الفصل الثاني عشر

فرصة ضائعة

نحن الآن قبل أسبوع من التاريخ الذي كان من المقرَّر أن تبدأ فيه المحاكمة. في غضون ثمانية أيام، من شِبه المؤكد أننا سنكون قد وجدنا حلًّا للغز (إن كان له حل)؛ لأنه كان من المُتوقَّع أن تكون المحاكمة قصيرة، وبعدَها سيكون روبين هورنبي إما مجرمًا مدانًا أو رجلًا طليقًا، مبرأ الساحة من وصمة الجريمة.

وعلى مدار عدة أيام مضت، كان ثورندايك لا يُبارح المختبر، في حين أن غرفته الصغيرة الخاصة والمُكرَّسة عادةً لدراسة البكتيريا والعمل المجهري كانت دائمًا موصدة؛ أدَّت هذه الحال إلى تدهور حال بولتون العصبية إلى أقصى حد، خاصةً — كما أخبرني بسخط — حين التقى السيد أنستي وهو خارج من «قدس الأقداس» يبتسِم ويفرك يدَيه ويُطلق تعبيراتٍ لطيفةً وغير تقليدية تُعبِّر عن ارتياحه وسروره.

كنتُ قد التقيتُ أنستي في عدة مناسبات في المدة المنصرمة، وفي كل مرةٍ كان يروق لي أكثر من التي سبقتها؛ لأن طريقته الغريبة والمرحة كانت تعكس — كما هي الحال غالبًا — طبيعةً جادةً ورصينة؛ ولم أجِده رجلًا واسع العلم وحسب، بل وجدتُه كذلك يتمتَّع بمستوًى عالٍ فيما يخصُّ السلوك والتصرفات. وكان إعجابه بثورندايك غير محدود، ورأيتُ أن كِلا الرجُلين كانا يتعاونان بأقصى درجات الانسجام والارتياح المتبادل.

لكن على الرغم من أنني كنت أتعامل مع السيد أنستي بأقصى مشاعر الصداقة الحميمة، لم أكن مسرورًا على الإطلاق عندما رأيتُه، في الصباح الذي أكتب فيه هذه الكلمات، من نافذة غرفة جلوسنا، قادمًا عبر الساحة المرصوفة بالحصى من ناحية كراون أوفيس رو، وكان من الواضح أنه يتَّجه صوب مَقرِّنا. وذلك في حقيقة الأمر لأنني كنتُ في انتظار وصول جولييت، وكنتُ أفضِّل كثيرًا أن أكون وحدي في تلك اللحظة، حيث كان ثورندايك قد غادر بالفعل. صحيح أنه لم يكن من المُقرَّر وصول سيدتي الجميلة قبل نصف ساعة، لكن من كان يستطيع أن يتوقَّع المدة التي سيمكثها أنستي، أو ما يمكن أن يحدُث لي من ارتباكٍ وإحراج أثناء محاولاتي للهروب؟ من كل هذا يمكن إدراك أن مرَضي قد صار مُستفحلًا، وأنني لم أكن بارعًا في تكتيكات الكتمان والتمويه التي تُنسَب عادةً إلى النعامة.

أعلنَت طَرْقةٌ حادةٌ على قارعة الباب وصول مصدر همِّي وإزعاجي، وحين فتحتُ الباب، دلف أنستي إلى الداخل بأسلوب رجلٍ لا يضيره إن قضى ساعةً أو أكثر أو أقل قليلًا. صافحني بوقارٍ ساخر، وبعد أن جلس على حافة الطاولة، شرع يلفُّ لنفسه سيجارةً في تأنٍّ يُثير السخط.

وقال: «بوسعي أن أستنتج أن أخانا العلَّامة يُمارس تحرياته وأبحاثه السحرية في الطابق العلوي، أو ربما يكون قد خرج في جولة؟»

فأجبته: «لديه استشارة هذا الصباح. هل كان يتوقَّع قدومك؟»

«كلَّا البتة، وإلا لكان هنا. كلَّا، إنما عرجتُ لأسأل عن قضية صديقك هورنبي. أتعلم أن موعد المحاكمة الأسبوع المقبل؟»

«نعم؛ أخبرَني ثورندايك بذلك. ما رأيك في فُرَص هورنبي؟ هل سيُدان، أم ستُبرَّأ ساحتُه؟»

أجابني أنستي: «سيكون مستكينًا تمامًا، أما نحن …»، وهنا ضرب على صدره بقوة، وأضاف: «… فسنكفل له أن تُبرَّأ ساحته. سيروق لك الأمر كثيرًا يا صديقي العالِم، وسيُصاب «أعداؤنا» بدهشة بالغة.» ثم راح يفحص السيجارة التي انتهى من لفِّها بعينٍ ناقدة وضحك ضحكةً هادئة.

