل بضعة أيام فقط من وقوع السرقة. وقد أخبرني السيد هورنبي عن الأمر يوم أمس فقط، وقد ذكره لي في سياق حديثه عن حادثةٍ غريبة وقعت في ذلك اليوم.»

فسألتها: «ماذا كانت تلك الحادثة؟»

فأجابت بضحكة خفيفة غلب عليها الخجل: «جُرِحت إصبعي وكدت أفقد الوعي. وكان الجرح سيئًا إلى حدٍّ ما، لكنني لم ألاحظه إلا حين أصبحت يدي كلها مضرَّجةً بالدم. حينها خارت قوتي فجأة وتعيَّن عليَّ أن أرقد على الأرض على بساط الموقد؛ حدث ذلك في مكتب السيد هورنبي، الذي كنت أُنظِّفه وأُرتِّبه في ذلك الوقت. وجدني روبين حينها، وللوهلة الأولى ارتاع لمَّا رآني؛ ثم مزَّق منديله لكي يربط على جرح إصبعي، ولا يمكن أن تُصدِّق كيف تلطَّخت يداه بالدماء. كان يمكن أن يُلقى القبض على ذلك المسكين بتُهمة القتل بسبب الحالة التي كان فيها. وربما يُثير استياءك باعتبارك مهنيًّا لو أخبرتُك أنه ربط على الضمَّادة المرتجلة التي ضمَّد بها إصبعي بشريطٍ أحمر حصل عليه من على طاولة الكتابة، بعد أن أخذ يعبث بلا هوادة بالأوراق الخاصة بالسيد هورنبي وبأشيائه.

وحين غادر حاولت أن أعيد ترتيب الأشياء على الطاولة، ولو رأيت الوضع حينها لظننتَ أن جريمةً شنيعة قد وقعت بالمكان؛ فقد كانت كل المظاريف والأوراق ملطخةً بالدم وتحمل علامات أصابع دامية. تذكَّرت هذه الحادثة بعد ذلك حين تعرَّفت الشرطة على بصمة إبهام روبين، وظننتُ أن أحد الأوراق ربما وقع في الخزينة بطريق المصادفة؛ لكن السيد هورنبي أخبرني أن هذا مُستحيل؛ فقد مزَّق الورقة من دفتره الخاص في الوقت الذي وضع فيه الألماس في الخزينة.»

كانت تلك هي خلاصة المحادثة التي جرت بيننا، فيما كانت العربة تخترق الشوارع في طريقنا إلى السجن؛ وكانت بلا شك تنطوي على أمور مُهمة بحيث تستقطب أفكاري بعيدًا عن أي مواضيع أخرى سائغة أكثر، لكنها أقلُّ صلةً بالقضية. ولما تذكَّرت فجأةً مهام عملي، أخرجت مفكرتي وكنت أُدوِّن ما جرى بيننا من حديث، حين دخل ثورندايك الغرفة.

وقال: «لا أريد أن أقاطعك يا جيرفيس. سأصنع لنفسي كوبًا من الشاي بينما تنتهي من الكتابة، وحينها يمكنك أن تعرض عليَّ صيدك اليوم وتفرد شباكك لتجف.»

لم أستغرق وقتًا للانتهاء من تدوين ملحوظاتي؛ لأنني كنتُ متلهفًا لأن أسمع تعليقات ثورندايك على آخر إضافاتي لمخزون معلوماتنا. فبحلول الوقت الذي وصلت فيه غلاية الماء إلى مرحلة الغليان، شرعتُ على الفور أسرد على زميلي مقتطفاتٍ من محادثتي مع جولييت والتي كنتُ قد دوَّنتها الآن.

استمع ثورندايك كعادته باهتمامٍ وانتباهٍ عميقَين.

وقال حين انتهيت: «ما تقوله مُثيرٌ للاهتمام ومهم جدًّا؛ حقًّا يا جيرفيس، أنت معاون بالِغ القيمة والأهمية. يبدو أن المعلومات التي كانت ستُحجب بصرامةٍ عن جوركينز المُتجهم تتسرَّب بحرية ودون إكراه إلى أذن سبينلو اللطيف (جوركينز وسبينلو شخصيتان في رواية تشارلز ديكنز الشهيرة، «ديفيد كوبرفيلد»). والآن أظن أنك تعتبر أن فرضيتك وَجَدَتْ تأكيدًا حقيقيًّا ومُهمًّا، صحيح؟»

«بالتأكيد، هذا ما أراه.»

