الفصل الرابع عشر

اكتشاف مذهل

أخيرًا حلَّ صباح يوم المحاكمة الذي قد طال انتظاره، وسلسلة الأحداث التي كانت مُهمتي تسجيلها في هذا السرد كانت الآن تقترب بسرعة من نهايتها. كانت هذه الأحداث عميقة التأثير والأهمية على نفسي. فهي لم تنقلني فحسب من حياةٍ روتينية رتيبة إلى حياةٍ مشحونة بالتجديد والمواقف المُثيرة والجذابة؛ ولم تُقدِّمني وحسب إلى نهضةٍ ثقافية علمية وأعادت إحياء الأُلفة والمودَّة بيني وبين رفيق دراستي في ظروفٍ جديدة؛ بل كان الأمر الأهم من ذلك بكثيرٍ أن هذه الأحداث أمَدَّتني برؤية، خاطفةٍ للغاية، لسعادة لم تتحقَّق، وبواقعٍ من الأسى والمرارة يُبشِّر أنه سيفوق التحمُّل.

وهكذا في ذلك الصباح، كانت أفكاري مشوبةً بشيءٍ من الكآبة. كان فصل في حياتي على وشك أن ينتهي بحلوِه ومرِّه، فرأيتُ نفسي مرةً أخرى كبَني إسماعيل، أعيش على الهامش هائمًا وغريبًا بين الناس.

ومع ذلك، سرعان ما تبدَّدت هذه الحالة الذهنية المُتمحورة حول الذات حين قابلتُ بولتون؛ لأن الرجل الضئيل الجسم كان في حالةٍ من الإثارة الحقيقية النابعة من توقُّعه لأن يشهد حلَّ الألغاز التي أنهكت فضوله؛ وحتى ثورندايك نفسه كانت تبدو عليه، من خلف ستار هدوئه المعتاد، لمحةٌ من الأمل والترقُّب السار.

قال، لمَّا جلسنا نتناول الإفطار: «لقد سمحت لنفسي أن أُجري بعض التدابير والترتيبات نيابةً عنك، وآمُل ألَّا تُعارضها. لقد أرسلت إلى السيدة هورنبي، التي ستكون من بين الشهود، أخبِرها أنك ستلتقي بها في مكتب السيد لولي وأنك ستُرافقها هي والآنسة جيبسون إلى المحكمة. وربما يكون والتر هورنبي معهما، وإن كان حقًّا معهما، فمِن الأفضل أن تترُكه، إن أمكن، ليأتي مع السيد لولي.»

«لن تذهب إلى المكتب إذن؟»

«كلَّا. سأذهب إلى المحكمة مباشرةً مع أنستي. علاوةً على ذلك، أتوقَّع وصول المُفتِّش ميلر من سكوتلانديارد، الذي من المُرجَّح أن يُرافقنا سيرًا إلى المحكمة.»

قلت: «يسرُّني سماع هذا؛ لأنني كنتُ أشعر بالقلق إلى حدٍّ ما من فكرة أن تسير بين الناس من دون أي شكلٍ من أشكال الحماية.»

«أنت ترى أنني أتَّخذ تدابير احترازيةً في مواجهة اعتداءات فلان العبقري، ولكي أصدقك القول، لن أسامح نفسي أبدًا إذا سمحتُ له أن يقتلني قبل أن أُكمل الدفاع عن روبين هورنبي، بغض النظر عمَّا في قولي هذا من تناقُض بياني. ها هو بولتون؛ إن ذلك الرجل شديد الحماس والهمَّة هذا الصباح؛ فمنذ أتى وهو يجوب الشقة، وكأنه قطة في منزلٍ جديد عليها.»

فقال بولتون مبتسمًا وبلا خجل: «هذا صحيح يا سيدي، لا جدوى من إنكار الأمر. لقد أتيتُ أسألك عما سنأخذه معنا إلى المحكمة.»

