الفصل السادس عشر

ثورندايك يقلب الطاولة

بينما اتخذ ثورندايك مكانه في المنصَّة، نظرتُ إليه بشيءٍ من الاندهاش غير المُبرَّر؛ فقد شعرتُ أنني لم أُدرك من قبلُ قطُّ نوعية الرجال التي ينتمي إليها صديقي فيما يتعلق بمظهره الخارجي. كثيرًا ما لاحظتُ القوة التي ينمُّ عنها وجهه، وذكاءه الحاد وجاذبيته؛ لكنني لم أنتبِه من قبلُ قَط إلى أكثر ما يُذهلني الآن: وهو أن ثورندايك كان في واقع الأمر أكثر الرجال الذين عرفتهم وسامة. كان يرتدي ثيابًا بسيطة، ولم يُضِف الرداء الطويل الفضفاض ولا الشعر المُستعار لمظهره أي جاذبية، ومع ذلك كان حضوره مُهيمنًا على القاعة. حتى القاضي، رغم ما كان يرتديه من رداءٍ قرمزي وزخارف تدلُّ على منصبه، بدا بالمقارنة به شخصًا عاديًّا، في حين بدا أعضاء هيئة المُحلَّفين الذين التفتوا لينظروا إليه وكأنهم كائنات من مرتبةٍ أدنى. لم يكن ما لفت انتباهي هو جسده الطويل المُنتصِب بإباء ورصانة، ولا ما يوحي به وجهه من قوة ورجاحة عقل كبيرة، بل كان حسن انسجام وبهاء وجهه نفسه هو ما أسَرَ انتباهي؛ بهاء جعل وجهه أقرب إلى قناع كلاسيكي مصنوع من الرخام ذي اللون العاجي المُستخرَج من جبل بنتلي في اليونان منه إلى الوجوه المُتلهِّفة التي تتحرك من حولنا في عجلةٍ وضجيج حياة شاقة وتافهة في الوقت ذاته.

قال أنستي: «أنت على صِلة بمدرسة الطب في مستشفى سانت مارجريت، صحيح يا دكتور ثورندايك؟»

«أجل. أنا محاضر في الطبِّ الشرعي وعِلم السموم.»

«هل تتمتع بخبرةٍ كبيرة في تحقيقات الطب الشرعي؟»

«نعم أتمتع بخبرةٍ كبيرة. فأنا أعمل الآن بصفةٍ حصرية في مجال الطب الشرعي.»

«أسمِعتَ الشهادة ذات الصِّلة بقطرتَي الدماء اللتَين وُجِدتا في الخزينة؟»

«نعم سمعتها.»

«ما رأيك في حالة الدم؟»

«أقول إنه قد جرت معالجته ولا شك — على الأرجح بإزالة الفبرين.»

«أيمكنك أن تقترح أي تفسيرٍ لحالة ذلك الدم؟»

«بإمكاني ذلك.»

«هل لتفسيرك صِلة بأي خواص لبصمة الإبهام التي وُجِدَت على الورقة في الخزينة؟»

«نعم.»

«هل أبديتَ اهتمامًا بمسألة البصمات من قبل؟»

«نعم. أوليتُ هذه المسألة قدرًا كبيرًا من الاهتمام.»

«رجاءً تفضَّل بفحص هذه الورقة» (هنا سلَّم مشرف القاعة ورقة المفكرة إلى ثورندايك). «هل رأيتَها من قبل؟»

«نعم. رأيتُها في سكوتلانديارد.»

«هل فحصتَها بإمعان؟»

«فحصتُها بإمعان شديد. فقد مكَّنتني الشرطة من ذلك، وبإذنٍ منهم، أخذتُ لها عدة صور فوتوغرافية.»

«هل هناك علامة على هذه الورقة تُشبه بصمة إبهام إنسان؟»

«نعم.»

«هل سمعت الشاهدَين الخبيرَين وهما يُقسمان إن هذه العلامة صُنِعت بالإبهام اليُسرى للمُتَّهم روبين هورنبي؟»

«سمعتهما.»

«هل تتفق مع ما صرَّحا به؟»

«كلَّا.»

«في رأيك، هل صُنِعَت العلامة على الورقة بإبهام المُتهم؟»

«كلَّا. أنا مُقتنع أنها لم تُصنَع بإبهام روبين هورنبي.»

«هل تظنُّ أنها صُنِعت بإبهام شخصٍ آخر؟»

«كلَّا. في رأيي أنها لم تُصنَع بأي إبهامٍ بشري على الإطلاق.»

عند هذا القول توقَّف القاضي لحظةً والقلَم في يده، وحدَّق في ثورندايك وفمه مفتوح قليلًا، في حين تبادل الخبيران النظرات وقد ارتفعت حواجبهما.

«في اعتقادك، كيف صُنِعت هذه البصمة؟»

«بواسطة ختم، إما من المطَّاط الطبيعي أو في الغالِب من الجيلاتين المُعالَج بالكروم.»

هنا ضرب بولتون، الذي كان قد بدأ ينتصب قائمًا شيئًا فشيئًا، فخذَه ضربةً قويةً وأطلق ضحكةً عالية، فتحوَّلت إليه كلُّ الأعيُن بما في ذلك القاضي.

