خبراء البصمات
توقَّفت فجأةً همهمات المُحادثات التي كانت قد تعالَت مع امتلاء القاعة. وانفتح باب في مؤخر المنصة؛ فنهض المحامون على اختلاف درجاتهم واختصاصاتهم، وكذلك نهض النظَّارة؛ ودخل القاضي وتبِعه مباشرةً عُمدة المدينة والمأمور وعدة شخصيات مدنية بارزة، وقد بدَوا جميعًا في غاية الجمال والروعة بما يرتدون من ثيابٍ وما يتقلَّدون من مناصب ورُتَب. واتخذ كاتب المحكمة مكانه خلف طاولته تحت المنصة؛ فأوقف المحامون مُحادثاتهم وراحوا يتحسَّسون ملفَّاتهم؛ وبينما اتَّخذ القاضي مجلسه، جلس كذلك المحامون والمسئولون والنظَّارة، واتجهت كل العيون إلى قفص الاتهام.
وبعد بضع لحظات ظهر روبين هورنبي في القفص بصحبة حارس، وكانا، حسبما بدا، يرتقيان من باطن الأرض، ولمَّا تقدَّم روبين نحو الحاجز، وقف في هدوءٍ وثقة، وراح يجول ببصرِه سريعًا في أرجاء القاعة بفضول. ووقعت عينُه للحظة على مجموعة الأصدقاء والداعِمين الجالسين خلف محامي الدفاع، فسرَت على وجهه ابتسامةٌ طفيفة للغاية؛ لكنه أشاح ببصرِه في الحال ولم ينظر إلى اتجاهنا مُجددًا قَط طوال المحاكمة.
وقف الآن كاتب المحكمة، وقرأ من لائحة الاتهام التي كانت أمامه مخاطبًا السجين:
«روبين هورنبي، أنت تقف مُتهمًا بارتكاب جريمة سرقة طرد من الألماس من بضائع ومنقولات جون هورنبي يوم التاسع أو العاشر من شهر مارس. هل أنت مُذنب أم غير مذنب؟»
فأجاب: «غير مُذنب.»
وبعد أن سجَّل الكاتب ردَّ السجين، شرع يقول:
«السادة الذين ستُتلى أسماؤهم هم هيئة المُحلَّفين التي ستُحاكمك. إن رغبتَ في الاعتراض على أيٍّ منهم، فعليك أن تُبدي اعتراضك حينما يأتي الشخص ليُقسم على الكتاب المُقدَّس وقبل أن يُدلي بقَسَمه. حينها سيُسمَع اعتراضك.»
وإقرارًا منه بهذا الخطاب الذي أُلقيَ بنبرةٍ واضحة ورنانة وبكلماتٍ جليَّة، انحنى روبين للكاتب، وبدأت عملية إدلاء أعضاء هيئة المُحلَّفين بالقَسَم، في حين فتح المحامون تقاريرهم الموجزة وتحدَّث القاضي مازحًا مع مسئولٍ يرتدي ثوبًا من الفرو وسلسلة عُنق ضخمة.
كان أثر هذه الإجراءات على الذين لم يعتادوها شديد الغرابة؛ إذ كانت تجمع بين الجدِّية والغرابة، فوقع تأثيرها وسطًا بين تأثير الشعائر الدينية والأوبرا الكوميدية. وعلى مدار فتراتٍ دورية، جاء صوت الكاتب يعلو صوت الهمهمات المكتومة، فكان ينادي اسم أحد المُحلَّفين، وبينما يقف صاحب الاسم، يتقدَّم مشرف القاعة في زيِّه الأسود ومظهره الكهنوتي ليُقدِّم له الكتاب. ثم، بينما يُمسِك عضو الهيئة بالكتاب في يدِه، يأتي صوت المُشرف رنَّانًا في القاعة وكأنه صوت قسٍّ يتلو قرارًا أو ترنيمةً قصيرة؛ وقد ازداد هذا التأثير بفعل الطابع الإيقاعي والعتيق لصيغة القَسَم:
«صامويل سيبنجز!»
وقف عامل يبدو عليه الجمود، وأخذ الكتاب المُقدس في يده، ونظر إلى ذلك الموظَّف بينما يتلو بنبرةٍ رتيبة ومهيبة:
«لتحكم في هذه القضية بين جلالة مولانا الملك والمُتَّهم الذي في عُهدتكم بكلِّ صدقٍ ونزاهة، ولتُقدِّم حكمًا صادقًا يستند إلى الأدلة. وليُعِنك الرب!»
«جيمس بايبر!» وقف رجل آخر من المُحلَّفين وأُعطِيَ الكتاب ليُمسك به؛ وتعالت نبرة الرجل الرتيبة مرةً أخرى:
«لتحكم في هذه القضية …»
همست لي جولييت قائلة: «سأصرخ بأعلى صوتي إن تردَّدت تلك الترنيمة لأطول من هذا. لماذا لا يُقسِمون جميعًا دفعةً واحدةً ونَفرُغ من هذه المسألة؟»
فأجبتُها: «لن يفي هذا بالمُتطلَّبات. ومع ذلك، لم يبقَ سوى اثنَين من الأعضاء، تحلَّي بالصبر.»
«وأنت ستتحلَّى بالصبر عليَّ أنا أيضًا، أليس كذلك؟ أنا خائفة للغاية. الأمر برمَّته كئيب ومَهيب.»
فقلتُ لها: «لا بد أن تحاولي الحفاظ على شجاعتكِ حتى يُقَدِّم الدكتور ثورندايك شهادته. وتذكَّري أنه حتى يتكلَّم ثورندايك، كل شيءٍ سيُقال سيكون ضد روبين؛ فاستعدِّي لهذا.»
فأجابت بخنوع: «سأحاول، لكن لا يسعني إلا أن أشعر بالرعب.»
وأخيرًا تلا آخِر أعضاء هيئة المُحلَّفين القَسَم، وحين نادى الكاتب على الأسماء مرةً أخرى اسمًا تلوَ الآخر، كان المُشرف يَعُدُّ بصوتٍ عالٍ بينما يَرُدُّ كل رجلٍ على اسمِه، ثم التفت الأخير إلى الحاضرين في القاعة وأعلن بنبرةٍ جادة:
«إن كان أي أحدٍ يستطيع إبلاغ السادة القضاة أو السيد المحامي العام أو السيد الرقيب القانوني قبل بدء المحاكمة بين جلالته؛ مولانا الملك والمُتهم عن أي خيانة أو جريمة قتل أو جناية أو جُنحة ارتكبها المُتهم، فليتقدَّم وستُسمَع شهادته؛ فالمُتهم الآن ماثل للمحاكمة وله الحق في الدفاع عن نفسه.»
تبِع هذا الإعلانَ صمتٌ مُطبِق، وبعد لحظةٍ التفت كاتب المحكمة نحوَ أعضاء هيئة المُحلَّفين وخاطبهم جميعهم فقال:
«السادة أعضاء هيئة المُحلَّفين، يقف السجين الماثل أمامكم باسم روبين هورنبي مُتهمًا بسرقة طردٍ من الألماس من بضائع جون هورنبي يوم التاسع أو العاشر من شهر مارس. وقد دَفَعَ بأنه غير مُذنب في هذه التُّهمة، ومسئوليتكم هي التحقيق فيما إذا كان مذنبًا أو غير مُذنب وأن تستمعوا إلى الشهادات والأدلة.»
وحين أنهى الكاتب خطابه المُوجَّه إليهم جلس، ثم نظر القاضي المُسن، ذو العينَين الغائرتَين والوجه النحيل والحواجب الرمادية الكثَّة والأنف الغليظ، إلى روبين هورنبي باهتمامٍ لبضع لحظاتٍ من فوق الحد المُذهَّب لنظارته العديمة الإطار. ثم التفت إلى المحامي الأقرب إلى منصَّته وأحنى رأسه قليلًا.
فأحنى المحامي رأسه بدَوره ونهض واقفًا، وللمرة الأولى استطعتُ أن أرى مستشار جلالته السير هيكتور ترامبلر، مُمثل الادِّعاء. لم يكن في مظهره أي شيءٍ لافت للنظر جدًّا — رغم أنه كان ضخم البِنية متورِّد الوجه — باستثناء هيئته التي تُوحي بقلَّة الاعتناء بثيابه. إذ كان رداؤه ينزلق عن أحد كتفَيه، وشعره المُستعار مائل بشكلٍ ملحوظ، ونظارته العديمة الإطار تُهدِّد بأن تسقُط من على أنفه في كل لحظة.
شرع السير ترامبلر يقول بنبرةٍ واضحة وإن كانت نشازًا: «سيادة القاضي، السادة أعضاء هيئة المُحلَّفين، إن القضية التي سأعرضها عليكم اليوم هي قضية نُصادفها كثيرًا جدًّا في هذه القاعة. قضية نرى فيها الثقة غير المحدودة تُقابَل بالخيانة والخديعة، والإحسان الذي لا حصر له بالعقوق والنكران، ونشهد فيها الاستغناء عن حياة الكدِّ الشريف في سبيل حياة الإجرام المُلتوية والمحفوفة بالمخاطر. وقائع القضية باقتضابٍ هي كما يلي: المدَّعي — كَرهًا، أيها السادة — في هذه القضية هو السيد جون هورنبي، خبير التعدين وتاجر المعادن الثمينة. للسيد هورنبي اثنان من أبناء أخوَيه الأكبر، ويسعني أن أقول إنه كان بمثابة الوالد لهما منذ وفاة والدَيهما. أحد هذَين الاثنين هو السيد والتر هورنبي، والآخر هو روبين هورنبي، المُتهم الماثل أمامكم. ضم السيد هورنبي ابنَي أخويه إلى عمله بغية أن يَخلُفاه عندما يتقاعد، وأنا في غنًى عن قول إن كليهما كان يتقلَّد منصبًا ينطوي على الثقة والمسئولية.