فأجابه ثورندايك: «ستجد صندوقًا وحافظةً على الطاولة في غرفتي. من الأفضل أيضًا أن نأخُذ ميكروسكوبًا وأجهزة الميكرومتر، وإن كان من المُستبعَد أن نحتاجها؛ هذا كل شيءٍ على ما أظن.»

كرَّر بولتون قوله بنبرةٍ متأمِّلة: «صندوق وحافظة. حسنٌ يا سيدي، سآخُذهما معي.» ثم فتح الباب وكان على وشْك أن يخرج، لكنه استدار راجعًا لمَّا رأى زائرًا يصعد الدرج.

«لقد وصل السيد ميلر من سكوتلانديارد يا سيدي؛ هل أُدخله؟»

«أجل أَدخِله.» ثم نهض من كرسيه بينما دلف من الباب رجل طويل البِنية يبدو مظهره عسكريًّا وألقى التحية وهو ينظر، في الوقت نفسه، نحوي بنظرةٍ مُستفسرة.

وقال بنبرة نشيطة: «صباح الخير يا دكتور. لقد وصلني خطابك ولم أفهم منه الكثير، لكنني أحضرتُ معي رجلَي شرطة بثيابٍ مدنية ورجلًا ثالثًا بزيٍّ رسمي كما أشرتَ. وأفهم أنك تريد مراقبة أحد المنازل، صحيح؟»

«أجل، ورجل أيضًا. سأعطيك التفاصيل قريبًا؛ هذا إن كنتَ تظنُّ أنك يمكن أن توافق على شروطي.»

«وهي أن أتصرَّف من تلقاء نفسي تمامًا وألَّا أتواصل مع أي أحد، أليس كذلك؟ بالطبع أُفضِّل أن تُطلعني على كل التفاصيل وتدعني أتصرَّف بالطريقة المعتادة؛ لكن إن كان لديك شروط فليس أمامي خيار سوى الموافقة عليها؛ فأنت من يملك زمام الأمور.»

ولمَّا رأيتُ أن الأمر بينهما ذو طبيعة سرية، وجدتُ أن من الأفضل أن أغادر، وقد فعلتُ بمجرد أن عرفت أن أمامي نصف ساعة على لقائي بالسيدة هورنبي وجولييت في مكتب المحامي.

استقبلني السيد لولي بتوتُّر يقترِب من العداء. كان من الواضح أنه كان يشعر بإهانةٍ شديدة من صغر الدور الذي أُجبِرَ على أن يضطلع به في القضية، ولم يبذل الرجل جهدًا لإخفاء هذا.

قال بنبرة باردة حين شرحتُ له مهمتي: «أُبلِغتُ أن السيدة هورنبي والآنسة جيبسون ستقابلانك هنا. لم أرتِّب لهذا؛ ولم أرتِّب لأي شيءٍ في هذه القضية. لقد عوملتُ طوال الوقت بانعدام كياسة وبقلَّة ثقةٍ ترقى إلى مستوًى مشين. حتى في هذه اللحظة، ورغم أنني محامي الدفاع، فإنني أجهل تمامًا الدفاع المُزمَع، وإن كنت أتوقَّع أن أكون مشاركًا في إخفاق كبير. أنا واثق تمامًا من أنني لن تكون لي صِلة بأيٍّ من الأطباء الهُجن من بني مِهنتك. هناك شعار لاتيني مُمتاز يقول: «من تكلَّم في غير فنه أتى بالعجائب».»

فرددت: «يبقى أن نرى نوعية العجائب التي سيُقدِّمها.»

أجاب: «وهو كذلك؛ لكنني أسمع صوت السيدة هورنبي في المكتب الخارجي، وحيث إننا لا نملك أي وقتٍ نُضيعه في الدردشة العابرة، أقترح أن تمضي في طريقك إلى المحكمة من دون تأخير. أتمنَّى لك صباحًا طيبًا!»