فقال القاضي وهو ينظر بنظرةٍ صاعقة إلى الجاني المُرتعِب، الذي كان قد انكمش في مكانه في أصغر حيِّزٍ رأيتُ رجلًا يشغله يومًا: «إن تكرَّر هذا الصوت، فسأبعد صاحبه عن القاعة.»

أكمل أنستي: «أفهم إذن أنك ترى أن البصمة — التي أقسم الخبيران إنها بصمة المُتهم — هي بصمة مزوَّرة؟»

«أجل. تلك بصمة مزوَّرة.»

«لكن هل من المُمكن أن يُزوِّر أحدُهم بصمة إبهام أو بصمة إصبع آخر؟»

«ليس الأمر مُمكنًا وحسب، بل وسهل جدًّا.»

«بسهولة تزوير توقيع، على سبيل المثال؟»

«الأمر أسهل بكثير، وأكثر أمانًا إلى حدٍّ كبير. فالتوقيع، إذ يكون مكتوبًا بالقلَم، يتطلَّب أن يكون تزويره مكتوبًا بقلَم أيضًا، وهي عملية تتطلَّب مهارةً خاصة جدًّا، وفي نهاية المطاف، لا ينتج عنها أبدًا نسخة طبق الأصل. غير أن البصمة علامة مختومة؛ تكون الأنامل فيها هي الختم؛ ولا يلزم سوى أن يحصل أحدُهم على ختمٍ يُطابق الأنملة في الخصائص والسِّمات من أجل إنتاج بصمةٍ متطابقة من جميع النواحي مع البصمة الأصلية، ولا يمكن تفريقها عنها على الإطلاق.»

«ألن يكون هناك أي وسيلةٍ لكشف الاختلاف بين بصمة مزوَّرة والبصمة الأصلية؟»

«على الإطلاق؛ لأنه لن يكون هناك اختلاف من الأساس.»

«لكنك ذكرت، بكل تأكيد، أن بصمة الإبهام التي على هذه الورقة بصمة مزوَّرة. والآن، إن كان من غير المُمكن أن نفرِّق بينها وبين الأصلية، فكيف يمكنك أن تكون متأكدًا من أن هذه البصمة بالذات مزوَّرة؟»

«كنتُ أتحدَّث عما يمكن تحقيقه إذا ما بذلنا العناية الواجبة، لكن من الواضح أن المُزوِّر يمكن أن يكون مهملًا أو غافلًا فيُخفق في إخراج بصمةٍ متطابقة تمامًا مع البصمة الأصلية، ومن ثم يُصبح كشف الفارق بينهما مُمكنًا. وهذا ما حدث في القضية الراهنة. فالبصمة المزوَّرة لا تتطابق تمامًا مع البصمة الحقيقية. ثمة اختلاف طفيف بينهما. لكن إضافةً إلى هذا، تحمل الورقة دليلًا جوهريًّا على أن البصمة التي عليها مزورة.»

«سننظُر في هذا الدليل بعد قليلٍ يا دكتور ثورندايك. لكن بالعودة إلى إمكانية تزوير البصمة، هل يمكنك أن تشرح لنا، ومن دون التعمُّق في التفاصيل التقنية، الطرائق التي يمكن من خلالها إنتاج هذا الختم الذي أشرتَ إليه؟»

«ثمة طريقتان أساسيَّتان. الأولى بسيطة ومِن السهل إجراؤها، وتتمثَّل في صُنع نموذجٍ للأنامل. ثم يُصنع بعد ذلك قالبٌ عن طريق الضغط على الإصبع في مادة بلاستيكية، مثل طين التشكيل الناعم أو شمع الأختام المُذاب، ثم بإضافة محلول دافئ من الجيلاتين المُذاب في هذا القالب وتركه ليبرد ويجمد، نحصل على قالبٍ يُنتِج لنا بصماتٍ مثاليةً تمامًا. لكن، بوجهٍ عام، لا تكون هذه الطريقة مُجديةً لأغراض المُزوِّر؛ لأنها لا يمكن تنفيذها من دون عِلم الضحية؛ وإن كان مِن الممكن أن ينجح المُزوِّر في تحقيق غايته في حالات الوفاة أو النوم أو الوقوع تحت تأثير المُخدِّر، ومن ميزات هذه الطريقة كذلك أنها لا تتطلَّب مهارةً أو معرفة فنية ولا أجهزة أو أدواتٍ خاصة. أما الطريقة الثانية الأكثر فاعلية، والتي لا شك عندي في أنها المُتَّبعة في حالتنا هذه، فتتطلَّب المزيد من المعرفة والمهارة.

في المقام الأول، من الضروري الحصول على أو الوصول إلى بصمة أصلية. تؤخَذ صور فوتوغرافية لهذه البصمة، أو بالأحرى، تؤخَذ لها صور سلبية، يستلزم من أجل هذا الغرَض أن تؤخَذ على شريحة بالمعكوس، فيوضع الفيلم السالب على إطار طباعة من نوع خاص عليه شريحة من الجيلاتين المُعالَج بثاني كرومات البوتاسيوم، ويُعَرَّض الإطار للضوء.