فعلَّقت أقول: «تبدو واثقًا للغاية.»

أجاب: «صحيح، وإن كان ثورندايك يرى أن الفشل أمرٌ ممكن؛ وهو كذلك بالفعل، إن كانت منصة هيئة المُحلَّفين تعجُّ بحمقى وأغبياء وتُبيِّن أن القاضي غير قادر على فهم أبسط الأدلة الفنية. لكننا نأمل ألَّا يحدُث أيٌّ من هذا، فإن لم يحدُث فسنشعر بالاطمئنان إلى حدٍّ كبير. بالمناسبة، آمُل أنني لا أبوح بأي سرٍّ من أسرار ربِّ عملك؟»

فأجبتُه بابتسامة: «في الواقع، لقد أفشيتَ لي بأكثر ممَّا أفشى ثورندايك في أي وقتٍ مضى.»

فهتف بقلق مصطنع: «حقًّا؟ إذن لا بد أن أجعلك تُقسم على التكتُّم على الأمر. ثورندايك كتوم للغاية … وهو مُحق في هذا أيضًا. لا يسعني أن أتوقَّف أبدًا عن الانبهار بتكتيكاته في السماح للعدوِّ بتحصين وتأمين المَدخل الذي لا ينوي أبدًا مهاجمته. لكن أرى أنك مُنزعج من وجودي وترغب في أن أذهب ولو إلى الجحيم؛ لذا، أعطِني سيجارًا وسأذهب إلى حال سبيلي … وإن كنتُ لن أذهب إلى الجحيم.»

فسألته بخُبث: «هل تقبل بواحدٍ من النوع الذي يُدخِّنه ثورندايك؟»

«ماذا! أقبل بواحدٍ من ذلك التبغ الهندي الكريه؟ إن ورق السجائر البُني موجود ومتاح في كل قرطاسيَّة؛ إنني لأُفضِّل أن أُدخِّن باروكتي!»

قدَّمتُ له علبة السيجار الخاصة بي، فاختار منها سيجارًا بعنايةٍ واستنشق رائحته كثيرًا؛ ثم ودَّعني بطريقةٍ رسمية ونزل الدَّرَجَ مغادرًا وهو يُدندن بلحنٍ من أحدث أوبرا كوميدية.

ولم تكد تمرُّ دقائق خمس على رحيله حتى جاء صوت قرعٍ رقيق على القارعة النحاسية الصغيرة جعل قلبي يثِب فرحًا. فجريتُ إلى الباب وفتحته، فظهرَت جولييت واقفةً أمامي على العتبة.

سألَت: «هل يُمكنني أن أدخل؟ أريد التحدُّث معك قليلًا قبل أن ننطلِق.»

نظرتُ إليها بشيءٍ من القلق؛ لأن الانزعاج كان جليًّا على ملامحها، وكانت يدُها التي مدَّتها لتُصافحني ترتجِف.

قالت جولييت، متجاهلةً الكرسي الذي كنت قد وضعتُه لها: «أنا في غاية الانزعاج يا دكتور جيرفيس. كان السيد لولي يُخبرنا برأيه عن قضية روبين المسكين، وأسلوبه أصابني بجزعٍ شديد.»

غمغمتُ قائلًا: «سحقًا للسيد لولي!» ثم أسرعت في تقديم اعتذاري. «لماذا ذهبتِ إليه يا آنسة جيبسون؟»