واستجابةً لتلميحه الصريح والمباشر، خرجتُ إلى مكتب الكاتب حيث وجدت السيدة هورنبي وجولييت، وكان جليًّا أن السيدة هورنبي كانت باكيةً ومذعورة، بينما كانت جولييت هادئةً وإن كانت تبدو شاحبةً ومضطربة.

فقلت بعد أن تبادلنا التحيَّات: «من الأفضل أن ننطلِق من فورنا. هل نستأجِر عربة أجرة أم نذهب سيرًا؟»

فقالت جولييت: «أظن أننا سنذهب سيرًا إن كنتَ لا تمانع. تريد السيدة هورنبي أن تُحدِّثك قليلًا قبل أن ندخل المحكمة. أنت تعرف أنها أحد الشهود، وهي فزعة من أنها قد تقول شيئًا يُسيء إلى موقف روبين.»

فسألتها: «من الذي جاء باستدعاء المثول؟»

فردَّت السيدة هورنبي: «أرسله السيد لولي، وقد ذهبت لزيارته في اليوم التالي مباشرة، لكنه لم يُوضِّح لي أي شيء؛ لم يبدُ أنه يعرف سبب استدعائي، ولم يكن على الإطلاق لطيفًا معي، لم يكن لطيفًا على الإطلاق.»

فقلت: «أتوقع أن تكون لشهادتكِ علاقة بسجلِّ بصمات الإبهام. فليس لديكِ أي معرفة بأي شيءٍ آخر ذي صِلة بالقضية.»

هتفت السيدة هورنبي: «هذا بالضبط ما قاله والتر. ذهبتُ إلى شقته لأتحدَّث معه في الأمر. إنه في غاية الانزعاج بشأن المسألة كلها، ويؤسِفني أن أقول إنه متشائم من فُرَص روبين المسكين في النجاة. آمُل فقط أن يكون مخطئًا! وا حسرتاه! يا له من أمر مروع بحق!» وهنا توقَّفت السيدة المكلومة عن الحديث لتمسح عينَيها طويلًا، الأمر الذي أثار دهشة وازدراء ساعٍ كان مارًّا بنا.

أردفت السيدة هورنبي: «كان مُراعيًا وشفوقًا — أقصد والتر كما تعرف — وكان في غاية التعاون. فقد سألني عن كل ما أعرفه عن هذا السجل الصغير البغيض، وأخذ يدوِّن إجاباتي. ثم كتب لي الأسئلة التي من المُرجَّح أن تُطرَح عليَّ، ودوَّن إجاباتي عليها؛ حتى يتسنَّى لي تكرار قراءتها وحفظها حفظًا جيدًا. كان هذا تصرُّفًا نبيلًا من جانبه! وطلبت منه أن يطبع الأسئلة والإجابات بآلته حتى يتسنَّى لي قراءتها من دون نظارتي، وقد طبعها بالفعل طباعةً جميلة. الورقة معي في جيبي هنا.»

فقلت لها: «لم أكن أعرف أن السيد والتر قد اتَّجه لمجال الطباعة. هل يملك آلة طباعة عادية؟»

ردَّت السيدة هورنبي: «ليست آلة طباعة بالضبط؛ إنها آلة صغيرة بها الكثير من المفاتيح المستديرة التي تضغط عليها — أعتقد أن اسمها ديكنسبليرفير — اسم سخيف، أليس كذلك؟ اشتراها والتر من أحد أصدقائه الأدباء قبل نحو أسبوع؛ لكنه يزداد مهارةً في التعامُل معها، رغم أنه ما زال يرتكب بعض الأخطاء كما ترى.»