والآن، هناك خاصية عجيبة للغاية للجيلاتين المُعالَج بهذه الطريقة؛ والذي يُسمَّى الجيلاتين المُكروَم. فكما هو معروف، من السهل أن يذوب الجيلاتين العادي في الماء الساخن، والجيلاتين المُكروَم قابل للذوبان أيضًا في الماء الساخن ما دام ليس معرَّضًا للضوء؛ لكن لدى تعرُّضه للضوء، تحدُث له تغيرات ويُصبح غير قابل للذوبان في الماء الساخن. والأجزاء المُعتِمة في الفيلم السالب تحمي شريحة الجيلاتين المُكروَم من الضوء، في حين يمرُّ الضوء بحريةٍ من الأجزاء الشفافة؛ غير أن الأجزاء الشفافة في الفيلم السالب تتوافق مع العلامات السوداء على البصمة، والتي تتوافق بدورها مع النتوءات التي على الإصبع. من ثم لا يكون للضوء تأثير على الشريحة الجيلاتينية إلا في الأجزاء المُتوافقة مع النتوءات؛ فيكون الجيلاتين في هذه الأجزاء غير قابل للذوبان، في حين يكون الباقي كلُّه منه قابلًا للذوبان. وعندما نغسل الشريحة الجيلاتينية — المُثبَّتة على شريحة معدنية رفيعة من أجل التثبيت والدعم — بالماء الساخن، فيذوب الجزء القابل للذوبان ويتبقَّى الجزء غير القابل للذوبان (المتوافق مع النتوءات على الإصبع) فيبرُز على السطح. وبذا نكون قد أنتجنا بروزًا أو مُجسمًا مطابقًا للبصمة به نتوءات حقيقية وتجاعيد مطابقة من حيث السِّمات مع النتوءات والتجاعيد الموجودة على الأنملة. فإن مرَّرنا أسطوانةً دوَّارة مُحبَّرة على هذا المُجسَّم، أو إن ضغطنا به على لوح مُحبَّر ثم ضغطنا به على ورقة، سننتُج بصمةً متطابقة تمامًا مع البصمة الأصلية، حتى لدرجة البقع البيضاء الصغيرة التي تُشير إلى فتحات الغدد العَرَقِيَّة. وسيكون من المُستحيل اكتشاف أي اختلافٍ بين البصمة الحقيقية والأخرى المزوَّرة؛ لأنه في واقع الأمر لا يوجَد أي فارق بينهما.»

«لكن من المؤكد أن هذه العملية التي وصفتُها في غاية الصعوبة والتعقيد، صحيح؟»

«على الإطلاق؛ هي أصعب قليلًا جدًّا من الطباعة الكربونية، والتي يُمارسها بنجاح أعدادٌ من الهواة. علاوةً على ذلك، يمكن لأي حفَّار فوتوغرافي أن يُنتج هذا المُجسَّم الذي وصفته — فهو في واقع الأمر لا يعدو عمليًّا القوالب الخشبية العادية. والعملية التي وصفتها هي، في جميع عناصرها الأساسية، العملية المُستخدَمة في إعادة إنتاج رسومات القلم والحبر، ويمكن لأي أحدٍ من المئات الذين يمتهِنون هذه المهنة أن يصنع كتلةً مجسَّمةً لبصمة إصبع، يمكن بها تنفيذ تزوير لا يمكن اكتشافه.»

«لقد أكَّدت أنه لا يمكن تمييز البصمة المزيَّفة عن الأصلية. فهل أنت مُستعِد لتقديم دليل على صحة هذا؟»

«نعم. أنا مُستعد لصنع بصمةٍ مُزيفة لإبهام المُتهم أمام المحكمة.»

«وتقول إن هذه البصمة المُزيفة لن يكون من الممكن تمييزها عن الأصلية، حتى بواسطة الخبراء؟»

«نعم.»

التفت أنستي باتجاه القاضي. وقال: «هل تأذن سيادتك بتنفيذ العرض الذي يقترحه الشاهد؟»

فأجابه القاضي: «بالطبع. فهو جوهري للغاية.» ثم أضاف مخاطبًا ثورندايك: «كيف تقترح إجراء هذه المقارنة؟»

أجاب ثورندايك: «لقد أحضرتُ معي، يا سيادة القاضي، لهذا الغرض عددًا من الأوراق، كل منها مُقسَّم إلى عشرين مربعًا. أقترح أن نجعل عشرةً من هذه المربعات لبصمة إبهام المُتهم المزيفة، وأن نملأ العشرة الأخرى بالبصمة الحقيقية. وأقترح أن يفحص الخبيران الورقة بعد ذلك وأن يُخبرا المحكمة أيها الحقيقية وأيها الزائفة.»

فقال سيادته: «يبدو هذا اختبارًا عادلًا وفعَّالًا. هل لديك أي اعتراض على هذا العرض أيها السير هيكتور؟»

تشاور السير هيكتور ترامبلر على عَجَل مع الخبيرَين اللذَين كانا يجلسان في مقعد المحامي، ثم أجاب في فتور:

«ليس لدينا اعتراض، يا سيادة القاضي.»

«في هذه الحالة إذن، سآمُر بانسحاب الشاهدَين الخبيرَين من قاعة المحكمة بينما يجري تحضير البصمات.»

نهض السيد سينجلتون وزميله طاعةً لأمر القاضي، وغادرا القاعة بتردُّد واضح، في حين أخرج ثورندايك من حافظة صغيرة ثلاث ورقات وسلَّمها إلى القاضي.

وقال: «فضلًا، يا سيادة القاضي، ضع علاماتٍ على عشرة مربعات في ورقتَين من هذه الأوراق، وسنُعطي واحدةً لهيئة المُحلَّفين وستحتفظ سيادتكم بواحدة، بحيث تتحقَّق من الثالثة حين نصنع البصمات عليها.»

