الفخ
بعد ذلك بيوم أو نحو ذلك، قال ثورندايك: «سأطلب منك المعاونة في قضية أخرى. ظاهر الأمر أنها حالة انتحار، لكن محامي مكتب «جريفين» قد طلبوا مني أن أذهب إلى المكان، الذي يقع في ضاحية بارنيت، وأن أحضر «تشريح الجثة» والتحقيق. لقد تدبَّروا أمر إجراء التحقيق بعد التشريح مباشرة؛ حتى نتمكن من أداء المهمة كلها في زيارة واحدة.»
فسألته: «هل في القضية أي تعقيد؟»
فأجابني: «لا أظن هذا. تبدو كحالة انتحارٍ عادية؛ لكن لا يسع المرء مطلقًا أن يعرف يقينًا. تبرُز أهمية القضية في الوقت الراهن من مسألة التأمين الكبير؛ فإصدار حُكم بأنها حالة انتحار من شأنه أن يعني مكسبًا قيمته عشرة آلاف جنيه لمكتب «جريفين»؛ لذا من الطبيعي أن يكون مديرو المكتب حريصين على تسوية القضية وغير ميَّالين إلى الاعتراض على تكلفة قليلة.»
فقلت: «بطبيعة الحال.» ثم سألته: «ومتى سننطلِق في رحلتنا؟»
«تحدَّد موعد التحقيق بحيث يكون غدًا؛ ما الأمر؟ هل ذلك يتعارَض مع أي ترتيبات لديك؟»
أجبتُه بسرعة: «كلا، ليس شيئًا مهمًّا»، وشعرت بخجلٍ عميق من تغيُّر ملامحي للحظة؛ الأمر الذي سرعان ما لاحظه صديقي.
فألحَّ في سؤاله: «قل لي، ما الأمر؟ ثمة شيء ما.»
«لا شيء ذا بال، صدِّقني، بل هو أمر يُمكنني تدبُّره بسهولة ليتلاءم مع خططك.»
تساءل ثورندايك بنبرة خفيضة وبابتسامة مُستفزة: «أهو ما أفكِّر فيه؟»
فأجبته، وقد احمرَّ وجهي من شدة الخجل: «نعم؛ سأخبرك بما أنك شديد الفضول إلى هذا الحد. أرسلَت لي الآنسة جيبسون، نيابةً عن السيدة هورنبي، تدعوني إلى تناول العشاء مع العائلة مساء يوم غد، وقد أرسلتُ ردِّي بالموافقة قبل ساعة.»
فهتف ثورندايك متعجبًا: «وتقول إن هذا «ليس ذا بال»! ويا للأسف! وبالمثل وا حسرتاه (وهو تعبير مرادف تقريبًا للأول)! لقد ولَّى، حقًّا، زمن الشهامة. بالطبع لا بد أن تفي بالتزامك بموعدك؛ يُمكنني تدبُّر أمري وحدي.»
«أظن أننا لن نعود في وقتٍ مبكر بما يسمح لي بأن أذهب إلى كينزنجتن من المحطة، صحيح؟»
«كلا؛ بالطبع لن نفعل. من وجهة نظري القطارات غير ملائمة على الإطلاق؛ لن نصِل إلى كينجز كروس إلا بحلول الواحدة صباحًا.»
«في هذه الحال إذن، سأرسل إلى الآنسة جيبسون وأعتذِر لهم.»
فقال ثورندايك: «ما كنتُ لأفعل هذا؛ هذا سيُصيبهم بالإحباط، والأمر ليس حقًّا ضروريًّا.»
فقلت بنبرة حاسمة: «سأرسل لها على الفور؛ لذا من فضلك لا تحاول ثنيي. لقد كنتُ أشعر بعدم ارتياح لفكرة أنني، طوال الوقت الذي كنت فيه موظفًا لديك، لم أفعل شيئًا سوى التسكُّع والاستمتاع بوقتي. إن فرصة إنجاز شيءٍ ملموس لقاء أجري هي فرصة أغلى من أن أفوِّتها.»
ضحك ثورندايك بمودة وتساهُل. وقال: «افعل ما يطيب لك يا فتاي العزيز؛ لكن لا تتصوَّر أنك لم تكن تعمل لقاء ما تأخذ من أجر. فحين ترى حلَّ قضية هورنبي هذه بالتفصيل، ستندهِش من الدور الكبير الذي لعبتَه في حلِّها. لقد كانت قيمتك عندي تفوق بكثير أجرك البسيط والقليل، وأؤكِّد لك ذلك.»
فقلت: «من اللطيف منك أن تقول هذا»، وأنا ممتن للغاية لأن أعرف أنني ذو نفع وفائدة، ولستُ محل إحسان وإكرام، كما كنتُ قد بدأت أظن.
فأجابني: «هذا صحيح وحقيقي تمامًا؛ والآن وبما أنك ستساعدني في هذه القضية، سأُملي عليك مهمتك. القضية، كما قلتُ، تبدو بسيطةً إلى حدٍّ كبير، لكن لا ينبغي أبدًا أن نركن إلى بساطتها. ها هو الخطاب الذي وصل من المحامين ويقصُّ الوقائع كما هي معروفة حتى وقتنا الراهن. وعلى الأرفف هناك ستجد كتبًا لكاسبر، وتايلور، وجاي وفيرير، ومؤلفين آخرين في مجال الطب الشرعي، وسأُخرِج لك كتابًا أو كتابَين آخرَين قد تجدهما نافعَين. أريد منك أن تستخرج كل شيءٍ يمكن أن يكون له علاقة بهذه القضية وتُصنِّفه في ملاحظات. لا بد أن نذهب ونحن مستعدُّون لمجابهة أي احتمالٍ يمكن أن يطرأ. هذه عادتي دومًا، وحتى إن تبيَّن أن القضية بسيطة وسهلة، فإن العمل الذي تؤدِّيه لن يضيع هباءً؛ لأنه سيُكسبك الكثير من الخبرات.»