ثم توقفَت عن الحديث مرةً أخرى وشرعت تبحث عن فتحة جيب متوارية في مكانٍ خفي في ملابسها، وهي غير واعية على الإطلاق لتأثير ما قالته علي. لأنها فور أن تحدثت، جالت بخاطري كالبرق إحدى النقاط التي قدَّمها لي ثورندايك لتحديد هُوية فلان المجهول. «من المُرجح أن فلانًا اشترى حديثًا آلة كاتبة مستعملة من ماركة بليكنسدرفير، مزوَّدةً بعجلة طباعة أدبية.» كانت المصادفة عجيبة، بل ومدهشةً حتى، على الرغم من أنني اقتنعتُ بعد التأمُّل للحظة أن الأمر لا يتجاوز كونه مجرد مصادفة؛ لأنه لا بد أنه يوجَد مئات من آلات بليكنسدرفير المستعملة في السوق، وفيما يخصُّ والتر هورنبي، فلا يمكن أن يكون على خلاف مع ثورندايك، بل إن من مصلحته أن يكون ثورندايك سليمًا ومعافًى لصالح روبين.

عصفت هذه الأفكار بخاطري عصفًا سريعًا، لدرجة أنني كنت قد أفقتُ من صدمة التذكُّر حين وجدَتِ السيدة هورنبي ضالَّتها في جيبها.

وهتفت بانتصارٍ وهي تُخرِج محفظةً مغربيةً ممتلئة: «آه! ها هي. لقد وضعتها هنا لضمان سلامتها؛ فأنا أعرف كم يمكن للمرء أن يتعرَّض للنشل في شوارع لندن المزدحمة هذه.» ثم فتحت المحفظة المكتنزة ومدَّتها وكأنها تُمسك أوكورديون، فظهرت بداخلها أقسام كثيرة، كلها محشوة بقطع من الورق ولفائف من شرائط وحرير يُستخدَم في الخياطة، وأزرار، وعيِّنات من خامات ملابس وأشياء أخرى زهيدة متنوعة، وقد اختلط كل ذلك بصورة عشوائية بعملاتٍ معدِنية من الذهب والفضة والنحاس.

وقالت وهي تُعطيني ورقةً مطوية: «انظر في هذه الورقة يا دكتور جيرفيس، وقل لي رأيك في إجاباتي.»

ففتحت الورقة وقرأت: «لجنة جمعية حماية المعتوهين العاجزين، بتقديم هذه …»

«أوه! ليست هذه الورقة المنشودة؛ لقد أعطيتك ورقةً خاطئة. يا لي من سخيفة! هذه مناشدة … تذكرين يا عزيزتي جولييت ذلك الرجل المزعج … كان عليَّ أن أتعامل معه بوقاحة شديدة يا دكتور جيرفيس؛ اضطُررت لأن أخبره أن الأقربين أولى بالمعروف، رغم أننا — وأشكر الرب على هذا! — ليس بيننا عاجز أو مشلول، لكن لا بد لنا أن نضع أهلنا في اعتبارنا، صحيح؟ ثم …»

فقاطعَتها جولييت وقد بدا على وجنتها الشاحبة أثر طفيف لغمازتها: «أتظنين أن هذه هي الورقة المنشودة يا عزيزتي؟ تبدو هذه هي الأنظف من بين الأوراق الأخرى.»

وانتقت ورقةً مطويةً من المحفظة التي كانت السيدة هورنبي تمسك بها بيدَين ممدودتَين عن آخرهما، وكأنها على وشك أن تعزف فجأةً قطعةً موسيقية، ثم فَتَحَتْها ونَظَرَتْ في محتواها.

وقالت: «نعم، هذه هي شهادتكِ»، ومرَّرت لي الورقة.

أخذتُها من يدها، ورغم الاستنتاج الذي كنتُ قد وصلت إليه، رحتُ أفحصها بفضول شديد. ومن النظرة الأولى شعرتُ برأسي يدور وقلبي يخفق بشدة. لأن نص عنوان الورقة كان: «شهادة بخصوص سجل بصمات الإبهام»، وفي كل مرة تكرَّر فيها حرف e صغير في هذه الجملة، رأيت بوضوح وبمساعدة الضوء الخارجي فاصلًا أو مسافة عند قمة عُقْدة الحرف.