فقال القاضي: «هذه خطة ممتازة؛ وحيث إن هذه الإحاطة خاصة بي وبهيئة المُحلَّفين، سيكون من الأفضل أن تأتي إلى هنا وتجري عملية ختم البصمات على طاولتي في حضور رئيس هيئة المُحلَّفين ومحامي الدفاع والادعاء.»

ووفقًا لتوجيهات القاضي، تقدَّم ثورندايك إلى منصة القضاء، وبينما نهض أنستي مال باتجاهي.

وقال: «من الأفضل أن تأتي أنتَ وبولتون أيضًا. سيحتاج ثورندايك إلى مساعدتكما، وبإمكانكما كذلك أن تشهدا الجزء المُمتع. سأشرح الأمر لسيادته.»

صعد الدرَج المؤدي إلى منصة القضاء وخاطب القاضي ببضع كلمات، فنظر القاضي باتجاهنا وأومأ موافقًا، وعندئذٍ تبعته أنا وبولتون بابتهاج، وكان بولتون يحمِل الصندوق وهو في غاية السرور.

وكان بطاولة القضاء دُرْجٌ قليل العُمق يُفتَح من جانبها ويسع الصندوق، فصار سطح الطاولة خاليًا لتوضَع عليه الأوراق. وحين رُفِعَ غطاء الصندوق، كان به لوح تحبير من النحاس، وبكرة دوارة صغيرة و«البيادق» الأربعة والعشرون التي كانت قد تسبَّبت في حيرة كبيرة لبولتون، فأخذ ينظر لها الآن بعينَين يتلألأ فيهما الاستمتاع والظفر.

تساءل القاضي وهو ينظر بفضول إلى مجموعة المقابض الخشبية: «هل هذه كلها أختام؟»

أجاب ثورندايك: «كلها أختام يا سيدي، وكل واحد منها مأخوذ من بصمةٍ مختلفة عن إبهام المُتهم.»

فسأله القاضي: «لكن لماذا كل هذا العدد؟»

أجاب ثورندايك، وهو يعتصر قطرةً من حبر البصمات على لوح التحبير ويشرع في بسطها على هيئة طبقة رقيقة: «لقد ضاعفتُ عددها لأتجنَّب التماثُل الواضح لختمٍ واحد. ويُمكنني أن أقول إن من المُهم للغاية ألَّا يعرف الخبراء أنه جرى استخدام أكثر من ختم.»

قال القاضي: «أجل، فهمت.» ثم أضاف وهو يخاطب محامي الادعاء: «أنت تعي هذا أيضًا، أيها السير هيكتور»، فانحنى السير هيكتور بدوره في تيبُّس، وكان من الواضح أنه يراقِب العملية برمَّتها باستياء شديد.

نشر ثورندايك الحبر على أحد الأختام وسلَّمه إلى القاضي الذي فحصه بدوره بفضولٍ ثم ضغط به على ورقةٍ مستعمَلة، فظهر عليها على الفور طبعة واضحة للغاية لإبهامٍ بشري.

فهتف قائلًا: «بديع! عبقري للغاية! هذه عبقرية!» ثم ضحك ضحكةً لطيفة وأضاف، وهو يُسلِّم الختم والورقة إلى رئيس هيئة المحلفين: «من حُسن الحظ يا دكتور ثورندايك أنك منحاز إلى جانب القانون والنظام؛ لأنك لو كنتَ منحازًا للجانب الآخر، أخشى من أن الشرطة كانت ستواجِه معك أوقاتًا صعبة. والآن إن كنتَ مُستعدًّا فسنبدأ. هلَّا ختمت، فضلًا، إحدى البصمات على المربع رقم ثلاثة.»

فسحب ثورندايك ختمًا من حجيرته، وحبَّره على اللوح، وضغطه بدقة على المربع المُشار إليه، فخلَّف بصمةً واضحةً وحادَّة.

وتكرَّرت العملية على تسع مربعات أخرى، وفي كل مرة كان يستخدِم ختمًا مختلفًا لكل طبعة. ثم أضاف القاضي علامات على المربعات العشرة المقابلة للورقتَين الأُخريين، وبعد أن انتهى، أمَر رئيسَ هيئة المُحلَّفين بعرض الورقة التي تحمِل البصمات الزائفة على أعضاء هيئة المُحلَّفين مع الورقة التي تحمل العلامات والتي سيحتفظون بها، وذلك من أجل التحقُّق من صحَّة ما سيُدلي به الشاهدان الخبيران من إفادات. وحين انتهى هذا، أُحضِر المُتهم من قفص الاتهام ووقف إلى جوار الطاولة. ونظر القاضي في فضول وعطف إلى الرجل الوسيم القوي الذي كان يقف متهمًا بجريمة نكراء لا تتناسب مع مظهره، وشعرت، لمَّا لاحظت هذه النظرة، أن روبين سيحصل، على الأقل، على محاكمة عادلة بِناءً على الأدلة، من دون انحيازٍ أو ربما حتى مع شيءٍ من الانحياز لصالحه.