وفي مساء يوم التاسع من شهر مارس، تلقَّى السيد هورنبي طردًا من الألماس الخام، الذي طلب منه أحد عملائه أن يتولَّى مسئوليته ريثما يُنقَل إلى التجَّار. لن أُثقل عليكم بالتفاصيل غير ذات الصِّلة بشأن هذه العملية. يكفي أن أقول إن الألماس، الذي تبلُغ قيمته ما يُقارب ثلاثين ألف جنيه، وصل إليه، وأنه فتح الطرد وأودعه في خزينته، ومعه ورقة كان قد كتب فيها بقلَم رصاص مذكرةً بالملابسات. كان هذا مساء التاسع من شهر مارس كما قلت. وبعد أن أودع السيد هورنبي الطرد في الخزينة أوصدَها، وبُعَيد ذلك غادر المبنى وذهب إلى المنزل، ومعه المفاتيح.
وفي الصباح التالي حين فتح الخزينة، أدرك باستغرابٍ وهلع أن الطرد كان قد اختفى. أما الورقة فكانت في قعْر الخزينة، ولمَّا أمسكها السيد هورنبي لاحظ أنها تحمِل لطخةً من دم، إضافةً إلى ذلك، بصمة إبهام بشَري واضحة. عندئذٍ أغلق الخزينة وأرسل مذكرةً إلى قسم الشرطة، واستجابةً لمُذكرته جاء ضابط حاد الذكاء — وهو المُفتِّش ساندرسون — وأجرى استعراضًا أوَّليًّا. لستُ في حاجة لأن أقصَّ عليكم المزيد؛ لأن التفاصيل ستتضح مع الشهادات، لكني في واقع الأمر سأخبركم أنه قد تبيَّن بما لا يدع أي مجالٍ للشك أن البصمة على الورقة هي بصمة السجين روبين هورنبي.»
سكت ليُعَدِّل نظارته التي كانت على وشك أن تسقُط من على أنفه، وشمَّر رداءه بينما كان يُطالع هيئة المُحلَّفين على مَهَل، وكأنه كان يُقَيِّم مدى تأثُّرهم وانفعالهم. في تلك اللحظة استرعاني دخول والتر هورنبي إلى القاعة وجلوسه عند طرف مقعدنا بالقُرب من الباب، وبعده مباشرةً جاء المُفتِّش ميلر رئيس الشرطة وجلس في أحد المقاعد المقابلة.
قال السير هيكتور ترامبلر: «الشاهد الأول الذي سأستدعيه هو جون هورنبي.»
تقدَّم السيد هورنبي، باديَ الاضطراب والانفعال، إلى منصة الشهود، وبعد أن سلَّمه مشرف القاعة الكتاب المقدَّس، صاح ينادي:
«الشهادة التي ستدلي بها إلى المحكمة وهيئة المحلَّفين تحت القَسَم، بين صاحب الجلالة مولانا الملك والمُتهم الماثل هي الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء سواها؛ فليُعِنك الرب!»
قَبَّلَ السيد هورنبي الكتاب المقدس، ورمق ابن أخيه بنظرة بؤسٍ لا يُوصَف واستدار نحو مُمثل الادعاء.
سأله السير هيكتور: «اسمك هو السيد جون هورنبي، أليس كذلك؟»
«بلى.»
«وتَشْغَل بنايةً في شارع سانت ماري آكس؟»
«أجل. أنا تاجر معادن ثمينة، لكن عملي يتمثَّل بشكل أساسي في تحليل عينات الرِّكاز والكوارتز وسبائك الفضة والذهب.»
«هل تذكُر ما وقع يوم التاسع من شهر مارس الماضي؟»
«بكل دقة. وَصَّلَ لي ابن أخي روبين — السجين — طردًا من الألماس كان قد تسلَّمه من المسئول المالي ﻟ «إلمينا كاسل»، وكنتُ قد أرسلتُ له روبين مُمثلًا خصوصيًّا لي. وكنت قد انتويتُ إيداع الألماس مع المصرفيِّ الذي أتعامل معه، لكن حين وصل السجين إلى مكتبي، كانت المصارف قد أغلقت أبوابها بالفعل؛ لذا تعيَّن أن أضع الطرد في خزينتي لتلك الليلة فقط. وأود أن أقول إن السجين لم يكن مسئولًا بأي شكلٍ من الأشكال عن التأخير في التوصيل.»
قال السير هيكتور: «أنت لستَ هنا لتدافع عن السجين. من فضلك، أجب على أسئلتي ولا تزِد أي تعليق. هل كان هناك أحد حاضر حين وضعتَ الألماس في الخزينة؟»
«لم يكن هناك أحد حاضر سواي.»
فقال السير هيكتور: «لم أسألك إن كنتَ حاضرًا حين وضعتَ الألماس في الخزينة» (هنا قهقه الحضور وضحك القاضي برحابة صدر). «ماذا فعلتَ غير ذلك؟»
«كتبتُ بالقلَم الرصاص على ورقةٍ من مفكرتي «سلَّمه روبين في الساعة ٧:٣٠ مساءً، ٩ / ٣ / ١٩٠١»، ووقَّعتُ بأحرفي الأولى. ثم قطعتُ الورقة من المفكرة ووضعتها على الطرد، وبعدها أوصدتُ الخزينة.»
«ومتى غادرتَ البناية بعد هذا؟»
«على الفور تقريبًا. كان السجين ينتظرني في المكتب الخارجي …»
«لا يُهِم أين كان السجين؛ اجعل إجاباتك منحصرةً بأسئلتي. هل أخذت المفاتيح معك؟»
«نعم.»
«ومتى فتحتَ الخزينة بعد ذلك؟»
«صباح اليوم التالي في الساعة العاشرة.»
«أكانت الخزينة موصدةً أم مفتوحة حين وصلت؟»
«كانت موصدة. وفتحتها أنا.»
«هل لاحظتَ أي شيءٍ غير معهود بشأن الخزينة؟»
«كلَّا.»
«هل فارقتك المفاتيح في تلك المدة الزمنية الفاصلة؟»
«كلَّا. كانت المفاتيح في سلسلةٍ أرتديها دائمًا.»
«هل هناك أي نُسَخ من تلك المفاتيح؟ أقصد مفاتيح الخزينة.»
«كلَّا، لا توجَد أي نُسَخ.»
«هل خرجت المفاتيح من حوزتك من قبل؟»
«نعم. كان من عادتي إن كنتُ سأغيب عن الشركة لوقتٍ طويل أن أُسلِّمها لأحد ابنَي أخوي، أيهما كان المسئول في ذلك الوقت.»
«ولم تُعطها قَطُّ لأي شخصٍ آخر؟»
«لم أعطها قَط لأي شخصٍ آخر.»
«ماذا لاحظتَ حين فتحت الخزينة؟»
«لاحظتُ أنَّ طرد الألماس قد اختفى.»
«هل لاحظتَ أي شيءٍ آخر؟»
«نعم. وجدتُ الورقة المأخوذة من مُفكرتي ملقاةً في قعر الخزينة. فالتقطتُها وقلبتُها، وحينها رأيت أن هناك لطخات دمٍ عليها وما بدا أنه بصمة إبهام دامية. كانت البصمة على الجهة الخلفية من الورقة بينما الورقة مُلقاة على أرضية الخزينة.»
«وماذا فعلتَ بعد ذلك؟»
«أغلقتُ الخزينة وأوصدتها، وأرسلتُ مذكرةً إلى قسم الشرطة أقول فيها إن سرقةً وقعت في منشأتي.»
«أنت تعرف السجين منذ سنواتٍ عديدة حسبما أعتقد، صحيح؟»
«صحيح؛ عرفته طوال حياته. فهو ابن أخي الأكبر.»
«إذن يمكنك أن تُخبرنا، من دون شك، إن كان أعسر أم أيمن؟»
«أقول إنه قادر على استخدام كِلتا يدَيه، لكنه يميل لاستخدام يده اليُسرى.»
«هذا تمييز جيد يا سيد هورنبي؛ تمييز وجيه. والآن أخبرني، هل تأكَّدت بما لا يدع مجالًا للشك أن الألماس قد سُرِقَ حقًّا؟»
«نعم؛ فقد فتشت الخزينة بدقة، بنفسي أولًا ثم مع الشرطة. لم يكن هناك شك أن الألماس كان بلا شك قد اختفى.»
«وحين أشار المُحقِّق إلى أنك ينبغي أن تحصل على بصمات إبهام ابنَي أخويك، هل رفضت؟»
«نعم رفضت.»
«ولماذا رفضت؟»
«لأنني لم أرغب في أن أُعرِّض ابنَي أخويَّ إلى مثل هذه الإهانة. علاوةً على ذلك، لم تكن لديَّ السلطة لإجبارهم على الخضوع لذلك الإجراء.»