فقلت معترضًا: «لكن مؤلفات كاسبر وتايلور عتيقة إلى حدٍّ بعيد، أليس كذلك؟»
أجاب بنبرة جافة: «وكذلك الانتحار. من الأخطاء الفادحة أن تُهمِل المؤلِّفين القدامى وتستخف بهم. لقد كان هناك رجال أقوياء قبل أجاممنون، وبعضهم كانوا أقوياء لدرجة غير معهودة. أعطِ أفضل ما لديك من اهتمام لكاسبر الجليل وتايلور العتيق، ولن تضيع عليك مثوبة عملك.»
نتيجةً لهذه الوصايا، كرَّستُ ما تبقى من اليوم لبحث الطرائق المختلفة التي يسعى من خلالها الإنسان للخروج من مسرح أنشطة الحياة البشرية. وقد وجدتها دراسةً مُمتعة للغاية، وما زاد اهتمامي بها ترقُّب المشكلة التي تنتظر حلَّها يوم غد؛ لكن دراستي هذه لم تكن مُمتعةً بالدرجة التي تشغلني عن تخصيص وقتٍ لكتابة خطابٍ طويل وحميم وتفسيري دقيق إلى الآنسة جيبسون، ذكرت فيه حتى ساعة عودتنا لأريها استحالة أن أفي بموعدي. ولم أخشَ في ذلك ولو بقدْر ضئيل أن تشعر الآنسة جيبسون أنني أُسيء إليها؛ لأن دليل احترامي وتقديري لها هو أنني ألغيتُ الموعد من دون أن يُساورني الشك ولو للحظةٍ أنها لن تُؤيِّد تصرُّفي؛ لكن كان من دوافع السرور أن أكتب لها وأُسهب في الكتابة وأن أشعر بحميمية أنني أُبقيها مُطلعةً على تفاصيل حياتي.
ولمَّا ذهبنا نتحرَّى القضية في الوقت والمكان المُحدَّدَين، تبيَّن أنها حالة انتحار من النوع الذي لا يقبل الجدل؛ الأمر الذي أصابنا أنا وثورندايك، على ما أظن، بقليل من خيبة الأمل؛ وكان الباعث على خيبة أمل ثورندايك أنه لم يفعل إلا القليل لقاء أتعابٍ كبيرة، أمَّا أنا فلأنني لم أحظَ بفرصة لتطبيق معرفتي التي عزَّزتها حديثًا.
قال زميلي بينما كنا نُدثِّر أنفسنا في دُثُرنا في زوايا متجاورة في عربة القطار: «أجل، كانت مسألةً بسيطة، وكان بإمكان المُحامين المحليين تدبُّر الأمر برمَّته. لكنها لم تكن هدرًا للوقت في نهاية المطاف؛ لأنني وكما ترى، كثيرًا ما أُنجز أعمالًا لا أتلقَّى عليها أجرًا ولا تقديرًا؛ لذا لا تجدني أتذمَّر إن وجدتُ نفسي بين الحين والآخر أتلقَّى أجرًا أكبر مما قدَّمتُ من خدمات. وفيما يخصُّك، أظنُّ أنك اكتسبت قدرًا لا بأس به من المعرفة القيِّمة في موضوع الانتحار، والمعرفة قوة، كما قال الراحل اللورد بيكون في مقولته الحقة والصادقة أكثر من كونها مبتكرة.»
لم أردَّ على قوله هذا؛ إذ كنتُ قد أشعلت غليوني الآن، وكنت أشعر بالنعاس بصورةٍ لم أعهدها؛ ولمَّا فعل زميلي مثلما فعلت، أخذنا نُدخِّن في صمت، فزاد إحساسي بالنعاس، وذلك حتى توقف القطار في المحطة وخرجنا منه إلى الرصيف ونحن نتثاءب ونرتجف.
صاح ثورندايك وهو يشدُّ دثاره إلى كتفيه: «سحقًا! البرد شديد في هذه الساعة؛ إنها الواحدة والربع. انظر كم يبدو كل هؤلاء الركَّاب المساكين بردانين وبائسين. هل نستقلُّ عربة أجرة أم نسير؟»
فأجبته: «أظن أن المشي السريع سيُنشط دورتنا الدموية بعد أن قضينا هذه المدة الكبيرة مكوَّمَين في عربة القطار.»
قال ثورندايك: «وأنا أيضًا أظن ذلك، إذن هيا بنا! لننطلق! بل قد أقول هَلُمَّ بنا! يبدو أن ذلك السيد النبيل يُفضِّل الحياة الشاقة، إن جاز للمرء أن يحكُم من حجم عجلتِه المُسنَّنة.»
ثم أشار إلى دراجة كانت مركونةً إلى حيز الرصيف عند بداية الشارع؛ دراجة من النوع المُستخدَم في السباقات، لها عجلة مُسننة ضخمة، تُشير إلى ترسٍ مُعدَّلُه تسعون على الأقل.
فقلت: «ربما كان متسابقًا أو هاوي سباقات، يستغل فرصة قيادة الدراجة على الأرصفة الخشبية حين تكون الشوارع خاوية.» ونظرت حولي لأرى إن كنتُ أستطيع رؤية مالك الدراجة، لكن بدا في الوقت الراهن أن الدراجة وحدَها.