وواصل ثورندايك عمله بحذَر وتأنٍّ في الجزء المُتبقي من العملية. فكان لوح التحبير يُحبَّر من جديدٍ في كل مرة، وبعد كل ختم، كان إبهام روبين يُنظَّف ويُجفَّف تمامًا؛ وحين انتهى من العملية واقتيد المُتهم ليعود إلى قفص الاتهام، كانت المربعات العشرون على الورقة تحمل عشرين بصمة إبهام، كانت جميعها، في نظري، على أي حال، متطابقةً تمامًا.

جلس القاضي لمدة تقارب الدقيقة مستغرقًا في التدقيق في هذه الوثيقة الفريدة بتعبيرٍ كان ما بين العبوس والتبسُّم. وأخيرًا، حين كنَّا قد عدنا جميعًا إلى أماكننا، أمر مشرف القاعة بأن يُدخِل الشاهدَين.

سعدتُ بملاحظة التغيير الذي كان قد طرأ على الخبيرَين في هذه الفترة القصيرة. إذ كانت قد اختفت البسمة الواثقة والمظهر الذي ينمُّ عن الانتصار الناتج عن طرح ورقة رابحة، وكان تعبيرهما الآن ينمُّ عن القلق والترقُّب. وبينما كان السيد سينجلتون يتقدَّم بتردُّد إلى الطاولة، تذكَّرت الكلمات التي كان قد نطق بها في مكتبه في سكوتلانديارد؛ كان من الواضح أن خُطته في إنهاء المباراة بحركةٍ سهلة لإماتة الشاه لم تكن تتضمَّن الحركة التي كان الدفاع قد نفَّذها.

قال القاضي: «سيد سينجلتون، هذه ورقة طُبعت عليها عشرون بصمة إبهام. عشرة منها حقيقية وتعود لإبهام المُتهم بالفعل، وعشرة أخرى مزيفة. من فضلك افحص هذه البصمات ودوِّن أرقام البصمات الحقيقية والبصمات المزيفة. وحين تنتهي من ذلك، سَلِّم الورقة إلى السيد ناش.»

فسأل السيد سينجلتون: «هل هناك أي اعتراض على استخدامي للصورة الفوتوغرافية التي معي في المقارنة يا سيدي؟»

أجاب القاضي: «لا أظن ذلك. ما قولك يا سيد أنستي؟»

فأجاب أنستي: «لا اعتراض على الإطلاق، يا سيدي.»

على هذا أخرج السيد سينجلتون من جيبه صورةً فوتوغرافيةً مكبَّرةً لبصمة الإبهام وعدسةً مُكبِّرة، وبمساعدتها أخذ يفحص المجموعة المُحيِّرة من البصمات على الورقة أمامه؛ وبينما كان يمضي في هذا لاحظت بارتياح أن تعبيرات وجهه ازدادت ارتيابًا وقلقًا. وبين الحين والحين كان يُدوِّن ملحوظةً في ورقةٍ من مفكِّرةٍ بجانبه، ومع تراكم الملحوظات، ازداد عبوسه وتعاظمت حيرته وتجهُّمه.

وفي الأخير انتصب في جلسته، وأمسك ورقة المفكرة في يده، ثم وجَّه حديثه إلى القاضي.

«لقد أنهيتُ فحصي يا سيدي.»

«ممتاز. سيد ناش، هلَّا فحصتَ هذه الورقة فضلًا ودوَّنت نتيجة فحصك؟»

فهمست لي جولييت: «أوه! أتمنَّى أن يُسرعا. هل تظن أنهما سيستطيعان التفريق بين البصمات الحقيقية والبصمات المزيفة؟»

فأجبتها: «لا أستطيع أن أجزم؛ لكننا سرعان ما سنعرف. لقد بدت لي جميع البصمات مُتشابهة.»

أجرى السيد ناش فحصه بتأنٍّ مُزعِج، وظلَّ طوال ذلك محافظًا على مظهر المُنتبه المتبلِّد الحس؛ لكنه في آخِر المطاف أتمَّ ملحوظاته وسلَّم الورقة إلى مشرف القاعة.

وقال القاضي: «والآن لنسمع ما توصلتَ إليه يا سيد سينجلتون. أنت تحت القَسَم.»

تقدَّم السيد سينجلتون إلى منصة الشهود، ووضع ملحوظاته على حافتها، وواجه القاضي.

وسأله السير هيكتور ترامبلر: «هل فحصت الورقة التي أُعطِيَت لك؟»

«نعم، فعلت.»

«ماذا رأيت على الورقة؟»

«رأيت عشرين بصمة إبهام، بعضها كان زائفًا بصورةٍ واضحة، وبعضها كان حقيقيًّا بلا شك، وبعضها كان ملتبسًا.»

«بأخذ البصمات بتسلسلها، ماذا كانت ملاحظاتك بشأنها؟»