«لم أذهب إليه؛ بل هو من جاء إلينا. كان يتناول العشاء معنا ليلة أمس — هو ووالتر — وكان متشائمًا إلى أقصى حد. وبعد العشاء تنحَّى به والتر جانبًا وكنتُ معهما، وسأله عن رأيه بصراحة في القضية. كان شديد التشاؤم. إذ قال: «سيدي العزيز، النصيحة الوحيدة التي سأُقدِّمها لكم هي أن تُعِدوا أنفسكم قدْر استطاعتكم لاستقبال كارثة. من وجهة نظري أنه من شِبه المؤكَّد أن ابن عمومتكم سيُدان.» فقال له والتر: «لكن ماذا بشأن الدفاع؟ لقد فهمت أن ثمة على الأقل حجةً معقولة.» فهزَّ السيد لولي كتفَيه. وردَّ قائلًا: «لديَّ دفع بالغياب عن مسرح الجريمة لن يُجدي في شيء، لكنني لا أملك دليلًا أقدِّمه ردًّا على ما ستُقدِّمه جهة الادعاء، وليس لديَّ أي حُجة؛ ويُمكنني القول بكلِّ ثقةٍ إنني لا أعتقد أن ثمة حجةً متاحة. لا أرى كيف يمكن أن تكون هناك حُجة، كما أنني لم أسمع شيئًا من الدكتور ثورندايك يجعلني أعتقد أنه توصَّل إلى شيءٍ بخصوص هذه المسألة.» هل هذا صحيح يا دكتور جيرفيس؟ أرجوك! أخبِرني بحقيقة الأمر! لقد أُصِبت ببؤس ورُعب منذ سمعتُ بهذا، وقد كنتُ قبلها مفعمةً بالأمل. أخبِرني، هل هذا صحيح؟ هل سيُزَج بروبين إلى السجن في نهاية المطاف؟»

وفي خِضمِّ اضطرابها، وضعت يدَها على ذراعي ونظرت إلى وجهي وعيناها الرماديَّتان مغرورقتان بالدموع، وكانت مثيرةً للشفقة كثيرًا وفي غاية البراءة، وكانت أيضًا فاتنةً لدرجة أذابت كل تحفُّظ لديَّ كما يذوب الثلج في شمس الصيف.

أجبتُها، وقد أخذتُ يدَيها في يدَيَّ ومتحدثًا بحُكم الضرورة بنبرةٍ خفيضة حتى لا تفضحني عواطفي: «هذا ليس صحيحًا. إن كان هذا صحيحًا، فذلك يعني أنني خدعتكِ عن سابق قصدٍ ونية، وأنني كنتُ خائنًا لصداقتنا؛ ولن يعرِف أحد أبدًا مقدار ما تَعنيه صداقتنا لي.»

فاقتربت منِّي أكثر وكلَّمتني بأسلوبٍ ينمُّ عن أوبةٍ وتملُّق في آنٍ واحد.

«لن تغضب منِّي، صحيح؟ كان من الحماقة أن أستمع إلى السيد لولي بعد كل ما أخبرتني، كما أعلم أن الأمر يبدو قلَّة ثقةٍ فيك. لكنك يتعيَّن على مَن في قوتك ورصانتك أن يكون متسامحًا مع امرأةٍ مثلي لا تملك هذه ولا تلك. إن الأمر فظيع للغاية لدرجة أنني أشعر بتوتُّر شديد؛ لكن أخبرني أنك غير مُستاء منِّي بحق؛ لأن هذا هو أكثر ما سيُؤلِمني.»

أواهٍ يا دليلتي! أودت تلك الضربة الأخيرة بكل شيء، وخلَّفتني فعليًّا بلا حول ولا قوة. ومنذ تلك اللحظة صرتُ تحت رحمتها، وكنتُ على استعدادٍ أن أُفشي كل أسرار رئيسي عن بكرتها دون تردُّد، لكن ذلك السيد النبيل كان قد وضعني في مكانةٍ لا تصِل إليها يد الغواية.

فأجبتُها: «فيما يخصُّ الغضب منكِ، فأنا لستُ ممَّن يحاولون تحقيق المُستحيل كثورندايك، وإن استطعتُ أن أغضب منكِ فسيؤلمني هذا أكثر مما سيؤلِمكِ. لكن في واقع الأمر، لا يمكن أن أضع عليكِ أي لوم، وأنا قاسٍ وأناني. لا بد بالطبع أن تشعري بالانزعاج والقلق؛ هذا أمر طبيعي للغاية. لذا دَعيني أُخلصكِ الآن من هذه المخاوف وأعيد لك الثقة.

لقد أخبرتكِ أن ثورندايك قال لروبين إنه يرى أملًا كبيرًا في إثبات براءته أمام الجميع. كان ينبغي لهذا وحدَه أن يكون كافيًا.»