«هل كان لدَيك أي شكوك تجاه أي منهما؟»
«لم يكن لديَّ شكوك تجاه أي أحد.»
قال هيكتور، وهو يُقدِّم له ورقةً صغيرةً مُستطيلة الشكل: «فضلًا افحص هذه الورقة يا سيد هورنبي، وأخبرنا إن كنت تعرفها.»
نظر السيد هورنبي إلى الورقة لحظة، ثم قال:
«هذه هي الورقة من المُفكِّرة والتي وجدتُها في قعر الخزينة.»
«كيف تعرفتَ إليها؟»
«من الكتابة التي عليها؛ فهي بخطِّ يدي، وهي تحمل الحروف الأولى من اسمي.»
«هل هي الورقة التي وضعتَها على طرد الألماس؟»
«نعم.»
«هل كان هناك أي بصمة إبهامٍ أو بقعة دم عليها حين وضعتَها في الخزينة؟»
«كلَّا.»
«هل كان من المُحتمَل أن يكون عليها أي من هذه العلامات؟»
«هذا مستحيل. فقد نزعتُها من مفكرتي وقت أن كتبتُ عليها.»
«حسنًا.» ثم جلس السير هيكتور ترامبلر، ونهض السيد أنستي ليستجوب الشاهد.
فقال: «لقد أخبرتنا، يا سيد هورنبي، أنك عرفتَ المُتهم طوال حياته. ما تقديرك لشخصيته؟»
«دائمًا ما أعتبره شابًّا ذا أخلاق عالية؛ فهو شريف، وصادق وجدير بالثقة في كل الأحوال. ولم أُجرِّب عليه قط، طوال معرفتي به، انحرافًا قيد أنملة عن الشرف والنزاهة.»
«لقد اعتبرتَه إذن رجلًا لا تشوبه شائبة. أهذا صحيح؟»
«هذا صحيح؛ ورأيي فيه لم يتغيَّر.»
«هل لدَيه، على حدِّ علمك، أي عادات تبذير أو إنفاق فاحش؟»
«كلا. بل هو بسيط ويميل إلى الاقتصاد.»
«هل عرفتَ عنه يومًا أنه يُقامر أو يراهن؟»
«مطلقًا.»
«هل بدا من قبلُ في حاجة للمال؟»
«كلَّا. فلَه مصدر دخل صغير، منفصل عن راتبه، وأعرف أنه لا يُنفق منه شيئًا لأنني كنتُ أحيانًا ما أكلِّف الوسيط الخاص بي أن يستثمر مُدخراته.»
«بمنأًى عن بصمة الإبهام التي وُجِدت في الخزينة، هل هناك أي ملابسات يمكن أن تؤدِّي بك إلى أن تشكَّ أن المُتهم سرق الألماس؟»
«على الإطلاق.»
جلس السيد أنستي، وبينما كان السيد هورنبي ينهض عن منصة الشهود وهو يمسح العرَق عن جبهته، نودي على الشاهد التالي.
«المفتش ساندرسون!»
تقدَّم ضابط الشرطة الأنيق في نشاطٍ إلى منصة الشهود، وبعد أن أدَّى اليمين كما يلزم، توجَّه إلى مُمثِّل الادعاء بأسلوب رجلٍ مُستعدٍّ لأي احتمال أو طارئ.
وقال السير هيكتور، بعد أن انتهى من المُقدمات المعتادة: «هل تذكر ما حدث صبيحة العاشر من شهر مارس؟»
«نعم. استلمت رسالةً في قسم الشرطة في العاشرة وثلاثٍ وعشرين دقيقة. كانت من السيد جون هورنبي، ونَصَّت على أن سرقةً وقعت في منشأته في شارع سانت ماري آكس. فذهبتُ إلى المنشأة ووصلتُ هناك في العاشرة وإحدى وثلاثين دقيقة. رأيتُ هناك المدَّعي، السيد جون هورنبي، الذي أخبرَني أن طردًا من الألماس سُرِق من الخزينة. وبطلبٍ منه فحصتُ الخزينة. لم يكن بها أي علاماتٍ على أنها فُتِحَت عَنوة؛ وبدا أن الأقفال لم تتضرَّر وفي حالةٍ جيدة. وبداخل الخزينة، على قعرِها، وجدتُ قطرتَين من الدماء حجمُهما كبير، وورقةً عليها كتابة بقلَم رصاص. كانت الورقة تحمِل بقعتَي دم، وبصمةً دامية لإبهامٍ بشري.»
سأله مُمثِّل الادعاء وهو يُمرِّر للشاهد ورقةً صغيرة: «أهذه هي الورقة؟»
فأجاب المُفتش بعد أن نظر إليها نظرةً سريعة: «نعم.»
«وماذا فعلت بعد ذلك؟»
«أرسلتُ رسالةً إلى سكوتلانديارد أُطلِع فيها رئيس قسم التحقيقات الجنائية بالوقائع، ثم عدتُ إلى القسم. ولم يعُد لي من بعدِها علاقة بالقضية.»
جلس السير هيكتور، ونظر القاضي إلى أنستي.
فقال الأخير وهو ينهض: «أخبرتنا أنك لاحظتَ وجود قطرتَين من الدماء على أرضية الخزينة. هل لاحظتَ حالة الدم، أكان رطبًا أم جافًّا؟»
«بدا الدم رطبًا، لكنني لم أمسسه. تركتُه على حالِه ليفحصه المُحقِّقون.»
كان الشاهد التالي الذي نُوديَ عليه هو الرقيب بيتس، من قسم التحقيقات الجنائية. تقدَّم إلى منصة الشهود بالمظهر الجاد والعملي نفسه كالضابط الآخر، وبعد أن أدلى بالقَسَم، شرع يُدلي بشهادته بطلاقةٍ توحي بأنه استعدَّ استعدادًا جيدًا، فكان يُمسِك بمُفكِّرة في يدِه لكنه لم يستعِن بها.
قال: «يوم العاشر من شهر مارس وفي الساعة ١٢:٠٨ مساءً، تسلَّمت تعليماتٍ بالذهاب إلى شارع سانت ماري آكس للتحقيق في جريمة سرقةٍ وقعت هناك. وتسلَّمتُ تقرير المفتش ساندرسون وقرأته في عربة الأجرة وأنا في طريقي إلى المكان. ولمَّا وصلتُ إلى البناية في الثانية عشرة والنصف، فحصتُ الخزينة فحصًا دقيقًا. لم يكن بها أي أضرار، ولم يكن عليها أي علامات من أي نوع. واختبرتُ أقفالها ووجدتها سليمةً ومُحكمة؛ فلم يكن هناك أي علاماتٍ على استخدام أداة لفتح الأقفال أو كسرها. وفي قعر الخزينة من الداخل وجدتُ قطرتَين كبيرتَين من سائلٍ داكن. أخذت بعض هذا السائل على قطعةٍ من الورق وتبيَّن لي أنه دم. كما وجدت أيضًا في قعر الخزينة رأس عود ثقاب شمعيًّا مُحترقًا، وبعد أن فحصتُ أرضية المكتب، وجدت بالقُرب من الخزينة عود ثقاب شمعيًّا مُستخدَمًا كان رأسه قد سقط عنه. ووجدتُ أيضًا قصاصة ورقٍ يبدو أنها مُزِّقَت من دفتر مذكِّرات مُثَقَّب. وكُتِب عليها: «سلَّمه روبين في الساعة ٧:٣٠ مساءً، ٩ / ٣ / ١٩٠١. ج. ﻫ.» وكان ثمة بقعتان من الدم على الورقة وبصمة إبهام إنسان بالدم. فأخذتُ الورقة في حيازتي من أجل أن يفحصها الخبراء. وفحصت أبواب المكتب والباب الخارجي للمنشأة، لكنني لم أجد أي علامةٍ على الدخول عَنوةً على أيٍّ منها. كما استجوبت مسئول الإشراف الداخلي، لكني لم أحصل منه على أي معلومة. عدت بعد ذلك إلى المَقرِّ الرئيسي، وكتبتُ تقريري وسلَّمتُه والورقة ذات العلامات إلى رئيس الشرطة.»
فسأله مُمثل الادِّعاء، وهو يُمرِّر الورقة مرةً أخرى: «أهذه هي الورقة التي وجدتَها في الخزينة؟»
«نعم؛ هذه هي الورقة.»
«ماذا حدث بعد ذلك؟»
«بعد ظهيرة اليوم التالي استدعاني السيد سينجلتون، من قسم البصمات. أخبرَني أنه طالَع الملفَّات ولم يستطع أن يجد أي بصمة إبهام تُطابق البصمة التي على الورقة، وأوصى أن أسعى للحصول على بصمات إبهام أي شخصٍ يمكن أن يكون له صِلة بهذه السرقة. كما أعطاني أيضًا صورةً فوتوغرافية مكبَّرة للبصمة للرجوع إليها إذا ما اقتضت الحاجة. ثمَّ ذهبتُ إلى شارع سانت ماري آكس وقابلتُ السيد هورنبي، وحينها طلبتُ منه أن يسمح لي بأخذ بصمات إبهام كلِّ الأشخاص العامِلين في المنشأة، بما في ذلك ابنَي أخويه. وقد رفض هذا، قائلًا إنه لا يثِق بالبصمات وإنه لا توجَد شكوك حول أي أحدٍ من العامِلين في المنشاة. فسألته إن كان سيسمح أن آخُذ بصمات إبهام ابنَي أخوَيه على انفرادٍ وبصورة سرية، وأجابني على ذلك بقوله: «كلَّا بالطبع».»