نظر السيد سينجلتون في ملاحظاته وأجاب: «البصمة على المربع رقم واحد مُزيفة بصورة واضحة، وكذلك الحال في المربع رقم اثنين، وإن كانت تبدو تقليدًا مقبولًا. البصمتان في المُربَّعَين ثلاثة وأربعة حقيقيتان؛ أما في الخامس فتزييف واضح. المربع رقم ستة يحتوي على بصمة حقيقية؛ والمربع رقم سبعة تزييف، وإن كان متقَنًا؛ البصمة في المربع رقم ثمانية حقيقية؛ وأظن أن البصمة في رقم تسعة مزيفة، وإن كانت متقنةً إتقانًا رائعًا. المربعان رقم عشرة وأحد عشر يحتويان على بصمتَين حقيقيتَين؛ والبصمتان في الثاني عشر والثالث عشر مُزيفتان؛ أما فيما يتعلق بالمربع رقم أربعة عشر فعندي شكٌّ كبير فيه، وإن كنت أميل لأن أعتبره تزييفًا. المربع رقم خمسة عشر يحتوي على بصمةٍ حقيقية، وأظن أن السادس عشر كذلك؛ لكنني لست متأكدًا من ذلك. المربع رقم سبعة عشر يحتوي على بصمة حقيقية بالتأكيد. وعندي شكٌّ بشأن البصمتَين في المربعَين الثامن عشر والتاسع عشر، لكنني أميل لأن أعتبرهما مُزيفتَين. أما المربع رقم عشرين فيحتوي على بصمةٍ حقيقية بكلِّ تأكيد.»

وبينما كان السيد سينجلتون يتلو شهادته، علت وجه القاضي أمارات الدهشة، في حين تنقَّلت أعيُن أعضاء هيئة المحلَّفين بين الشاهد والملحوظات التي أمامهم وفيما بينهم في ذهول واضح.

أما السير هيكتور ترامبلر، نجم المجال القانوني الإنجليزي، فقد كان مشوَّشًا تمامًا؛ لأنه، بينما تتابعت الإفادات، أخذ تجهُّمه يزداد وطغت على ملامح وجهه المُحمرِّ تعبيرات تشي بحيرة تامة.

لبضع ثوانٍ، حَدَّقَ بعينٍ ذاهلةٍ في شاهدِه ثم هوى على كرسيه بارتطام هزَّ القاعة.

قال أنستي: «هل لدَيك أي شكٍّ في صحة استنتاجاتك؟ مثلًا، هل أنت واثق من أن البصمتَين رقمَي واحد واثنين مُزيفتان؟»

«ليس لديَّ أي شك.»

«هل تُقسِم إنهما مزيفتان؟»

تردَّد السيد سينجلتون لحظة. كان قد أخذ يُراقِب القاضي والأعضاء المُحلَّفين ومن الواضح أنه كان قد أساء فهم دهشتهم؛ إذ افترض أنها بسبب قدراته الرائعة على التفريق بين المزيف والحقيقي من البصمات؛ ومِن ثمَّ كان قد استعاد ثقته بنفسه.

أجاب: «أجل؛ أقسم إن هاتَين البصمتَين مزيفتان.»

جلس أنستي، وبعد أن مرَّر السيد سينجلتون ملحوظاته إلى القاضي، انسحب من منصة الشهود وأفسح مكانه لزميله.

وأما السيد ناش، الذي كان قد استمع إلى الشهادة بارتياح ظاهر، فتقدَّم إلى منصة الشهود وقد استعاد كل ثقته. إذ كان اختياره للبصمات الحقيقية والمزيفة متطابقًا تقريبًا مع اختيار السيد سينجلتون، ومعرفته بهذا جعلته يُدلي باستنتاجاته بمظهر الواثق والجازم.

وقد أجاب على سؤال أنستي: «أنا راضٍ ومُقتنع تمامًا بصحة إفاداتي، ومُستعد للقَسَم، بل وأقسم إن البصمات التي حدَّدت أنها مزيفة هي مزيفة حقًّا، وأن تحديدها لا يُمثِّل صعوبةً لفاحصٍ يتمتَّع بالخبرة في مجال البصمات.»

قال القاضي، حين غادر الشاهد المنصة وعاد إليها ثورندايك ليُكمل شهادته: «ثمة سؤال واحد أريد أن أطرَحه. إن الاستنتاجات التي توصَّل إليها الشاهدان الخبيران مُتماثلة تمامًا؛ وهي استنتاجات صادقة توصَّلا إليها بأحكامٍ فردية ومن دون اتِّفاق بينهما أو مقارنة للنتائج. إنها تتفق تمامًا بعضها مع بعض. والآن، الأمر الغريب هو الآتي: أن استنتاجاتهما خاطئة في كل الحالات» (هنا كدتُ أُطلِق ضحكةً بصوتٍ عالٍ؛ لأنني عندما وجَّهتُ نظراتي للخبيرَين، تغيَّرت تعبيرات الارتياح المُتعجرفة على وجهيهما بسرعة البرق إلى تشنُّجات مضحكة تنمُّ عن الذُّعر)؛ «لم تكن استنتاجاتهما خاطئةً في أحيانٍ وصحيحةً في أحيان أخرى، كما كان سيحدُث لو أنهما كانا يُجريان تخميناتٍ مجردة، بل كانت خاطئةً في كل مرة. فحين يكونان واثقَين تمامًا، يكونان مُخطئين تمامًا؛ وحين يعتريهما الشك، يميلان إلى الاستنتاج الخاطئ. هذه مصادفة غريبة يا دكتور ثورندايك. هل يمكنك تفسيرها؟»

استرخى وجه ثورندايك وظهرت عليه ابتسامة جافَّة بعد أن كان خاليًا من التعبير طوال الإجراءات السابقة وكأنه وجه تمثال.

وأجاب: «أظن أنه يمكنني ذلك يا سيدي. تكون غاية المزَوِّر في صنع بصمة زائفة هي خداع من سيفحصونها.»