حي كينجز كروس هو أحد تلك الأحياء التي يسهر قاطنوها حتى ساعة متأخرة من الليل، وحتى في الساعة الواحدة والربع بعد منتصف الليل، لم تكن الشوارع خاليةً تمامًا. فهنا وهناك، كان يلوح ضوء خافت من أحد مصابيح الشوارع أو ينبعِث شعاع قوي من عمود إنارة طويل وبعيد فيكشف عن أحد المُتجولين ليلًا والمُتسلِّلين بخفَّة القطط، أو من يندفع فجأة — مثل القطط أيضًا — في غناء لا لحن له. ولمَّا لم تكن لدينا رغبة في الاختلاط بمجتمع العرابدة هذا، عبرنا الطريق بسرعةٍ من المحطة وإلى طريق جرايز إن، الذي كان في ذلك الوقت ساكنًا وكئيبًا في مظهره، ورُحنا نشقُّ طريقنا على طول الجانب الغربي. وكنا قد الْتففنا مع انحناءة الطريق وكنا نعبر شارع مانشستر حين عرفنا من خلال سلسلةٍ من الصيحات الآتية من أمامنا أن هناك مجموعة من المخمورين، الذين لم يكن باستطاعتنا رؤيتهم بعد؛ لأن الليلة كانت حالكة الظُّلمة بصورةٍ استثنائية؛ لكن أصوات المرح ظلَّت تعلو بينما كنا نتقدَّم في السير، حتى جاوزنا شارع سيدمث فرأيناهم. كان عددهم يُقارب نصف دزينة، وكانوا خشنين من النوع الدموي والمشاغب، ولا شكَّ في أنهم كانوا في حالةٍ من العربدة والصخب؛ لأنهم توقَّفوا لدى مرورهم بمدخل مستشفى رويال فري وأخذوا يقرعون على البوابة قرعًا شديدًا. وبعد أن فرغوا من فعلتهم هذه عبروا الطريق إلى الجانب الذي كنا نسير فيه، وحينها أمسك ثورندايك بذراعي وأبطأ من سرعة خطوِه.
وقال: «دعهم يتقدَّمون عنا. من الحكمة والاحتياط أن تترك مساحةً كبيرة بينك وبين عصابات المُشاغبين في هذا الوقت من الليل. من الأفضل أن ندلف شارع هيثكوت ونجتاز ميدان ميكلنبورج.»
استمرَرْنا في السير بسرعةٍ بطيئة حتى وصلنا إلى شارع هيثكوت، فانعطفنا فيه ومن ثمَّ إلى ميدان ميكلنبورج حيث عدلنا سرعتنا مرةً أخرى.
استطرد ثورندايك، بينما كنَّا نجتاز الميدان الخامد بخطوات سريعة: «تقترف عصابات المُشاغبين عددًا من الآثام والخطايا تتراوح بين السرقة بالإكراه على الطرق السريعة وقطعها والاغتيال مقابل أجر (الذي يُسمَّى عمليًّا ﺑ «الاعتداء العنيف») وحتى استغفال القاضي الرحيم الذي يظنُّ أن وظيفته في النظام الطبيعي هي تأمين النجاة لغير الأصلح. ثمة راكب دراجة يسير بها في شارع جيلدفورد. أتساءل إن كان هذا هو صديقنا القوي الذي رأينا دراجته عند المحطة. إن كان هو، فقد انسلَّ متجاوزًا عصابات المُشاغبين.»
وكنا ندخل الآن شارع دوتي، وبينما كان ثورندايك يتحدَّث، استطعتُ للحظة أن أرى رجلًا يركب دراجةً عند تقاطُع الشارعَين. وحين وصلنا إلى شارع جيلدفورد، نظر كلانا إلى الأفق الطويل المضاء بالمصابيح، لكن راكب الدراجة كان قد اختفى.
وقال ثورندايك: «من الأفضل أن نُكمل المسير مباشرةً إلى شارع ثيوبالد»، ثمَّ تابعنا طريقنا في الشارع القديم والجميل، وقد أصبح لوقع أقدامِنا صدًى بفعل طول المباني فيه، فبدا وكأن رفقةً خفية تتبعنا، حتى وصلنا إلى ذلك الجزء الذي يتغيَّر فيه اسم الشارع بصورةٍ غير مفهومة أو مبرَّرة ليصبح شارع جون.
فقال ثورندايك: «دائمًا ما يبدو لي أن هناك شيئًا مثيرًا للشفقة في شوارع بلومزبيري العتيقة هذه، بفخامتها المتلاشية ورثاثتها الجليلة. تُذكِّرني هذه الشوارع بامرأة نبيلة ومُسنَّة وأنيقة ومُتزمتة تعيش في ظروف مُزرية … سحقًا! ماذا كان هذا؟»
كان صوت خافت وحاد ومكتوم قد أتى من خلفنا وتبِعه على الفور صوت تهشُّم زجاج نافذة في الطابق الأرضي أمامنا.
تجمَّد كلانا في مكانه وظَلِلنا نُحدِّق لثانيتَين أو نحو ذلك في الظلمة التي جاء منها الصوت الأول؛ ثم انطلق ثورندايك كالسهم عبر الشارع وتبعتُه أنا على الفور.
في اللحظة التي صدر فيها الصوت كنا قد قطعنا قُرابة أربعين ياردةً في شارع جون؛ أي من المكان الذي يتقاطع فيه شارع هنري معه، وكنا الآن نركض بأقصى سرعة عبر الشارع إلى الزاوية البعيدة من شارع هنري. لكن لمَّا وصلنا إليها، كان الشارع الصغير فارغًا، وقد توقَّفنا قليلًا لكن لم يكن هناك أي صوتٍ ينمُّ عن خطواتٍ متراجعة يشقُّ صمت الشارع.