«هل كان لديك وقتئذٍ أي شكوكٍ تجاه أيٍّ منهما؟»
«ارتأيت أن بعض الشكوك تحوم حولهما. إذ لا شك في أن الخزينة فُتحت بمفاتيح منسوخة، وحيث إن كليهما كان بحوزته المفاتيح الأصلية، فمِن الممكن أن يكون أحدهما قد أخذ طبعة المفاتيح على شمعٍ وصنع منها نسخةً مقلَّدة.»
«أكمل.»
«زرت السيد هورنبي عدة مرات وحثثتُه على أن يوافِق على أخذ البصمات وذلك لصالح سمعة ابنَي أخوَيه؛ لكنه رفض بشدَّة ومنعهما من الخضوع لهذا الإجراء، رغم أني عرفتُ أنهما كانا موافقَين ومُستعدَّين لذلك. ثم خطر ببالي أن أُجرِّب إن كنتُ أستطيع الحصول على مساعدةٍ من السيدة هورنبي، وفي يوم الخامس عشر من شهر مارس، عرجتُ على منزل السيد هورنبي وزرتُ زوجته. وشرحت لها ما هو مطلوب لتبرئة ساحة ابنَي أخوي زوجها من الشكوك التي تحوم حولهما، وحينها قالت لي إن بإمكانها تبديد هذه الشكوك على الفور؛ لأنها تستطيع أن تُريني بصمات إبهام العائلة بأسرها؛ إذ كانت كل البصمات معها في سجلِّ بصمات إبهام.»
فكرَّر القاضي مُستفسرًا: «سجلُّ بصمات الإبهام؟ ما سجلُّ بصمات الإبهام؟»
فنهض أنستي وهو يُمسك بالمجلد الصغير ذي الغلاف الأحمر.
وقال: «سجل بصمات الإبهام، سيادتكم، هو مجلد كهذا، يجمع فيه الحمقى من الناس بصمات إبهام معارفهم الأكثر حمقًا منهم.»
ثم مرَّر المجلد إلى القاضي الذي أخذ يقلِّب صفحاته في فضولٍ ثم أومأ إلى الشاهد.
«أكمل. قالت إنها تملك كل البصمات في سجلِّ بصمات إبهام.»
«حينها أخرجَت لي من أحد الأدراج مجلدًا صغيرًا ذا غلاف أحمر. كان يحوي كل بصمات إبهام العائلة وبعض أصدقائها.»
فسأله القاضي، وهو يُمرِّر المجلَّد للشاهد: «أهذا هو المجلَّد؟»
أخذ الرقيب يُقلِّب صفحات المجلد حتى أتى إلى إحدى البصمات التي تعرَّف إليها وقال:
«نعم يا سيدي؛ هذا هو المجلد. أرتني السيدة هورنبي بصمات عديدٍ من أفراد العائلة، ووجدتُ بصمات ابنَي أخوي زوجها. فقارنتُهما بالصورة الفوتوغرافية التي كانت معي واكتشفت أن بصمة الإبهام اليُسرى لروبين هورنبي مطابقة من جميع النواحي للبصمة التي في الصورة الفوتوغرافية.»
«وماذا فعلتَ حينها؟»
«طلبتُ من السيدة هورنبي أن تُعيرني السجلَّ حتى أعرِضه على رئيس قسم البصمات، وقد وافقَت على ذلك. ولم يكن في نيَّتي أن أخبرها بما اكتشفته، لكن السيد هورنبي وصل إلى المنزل أثناء مغادرتي، وحين عرف بما حدث، سألني عن سبب حاجتي للسجل، وحينها أخبرته. وقد اندهش لذلك وهاله الأمر، ورجاني أن أعيد المجلَّد على الفور. وعرض أن يعتبر المسألة مُنتهيةً وأن يتحمَّل خسارة الألماس بنفسه؛ لكنني بيَّنتُ له أن هذا مستحيل؛ لأن هذا يُعَد تستُّرًا على جريمة. ولما رأيت السيدة هورنبي جزعةً من فكرة أن المجلَّد سيُستخدَم دليلًا ضد ابن أخي زوجها، وعدتُها أنني سأُعيده إليها إن كان باستطاعتي الحصول على بصمة إبهام بأي طريقةٍ أخرى.
بعد ذلك أخذتُ السجل إلى سكوتلانديارد وعرضتُه على السيد سينجلتون، الذي وافقني على أن بصمة الإبهام اليسرى لروبين هورنبي تتطابق من جميع النواحي مع بصمة الإبهام على الورقة التي وُجِدت في الخزينة. ولدى هذا طلبتُ استصدار مذكِّرة لضبط روبين هورنبي، ونفذتُها صباح اليوم التالي. وأخبرتُ المُتهم ما وعدتُ به السيدة هورنبي، وحينها عَرَضَ عليَّ أن آخُذ بصمة إبهامه اليسرى حتى لا يُستخدَم مجلَّد زوجة عمِّه دليلًا.»
فسأل القاضي: «كيف، إذن، ضُمَّ السجل إلى الأدلة؟»
فقال السيد هيكتور ترامبلر: «ضمَّته هيئة الدفاع يا سيدي.»
فقال القاضي: «فهمت. «كأس يُذهِب السكرة.» سيتم ضمُّ «السجل» باعتباره وسيلةً للدفاع على أساس مبدأ «الدواء من جنس الداء». ماذا بعد؟»
«حين قبضتُ عليه، تَلَوْتُ عليه التنبيه المعتاد، وحينها قال السجين: «أنا بريء. لا أعرف شيئًا عن السرقة».»
جلس مُمثل الادعاء، ونهض أنستي ليستجوِب الشاهد.
قال بصوته الصافي الرنَّان: «أخبرتنا أنك وجدتَ في أرضية الخزينة قطرتَين كبيرتَين من سائل داكن اعتبرتَ أنه دم. ما الذي أدَّى بك إلى الاعتقاد بأن هذا السائل دم؟»
«أخذتُ بعضه على قطعةٍ من ورقة بيضاء، وكان له مظهر ولون الدم.»
«هل فُحِص تحت المجهر أو بغير ذلك من الأدوات؟»
«لا، على حدِّ علمي.»
«هل كان مائعًا؟»
«نعم، كان مائعًا.»
«كيف بدا شكلُه على الورقة؟»
«بدا كسائلٍ أحمر صافٍ له لون الدم، وكان ثخينًا ودبقًا.»
جلس أنستي واستُدعِي الشاهد التالي، وهو رجل مُسن اسمه فرانسيس سيمونز.
سأله السير هيكتور ترامبلر: «هل أنت مسئول الإشراف الداخلي في منشأة السيد هورنبي في شارع سانت ماري آكس؟»
«صحيح.»
«هل لاحظتَ أي شيءٍ غير معتاد مساء التاسع من مارس؟»
«لم ألاحظ شيئًا غريبًا.»
«وهل أدَّيتَ جولاتك المعتادة في ذلك المساء؟»
«نعم. تجوَّلت في جميع أنحاء البناية عدة مرات أثناء الليل، وبقية الوقت كنتُ في غرفة فوق المكتب الخاص.»
«مَن كان أول من وصل صباح يوم العاشر من الشهر؟»
«السيد روبين. وصل قبل أي أحدٍ بعشرين دقيقة تقريبًا.»
«إلى أي جزءٍ من المبنى توجَّه؟»
«دخل إلى المكتب الخاص بعد أن فتحتُه له. وظلَّ فيه حتى قُبيل وصول السيد هورنبي بدقائق قليلة، حينها صعد إلى المعمل.»
«ومن أتى بعده؟»
«السيد هورنبي، وجاء السيد والتر بعدَه مباشرة.»
جلس مُمثل الادعاء، وشرع أنستي في استجواب الشاهد.
«من كان آخِر من غادر مساء التاسع من شهر مارس؟»
«لست متأكدًا.»
«لماذا لستَ متأكدًا؟»
«كان عليَّ أن آخُذ رسالةً وطردًا وأسلِّمهما إلى شركة في منطقة شورديتش. وحين انطلقت، كان هناك موظف اسمه توماس هولكر في المكتب الخارجي، وكان السيد والتر هورنبي في المكتب الخاص. وحين عدتُ كانا قد غادرا.»
«هل كان الباب الخارجي موصدًا؟»
«نعم.»
«هل كان هولكر يملك مفتاحًا للباب الخارجي؟»
«كلَّا. السيد والتر وابنا أخويه يملك كلٌّ منهم مفتاحًا، وأنا أملك مفتاحًا. لا يملك أحد آخر مفتاحًا لهذا الباب.»
«كم من الوقت كنت غائبًا؟»
«نحو ثلاثة أرباع الساعة.»
«ومن أعطاك الرسالة والطرد؟»
«السيد والتر هورنبي.»
«متى أعطاهما لك؟»
«قبل أن أغادر مباشرة، وأخبرني أن أذهب من فوري خشية أن يُغلَق المكان قبل أن أصِل إلى هناك.»
«وهل وجدتَ المكان مغلقًا؟»
«نعم. كان مغلقًا بالكامل، وكان الجميع قد رحلوا.»