غمغمت جولييت بأسًى: «أعلم أنه كان ينبغي له أن يكون كذلك؛ أرجوك، اغفر لي قلة ثقتي.»

تابعتُ قائلًا: «ولكن، يُمكنني اقتباس كلمات من شخصٍ ستضعين لرأيه وزنًا كبيرًا. كان السيد أنستي هنا قبل أقل من نصف ساعة …»

«أتقصد المستشار القانوني لروبين؟»

«نعم.»

«وماذا قال؟ أخبرني بسرعة ما قاله.»

«باختصار، قال إنه واثق أنه سيكفل لروبين تبرئة ساحته، وأن جهة الادعاء ستجد مفاجأةً كبرى. وقد بدا مسرورًا للغاية بما قال، كما تحدَّث عن ثورندايك بإعجابٍ كبير.»

«هل حقًّا قال إنه … إنه واثق من تحقيق البراءة؟» كان صوتها متذبذبًا وأنفاسها منقطعة، ومن الواضح أنها كانت متوتِّرة، كما ذكرت. وتمتمت في غير ترابُط: «يا له من أمر باعث على الارتياح، ولُطف كبير جدًّا منك!» ثم مسحت عينَيها وضحكت ضحكةً غريبة، ضحكة صغيرة مهزوزة؛ ثم فجأة، انجرفت في فورةٍ من النحيب.

لم أعِ تمامًا ما فَعَلْت، فقد جذبتها بلُطف نحوي، وأرخيت رأسها على كتفي بينما همست في أُذنها كلمات مواساة؛ لكنني واثق أنني خاطبتها ﺑ «عزيزتي جولييت»، وربما استخدمتُ تعبيرات أخرى غير مناسبة وأستحقُّ اللوم عليها على حدٍّ سواء. بعد قليل عادت إلى رُشدها، وبعد أن كفكفت دموعها، نظرت إليَّ بخجل، واحمرَّ وجهها احمرارًا شديدًا، لكنها رغم ذلك كانت تبتسِم ابتسامةً في غاية العذوبة.

وقالت: «أنا خجلة من نفسي، أنني أتيتُ إلى هنا وبكيتُ على صدرك وكأنني طفلة كبيرة. آمُل أنَّ عملاءك الآخرين لا يتصرَّفون بمِثل هذه الطريقة.»

وعندئذٍ ضحك كلانا ضحكًا من القلب، واستعدنا توازُن انفعالاتنا وعواطفنا، وشرعنا نتطرَّق إلى موضوع لقائنا.

قالت جولييت وهي تنظُر في ساعتها: «أخشى أنني ضيعتُ وقتًا كثيرًا. سنتأخَّر بسبب هذا، ألَا تظن ذلك؟»

فأجبتها: «آمُل ألَّا نتأخَّر؛ لأن روبين سيبحث عنا؛ لكن يجب أن نُسرع.»

أخذتُ قبعتي وخرَجْنا بعد أن أغلقتُ الباب الخارجي خلفنا، ورُحنا نسير في شارع كينجز بينتش ووك في صمت، لكن بإحساسٍ جديد ومُبهج بالرفقة الحميمية. وكنت بين الحين والحين أُطالع رفيقتي وأُلاحظ أن وجنتها كانت لا تزال محمرَّة من الخجل، وحين كانت تنظر إليَّ، كنتُ أرى لمعةً في عينها، وعذوبةً باسمةً في التفاتتها تُثيران قلبي حتى صرتُ أرتعش هُيامًا حتى إنني كنتُ في حاجةٍ لأن أخفي ما بي وأكتُمه. وحتى عندما كنت أشعر أنني لا بد أن أُخبرها بكلِّ شيءٍ وأنتهي من الأمر، أن أُخبرها أنني عبدها المُتيَّم، وأنها معبودتي ومليكتي؛ وأنه ما مِن رجلٍ يمكن أن يكون له حقٌّ فيها أمام ما أُكِنُّه لها من حب؛ حتى في ظلِّ هذا، كان لا يزال هناك صوت ضئيل بداخلي يُناديني بالموظف الخائن للثقة، ويُذكِّرني بما عليَّ من واجبٍ وما نِلته من ثقة، وأن هذَين أكثر قدسيةً حتى من الحب.