غمغم القاضي «آه!»؛ وارتخت تعبيراته متحولةً إلى ابتسامة جافة، في حين تفشَّت ابتساماتٌ عريضة بين أعضاء هيئة المحلَّفين.

وأكمل ثورندايك: «كان واضحًا لي أن الخبيرَين لن يتمكَّنا من التفريق بين البصمة الحقيقية والبصمة المزيفة، وعلى هذا سيبحثان عن دليلٍ إضافي لإرشادهما. ومن ثمَّ قدمتُ لهم ذلك الدليل الإضافي. والآن إن أخذنا عشر بصماتٍ من إصبعٍ واحدة — ومن دون احتياطات خاصة — فعلى الأرجح لن نجد تطابقًا بين أي اثنتَين منها؛ ولأن الإصبع جسم مُستدير لا يمس الورقة منه إلا جزء صغير، فالبصمة التي سيتركها لن تُظهِر إلا اختلافات طفيفة طبقًا للجزء من الإصبع الذي صنع هذه البصمة. لكنَّ ختمًا كالذي استخدمتُه يحوي سطحًا مُستويًا كسطح حرفٍ في آلة طباعة، ومثل الحرف في آلة الطباعة، دائمًا ما يطبع الطبعة ذاتها. فالختم لا يُعطينا طبعةً للأنملة، بل لجزءٍ مُعين من الإصبع، وبذا إن صنعنا عشر بصماتٍ بختم واحد، فإن كل طبعة ستكون تكرارًا آليًّا للتِّسع بصمات الأخرى. وعليه، على ورقة عشرون بصمة، عشر منها مُزيفة صُنِعَت بختمٍ واحد، سيكون من السهل تحديد البصمات المُزيفة العشر، حيث ستكون كلها نسخًا آلية مُكررة بعضها من بعض؛ في حين يمكن تمييز البصمات الحقيقية من خلال حقيقة أن كلًّا منها تُقدِّم اختلافاتٍ طفيفة في وضعية الإصبع.

متوقِّعًا لهذه الطريقة في الاستدلال، كنت حريصًا على عمل كل بصمةٍ بختم مُختلف وكل ختم كان يحمل بصمة إبهام مختلفة، وأضفت إلى ذلك اختيار بصمات إبهام متنوعةً قدْر الإمكان حين صنعتُ الأختام. علاوةً على ذلك، حين صنعت البصمات الحقيقية، كنت حريصًا قدْر ما أمكنني على الضغط بالإبهام بالوضعية نفسها في كل مرة؛ وهكذا، كانت بصمات الإبهام الحقيقية كلها متشابهة تقريبًا على الورقة التي قُدِّمت إلى الخبيرَين، في حين أظهرت البصمات المُزيفة اختلافًا كبيرًا. أما الحالات التي كان الشاهدان واثقَين بشأنها فكانت هي الحالات التي نجحتُ فيها في جعل البصمات الحقيقية تتكرَّر، وأما الحالات التي كانت لديهم شكوك بشأنها فكانت هي التي أخفقت فيها جزئيًّا في تحقيق ذلك.»

قال القاضي بابتسامةٍ تنمُّ عن ارتياح عميق، كالذي يظهر على وجه القاضي حين يُسقَط شاهد خبير من برجه العاجي: «شكرًا لك، هذا واضح تمامًا. يُمكننا الآن متابعة الاستجواب، يا سيد أنستي.»

عاود أنستي سؤال ثورندايك، قائلًا: «لقد أخبرتنا وقدَّمت من الأدلة ما يفيد أن من الممكن تزوير بصمة إبهام بحيث يكون من المُستحيل اكتشافها. كما أفدتَ أيضًا أن بصمة الإبهام التي وُجِدت على الورقة في خزينة السيد هورنبي هي بصمة مزيفة. فهل تقصد أنها ربما تكون مُزيفة، أم إنها بصمة مزيفة حقًّا؟»

«بل أقصد أنها مزيفة حقًّا.»

«متى وصلتَ إلى استنتاج أنها مزيفة؟»

«حين رأيتها في سكوتلانديارد. كانت هناك ثلاث حقائق تُشير إلى هذا الاستنتاج. أولًا، كان من الواضح أن البصمة صُنِعت بدمٍ سائل، ومع ذلك كانت واضحةً للغاية ومميَّزة. لكن لا يمكن إنتاج مثل هذه البصمة الواضحة بالدم السائل من دون استخدام لوح تحبير وفرشاة دوَّارة، حتى لو بذلنا قدرًا كبيرًا من الاعتناء، وتزداد صعوبة إنتاجها أكثر لو أردْنا صناعتها بلطخة عارضة من الدم.

ثانيًا، عندما أجريتُ قياسًا للبصمة بميكرومتر، وجدتُ أنها لا تتوافق من حيث الأبعاد مع بصمةٍ حقيقية وأصيلة تعود لروبين هورنبي. كانت أكبر بقدْرٍ واضح وملحوظ. صَوَّرتُ البصمة فوتوغرافيًّا مع الميكرومتر، وعندما أجريتُ مقارنةً لها مع بصمةٍ حقيقية لروبين هورنبي، أيضًا صَوَّرتها مع الميكرومتر نفسه، وجدتُ أن البصمة المشكوك فيها أكبر بمقدار واحد على أربعين من البوصة، من نقطة مُعينة على نمط النتوءات إلى نقطة معينة أخرى. ولديَّ هنا صور مكبَّرة للصورتَين يظهر فيهما بوضوح الاختلاف في الحجم بينهما بفعل خطوط الميكرومتر. لديَّ أيضًا الميكرومتر المُستخدَم نفسه وجهاز ميكروسكوب محمول، إن أرادت المحكمة التحقق من الصور بنفسها.»