عاود أنستي الجلوس، وخرج الشاهد من المنصَّة وقد بدا عليه الارتياح، ونادى مشرف القاعة: «هنري جيمس سينجلتون.»
نهض السيد سينجلتون من مقعده على الطاولة المجاورة لمحامي الادعاء وتقدم إلى المنصة. عدَّل السير هيكتور نظارته، وقلب صفحةً من الموجز الذي بين يدَيه، وألقى نظرةً حازمةً وقويةً على هيئة المُحلَّفين.
وقال أخيرًا: «أعتقد، يا سيد سينجلتون، أنك على صِلةٍ بقسم البصمات في سكوتلانديارد، أليس كذلك؟»
«بلى. أنا أحد كبار المُساعدين في هذا القسم.»
«ما مهامُّك الرسمية؟»
«تتمثَّل وظيفتي الأساسية في فحص ومقارنة بصمات المُجرمين والمُشتبه بهم. أُصَنِّف هذه البصمات طبقًا لسماتها وأُقيِّدها في ملفاتٍ من أجل الرجوع إليها.»
«أفترض أنك فحصتَ عددًا كبيرًا من البصمات، أليس كذلك؟»
«فحصتُ عدة آلاف من البصمات، ودرستُها لأغراض تحديد الهُوية.»
«فضلًا استعرِض هذه الورقة يا سيد سينجلتون» (وهنا سُلِّمَت الورقة الحاسمة من قِبل مشرف القاعة)، «هل رأيتها من قبل؟»
«نعم. تسلمتُها لفحصها في مكتبي يوم العاشر من شهر مارس.»
«ثمة علامة عليها؛ بصمة إصبع أو إبهام. هل يمكنك أن تُخبرنا أي شيءٍ عن تلك العلامة؟»
«هي بصمة الإبهام اليسرى لروبين هورنبي، المحبوس في قفص الاتهام.»
«هل أنت واثق تمامًا من هذا؟»
«أنا واثق تمامًا.»
«هل تُقسِم بأن العلامة على الورقة تعود لإبهام المتهم؟»
«أُقسم على ذلك.»
«ألَا يمكن أن يكون إبهام شخصٍ آخر؟»
«لا يمكن؛ من المُستحيل أن تكون بصمة شخصٍ آخر.»
حينها شعرتُ بجولييت تضع يدَها المُرتجفة على يدي، ولمَّا نظرتُ إليها، وجدتُها شاحبةً كالموتى. أخذتُ يدَها في يدي، وضغطت عليها برفق وهمست: «تحلَّي بالشجاعة؛ هذا متوقع.»
فهمست بابتسامة خافتة: «شكرًا لك؛ سأحاول؛ لكن الأمر برمَّته مُوهِن للأعصاب للغاية.»
أكمل السير هيكتور: «أتعتبِر أن هُوية صاحب هذه البصمة لا تقبل الشك؟»
فأجابه: «لا تقبل الشك بأي شكل.»
«هل يمكنك أن تشرح لنا، من دون التعمُّق في تفاصيل فنِّية، كيف وصلتَ إلى هذه القناعة التامة؟»
«أخذتُ بنفسي بصمةً من إبهام المُتهم — بعد أن حصلت على موافقته وبعد تحذيره من أن البصمة ستُستخدَم دليلًا ضده — وقارنتُ تلك البصمة مع العلامة التي على الورقة. وقد أجريت هذه المقارنة بدقة بالِغة وبأكثر الطرُق المُعتمَدة، نقطةً نقطة وتفصيلةً تفصيلة، ووجدتُ أن البصمتَين مُتطابقتان من كل الجوانب.
لقد ثبت بحسابات دقيقة — تحقَّقت منها بنفسي — أن احتمال أن تتطابق بصمة إصبع شخصٍ ما مع بصمة الإصبع نفسه لشخصٍ آخر يبلغ واحد إلى أربعة وستين ألف مليون. هذا يعني أنه بما أن عدد بصمات البشر حول العالم يبلُغ حوالي ستة عشر ألف مليون، فإن احتمال أن تكون بصمة إصبع واحد لأي شخص مطابقةً تمامًا لبصمة إصبع أي عضو آخر من الجنس البشري هو واحد إلى أربعة.
وقد قال اختصاصيون كُثُر وذوو مرجعية كبيرة — وأنا أتفق مع قولهم — أن تطابقًا تامًّا أو شبه تام بين بصمتين للإصبع نفسه يُعتبر دليلًا كافيًا لا يحتاج إلى تأييد على أنهما تعودان إلى الشخص نفسه.
تنطبق هذه الحسابات والتقديرات على بصمات الإصبع أو الإبهام العادية والطبيعية. لكن الإبهام التي أُخِذَت منها هذه البصمات ليست إبهامًا عاديةً أو طبيعية. فثمة ندبة خطية ملساء وعميقة عليه — ندبة ناتجة عن قطع قديم فيه — وتمر هذه الندبة عبر نمَط النتوءات، فتتقاطع معها في مواطن وتقطع اتصالها في مواطن أخرى. وهذه الندبة المميَّزة للغاية تُمثِّل سِمةً إضافية، ولها طائفة الاحتمالات الخاصة بها. لذا يتعيَّن علينا أن نضع في اعتبارنا ليس فقط احتمال أن تكون بصمة الإبهام اليُسرى للمتهم متطابقةً مع بصمة الإبهام اليسرى لشخص آخر — والذي يبلغ واحدًا إلى أربعة وستين ألف مليون — ولكن أيضًا احتمال إضافي وهو أن ثمة ندبةً متطابقة في الحجم والمظهر تتخلَّل هذه البصمة وتتقاطع مع نتوءاتها في المواطن نفسها وتقطع اتصالها واستمراريتها بنفس بالكيفية والشكل. لكن حاصل ضرب هذين الاحتمالين يُنتِج احتمالًا نهائيًّا يبلغ حوالي واحدًا إلى أربعة آلاف تريليون أن تكون إبهام المُتهم اليُسرى تطابق بصمة إبهام شخص آخر فيما يتعلَّق بالنمط والندبة التي تقطعه؛ بعبارة أخرى، هذه المصادفة مستحيلة تمامًا.»
خلع السير هيكتور ترامبلر نظارته ونظر طويلًا وبثباتٍ إلى هيئة المُحلَّفين وكأنه يريد أن يقول: «هيا، يا أصدقائي، ما رأيكم في ذلك؟» ثم جلس فجأة، والتفت ناحية أنستي وثورندايك ونظر لهما نظرةً ظافرة.
تساءل القاضي لمَّا رأى أن محامي الدفاع لم يبدِ أي إشارة: «هل تريد استجواب الشاهد؟»
وقد ردَّ أنستي: «كلَّا يا سيدي.»
هنا التفت السير هيكتور ترامبلر مرةً أخرى إلى محامي الدفاع، وأشرق وجهه العريض الأحمر بابتسامةٍ تنمُّ عن ارتياح عميق. وقد انعكست هذه الابتسامة على وجه السيد سينجلتون وهو يغادر منصة الشهود، وحين رمقتُ ثورندايك بنظرةٍ سريعة، رأيت لوهلة أن ثمة بسمةً طفيفة للغاية على مُحيَّاه الهادئ والثابت.
«هربرت جون ناش!»
تقدَّم إلى منصة الشهود رجلٌ ممتلئ في منتصف العمر ذو مظهر حاد وجاد، ونهض السير هيكتور مرةً أخرى.
وقال: «أنت أحد كبار المساعدين في قسم البصمات، أصحيح هذا يا سيد ناش؟»
«نعم.»
«هل سمعت شهادة الشاهد الأخير؟»
«نعم، سمعتها.»
«هل تتفق مع التصريح الذي صرَّح به الشاهد؟»
«أتفق معه تمامًا. وأنا على استعداد لأن أقسم إن البصمة التي وُجِدَت على الورقة في الخزينة هي بصمة الإبهام اليسرى للمُتهم روبين هورنبي.»
«هل أنت واثق من أنه لا احتمال لأي خطأ؟»
«أنا واثق أنه لا احتمال لأي خطأ.»
ألقى السير هيكتور مرةً أخرى نظرةً ذات مغزًى على هيئة المُحلَّفين بينما كان يعاود الجلوس، ولم يبدِ أنستي هذه المرة أيضًا أي إشارةٍ سوى أنه دوَّن بضع ملحوظاتٍ على هامش مذكرته.
سأل القاضي، وهو يغمس قلَمه في الحبر: «هل ستستدعي أي شهود آخرين؟»
ردَّ السير هيكتور: «كلَّا يا سيدي. لقد انتهيت.»
هنا نهض أنستي، وقال، مخاطبًا القاضي:
«أريد استدعاء شهود يا سيدي.»
أومأ القاضي ودوَّن شيئًا في ملحوظاته بينما كان أنستي يتلو مقدمته المقتضبة:
«سيادة القاضي، السادة أعضاء هيئة المُحلَّفين، لن أُضيِّع وقت المحكمة في دفاعات غير ضرورية في هذه المرحلة، لكنني سأشرع دونما إبطاء في استجواب شهودي.»