قال ثورندايك: «لا شك في أن الطلقة أتت من هنا! هلمَّ بنا»، ثم انطلق يجري مرةً أخرى. وعلى بُعد بضع ياردات في الشارع كان شارع صغير ينعطف يسارًا، فدخل صديقي في هذا الشارع، وهو يُشير لي بأن أُكمل الجري مباشرة، ففعلت، وبعد عدة خطوات وصلتُ إلى طرف الشارع. عند طرف الشارع كان ممرٌّ صغير ضيِّق له رصيف واسع مرصوف ينعطف يسارًا، فكان موازيًا للشارع الصغير الذي دلفه صديقي، ولمَّا وصلت إلى زاوية الشارع ونظرتُ في الشارع الصغير، رأيتُ رجلًا يركب دراجةً ويسير بسرعة وصمت صوب شارع ليتل جيمس.
صِحْتُ صيحةً عظيمة، قائلًا: «أوقفوا اللص!» وانطلقت في مطاردة حثيثة، ولكن رغم أن قدمَي الرجل كانتا تتحرَّكان على بدَّال الدراجة بتمهُّل، كان يتقدَّم بسرعةٍ مُذهلة، رغم جهودي للحاق به؛ ثم اتضح لي أن دوران قدمَيه ببطءٍ كان في واقع الأمر بسبب أن الترس في الدراجة التي يركبها كبير بصورةٍ غير معهودة. فلمَّا أدركت هذا، وتذكَّرت في اللحظة نفسها الدراجة التي رأيناها عند المحطة، انعطف الرجل الهارب ودلف إلى شارع ليتل جيمس واختفى.
كانت السرعة التي يتقدَّم بها الرجل تجعل الاستمرار في مطاردته عديم الفائدة تمامًا؛ لذا التفتُّ وقفلت راجعًا، وكنت ألهث وأتعرَّق بشدة من الجهد غير المعتاد الذي بذلته. وحين عدت إلى شارع هنري، برز ثورندايك من الشارع الصغير وتوقف لدى رؤيتي.
فسأل بإيجاز بينما أقترب منه: «درَّاج؟»
أجبته: «أجل، يقود دراجةً ترسُها يُقارب التسعين.»
قال ثورندايك: «آه! لا بد أنه تبعنا من المحطة. هل لاحظت إن كان يحمل أي شيء؟»
«كان معه عصَا للمشي في يدِه. لم أرَ شيئًا آخر.»
«عصا مشي من أي نوع؟»
«لم أستطع أن أتبيَّن. كانت عصًا قويَّة — أعتقد أنها عكاز مَلَقَّا، على الأرجح — وكان بها ما يُشبه مقبضًا على شكل قرن. رأيت هذا لما مرَّ بمصباحٍ في الشارع.»
«ما نوع المصباح الذي كان بدراجته؟»
«لم أتبيَّن؛ لكن بينما كان ينعطف عند الزاوية، لاحظتُ أن مصباحه كان خافتًا جدًّا.»
عَلَّقَ رفيقي: «تلطيخ زجاج المصباح بالقليل من الفازلين أو حتى بالزيت سيُقلِّل كثيرًا من وهج المصباح، خاصةً في طريق مغبر. ها! هذا هو مالك النافذة المكسورة. يريد أن يعرف ما حدث.»
كنا قد دلفنا مرةً أخرى إلى شارع جون ورأينا الآن رجلًا يقف على المدخل العريض للمنزل الذي به النافذة المكسورة، وكان ينظر بقلق في كلا الاتجاهَين في الشارع.
سأل الرجل، مشيرًا إلى النافذة المكسورة: «هل رأى أيٌّ منكما أيها السيدان أي شيءٍ ممَّا حدث هنا؟»
فقال ثورندايك: «نعم، تصادف أننا كنَّا نمرُّ من هنا لمَّا وقع الأمر»؛ ثم أضاف: «في الواقع، أميل لأن أظنَّ أن المقذوف، أيًّا كان هو، كان مصوَّبًا باتجاهنا نحن.»
فقال الرجل: «أوه! من فعلها؟»
فأجاب ثورندايك: «هذا ما لا أعرفه. لكن أيًّا كان، فقد هرب على دراجة ولم نستطع الإمساك به.»
فقال الرجل مرةً أخرى، وهو ينظر إلينا بارتيابٍ متزايد: «أوه! على دراجة، مهلًا! هذه مزحة، صحيح؟ وبماذا فعل ما فعله؟»
فقال ثورندايك: «هذا ما أودُّ معرفته. أرى أن هذا المنزل فارغ.»
«أجل، هو كذلك؛ هو متاح للإيجار، على أي حال. أنا حارس العقار. لكن ما علاقة هذا بما حدث؟»
أجابه ثورندايك: «لا شيء سوى أن المقذوف — سواء كان حجرًا أو رصاصةً أو أيًّا كان — كان مُصوَّبًا نحوي، كما أعتقد، وأرغب في التحقُّق من طبيعته. فهلَّا سمحتَ لي أن أدخل لأبحث عنه؟»
كان من الواضح أن حارس العقار يميل إلى رفض هذا الطلب؛ لأنه أخذ يُقلِّب نظرَه بيني وبين رفيقي بارتياب، لكن في أخر الأمر، استدار الرجل نحو الباب المفتوح ودعانا إلى الدخول بفظاظة.
كان ثمة مصباح بارافين على الأرض في ركنٍ من الصالة، فالتقَطه الرجل بعدما أغلق باب الشارع.