وفي شارع فليت ناديتُ على عربة أجرة، ولمَّا جلستُ إلى جانب رفيقتي الجميلة، بدأ الصوت يتعاظم ويُحدِّثني بنبرةٍ أكثر جرأةً وصرامة.

قال الصوت: «كريستوفر جيرفيس، ما هذا الذي تفعله؟ هل أنت رجل تتمتَّع بالشرف، أم أنك مجرد شخصٍ حقير مُثير للشفقة؟ أنت الوكيل الموثوق لهذا الشاب النبيل المسكين المظلوم، ألست تُخطِّط في أعماق قلبك الأسود أن تسرق منه مَن هي عنده أغلى من حُريَّته، بل ومِن شرفه، إن كان به مروءة؟ عارٌ عليك أن تفعل هذا برجلٍ بائس مغلوب على أمره! توقف عن هذه المُغازلة والْتزم بعهودك كالرجال النبلاء، أو على الأقل كالرجال الأمناء!»

في هذه اللحظة مِن استغراقي في التأمُّل، التفتت جولييت إليَّ بابتسامةٍ مُتلطِّفة.

وقالت: «يبدو أن مستشاري القانوني غارق في تأمُّل أمرٍ عميق ووجيه.»

فجمعت شتات نفسي ونظرتُ إليها — نظرت في عينَيها المُتلألئتَين ووجنتَيها المُحمرَّتين اللتَين تُزيِّنهما غمَّازتان رقيقتان، ما أشدَّ فتنتهما وجاذبيتهما!

قلت في نفسي: «بحقكَ، لا بدَّ أن أضع حدًّا لهذا الأمر في الحال، وإلا فأنا من الضَّالين.» لكن الأمر كلَّفني مجهودًا شاقًّا للغاية لأفعله؛ وأنا واثق أن مَن سيتولَّون الحكم عليَّ سيضعون في اعتبارهم ما مررتُ به من مشقَّةٍ وألَم.

فقلت: «مستشاركِ القانوني أيتها الآنسة جيبسون (ولمَّا أشرتُ إليها بالآنسة جيبسون، أعتقد أنها نظرت إليَّ بشيءٍ من الاستغراب) كان يُفكِّر في أنه قد تجاوز حدود نفوذه وسلطاته تجاوزًا كبيرًا.»

فسألتني: «من أي ناحية؟»

«من ناحية إخباركِ بمعلوماتٍ اطَّلَعَ عليها في سريَّةٍ تامة للغاية، وأيضًا مع وعدٍ ضمني بالتزام السرية من جانبه.»

«لكن المعلومات لم تكن ذات طابعٍ سري، أليس كذلك؟»

«بل سرِّية أكثر ممَّا بدا. فكما تعلمين، يرى ثورندايك أن من المُهم للغاية ألَّا يدع جهة الادعاء تظنُّ أن في جعبته شيئًا، لدرجة أنه تَعَمَّد عدم إطلاع حتى السيد لولي على أي شيء، كما أنه لم يُخبرني مطلقًا عن الأمر بقدْر ما أخبرَني به أنستي هذا الصباح.»

«والآن أنت نادم على أنك أخبرتني؛ تظنُّ أنني أغويتكَ لتخون هذه الثقة. أليس كذلك؟» لم يكن في كلامها أي أثر لحدةٍ أو غضب، وجعلتني نبرتها الوقورة اللائمة لذاتها أشعر بأنني حقير بحق.

فاعترضتُ قائلًا: «عزيزتي الآنسة جيبسون، أنتِ تُسيئين فهمي تمامًا. لستُ نادمًا على الإطلاق على أنني أخبرتكِ. هل كان بإمكاني فعل شيء آخر في ظلِّ تلك الظروف؟ لكنني أريد منكِ أن تفهمي أنني أتحمَّل مسئولية إخباركِ بما يُعَد سرًّا مهنيًّا بحق، وأريد منك أن تعتبري ما أخبرتكِ به هكذا.»

أجابت جولييت: «هكذا فهمتُ الأمر؛ ويمكنك أن تثِق في أنني لن أنبس ببنت شفة لأي أحدٍ عن أي شيءٍ منه.»

شكرتُها على وعدِها الذي قَطَعَته، ثم، لكي أفتح معها مواضيع للنقاش، قصصتُ عليها تفصيلًا ما كان من زيارة أنستي، ولم أحذف حتى مسألة السيجار.