كان هناك توقف للحظة أو نحو ذلك، ولم يكن يكسر الصمت خلاله سوى صوت حفيف الأوراق وصرير قلَم الريشة في يد القاضي. والتفتت إليَّ جولييت بوجهٍ مُمتقع خائف وقالت هامسة:
«هذا أمر مريع. شهادة الرجل الأخير ساحقة. كيف يمكن الرد عليها؟ لقد تملَّك مني اليأس؛ أوه! يا لروبين المسكين! لقد فقدناه يا دكتور جيرفيس! ليس أمامه فرصة الآن.»
فسألتها: «هل تعتقدين أنه مذنب؟»
فردَّت بسخط: «كلَّا بالطبع. أنا مقتنعة ببراءته كأي وقت مضى.»
فقلت لها: «إذن، إن كان بريئًا، فلا بد من وجود وسيلة لإثبات براءته.»
«صحيح.» ثم عاودت تقول هامسةً بنبرة كئيبة: «أظن ذلك. على أي حال، سنعرف ذلك قريبًا.»
حينها جاء صوت مُشرف القاعة ينادي اسم الشاهد الأول لهيئة الدفاع.
«إدموند هورفورد رو!»
دخل إلى منصة الشهود رجل ذو مظهر صارم، له شعر رمادي ووجهه حليق وسوالفه قصيرة، وأقسم اليمين بالصيغة المعروفة.
وقال أنستي مخاطبًا الشاهد: «أنت، على ما أعتقد، طبيب، وتُدَرِّس الطب الشرعي في مستشفى جنوب لندن، صحيح؟»
«صحيح.»
«هل تسنَّت لك فرصة فحص خصائص الدم؟»
«نعم. فخصائص الدم ذات أهمية بالِغة من وجهة النظر القانونية الطبية.»
«هل يمكنك أن تُخبرنا عمَّا يحدث حين تقع قطرة من الدم — من إصبع مجروح مثلًا — على سطح مثل أرضية خزينة حديدية؟»
«قطرة الدم التي تسقط من جسد حي على أي سطحٍ غير ماصٍّ ستتخثَّر في غضون دقائق قليلة لتصبح كالهلام، وسيكون لها نفس حجم ولون الدم السائل.»
«هل ستحدث لها أي تغيُّرات أخرى؟»
«نعم. في غضون بضع دقائق أخرى، سيبدأ الهُلام في التقلُّص ويُصبح أكثر صلابةً بحيث ينفصل الدم إلى قسمَين، قسم صلب وآخر سائل. سيتألف القسم الصلب من هُلام قوي وصلب له لون أحمر داكن، والقسم السائل من سائل صافٍ يُشبه الماء لونه أصفر باهت.»
«وفي النهاية، بعد مرور ساعتَين مثلًا، ماذا ستكون حالة قطرة الدم؟»
«ستتألَّف قطرة الدم من سائل صافٍ عديم اللون تقريبًا، وفي منتصفه ستكون هناك كتلة مُتخثرة حمراء، صغيرة وصلبة.»
«هَب أن هذه القطرة أُخِذت على ورقة بيضاء، كيف سيكون مظهرها؟»
«ستبتلُّ الورقة بالسائل العديم اللون، أما الكتلة المتخثرة فعلى الأرجح ستلتصق بالورقة في شكل كتلةٍ واحدة.»
«هل سيظهر الدم على الورقة في صورة سائل أحمر صافٍ؟»
«قطعًا لا. سيبدو السائل كالماء، وستبدو الكتلة المتخثرة ككتلةٍ صلبة ملتصقة بالورقة.»
«هل يتصرَّف الدم دومًا بالطريقة التي وصفتها؟»
«دومًا؛ إلا إذا اتُّخِذَت إجراءات مفتعلة لمنعه من التخثُّر.»
«بأي طريقة يمكن منع الدم من التخثُّر أو التصلُّب؟»
«ثمة طريقتان رئيستان. الأولى هي تحريك أو خفق الدم الطازج بسرعة باستخدام قضبان دقيقة. حينها يلتصق الفبرين — أي البروتين الليفي الدموي وهو العنصر المسئول عن تخثُّر الدم — بالقضبان، ويظل الدم المُتبقي سائلًا لوقتٍ طويل جدًّا، ولا يتغيَّر مظهره. أما الطريقة الأخرى فهي إذابة قدْر مُعين من أحد الأملاح القلوية في الدم، بعدها لا يعود لدى الدم أي مَيل إلى التخثُّر.»
«هل سمعت شهادة المُفتش ساندرسون والرقيب بيتس؟»
«نعم.»
«أخبرَنا المفتش ساندرسون أنه فحص الخزينة في الساعة ١٠:٣١ صباحًا، ووجد قطرتَين كبيرتَين من الدم على أرضيتها. وأخبرنا الرقيب بيتس أنه فحص الخزينة بعد ذلك بساعتَين، وأنه أخذ إحدى قطرتي الدم على ورقة بيضاء. حينها كان الدم سائلًا، وعلى الورقة، بدا الدم بمظهر سائلٍ صافٍ له لون أحمر كلون الدم. في رأيك، ما الحالة والطبيعة التي كان عليها ذلك الدم؟»
«أرى أنه إن كان دمًا أصلًا؛ فقد كان دمًا منزوع الفبرين — أي إنه قد جرى إزالة الفبرين منه عن طريق الخفق — أو إنه أُضيف إليه ملحٍ قلوي.»
«هل من رأيك أن الدم الذي وُجِد في الخزينة لا يمكن أن يكون دمًا عاديًّا جاء من جرح أو قطع؟»
«أنا واثق من أنه لم يكن من المُمكن أن يكون كذلك.»
«والآن يا دكتور رو، سأطرح عليك بضعة أسئلة عن أمرٍ آخر. هل أوليتَ أي اهتمامٍ للبصمات التي تُصنَع بأصابع مُخَضَّبة بالدم؟»
«نعم. لقد أجريتُ مؤخرًا بعض التجارب على هذا الموضوع.»
«هلَّا شاركتنا نتائج هذه التجارب؟»
«كان هدفي من هذه التجارب التحقُّق مما إن كانت الأصابع المبللة بالدماء الطازجة يمكن أن تُخلِّف بصماتٍ مميَّزة وواضحة المعالم. أجريتُ عددًا كبيرًا من المحاولات، ووجدت أن هناك صعوبةً شديدة في الحصول على بصمة واضحة حين تكون الأصابع مبللة بدم طازج. النتيجة المُعتادة هي مجرد بقعة حمراء لا تُظهر أي نتوء؛ وذلك لأن الدم يملأ الأخاديد التي بين النتوءات. لكن إن تُرك الدم ليجفَّ على الإصبع تمامًا، يمكن الحصول على بصمة واضحة.»
«هل من الممكن تحديد هُوية بصمة صُنعت بإصبع شِبه جافٍّ تقريبًا؟»
«نعم؛ بسهولة. فالدم شِبه الجاف يكون شبه متخثِّر، ويلتصق بالورقة بشكل مختلف عن التصاق السائل بها، فيُظهِر تفاصيل دقيقة، مثل فُوَّهات الغدد العرقية التي دائمًا ما يطمسها السائل.»
«انظر بإمعان إلى هذه الورقة، التي عُثِرَ عليها في الخزينة، ثم أخبِرني ما ترى.»
أخذ الشاهد الورقة وفحصها بإمعانٍ بعينه المجردة في البداية ثم بعد ذلك بعدسة جيب.
وقال: «أرى علامتَين داميتَين وبصمة، على ما يبدو أنها لإبهام. إحدى العلامتَين تُمثِّل لطخةً مطموسة قليلًا بإصبع أو بإبهام؛ أما الثانية فهي مجرد بقعة. ومن الواضح أن مصدرهما دم سائل. بصمة الإبهام صُنعت أيضًا بدم سائل.»
«هل أنت واثق من أن بصمة الإبهام صُنعت بدم سائل؟»
«واثق تمامًا.»
«هل هناك أي شيءٍ غير عادي بشأن بصمة الإبهام؟»
«نعم. إنها واضحة ومميَّزة على نحو غير عادي. لقد أجريت العديد من المحاولات وسعيتُ جاهدًا للحصول على أوضح البصمات الممكنة باستخدام دماء طازجة؛ لكنَّ أيًّا من محاولاتي لا تقارب هذه البصمة في وضوحها.»
وهنا أخرج الشاهد عددًا من الأوراق، كلُّ منها مُغطًّى ببصمات أصابع دامية، وقارَنَها بالورقة المنزوعة من المفكِّرة.
سُلِّمت الأوراق إلى القاضي لفحصها، وجلس أنستي، وحينها نهض السير هيكتور ترامبلر ليستجوِب الشاهد وقد علت وَجْهَه أماراتُ الحيرة.
«أنت تقول إن الدم الذي وُجِد في الخزينة كان منزوع الفبرين أو جرت معالجته صناعيًّا. ما الذي تستنتجه من هذه الحقيقة؟»
«أستنتج أن مصدره لم يكن جرحًا داميًا.»
«هل لديك أدنى فكرة عن كيفية وصول هذا الدم إلى داخل الخزينة؟»
«ليس لديَّ أي فكرة على الإطلاق.»
«قلتَ إن بصمة الإبهام مميزة تميزًا غير عادي. فما الذي تستنتجه من هذا؟»
«لا أستنتج أي شيء. إذ لا يمكنني تفسير سبب تميزها على الإطلاق.»
جلس مُمثل الادعاء المُحنَّك وهو مُتحير، ولاحظت ابتسامةً طفيفة تتسع على مُحيَّا زميلي.