«وهذا مُبرَّر جدًّا. أنت ترى الآن كم كنتَ مُحقًّا حين سمحت لنفسك أن تُفكر في هذه النظرية عن الجريمة رغم كونها مستبعدةً ظاهريًّا. لقد أصبحت نظريتك، في ظلِّ هذه المعلومات الجديدة، تفسيرًا مُمكنًا ومُحتملًا للمسألة برمَّتها، ولو أمكن إثبات أن مُفكِّرة السيد هورنبي كانت بين الأوراق على الطاولة، فإن هذا التفسير سيرقى إلى درجة عالية من الاحتمال. والدرس المُستفاد والواضح الذي نتعلَّمه هنا هو ألَّا نغضَّ الطرف أبدًا عما هو بعيد الاحتمال. بالمناسبة، من الغريب ألَّا يتذكَّر روبين هذه الحادثة حين استجوبتُه. بالطبع، لم تُكتَشَف البصمات الدامية إلا بعد أن انصرف، لكن المرء كان سيتوقَّع منه أن يتذكَّر هذا الحادث حين سألتُه، وبالأخص، سؤالي عما إن كان قد خلَّف من قبلُ أي بصماتٍ دامية على أي أوراق.»

قلت له: «يتعيَّن عليَّ أن أحاول اكتشاف إن كانت مفكِّرة السيد هورنبي على الطاولة وبين الأوراق التي طالتها البصمات الدامية.»

فأجابني: «أجل، سيكون من الحكمة فعل هذا، وإن كنتُ أظن أن المعلومات لن تكون متيسِّرة.»

أصابني أسلوب زميلي بالإحباط إلى حدٍّ كبير. كان قد استمع إلى إفادتي باهتمام بالغ، وناقشني فيها مناقشةً متحمسة، لكن بدا أنه كان يولِي اهتمامًا أكاديميًّا وليس عمليًّا بالمعلومات الجديدة البالِغة الأهمية، كما بدت لي. بالطبع، يمكن أن يكون هدوءُه مصطنعًا؛ لكن هذا بدا مُستبعدًا؛ لأن جون ثورندايك كان أكثر صدقًا ووقارًا من أن يلجأ في حياته الخاصة إلى حِيَل المُمثلين. كان عادةً ما يظهر للغرباء بمظهرٍ هادئ وجامد بالفعل؛ لكن هذا كان من طبيعته، ولم يكن سوى دليل ظاهر على حالته الذهنية التي تتميَّز بالتحفُّظ والحصافة.

كلَّا؛ لم يكن هناك شكٌّ في أن الأخبار المُذهلة التي أتيتُ بها لم تؤثر فيه، ولا بد أن هذا يرجع لأحدِ سببَين: إما أنه كان يعرف بالفعل كل ما أخبرتُه به (وهذا جائز تمامًا)، أو أنه كان يملك وسيلةً أخرى أفضل لتفسير الجريمة. كنتُ أُفكِّر في هذين البديلَين وزميلي اليقِظ يُراقبني حين دلف بولتون إلى الحجرة؛ وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وعلى يدِه كان يحمل لوحة رسمٍ وكأنها صينية، عليها أربعة وعشرون قطعةً خشبية مصنوعة بمهارة شديدة من خشب البقس.

على الفور فهم ثورندايك دعابة مرءوسه التي بدت على مُحيَّاه وانخرط فيها.

فقال: «ها قد أتى بولتون ومعه لك مسألة يا جيرفيس. إنه يفترض أنني ابتكرتُ لعبة صالونات جديدة، وكان يحاول أن يعرف الحركات التي تنطوي عليها اللعبة. هل أفلحتَ في شيءٍ يا بولتون؟»

«كلَّا يا سيدي، لم أُفلح؛ لكنني أظنُّ أن أحد اللاعبين سيكون رجلًا يضع شعرًا مُستعارًا ويرتدي عباءة.»

فقال ثورندايك: «ربما تكون مُحقًّا؛ لكن هذا لا يكشف اللغز. دعنا نسمع ما لدى الدكتور جيرفيس.»

فأجبتُه: «لا أستطيع أن أُخمِّن شيئًا منها. لقد أراني بولتون الرسم هذا الصباح، ثم أُصيب بالذعر مخافة أن يكون قد انتهك سرًّا من أسرارك، ومنذ ذلك الحين وأنا أُحاول، دون جدوى، أن أُخمِّن ما يمكن أن تُستخدَم فيه هذه المشغولات الخشبية.»

غمغم ثورندايك وهو يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا وكوب الشاي في يده، ثم قال: «تُخَمِّن؟ لا يروق لي أن تخرج هذه الكلمة من فمِ رجلِ علم. ماذا تقصد بقولك «أُخمِّن»؟»

كان أسلوبه في الحديث ساخرًا، لكنني أبديتُ أنني آخُذ سؤاله على مَحمل الجد، فأجبته:

«هذه الكلمة تعني الوصول إلى استنتاجٍ ما من دون معلومات.»