صُعِقتُ ممَّا رأيت.

أن تقع مصادفة واحدة، فهذا أمر ممكن بل ومُحتمَل حتى؛ لكن أن تقع صدفتان، وتكون المصادفة الثانية بهذه السمة البارزة، فهذا أمر يتجاوز حدود المعقول والمُحتمَل. كان التماثُل لا يدع مجالًا للشك، ومع هذا …

«يبدو أن مستشارنا القانوني مشغول البال بعض الشيء»، هكذا علَّقت جولييت بشيءٍ من أسلوبها المرح القديم؛ وفي الواقع، ورغم أنني كنتُ أُمسك بالورقة في يدي، كان بصري زائغًا ومثبتًا على عمود إنارة مجاور. وبينما كانت جولييت تتكلَّم، استجمعتُ شتات نفسي ونظرتُ في الورقة نظرةً سريعة، وكنت محظوظًا بما يكفي لأن أجد في الفقرة الأولى شيئًا يتطلَّب التعليق.

فقلت: «ألاحظ، يا سيدة هورنبي، أنه في السؤال الأول الذي يقول «متى حَصَلْتِ على سجل بصمات الإبهام؟» أنكِ أجبتِ: «لا أتذكَّر بوضوح؛ لا بد أنني ابتعتُه من كشك للكتب في محطة قطار». وكما فهمتُ كان والتر هو من جاء به إلى المنزل وأعطاكِ إياه.»

أجابت السيدة هورنبي: «هذا ما كنتُ أظنه، لكن والتر أخبرني أن الأمر لم يكن على هذا النحو، وبالطبع ذاكرته أفضل مني.»

قاطعتها جولييت: «لكن يا عمتي العزيزة، أنا واثقة من أنه أعطاكِ إياه. ألَا تتذكَّرين؟ كان ذلك ليلة استضفنا آل كولي على العشاء، وكنا تحت ضغطٍ شديد لإيجاد شيءٍ يُسلِّيهم، حين جاء والتر وأخرج سِجل بصمات الإبهام.»

فقالت السيدة هورنبي: «نعم، أتذكَّر جيدًا جدًّا الآن. من حُسن الحظ أنكِ ذَكَّرتِني. لا بد أن نُعدِّل هذه الإجابة على الفور.»

قلت: «لو كنتُ مكانكِ يا سيدة هورنبي، سأتجاهل هذه الورقة تمامًا. هذه الورقة ستُصيبكِ بالحيرة وستضعكِ في مواقف صعبة. أجيبي على الأسئلة التي تُطرح عليكِ بأفضل ما يُمكنكِ، وإن كنتِ لا تتذكَّرين، فقولي ذلك.»

قالت جولييت: «أجل، هذه الخطة هي الأفضل. دعي الدكتور جيرفيس يتولى أمر الورقة وعوِّلي على ذاكرتكِ.»

ردَّت السيدة هورنبي: «حسنٌ يا عزيزتي. سأفعل ما تريان أنه الأفضل، ويمكنكَ الاحتفاظ بالورقة يا دكتور جيرفيس، أو يمكنكَ أن تتخلَّص منها.»

دسستُ الورقة في جيبي من دون تعليق، وتقدَّمنا في طريقنا، فكانت السيدة هورنبي تُثرثر وبين الحين والحين تنخرِط في نوباتٍ من الانفعالات، أما جولييت فكانت صامتةً وشاردة. وقد جاهدتُ كثيرًا لتركيز انتباهي على محادثة السيدة العجوز، لكن أفكاري ظلَّت تعود إلى الورقة التي في جيبي، وما يبدو أنها كانت تُمثِّله من حلٍّ مُذهل لِلُغز السيجار المسموم.