«أرابيلا هورنبي.»
جاء من ناحية جارتي التي على يساري صوت أنين خافت مصحوب بحفيفٍ عاتٍ من الحرير. ولمَّا نظرتُ إلى السيدة هورنبي، وجدتُها تترنَّح وهي تنهض من المقعد، وكانت ترتجف كالهلام، وتمسح عينَيها بمنديلها وتقبض على حقيبتها المفتوحة. ودلفت إلى منصة الشهود، وبعد أن جالت بعينها في أرجاء القاعة بنظرات طائشة، شرعت تبحث في الأقسام العديدة في حقيبتها.
رنَّ صوت المشرف يقول: «الشهادة التي ستُدلين بها …»، وعندئذٍ توقفت السيدة هورنبي عن تفتيشها في الحقيبة وحدَّقت في الرجل متوجِّسةً، «… إلى المحكمة وهيئة المُحلَّفين تحت القَسَم بين صاحب الجلالة مولانا الملك والمُتهم الماثل هي الحقيقة …»
فقالت السيدة هورنبي بتحفُّظ: «بالتأكيد، أنا …»
«… كل الحقيقة ولا شيء سواها؛ فليُعِنكِ الرب!»
ومدَّ يدَه ممسكًا بالكتاب المقدس، فأخذَتْه منه بيدٍ مرتعشة وعلى الفور وقَع بدويٍّ رنَّان على أرضية منصة الشهود، فغاصت وراءه بسرعة حتى إن قبعتها اصطدمت بعُنف بحاجز المنصة.
اختفت السيدة هورنبي عن الأنظار لحظات، ثم برزت من الأعماق وقد أصبح وجهها أرجوانيَّ اللون وقبعتها مسطحةً ومائلة فوق إحدى أذنَيها كقبعة رجال المدفعية.
وقال مشرف القاعة: «قبِّلي الكتاب المقدس من فضلك»، وهو يكبح بجهدٍ جهيد ابتسامةً عريضة، بينما حاولت السيدة هورنبي جاهدةً أن تحلَّ أربطة قبعتها، تعوقها حقيبتها ومنديلها والكتاب المقدس. فأخذت تعبث باهتياجٍ بقُبعتها، وبعد أن نفضت الغبار عن الكتاب المقدس بمنديلها، قبَّلته برقَّةٍ ووضعته على حاجز المنصة، فسقط من فوره على الأرضية مرةً أخرى.
هتفت السيدة هورنبي: «أنا في غاية الأسف بحق!» وهي تميل من فوق الحاجز مخاطبةً المشرف الذي انحنى ليلتقِط الكتاب، فأسقطت فوق ظهره من حقيبتها المفتوحة سيلًا من العملات المعدنية والأزرار والأوراق النقدية المطوية؛ «أخشى من أنك ستحسبني خرقاء.»
ثم مسحت وجهها وعدَّلت قُبعتها بشكلٍ أنيق على أحد جانبَي رأسها، وذلك بينما نهض أنستي ومرَّر لها مجلدًا صغيرًا أحمر.
وقال: «فضلًا، انظري إلى ذلك المجلد يا سيدة هورنبي.»
فقالت بإشارة تنمُّ عن النفور: «لا أحبِّذ ذلك. فهو مرتبط بأمور ذات طابع بغيض للغاية …»
«هل تعرفينه؟»
«هل أعرفه! كيف لك أن تسألني هذا السؤال وأنت تعلم تمامًا …»
فقاطعها القاضي: «أجيبي على السؤال. هل تعرفين المجلد الذي في يدكِ أم لا؟»
«بالطبع أعرفه. كيف لي ألَّا …»
فقال القاضي: «قولي هذا إذن.»
فردَّت السيدة هورنبي بسخط: «لقد قلتُ هذا.»
فأومأ القاضي إلى أنستي، الذي تابع يقول: «إنه يُدعى «سجل بصمات الإبهام»، على ما أعتقد.»
«أجل، هذا مطبوع على الغلاف؛ لذا أعتقد أن هذا هو اسمه.»
«هلَّا أخبرتِنا، يا سيدة هورنبي، كيف صار «سجل بصمات الإبهام» بحوزتكِ؟»
لبرهة، حدَّقت السيدة هورنبي في مستجوِبها بشدة؛ ثم الْتَقَفَت من حقيبتها ورقةً ونشرتها ونظرت فيها بتعبير ينمُّ عن الحيرة، ثم جعَّدتها في راحة يدِها.
قال القاضي: «لقد طُرح عليك سؤال.»
فقالت السيدة هورنبي: «أوه! أجل. لجنة جمعية … كلَّا، هذه الإجابة الخاطئة … أقصد والتر … أو على الأقل …»
فقال أنستي برزانة كيِّسة: «أستميحكِ عذرًا.»
فقاطعهما القاضي قائلًا: «كنتِ تتحدَّثين عن لجنة تابعة لجمعيةٍ ما. ما هي الجمعية التي كنتِ تُشيرين إليها؟»
نشرت السيدة هورنبي الورقة وبعد أن نظرت فيها، أجابت:
«جمعية المعتوهين العاجزين، يا سعادة القاضي»، وعندئذٍ، تعالت موجة من ضحكٍ مكتوم من منصة النُّظار.
فسأل القاضي: «لكن ما علاقة هذه الجمعية ﺑ «سجل بصمات الإبهام»؟»
«لا شيء، يا سعادة القاضي. لا شيء على الإطلاق.»
«لماذا أشرتِ إليها إذن؟»
فقالت السيدة هورنبي، وهي تمسح عينَيها بالورقة ثم بدَّلتها بسرعة بالمنديل: «حقًّا لست أدري.»
خلع القاضي نظارته وحدق بالسيدة هورنبي بتعبيرٍ ينمُّ عن الحيرة. ثم خاطب المحامي وقال بصوت متعب: «أكمل يا سيد أنستي رجاءً.»
فقال أنستي بنبرة مقنِعة: «هلَّا أخبرتنا، يا سيدة هورنبي، كيف صار «سجل بصمات الإبهام» بحوزتكِ؟»
«ظننتُ أن والتر هو من أعطانيه، وكذلك ظنَّت جولييت، لكن والتر يقول إنه لم يفعل، وهو أدرى بذلك، لكونه شابًّا وذا ذاكرة قوية، كما كانت ذاكرتي حين كنت في عمره، ولا يهم بحق من أين حصلت عليه …»
فقاطعها أنستي: «بل هو مُهم. نحن نرغب في معرفة هذا تحديدًا.»
«إن كنت تقصد أنك تريد أن تحصل على واحدٍ مثله …»
فرد أنستي: «كلَّا. بل نريد أن نعرف كيف حُزت على هذا السجل دون غيره. على سبيل المثال، هل اشتريتِه بنفسكِ، أم إن أحدًا أعطاكِ إياه؟»
«يقول والتر إنني اشتريتُه، لكنني ظننتُ أنه هو من أعطاني إياه، غير أنه يقول إنه لم يفعل، وكما ترى …»
«لا عليكِ بما يقوله والتر. ما رأيك أنتِ؟»
«ما زلتُ أظنُّ أنه أعطاني إياه، ولكن، بالطبع، نظرًا لأن ذاكرتي ليست كما كانت …»
«هل تعتقدين أن والتر أعطاكِ إياه؟»
«نعم، بل في الواقع أنا واثقة، وهكذا تعتقد جولييت.»
«والتر ابن أخي زوجكِ، والتر هورنبي؟»
«أجل، بالطبع. كنتُ أظنُّ أنك تعرف.»
«هل يُمكنكِ أن تتذكَّري المناسبة التي أعطاكِ فيها هذا السجل؟»
«نعم، أتذكرها بوضوح تام. كنا قد دعونا أناسًا على العشاء — يُدعَون آل كولي — ليسوا آل كولي الذين يقطنون دورسيتشاير، رغم أن هؤلاء أناس في غاية اللطف، ولا شك عندي أن آل كولي الآخرين لُطفاء أيضًا، حين تتعرَّف إليهم، لكننا لا نعرفهم. أقول إننا بعد العشاء كنا خامِلين قليلًا ولا نعرف ماذا نفعل؛ لأن جولييت كانت قد جُرحت إصبعها ولم يكن بإمكانها العزف على البيانو سوى بيدِها اليُسرى، وهذا مُضجر إلى جانب كونه مُتعبًا، وآل كولي لا يميلون إلى الموسيقى، عدا أدولفوس الذي يعزف الترومبون، لكنه لم يكن قد أحضرها معه، بعد ذلك، لحُسن حظِّنا، جاء والتر وأحضر معه «سجل بصمات الإبهام» وأخذ جميع بصمات إبهامِنا وبصمته كذلك، وتسلَّينا كثيرًا، وقالت ماتيلدا كولي — وهي الابنة الكبرى الثانية — إن روبين هزَّ مرفقها، لكن هذا كان مجرد عُذر من أجل …»
فقاطعها أنستي: «بِالضَّبْط. تتذكَّرين بوضوح أن ابن أخي زوجك والتر أعطاكِ «سجلَّ بصمات الإبهام» في تلك المناسبة؟»
«أوه، أتذكَّر تمامًا؛ لكنه، كما تعلم، ابنُ أخي زوجي …»
«أجل. وأنتِ واثقة من أنه أخذ البصمات؟»
«واثقة تمامًا.»