وقال الرجل وهو يلفُّ المفتاح في الباب ويدفعه ليفتحه: «هذه هي الحجرة، يُطلقون عليها المكتبة، لكنها بصريح العبارة قاعة استقبال أمامية.» دلف الرجل إلى الحجرة، رافعًا المصباح فوق رأسه، وحَدَّقَ ببُغض إلى النافذة المكسورة.
مسح ثورندايك الأرض كلها بنظرة سريعة في الاتجاه الذي يمكن أن يكون المقذوف قد سلكه، ثم قال:
«هل ترى أي علامة على الجدار هناك؟»
وبينما كان يتحدث، أشار إلى الجدار المقابل للنافذة، والذي من الواضح أنه ما كان ليُصيبه مقذوف دخل الحجرة بهذه الدرجة من الانحراف؛ وكنت على وشك أن أشير إلى هذه المسألة عندما تذكَّرت لحُسن حظي فضيلة الصمت العظيمة.
اقترب صاحبنا من الجدار، وكان ما يزال يحمل المصباح، وأخذ يُدقِّق في سطح الجدار بانتباهٍ بالِغ؛ وبينما كان مشغولًا بهذا، لاحظت ثورندايك ينحني بسرعة ويلتقِط شيئًا وضعه في جيب معطفه بحرص ومن دون أي تعليق.
وقال الحارس وهو يُمرِّر يدَه على الجدار: «لا أرى أي خدش في أي مكان.»
فاقترح ثورندايك وهو يُشير إلى الجدار الذي كان في مرمى المقذوف حقًّا: «لعلَّه ارتطم بهذا الجدار إذن.» ثم أضاف: «أجل بالطبع، سيكون هذا الجدار؛ فقد أتى المقذوف من شارع هنري.»
اجتاز الحارس الغرفة وسلَّط ضوء المصباح على الجدار الذي أشار إليه رفيقي.
وهتف بارتياحٍ متجهِّم، وهو يُشير إلى نقرة صغيرة أُزيل بسببها ورق الحائط وأصبح الجص مكشوفًا: «آه! ها هي ذي! تبدو كعلامة خلَّفتها رصاصة، لكنك تقول إنك لم تسمع أي صوت عيارٍ ناري.»
فقال ثورندايك: «كلَّا، لم يكن هناك صوت لعيار ناري؛ لا بد أنها أُطلِقَت من مقلاع.»
وضع الحارس المصباح على الأرض وشرع يبحث في الأرض عن المقذوف، وساعدَه كِلانا في هذا؛ ولم أستطع أن أكبح ابتسامةً خافتة لمَّا لاحظت كيف ينظر ثورندايك في الأرض باهتمامٍ بحثًا عن المقذوف الذي كان مُستقرًّا في جيبه.
كنا مُتعمِّقَين في بحثنا عندما سمعنا طرقًا مزدوجًا بلا هوادة على باب الشارع، أعقبه دقات جرس عالية في الطابق السُّفلي.
غمغم الحارس يقول: «هذا بوبي على ما أظن. ها هي ضجة كبيرة على لا شيء يُذكَر.» ثم أمسك بالمصباح وخرج وتركنا في الظلام.
فقال ثورندايك لمَّا أصبحنا وحدَنا: «لقد التقطتُ الرصاصة.»
فأجبته: «رأيتُك تفعل ذلك.»
فردَّ يقول: «حسن؛ أُحيِّيك على تكتُّمك.» وكان ما افترضه الحارس صحيحًا. فعندما عاد، كان بصحبته فرد شرطة ضخم الجثة، وقد حيَّانا بابتسامةٍ وأخذ ينظر في أرجاء الغرفة الفارغة بنظرات مرحة.
وقال، وهو يُشير إلى النافذة المكسورة: «أولئك الأولاد؛ إنهم يُحبُّون اللهو والدعابات. سمعتُ أنك كنت مارًّا لمَّا حدث هذا، يا سيدي.»
أجابه ثورندايك: «أجل»؛ ثم قصَّ على فرد الشرطة ما حدث باقتضاب، وقد استمع الأخير إلى ما قال زميلي، ومفكرة في يدِه.
وقال حين انتهى صديقي من سرده: «حسن، إن كان هؤلاء الأولاد المشاغبون سيستخدمون المقاليع، فإنهم سيتسبَّبون في الكثير من المشكلات والفوضى في الحي.»
فقال الحارس: «يتعيَّن عليكم القبض على بعضهم.»
هتف الشرطي مُتعجبًا وبنبرة تنمُّ عن التبرُّم: «نقبض عليهم! أجل! وبعدَها سيطلب منهم القاضي أن يُحسِنوا التصرُّف ويعطيهم خمسة شلنات من صندوق الصدقات ليشتروا نسخًا مزوَّدة بالصور من الكتاب المقدَّس. سُحقًا لهم جميعًا، أولئك السفلة التافهون!»
ثم دسَّ مُفكِّرته بعُنف في جيبه وسار مغاضبًا خارجًا من الحجرة إلى الشارع، ونحن في إثره.
ثم قال وهو يلتفت إلى الحارس: «ستعثر على الرصاصة أو الحجر وأنت تكنس الغرفة، وعندها ينبغي عليك أن تُعطينا إيَّاها. طابت ليلتك، يا سيدي.»
ثم شرع يسير باتجاه شارع هنري، في حين أكملنا أنا وثورندايك مسيرتنا باتجاه الجنوب.
سألت صديقي ونحن نسير في الشارع: «لماذا كنت متكتمًا للغاية بشأن المقذوف؟»
فردَّ صديقي: «جزئيًّا لكي أتفادى الحديث مع الحارس، لكن في الأساس لأنه خطر لي أن من المُرجح أن يمرَّ شرطي بالمنزل حين يرى الإضاءة، وأنه سيدخل ويطرح الأسئلة.»