هل يمكن حقًّا أن يكون والتر هورنبي هو ذلك الوغد المجهول؟ بدا ذلك مُستحيلًا؛ لأنه، حتى هذه اللحظة، لم يبدُ أن ثمة شكًّا واحدًا كان يحوم حوله. رغم هذا، لا يمكن إنكار أن وصفه يتطابق بشكلٍ بارز للغاية مع فلان المُفترَض. فهو رجل ذو نفوذ ومكانة اجتماعية؛ كما أنه يتمتَّع بمعرفة غزيرة ومهارة ميكانيكية، وإن كنتُ لا أستطيع الجزم بشأن فطنته وحصافته. كما أنه اشترى مؤخرًا آلة بليكنسدرفير مستعملة، مزودةً على الأرجح بعجلة طباعة أدبية، وذلك استنادًا إلى أنه اشتراها من رجلٍ يمتهِن الأدب؛ إضافةً إلى أن هذه الآلة كانت تطبع الحرف e بالعلامة المُميزة المعروفة. أما النقطتان المُتبقيتان من النقاط الستِّ فكانتا مُبهمتَين. لم أستطع أن أكوِّن رأيًا بالطبع بشأن ما إن كان ثورندايك يحوز على معلومات خاصة عنه، وفيما يتعلَّق بمعرفته بعادات صديقي، كنتُ في البداية أميل إلى التشكُّك في ذلك حتى تذكَّرت فجأة، وبانقباضٍ مؤلِم سَبَّبَه الندم ولوم الذات، التفاصيل المختلفة والكثيرة التي كنتُ قد تحدَّثت فيها مع جولييت والتي يمكن أن تكون قد نقلتْها إلى والتر بسهولةٍ وببراءة تامَّة. على سبيل المثال، كنت قد أخبرتُ جولييت تفضيل ثورندايك لسيجار شيروت الهندي، فربما تحدَّثت هي عن هذا بصورةٍ طبيعية معه، وكان هو يملك منه عددًا كبيرًا. وفيما يتعلَّق بوقت وصولنا محطة كينجز كروس، فكنت قد أخبرتها عنه في رسالة لم تكن سريةً أو خاصة بيننا بأي شكلٍ من الأشكال، ومرةً أخرى لا أجد سببًا يمنع أن تنتقِل هذه المعلومة إلى والتر الذي كان ينبغي أن يكون أحد الحضور في العشاء العائلي. في الحقيقة، بدت المصادفة مكتملةَ الأركان بالشكل الكافي؛ ورغم هذا، كان مِن غير المعقول أن يكون ابن عم روبين شريرًا وأسود القلب بهذا الشكل، أو أن يكون لدَيه دافع لارتكاب مِثل هذه الجرائم الخسيسة.

وفجأة، خطرت لي فكرة جديدة. كانت السيدة هورنبي تستطيع الوصول إلى هذه الآلة الكاتبة؛ وإذا كانت السيدة هورنبي تستطيع أن تفعل ذلك، فما الذي يمنع جون هورنبي من الوصول إليها؟ إن الأوصاف في معظم نقاطها تُطابق الرجل العجوز كما تطابق الشاب، وإن كنت لا أملك أي دليلٍ على أن الرجل يتمتَّع بمهارةٍ ميكانيكية خاصة؛ لكن شكوكي كانت قد اجتمعت حوله حقًّا، وتذكَّرتُ أن ثورندايك لم يرفض بأي شكلٍ نظريتي التي كانت تربطه بالجريمة.

هنا، اقتحمت السيدة هورنبي خلوة تأمُّلي؛ إذ أمسكت بذراعي وأطلقت أنينًا عميقًا. كنا قد وصلنا إلى زاوية أولد بايلي، وكانت أمامنا الآن جدران سجن نيوجيت الكالحة. داخل تلك الجدران، كنتُ أعرف — رغم أنني لم أذكر هذه الحقيقة — أن روبين هورنبي كان محبوسًا مع مساجين آخرين ممَّن ينتظرون محاكماتهم؛ وبنظرةٍ واحدة إلى هذا البناء الضخم، الذي تحوَّلت جدرانه إلى لونٍ رمادي قاتمٍ بفعل سخام المدينة، توقَّفت عن التأمُّل وعدتُ إلى الأحداث الدرامية التي كانت تقترِب من ذروتها.