فهتف بنبرة صارمة وساخرة: «مُستحيل! لا يمكن لأحد أن يصِل إلى استنتاجٍ من دون معلومات إلا إن كان أحمق.»

أجبت: «إذن سأُراجع تعريفي على الفور. لنقل إن التخمين هو استنتاج تصِل إليه من دون معلومات كافية.»

فقال: «هذا أفضل؛ لكن ربما لا يزال من الأفضل أن نقول إن التخمين هو استنتاج مُحدَّد ومعيَّن نستخلِصه من حقائق لا تُنتِج إلا استنتاجًا عامًّا وغير مُحدد.» وأردف يقول: «لنضرب مثالًا على هذا. بالنظر من النافذة، أرى رجلًا يسير حول بيبر بيلدنجز. لنفترِض الآن أنني قلت، على غرار ما قد يقول المحقق الملهَم في الروايات: «هذا الرجل يعمل ناظر محطة، أو مفتشًا»، سيكون هذا تخمينًا. الحقائق المرصودة لا تؤدي إلى هذا الاستنتاج، وإن كانت تُشير إلى استنتاج أقلَّ تحديدًا وأكثر عمومية.»

صاح بولتون، الذي كان قد تقدَّم معي لنتفحص الرجل الغافل عنا موضوع التجربة: «ستكون مُحقًّا يا سيدي! هذا الرجل كان ناظر محطة كامبرويل. أنا أتذكَّره جيدًا.»

كان الرجل الضئيل الحجم مذهولًا بشكلٍ واضح.

فقال ثورندايك: «يتصادف أنني مُحق؛ لكنني بالسهولة نفسها كان يمكن أن أكون مخطئًا.»

قال بولتون: «لكنك لم تكن مخطئًا يا سيدي. لقد ميَّزته من نظرة واحدة.»

وفي خضمِّ إعجاب بولتون بالنتيجة، لم يهتم مطلقًا بصحة الوسائل التي توصَّل بها ثورندايك إليها.

تابع ثورندايك، متجاهلًا تعليق مساعده: «والآن لماذا أقترح أنه ناظر محطة؟»

أجبته: «أظن أنك كنت تنظر إلى قدمَيه. يبدو أنني قد لاحظت أن نُظَّار المحطات لهم تلك المشية الغريبة التي تكون فيها أقدامهم مسطحة، على ذكر ما قلت.»

«الأمر كذلك إلى حدٍّ بعيد. لقد وشى به أخمص قدمه؛ أصبحت الأربطة الأخمصية مُمتدة، كما أن عضلات باطن الساق العميقة ضَعُفَت. لذا، حيث إن انثناء القوس الضعيف يُسبِّب عدم الراحة، اتجهت القدمان إلى جهة الخارج، وبذا يقل انثناء القدم إلى الحد الأدنى؛ وحيث إن القدم اليُسرى هي الأكثر تسطُّحًا، فإنها متجهة جهة الخارج أكثر من القدم اليُمنى. إذن توجُّه أصابع القدم نحو الخارج يجعل الساقين تتفلطحان نحو الخارج من عند الركبة ونزولًا — وهي حالة واضحة جدًّا في رجل طويل القامة كهذا الرجل — كما تلاحظ أن الساق اليُسرى مفلطحة جهة الخارج أكثر من اليُمنى.