«وماذا في ذلك؟»
«حينها كان سيتعيَّن عليَّ أن أُسلِّمه المقذوف.»
«ولِمَ لا تفعل؟ هل لهذا المقذوف أهمية خاصة؟»
أجاب ثورندايك ضاحكًا: «له أهمية خاصة عندي في الوقت الراهن؛ لأنني لم أفحصه. عندي نظرية بشأن طبيعته، وأرغب في اختبارها قبل أن أُطلِع الشرطة على الأمر.»
فسألته: «وهل ستُطلعني على الأمر؟»
فأجابني: «حين نصِل إلى البيت، إن لم تكن تشعر بالنعاس.»
ولدى وصولنا إلى مقرِّه، أراد منِّي ثورندايك أن أُضيء أحد أطراف الطاولة وأن أُخليه بينما يذهب إلى الورشة ليُحضر بعض الأدوات. فقلبت غطاء الطاولة، وبعد أن عدَّلت ضوء المصباح الغازي ليُضيء هذا الجزء من الطاولة، انتظرت عودة زميلي بصبر فارغ. وفي غضون بضع دقائق عاد حاملًا فتيلةً صغيرة، ومنشارًا معدنيًّا، وزجاجةً لها فُوَّهة واسعة.
«ما هذا الذي في الزجاجة؟» هكذا سألته إذ رأيت بداخلها شيئًا معدنيًّا.
«هذا هو المقذوف، رأيت أن أنقعه في ماء مُقطَّر؛ لأسباب ستتبيَّن عمَّا قليل.»
ورجَّ الزجاجة برفق لدقيقةٍ أو نحو ذلك، ثم بمِلقط تشريح أمسك بالمقذوف وثبَّته فوق سطح الماء ليجف، وبعد ذلك وضعَه على قطعةٍ من ورق التنشيف.
ملت على المقذوف وفحصتُه باهتمامٍ شديد، في حين وقف ثورندايك ينظر إليَّ بالقدْر نفسه من الاهتمام تقريبًا.
وقال، بعد أن أخذ يُراقبني في صمتٍ لبعض الوقت: «والآن، ماذا ترى؟»
فأجبتُه: «أرى مُجسَّمًا أسطوانيًّا نحاسيًّا صغيرًا، طوله حوالي بوصتَين، وسُمكه يتجاوز سمك قلم رصاص عادي. أحد طرفي المجسم مخروطي الشكل، وثمة ثُقب صغير عند رأسه يبدو أنه يحتوي على رأسٍ فولاذي؛ أما الطرف الآخر فمُسطَّح، لكن في وسطه نتوء صغير مربَّع الشكل يمكن أن يتناسَب مع مفتاح ساعة جيب. أُلاحظ أيضًا ثقبًا صغيرًا في جانب المُجسَّم الأسطواني بالقُرب من الطرف المسطَّح. يبدو المجسم كقذيفةٍ مصغَّرة، كما يبدو أجوف.»
قال ثورندايك: «إنه أجوف. لا بد أن تكون قد لاحظتَ هذا حين رفعته من الماء ليجف؛ فقد تسرَّب الماء عبر الثُّقب عند الطرف المُدبَّب.»
«أجل، لاحظت هذا.»
«والآن التقِطْه ورُجَّه.»
ففعلتُ وحينها شعرت بشيءٍ ثقيل يهتزُّ ويُحدِث صوتًا بداخله.
فقلت: «ثمة جسم مُتقلقل بداخله، هذا الجسم يتناسب بقدْر كبير مع حجم المُجسَّم الأسطواني من الداخل، حيث إنه لا يتحرك إلا على القُطر الطويل.»
«تمامًا؛ وصفُك ممتاز. والآن، ما طبيعة هذا المقذوف؟»
«أعتقد أنه مقذوف مصغَّر أو رصاصة متفجِّرة.»
فقال ثورندايك: «خطأ! هذا استنتاج طبيعي جدًّا، لكنه خاطئ.»
فسألته، وفضولي يتعاظم: «إذن ما هو هذا الشيء؟»
فأجابني: «سأريك. إنه شيء أكثر إتقانًا بكثيرٍ من رصاصة مُتفجِّرة — التي هي في الواقع أداة بسيطة — مُصَمَّمٌ بشكلٍ رائعٍ ومصنوعٌ بإتقان. إننا نتعامل مع رجلٍ عبقري وواسع الحيلة جدًّا.»
شعرت برغبة في أن أضحك من تقديره وتحمُّسه لطرائق وأساليب الرجل الذي يريد اغتياله، وحينها بدا أن روح الهزل في الموقف تتبادر إلى ذهنه، إذ قال بابتسامة آسفة:
«لا بد أن تفهم أنني لا أُعبِّر عن استحساني، وإنما فقط أُعبِّر عن إعجابي المِهني. فهذه الفئة من المُجرمين هي التي تخلق الحاجة إلى عملي. إن هذا الرجل وليُّ نعمتي، إن جاز التعبير؛ أو هو ربُّ عملي الأول والنهائي. وذلك لأن بإمكان رجل الشرطة العادي التعامُل بكفاءة مع المُجرمين العاديين!»
وبينما كان يتحدث، كان ثورندايك يثبِّت المُجسَّم الأسطواني الصغير بين منديلَين ورقيَّين في الفتيلة التي كان الآن يُحكِم إغلاقها على المُجسَّم. ثم باستخدام المِنشار المعدني الصغير، شَرَعَ يقطع المقذوف بالطول إلى نصفَين غير مُتساوِيَين قليلًا. استغرقت هذه العملية بعض الوقت، خاصةً أنه كان حريصًا على ألَّا يقطع الجسم المُتقلقل بداخل المُجسَّم، لكن في النهاية فرغ من القطع وأصبح الجزء الداخلي من المُجسَّم الأسطواني مكشوفًا، وحينها حرَّره ثورندايك من الفتيلة وأمسك به أمامي وقد اعتلى وجهَه تعبيرٌ ينمُّ عن الظفر والابتهاج.