سألتني جولييت: «وهل سيجار الدكتور ثورندايك سيئ لهذا الحد؟»

فأجبتُها: «على الإطلاق، إنما لكل رجلٍ ذوقه. فسيجار شيروت الهندي يُمثِّل تسليةً لثورندايك، وحَريٌّ أن أقول إنه يُدخِّنه باعتدالٍ لا بشراهة. في الظروف العادية، يدخِّن ثورندايك الغليون؛ لكن بعد إنجاز عملٍ كبير في يومٍ ما، أو إن كانت ثمَّة مناسبة تدعو للاحتفال والابتهاج، فإنه يدخِّن السيجار الهندي ويدخِّن أفضل ما يمكن الحصول عليه.»

فقالت جولييت: «إذن هناك نقطة ضعف حتى لأعظم الرجال؛ أتمنَّى لو كنت عرفت الدكتور ثورندايك في وقتٍ أبكر؛ لأنه كانت قد أُهديت علبة كبيرة من سيجار شيروت الهندي هذا للسيد هورنبي، وأعتقد أنه كان مُمتازًا بدرجةٍ استثنائية. رغم هذا، جرَّبه السيد هورنبي ولم يُعجبه؛ لذا أعطى العلبة بكامِلها إلى والتر، الذي يُدخِّن كل ما تقع عليه يدُه من السيجار بأنواعه وحالاته.»

هكذا أخذنا نتحدَّث وننتقِل بين الموضوعات، وكل موضوع نتطرَّق إليه يكون تقليديًّا أكثر من الذي سبقه. وقد بالغتُ في أداء واجبي في هذا الشأن بفعل ما كنتُ أشعر به من عصبية واضطراب، وبعد أن كسرتُ ثلج التوتر فيما بيننا، رحتُ أهشِّمه إلى شظايا لا يمكن للعقل إدراكها. وفي محاولاتي لأن أكون فقط غير عاطفي وأن أتجنَّب الحميمية المُفرطة في سلوكي، صرتُ على النقيض فأصبحتُ قاسيًا وجامدًا تقريبًا؛ ومن المُحتمل أن معاناتي الناتجة عن قمع مشاعري زادت من قسوتي وجمودي.

في تلك الأثناء، كان ثمة تغييرٍ مُماثل يحدُث لرفيقتي. في البداية بدت من مسلكها مرتابةً ومُتحيرة؛ ثم صارت أكثر تحفظًا وتهذيبًا وأقل رغبةً في الحديث. ربما بدأ ضميرها يؤنِّبها، أو ربما كان برودي هو ما أشعرها بأن مسلكها لم يكن من النوع الذي سيُعجِب روبين. لكن أيًّا كان الأمر، استمررنا في التباعُد شعوريًّا أكثر فأكثر؛ وفي غضون نصف الساعة تلك عدنا على خُطى طريق صداقتنا المُتنامية الذي كنا قد قطعناه، حتى إننا حين نزلنا من عربة الأجرة عند بوابة السجن، بدَونا غريبَين عن بعضنا أكثر من أول يوم التقَينا فيه. كانت هذه نهايةً بائسة لرفقتنا السارة والسعيدة، لكنَّ أي نهايةٍ أخرى يتوقَّعها المرء في هذا العالم المُتعارِض الغايات، والمليء بالأشياء التي كان مِن المُمكن أن تحدث؟ ومن شدَّة ما كان بي من بؤس، كان يمكن أن أبكي على صدر الحارس البدين الذي فتح لنا الباب الصغير، مثلما بكت جولييت على صدري؛ وقد شعرتُ بما يُشبه الارتياح حين انتهت زيارتنا القصيرة، ووجدتُ أننا لن نعود معًا كعادتنا إلى كينجز كروس؛ لأن جولييت ستعود بالحافلة لتتسوَّق في شارع أكسفورد وستتركني لأسير إلى البيت وحيدًا.

رافقتُها إلى الحافلة واطمأننتُ عليها، ووقفتُ على الرصيف أنظر بحزن إلى المركبة المُتثاقلة وهي تغيب. وفي الأخير، بعد أن أطلقتُ زفرةً من شدة اليأس، وجَّهت وجهي صوب المنزل، ورحت أسير وكأنني في حلم، عائدًا أدراجي في الطريق الذي كنتُ قد قطعتُه كثيرًا في الآونة الأخيرة بينما كانت تُخالجني مشاعر مختلفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