رُحنا نسير في صمت، في ذلك الشارع القديم الذي تراكمت فيه الكثير والكثير من الذكريات عن مآسٍ بشعة؛ سِرنا بجوار السجن الكئيب؛ ومررنا من بوابة دخول المدينين ببابها الصغير ذي السنون المانعة؛ ثم ببوابة المشنقة بأكاليل الأغلال الخاصة بها؛ حتى وصلنا إلى مدخل «قاعات الجلسات».

هنا لم أشعر بالارتياح لأن أجد ثورندايك ينتظرنا؛ ذلك أن السيدة هورنبي كانت في حالٍ من الاضطراب العصبي وعلى وشك أن تنفجر في نوبة هيستيريا رغم جهودها الجبَّارة في السيطرة على عواطفها، في حين أظهرت جولييت، من خلال امتقاع وجنتَيها كالشمع وجموح عينَيها، أن مشاعر الذُّعر كانت تعود إليها، رغم أنها كانت تُظهر هدوءًا وتماسكًا؛ وسُرِرتُ لأنهما كُفِيَتا شرَّ الاحتكاك برجال الشرطة الذين يحرسون المداخل المختلفة.

وقال ثورندايك مُترفِّقًا، وهو يأخذ يد السيدة هورنبي: «يتعيَّن علينا أن نكون شجعانًا، وأن نظهر بوجهٍ بشوش أمام صديقنا الذي يتحمَّل الكثير بصبرٍ وثبات. ساعات قليلة بعدُ، ويحدوني الأمل أن نراه يستعيد لا حريته وحسب، لكن وشرفَه أيضًا. هذا هو السيد أنستي الذي نثِق بأنه سيتمكَّن من إظهار براءته.»

كان أنستي يعتمر شعره المُستعار ويرتدي رداءه، على عكس ثورندايك، وانحنى بجدية، ثم مررْنا معًا عبر البوابات القذرة إلى قاعة غبشاء. وقد وقف رجال الشرطة في زيِّهم الرسمي وكذلك المُحقِّقون الذين لا تُخطئهم العين في الأرجاء عند المداخل المختلفة، كما كمنت في الخلفية وعلى المقاعد مجموعاتٌ من أناس ذوي مظهرٍ شرير وقذِر، فنشروا في الهواء الفاسد العفن تلك الرائحة المُميَّزة التي لا يمكن وصفُها والتي تُلازِم عربات الشرطة وغرَف الاستقبال في السجون؛ رائحة كان يشوبها في الوقت الراهن عبير المُطهِّرات. سارعنا في طريقنا عبر الحشد البغيض، وصعدنا سلُّمًا إلى بسطةٍ تفرَّعت منها عدة ممرَّات. وسِرنا في أحد هذه الممرَّات — كان له «مدخل قاتم» نوعًا ما ومزوَّد ببوابة تُشبه القفص مصنوعة من القضبان الحديدية — حتى مررْنا ببابٍ أسود، كُتِب عليه «المحكمة القديمة. المحامون والكتَبة.»

أمسك أنستي بالباب مفتوحًا لنَمُر، فدلفنا إلى داخل المحكمة التي أصابتني على الفور بإحساسٍ بخيبة الأمل. كانت الحجرة أصغر ممَّا توقعت، وكانت جرداء ومُتدنِّيةً بدرجة تصِل إلى الحقارة. فكانت الأشغال الخشبية فيها رديئةً وتكسوها حُبيبات صفراء ومليئة بالأوساخ أينما وصلت إليها الأيادي القذِرة. أما الجدران فكانت مطليةً بطلاءٍ مائي رمادي شاحب يميل إلى الخضرة؛ وأما الأرضية فكانت مفروشةً بألواحٍ خشبية مكشوفة وقذِرة، وكانت الأشياء الوحيدة التي تُشير إلى الأبهة أو الجاه تتمثَّل في الظلَّة التي تعلو كرسي القاضي — إذ كانت مبطَّنةً بقماشٍ قرمزي ومتوَّجة بالشعار الملكي — والوسائد القرمزية على المقاعد، والساعة الدائرية الكبيرة في المنصة، التي تزيَّنت بحافة مُذهبة وفرضت أهميتها بدقَّات عدوانية جهيرة.