وسألني: «والآن، ماذا ترى؟»
أخذتُ المُجسَّم في يدي وتأمَّلته عن كثَب، لكنني في بداية الأمر كنتُ مُتحيرًا أكثر من ذي قبل. رأيتُ الآن أن الجسم المُتقلقل هو عبارة عن أسطوانة من الرصاص طولها حوالي نصف بوصة، وكانت تُناسب تمامًا الحجم الداخلي للمُجسم لكنها حرة الحركة للأمام والخلف. وأما السنُّ الفولاذي الذي لاحظته في الثقب عند رأس المجسم الأسطواني في طرفه المخروطي فرأيت الآن أنه نهاية مُدبَّبة لقضيبٍ فولاذي رفيع يبرُز بالكامل بمقدار بوصة واحدة داخل تجويف المُجسم الأسطواني، وكان الطرف المخروطي يُمثِّل كتلةً صلبة مصنوعة من الرصاص.
وتساءل ثورندايك لمَّا رأى أنني ما زلتُ صامتًا: «ما قولك؟»
أجبته: «أخبرْتَني أنها ليست رصاصةً مُتفجِّرة، لولا هذا كنت سأُصبح الآن متأكدًا من ذلك الرأي. كان حَرِيًّا بي أن أقول إن كبسولة القدح كانت محمولةً بهذا المكبس الرصاصي، وأنها ضربت طرف هذا القضيب الفولاذي حين توقَّف طيران الرصاصة فجأة.»
فقال ثورندايك: «جيد جدًّا في الواقع. أنت مُحق حتى الآن في أن هذه الميكانيكية تعود في واقع الأمور لمقذوف مقدوح.»
وأضاف: «لكن انظر إلى هذا. ترى أن هذا القضيب الصغير اتخذ مسارًا له بداخل الرصاصة حين ضربت الحائط. لنُعِده إلى موضعه الأصلي.»
وضع طرف مِبرَد صغير مُسطَّح على طرف القضيب الصغير وضغط عليه بإحكام، وحينها انزلق القضيب عبر الثقب حتى برز بمقدار بوصةٍ من رأس المخروط. ثم أعطاني المقذوف.
وبنظرة واحدة إلى السنِّ المُدبب للقضيب الفولاذي تبيَّن لي الأمر كله، فأطلقتُ صافرةً تنمُّ عن فزعي لأن «القضيب» كان أنبوبًا دقيقًا له نهاية حادة ومُدببة.
فهتفت: «تبًّا لذلك الوغد اللعين! إنها حقنة مُعَدة للاستعمال تحت الجلد.»
«أجل. إنها حقنة بيطرية، لها تجويف كبير جدًّا. الآن صرتَ ترى ما في الأمر كله من دهاء وإبداع. لو كانت أُتيحت له فرصة معقولة، لنجح الرجل في مهمته بالتأكيد.»
فقلت وأنا أضحك ثانيةً من غرابة موقفه تجاه القاتل: «تتحدث بأسفٍ شديد.»
فأجاب: «كلَّا على الإطلاق. أنا أتمتع بشخصية مُستقلة، لكن حتى أكثر الرجال اعتمادًا على نفسه لا يستطيع إجراء «تشريح» على جُثته. إنما أُعبِّر عن تقديري وإعجابي بهذا التصميم الميكانيكي الذي نُفِّذ بكفاءةٍ عالية. لاحِظ كمال الأمر برمَّته، ولاحِظ الطريقة التي جرى بها توقُّع كل ما تنطوي عليه المسألة من أبعادٍ وكيف كان كل شيءٍ محسوبًا. لقد انطلق هذا المقذوف من بندقيةٍ هوائية قوية — اتخذت شكل عصا المشي — مُجهزة بمضخة دافعة ومفتاح. وكانت ماسورة تلك البندقية محزوزةً حلزونيًّا.»
سألته: «كيف تعرف هذا؟»
«أولًا، سيكون من غير المُجدي أن تضع حقنةً في المقذوف إلا إن كان المقذوف مجهزًا للانطلاق والإبرة في جهة الأمام؛ لكن ثمة دليل مباشر على أن ماسورة البندقية كانت محزوزةً حلزونيًّا. أنت تلاحظ هذا النتوء المُربَّع الشكل على السطح الخلفي للمُجسَّم الأسطواني. من الواضح أن هذا النتوء صُنِعَ ليُلائم حلقةَ إحكام أو حشوةً ما؛ على الأرجح أنها شريحة رقيقة من المعدن المرِن تتحرَّك بفعل الضغط القادم من خلفها إلى الماسورة المحزوزة حلزونيًّا ومن ثمَّ تعطي للرصاصة حركةً مغزلية. وحين تنطلِق الرصاصة من الماسورة، تقع الحشوة تاركةً الرصاصة حرة الحركة.»
«فهمت. كنت أتساءل عن الحاجة للنتوء المُربع. إنه، كما تقول، عبقري جدًّا.»
فقال ثورندايك بحماس: «عبقري للغاية، وكذلك الأداة كلها. انظر كيف كانت ستؤدي وظيفتها بمثاليةٍ لولا الصدفة البحتة، والتعقيد الذي أحدثه وجودك. لنفترِض أنني كنتُ وحدي، بحيث كان سيستطيع الاقتراب لمسافةٍ أقصر. في تلك الحالة، ما كان سيخطئ هدفه، وكانت المُهمة ستتم. أظن أنك تعرف كيف كان ينوي إتمام المهمة، صحيح؟»
فأجبته: «أظن ذلك، لكنني أرغب في سماع روايتك عن العملية.»