لكننا نعلم أن انخفاض أخمص القدم سببه الوقوف لفتراتٍ طويلة. فالضغط المُستمر على هيكل حي يُضعفه، في حين أن الضغط المتقطِّع يُقوِّيه؛ لذا تجد الرجل الذي يقِف على قدمَيه باستمرار يُصاب بتفلطح في مشط القدم وضعف في باطن الساق، في حين يتمتَّع الراقصون والعدَّاءون بمشط قدم مُرتفع وباطن قدم قوي. والآن ثمة مِهن كثيرة تتضمَّن الوقوف لفتراتٍ طويلة بما يسمح بحدوث حالات تفلطح القدم؛ ومن هذه المِهن: النُّدُل والحمَّالون والباعة الجائلون، ورجال الشرطة ومشرفو المتاجر ومسئولو المبيعات ومسئولو المحطات. لكن مشية النادل مميزة — فهي مشية سريعة ويُجرجر فيها قدمَيه ممَّا يُمكِّنه من حمل السوائل من دون إهراقها. أما هذا الرجل فيسير بخطواتٍ طويلة ومتأرجحة؛ من الواضح أنه ليس بنادل. ومن ملبسه ومظهره العام يُستبعَد أن يكون بائعًا جائلًا أو حتى حمَّالًا؛ كما أنه رجل ذو بنية جسدية ضعيفة، فلا يمكن أن يكون شرطيًّا. ومشرفو المتاجر أو مسئولو المبيعات معتادون على الحركة في مساحات محدودة نسبيًّا، من ثم تجد خطواتهم قصيرةً ونشيطة، كما أن ملابس هؤلاء تميل لأن تعكس مظهرًا أنيقًا؛ أما مسئولو المحطات فيجولون على أرصفة طويلة، وعادةً ما تكون جولاتهم بخطواتٍ سريعة، من ثمَّ ينزعون إلى أن تكون خطواتهم أطول، كما تكون ملابسهم فخمةً وليست مزخرفة. ترى الآن أن السِّمات التي ذكرتها في آخر كلامي تظهر في موضوع تحليلنا؛ فهو يتوافق مع الوصف العام لناظر محطة. لكنَّنا إذا ما خلصنا بِناءً على ذلك إلى أنه ناظر محطة، فإننا نَسقُط في المُغالطة التقليدية المُسمَّاة الحد الأوسط غير المُستغرق؛ وهي المُغالطة التي تلازم كل الحازرين البارعين، ومن ضِمنهم المُفتشون، لا في الروايات وحدَها، ولكن الذين يكونون في الحياة الواقعية أيضًا. فكل ما تشير إليه الحقائق المرصودة ويمكن استنتاجه بصورةٍ مبرَّرة هو أن هذا الرجل يعترك الحياة على نحو يستوجِب أن يقف لقدْر كبير من الوقت؛ أما بقية ذلك فهو مجرد تخمين.»

فقال بولتون وهو ينظر إلى الرجل الذي كان قد ابتعد: «هذا مدهش، مذهل بكل المقاييس. ما كنت لأعرف مطلقًا أنه ناظر محطة.» وبعد أن أدلى بهذا التعليق غادر وهو ينظر إلى ربِّ عمله نظرةً تنمُّ عن إعجابٍ عميق.

فقال ثورندايك بابتسامة: «ستلاحظ أيضًا أن تخمينًا محظوظًا غالبًا ما يعود عليك بقدْر من الثناء أكبر ممَّا يعود عليك به استنتاج منطقي نتيجته أقل إثارةً للدهشة.»

«أجل، من المؤسف أن هذه هي الحال، وهي صحيحة بالتأكيد في الحالة التي بين أيدينا. فيما يخصُّ بولتون، سُمعتك الآن أصبحت راسخةً حتى ولو لم تكن كذلك من قبل. أنت الآن في نظره عرَّاف عبقري لا يخفى عليه شيء. لكن لنعد إلى هذه القطع الصغيرة، ويتعين أن أُسمِّيها كذلك؛ لأنني لا أجد لها اسمًا أفضل. لا أستطيع أن أضع فرضيةً بشأن استخدامها. إذ لا يبدو أنني أرى نقطة «انطلاق» — كما تقول العبارة — أبدأ منها بحثي. أنا حتى لا أملك ما يكفي لأن أحزر وأُخمِّن. فهل ينبغي لي أن أكون قادرًا على التوصُّل إلى أي رأيٍ حول هذا الموضوع؟»

التقط ثورندايك إحدى القِطَع وقلَّبها بين أصابعه برقة وفَحَصَ بعينٍ ناقدة قاعدتها المستوية التي تقف عليها، ثم أخذ يتفكَّر لبضع لحظات.

قال أخيرًا: «من السهل تتبُّع الصِّلة حين يكون المرء على علمٍ بكل الوقائع والمعلومات، لكن يبدو لي أنك تملك ما يكفي لأن تتوصَّل إلى تخمين. ربما أكون مخطئًا، لكنني أظنُّ أنك ستجد نفسك قادرًا على حلِّ مشكلةٍ من هذا النوع حين تكون قد اكتسبت مزيدًا من الخبرة. يتطلب الأمر مُخيِّلةً بنَّاءة وانضباطًا صارمًا في التفكير المنطقي. والآن أنت تُفكِّر بمنطق سليم، وقد برهنت لي مؤخرًا على أنك تملك المُخيِّلة اللازمة؛ أنت تفتقر فقط إلى الخبرة في استخدام هذه الإمكانات. حين تعلم غايتي من صنع هذه الأشياء — وهذا ما ستعرفه عما قريب — على الأرجح سيُدهشك أنه لم يخطر على بالك بصورةٍ بديهية استخدامها. والآن لنذهب ونمارس المشيَ قليلًا لنُعيد لأنفسنا الحيوية والنشاط (أو ربما كان بالأحرى أن أتحدَّث عن نفسي) بعد ما أنجزناه اليوم من عمل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