تبِعنا أنستي وثورندايك إلى مقصورة المحامين، وأُشير لنا بأن نجلس في أحد المقاعد المحجوزة للمحامين — المقعد الثالث من الأمام — فجلسنا ورُحنا ننظر حولنا، في حين جلس صديقانا في المقعد الأمامي بجوار الطاولة المركزية. هنا، في أقصى يمين الحجرة، كان ثمة محامٍ — على الأرجح مُمثِّل الادعاء — في مكانه بالفعل ومُنهمكًا في مطالعة الموجَز الموضوع أمامه على المكتب. وأمامنا مباشرةً كانت مقاعد هيئة المُحلَّفين، يرتفع أحدها عن الآخر، وإلى جانبها كانت منصة الشهود. وفوقنا إلى جهة اليمين كان مقعد القاضي، وتحتَه مباشرةً هيكل يُشبه مقصورةً كبيرة أو مكتبًا كبيرًا، يعلوه قضيب نحاسي، وفي هذا المكتب كان ثمَّة رجل يرتدي شعرًا مستعارًا رماديًّا — كاتب المحكمة — يُصَلِّح قلَم ريشة. وإلى يسارنا وقف قفص الاتهام منتصبًا — كبيرًا وفسيحًا بطريقةٍ موحية — محاطًا من جانبَيه بأُطُر زجاجية عالية؛ وفوقه — قرب السقف — كانت تقع منصة النُّظَّار.

هتفت جولييت، التي كانت تفصل بيني وبين السيدة هورنبي: «يا له من مكانٍ شنيع! كم يبدو كل شيءٍ قذرًا وحقيرًا!»

أجبت: «صحيح. فقذارة المُجرم لا تقتصِر على كِيانه الأخلاقي؛ فأينما يذهب، يترك المُجرم أثرًا ماديًّا قذرًا منه. لم يمضِ وقت طويل منذ كانت تُنثَر أعشاب طبية في قفص الاتهام وعلى مقعد القاضي، وأظنُّ أن هذه العادة ما زالت مستمرةً في شكل توريد أكاليل من الزهور إلى القضاة كإجراءٍ وقائي ضد حُمَّى السجون.»

فأكملت جولييت تقول بمرارة: «لا أتخيَّل كيف سيُحضَر روبين إلى مكانٍ كهذا! كيف سيُساق مع أناسٍ مثل الذين رأيناهم في الطابق السفلي!»

تنهَّدَت ونظرت خلفها إلى المقاعد التي خلفنا، حيث كان ستة صحفيين قد اتخذوا مجالسهم بالفعل وبدَوا متحمِّسين ينتظرون قضيةً مُثيرةً بحق.

قطعَت محادثتَنا أصواتُ أقدامٍ على درج المنصة، وبدأت الرءوس تظهر من فوق الحاجز الخشبي. وتدفَّق عدة مُحامين مبتدئين إلى المقاعد التي أمامنا؛ ودخل السيد لولي وكاتبه مقعد المحامي الموكَّل؛ واتخذ الحُجَّاب موقفهم تحت منصة المُحلَّفين؛ وجلس ضابط شرطة إلى مكتبٍ في داخل قفص الاتهام؛ وشرع المفتِّشون والمُحقِّقون وموظفون آخرون يجتمعون عند المداخل أو يختلسون النظر إلى داخل القاعة عبر الفتحات الزجاجية الصغيرة في الأبواب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