«حسنًا، سيعرف في البداية أني عائد في قطار متأخر — الأمر الذي يبدو أنه حدث بالفعل — فينتظرني عند المحطة. في تلك الأثناء يملأ المُجسم الأسطواني بمحلولٍ من السمِّ القلوي القوي، ويمكنه فعل هذا بسهولة عن طريق غمس الإبرة في السائل وسحب الهواء من الثقب الصغير عند الطرف الخلفي، حينها يُسحَب المكبس ويتبعه السائل. وتُلاحظ أن الجزء العلوي من المكبس مُغطًّى بالفازلين — الذي وُضِعَ من خلال الثقب ولا شك — الذي من شأنه أن يمنع مرور السمِّ إلى الفم أثناء سحب الهواء، وأن يمنع تسرُّب أيٍّ منه خارج المجسم. ولدى وصولي، يتبعني الرجل على دراجته حتى أمرَّ بحيٍّ مُنعزل بما يكفي لأن يُنفِّذ عمليته. ثم يقترب منِّي أو يَمُر بي وينتظرني عند زاوية شارع، ويُطلق المقذوف من مسافةٍ قريبة جدًّا. لا يُهم الموضع الذي سأُصاب فيه من جسدي؛ فكل أجزاء الجسم حيوية؛ لذا يمكنه التصويب على ظهري. حينها تأتي الرصاصة وهي تدور وسنُّها المُدبب يشقُّ الهواء؛ تمر الإبرة عبر ملابسي وتخترق لحمي، وحين تتوقف الرصاصة فجأة، يتحرك المكبس الثقيل في مساره بفعل الزخم الكبير الذي كان يتحرك به فينفث السمَّ إلى داخل الأنسجة. حينها تنفصل الرصاصة وتقع على الأرض.»
وتابع: «في تلك الأثناء يكون صاحبنا قد ركب دراجته وانطلق مُبتعدًا، وحين أشعر بوخزة الإبرة، ألتفتُ ومن دون أن أبحث عن الرصاصة، أبدأ على الفور في مطاردته. بالطبع لن أستطيع اللحاق برجلٍ يركب مثل هذه الآلة السريعة، لكنني سأتبعه لمسافةٍ ما. حينها يبدأ مفعول السمُّ في الظهور — حيث سيتسارع مفعوله بفعل المجهود الشاق الذي أبذله — وسرعان ما أخرُّ صريعًا. ولاحقًا، يُعثَر على جثتي. لن توجَد عليها علامات عنف، وعلى الأرجح ستمرُّ وخزة الإبرة دون ملاحظةٍ أثناء تشريح الجثة، وفي هذه الحالة سيكون القرار أن الوفاة سببها قصور في القلب. وحتى لو اكتُشِفَ السمُّ ووخزة الإبرة، لن يوجَد دليل على ذلك. فالرصاصة وقعت على بُعد عدة شوارع، وعلى الأرجح سيكون طفل أو أحد المارة قد التقطها ولم يستطع أن يفهم استخدامها، ولن يستطيع ربطها أبدًا بالرجل الذي عُثِر عليه ميتًا. يجب أن تُقِرَّ أن الخطة برمَّتها مرسومة بعناية وبُعد نظر مُدهشَين.»
أجبته: «صحيح، لا شكَّ في أن الرجل وغدٌ حاذق وشيطان لعين. هل لي أن أسألك إن كنتَ تملك أدنى فكرة عن هُويته؟»
فردَّ ثورندايك: «في الواقع، وكما أشار كارلايل، البارعون ليسوا كثيرين، ومن بين البارِعين الذين أعرفهم، حفنة قليلة منهم فقط هم من يريدون هلاكي، وباستطاعتي أن أخمِّن تخمينًا راجحًا إلى حدٍّ كبير.»
«وماذا تنوي أن تفعل؟»
«في الوقت الراهن، سأحافظ على سكوني بحذاقة، وسأتفادى مخاطر الخروج ليلًا.»
فهتفت: «لكن من المؤكد أنك ستَتَّخِذ بعض التدابير لتحمي نفسك من محاولاتٍ من هذا النوع. أعتقد أنه لم يعُد لديك شكٌّ الآن في أنَّ الحادث الذي وقع في الضباب كان بالفعل محاولةَ اغتيال.»
«في الواقع، لم أشكَّ في ذلك مطلقًا، رغم أنني كنت أوارب الأمر حينها. لكنني لا أملك ما يكفي من الأدلة ضد هذا الرجل في الوقت الحالي، ومن ثمَّ لا يسعني فعل شيء سوى أن أريه أنني أضعه محلَّ شك، وسيكون من الحماقة فعل هذا. في حين أنني لو تواريتُ قليلًا، فسيحدث أمر من اثنَين؛ إما أن الظرف الذي ينبغي التخلُّص منِّي فيه (وهو ظرف مؤقَّت) سيمر، أو أنه سيُظهِر نفسه؛ أي سيضع دليلًا حاسمًا في يدي. حينها سنجد البندقية الهوائية، والدراجة، وربما مخزونًا قليلًا من السم، وأشياء أخرى أرى أنه ينبغي أن تكون موجودة، الأمر الذي سيشكِّل دليلًا قاطعًا، وإن كانت كل هذه الأشياء غير كافية بحدِّ ذاتها. والآن، أظنُّ أن عليَّ حقًّا فضَّ هذا الاجتماع، وإلا لن ننجز شيئًا من الأعمال غدًا.»