«وواثقة من أنكِ لم ترَي هذا السجلَّ قبل ذلك؟»
«مطلقًا. كيف كنت سأراه قبل ذلك؟ لم يكن قد أحضره.»
«هل أعرتِ هذا السجلَّ لأي أحدٍ في أي وقت؟»
«كلَّا، مطلقًا. لم يرغب أحد في أن يستعيره لأن …»
«وهل خرج من حوزتك من قبلُ في أي وقت؟»
«أوه، لا أظن ذلك؛ في الواقع، لقد فكَّرت كثيرًا، رغم أنني أكره أن أشكَّ في الناس، وحقًّا لا أشك في أحد بعينِه، لكن الأمر بالتأكيد كان غريبًا جدًّا ولا يُمكنني أن أفسِّره بأي طريقةٍ أخرى. كنت أحتفظ بسجلِّ بصمات الإبهام في أحد الأدراج في طاولة الكتابة الخاصة بي، وفي الدرج نفسه كنت أحتفظ بحقيبة مناديلي — في واقع الأمر، ما زلت أحتفظ بها في ذلك الدرج وهي موجودة فيه في هذه اللحظة؛ فقد نسيتُها في خضمِّ عجلتي وارتباكي ولم أتذكَّرها حتى صِرنا في عربة الأجرة، وحينها كان الأوان قد فات؛ لأن السيد لولي …»
«أكملي. احتفظتِ به في درج مع حقيبة مناديلكِ.»
«هذا ما قلته. حسنٌ، حين كان السيد هورنبي يمكث في برايتون أرسل إليَّ يطلب مني أن آتي له مدة أسبوع وأن آتي بجولييت معي، جولييت التي هي الآنسة جيبسون كما تعلم. وقد ذهبنا بالفعل، وحين كنَّا على وشك الانطلاق، أرسلتُ جولييت لتأتي لي بحقيبة مناديلي من الدرج، وقلت لها: «ربما يجدُر بنا أن نأخذ سجل البصمات معنا؛ فقد يكون له نفع في يوم ماطر.» فذَهَبَتْ وعادت بعد قليل وقالت لي إن سجل البصمات ليس في الدرج. اندهشتُ كثيرًا حتى إنني عدتُ معها وبحثتُ عنه بنفسي، وكان الدرج فارغًا. لم أُعِر الأمر اهتمامًا كبيرًا حينها، لكن حين عُدنا إلى المنزل، وبمجرد أن نزلنا من عربة الأجرة، أعطيتُ جولييت حقيبة المناديل لتضعها في مكانها، وسرعان ما جاءتني تجري وهي في حالةٍ من الإثارة الشديدة. قالت: «عجبًا، يا عمَّة، سجل البصمات في الدرج؛ لا بد أن أحدَهم كان يتطفَّل على طاولة الكتابة الخاصة بكِ.» فذهبت معها إلى الدرج وبالفعل كان السجلُّ فيه. لا بد أن أحدًا ما أخذه وأعاده أثناء غيابنا.»
«من يستطيع الوصول إلى طاولة الكتابة الخاصة بكِ؟»
«أي أحد؛ لأن الأدراج لا تُقفل بالأقفال مطلقًا. ظننَّا أنه لا بد وأن أحد الخدم هو من فعل ذلك.»
«هل أتى أي أحدٍ إلى المنزل في أثناء غيابكم؟»
«كلَّا، لم يأتِ أحد، عدا ابنَي أخوي زوجي طبعًا؛ ولم يمسسه أيٌّ منهما؛ لأننا سألناهما وقالا إنهما لم يفعلاها.»
«شكرًا لكِ.» جلس أنستي، وبعد أن عدَّلت السيدة هورنبي قُبعتها مرةً أخرى، كانت على وشك أن تنزل من على منصة الشهود حين نهض السير هيكتور وحدَّق فيها بنظرةٍ متوعِّدة.
وقال: «أشرتِ إلى جمعية ما — جمعية المعتوهين العاجزين كما أظن، بغضِّ النظر عن ماهيتها. والآن، ما الذي جعلكِ تشيرين إليها؟»
«كان هذا خطأً؛ كنت أفكِّر في شيءٍ آخر.»
«أعلم أنه كان خطأً. لقد نوَّهتِ إلى ورقة كانت في يدكِ.»
«لم أُنوِّه لها، إنما نظرتُ فيها فقط. وهي خطاب من جمعية المعتوهين العاجزين. ليس لي أي علاقة بها؛ أنا لا أنتمي إليها أو أي شيءٍ من هذا القبيل.»
«هل خلطتِ خطأً بين هذه الورقة وورقة أخرى؟»
«نعم، ظننتُها ورقة الملاحظات التي ستُساعدني على التذكُّر.»
«ما نوع هذه الملاحظات؟»
«أوه، مجرد الأسئلة التي مِن المرجَّح أن تُطرح عليَّ.»
«هل كانت إجاباتكِ على تلك الأسئلة مكتوبةً في الورقة أيضًا؟»
«بالطبع. لن يكون لهذه الأسئلة أي فائدة من دون الإجابات عليها.»
«وهل طُرحت عليكِ الأسئلة التي كانت في هذه الورقة؟»
«نعم؛ أو بعضها على الأقل.»
«هل أجبتِ بالإجابات التي كانت مدوَّنةً في الورقة؟»
«لا أظن أني فعلت — في الواقع، أنا واثقة من أني لم أفعل؛ لأن …»
«آه! لا تظنين أنكِ فعلتِ.» ابتسم السير هيكتور ترامبلر ابتسامةً ذات مغزًى إلى هيئة المحلَّفين، واستطرد:
«مَن الذي كتب هذه الأسئلة والإجابات عليها؟»
«ابن أخي زوجي، والتر هورنبي. فقد ظنَّ …»
«لا عليكِ بما ظنَّه. من الذي أشار عليه أو طلب منه أن يفعل هذا؟»
«لا أحد. كانت فكرته هو أن يفعل، وهذا من مراعاته ولطفه أيضًا، رغم أن الدكتور جيرفيس أخذ منِّي الورقة وقال إن عليَّ أن أعتمد على ذاكرتي.»
كان من الواضح أن السير هيكتور فوجئ بهذه الإجابة، فجلس فجأةً وقد بدت عليه علامات الحزن الشديد.
سأل القاضي: «أين هذه الورقة التي كُتِبَتْ فيها الأسئلة والأجوبة؟» تحسبًا واستباقًا لهذا السؤال، كنتُ قد سلَّمت الورقة بالفعل إلى ثورندايك، وكنتُ قد لاحظتُ من النظرة ذات المغزى التي نظر لي بها أنه لم يغفل عن ملاحظة السِّمة المُمَيِّزة للنصِّ المكتوب على آلة كاتبة. لقد تجاوز الأمر الآن كل شكٍّ حقًّا؛ لأنه مرَّر لي بسرعة قطعة ورقٍ وجدتُ حين فتحتُها أنه كان قد كتب فيها: «فلان = و. ﻫ.».
وبينما كان أنستي يُسلِّم الورقة محلَّ النقاش إلى القاضي، رمقتُ والتر هورنبي بنظرةٍ سريعة ولاحظتُ أنه كان يتميَّز غضبًا، وإن كان يحاول جاهدًا أن يبدو هادئًا وغير مكترث، وكانت النظرة التي ينظر بها إلى زوجة عمِّه شريرة تمامًا.
وسأل القاضي، وهو يُمرِّر الورقة للشاهدة: «أهذه هي الورقة؟»
أجابت السيدة هورنبي بنبرة مُرتجفة: «نعم، يا سعادة القاضي»؛ وعندئذٍ أعيدت الورقة إلى القاضي الذي شرع يقارنها بملاحظاته.
ثم قال بنبرة حازمة بعد مقارنة سريعة: «سآمُر أن تُصادر هذه الورقة. فثمة محاولة واضحة للتلاعُب بالشهود. أكمل استجوابك يا سيد أنستي.»
ساد الصمت لحظة، تمايلت خلالها السيدة هورنبي وهي تعاود اتخاذ مجلسها، وكانت تشهق من الإثارة والارتياح؛ ثم نادى مشرف القاعة:
«جون إيفلين ثورندايك!»
وهتفَت جولييت وهي تُشبِّك يدَيها: «حمدًا للرب! أوه! هل سيتمكن من إنقاذ روبين؟ أتظنُّ أنه سيفعل، يا دكتور جيرفيس؟»
فأجبتُها: «هناك من يظنُّ هذا»، وأنا أنظر باتجاه بولتون، الذي كان يحتضِن بين ذراعَيه الصندوق الغامِض ويُمسك بحقيبة الميكروسكوب، ويُحدِّق في سيدِه بابتسامةٍ مُنتشية. «بولتون يتمتَّع بإيمان أكبر منكِ، يا آنسة جيبسون.»
فردَّت: «أجل، يا له من رجلٍ مخلص! سنعرف أسوأ ما يمكن أن يحدُث عن قريب جدًّا على أي حال.»
فقلت: «أسوأ أو أفضل ما يمكن أن يحدُث. سنسمع الآن الدفاع الحقيقي.»
فهتفت بنبرةٍ خفيضة: «بعون الرب سيكون دفاعًا جيدًا»؛ وغمغمتُ أنا أن «آمين» رغم أنني لستُ متديِّنًا عادة.