فقال القاضي بابتسامة لطيفة: «شكرًا لك، سنقبل بشهادتك تحت القَسَم ما لم يُطالِب مُمثل الادعاء المحنَّك بالتحقُّق.»

وتلقَّى الصور التي سلَّمه إيَّاها ثورندايك، وبعد أن طالعها باهتمام بالغ، مرَّرها إلى هيئة المحلَّفين.

وأضاف ثورندايك: «الحقيقة الثالثة أهم بكثير؛ فهي لا تُثبت وحسب أن البصمة مزيفة، بل تُقدِّم أيضًا دليلًا مميزًا للغاية على أصل عملية التزوير هذه، ومن ثمَّ على هُوية المزيِّف.» (هنا سكتت القاعة حتى صار الصمت مطبقًا، لدرجة أن صوت دقات عقارب الساعة بدا واضحًا. ونظرتُ إلى والتر الذي جلس جامدًا بلا حراك في طرف المقعد، ولاحظتُ أن شحوبًا شديدًا سرى على وجهه، في حين كانت جبهته مُغطاةً بحبَّات العرق.) «لدى فحص البصمة عن كثب، لاحظت في جزءٍ منها علامةً أو مساحة بيضاء دقيقة. كان شكلها على شكل حرف S كبير، ولا شك أن سببها شائبة في الورقة — نسيج سائب من الورقة التصق بالإبهام ونُزع بسببه من الورقة تاركًا مكانه حيزًا فارغًا. لكن عند فحص الورقة تحت الميكروسكوب بدرجة تكبير مُتدنية، وجدتُ أن سطح الورقة سليم ولا شيء به. لم أجد نسيجًا سائبًا منفصلًا عنها؛ لأنه لو كان هناك نسيج سائب، لبدا لي طرفه المقطوع، أو على الأقل الحز الذي تخلَّف بانتزاعه. وبدا لي أن الاستنتاج هو أن النسيج السائب كان موجودًا في الورقة الأصلية التي كانت تحتوي على بصمة الإبهام الحقيقية، لا في الورقة التي وُجِدَت في الخزينة. والآن، وعلى حدِّ علمي، لم يكن هناك بصمة لروبين هورنبي لا شك بشأنها إلا بصمة واحدة، وهي البصمة التي في سجل بصمات الإبهام. وبطلبٍ مني، أحضرَتِ السيدة هورنبي السجل إلى مقر عملي، ولدى فحص بصمة إبهام روبين هورنبي اليُسرى في السجل، لاحظتُ مسافةً بيضاء دقيقة تأخذ شكل الحرف S الكبير وتحتلُّ موضعًا مشابهًا لموضعها في بصمة الإبهام الحمراء؛ وحين فحصتُها بعدسة قوية، كان بوسعي أن أرى بوضوح الحز الضئيل في الورقة الذي كان النسيج السائب في مكانه والذي كان قد نزعه منها الإبهام المُحبَّر. من ثمَّ أجريتُ مقارنةً منهجيةً للعلامة في كِلتا البصمتَين؛ فوجدتُ أن أبعاد العلامة تتناسب في كلتا البصمتَين؛ أي إن العلامة التي في بصمة سجل البصمات طولها يساوي ٢٦ / ١٠٠٠ من البوصة وعرضها يساوي ١٤٫٥ / ١٠٠٠ من البوصة، في حين أن العلامة في البصمة الحمراء كانت أكبر منها بحوالي ٢٫٥ بالمائة في كِلا البُعدَين، فيبلغ طولها ٢٦٫٦٥ / ١٠٠٠ من البوصة وعرضها ١٤٫٨٦ / ١٠٠٠ من البوصة؛ كما وجدتُ أن شكل العلامة في كِلتا البصمتَين مُتطابق، كما هو موضَّح من خلال تراكب آثار العلامتَين على صورتَين مكبرتَين للغاية لكل علامة على درجات تكبيرٍ متماثلة؛ ووجدتُ كذلك أن العلامة تتقاطع مع نتوءات البصمة بالشكل نفسه وفي الأماكن نفسها في كلتا البصمتين.»

«هل تقول، مع الأخذ في الاعتبار الحقائق التي ذكرتَها الآن، إنك على يقينٍ من أن البصمة الحمراء مزيَّفة؟»

«نعم؛ وأقول أيضًا إن مِن المؤكَّد أن البصمة المزيَّفة صُنِعَت باستخدام البصمة التي في سجلِّ بصمات الإبهام.»

«ألَا يمكن أن يكون التشابُه محض صدفة؟»

«كلَّا. فطبقًا لقانون الاحتمالات الذي شرحه السيد سينجلتون بوضوح كبير في إفادته، فإن الاحتمالات المعاكسة ستصِل إلى ملايين لا حصر لها. هاتان بصمتان صُنِعتا في مكانَين مختلفَين وفي وقتَين مختلفَين؛ والفاصل الزمني بينهما يمتدُّ لعدة أسابيع. وكل بصمة منهما تحمِل علامةً عرضية لا ترجع إلى سمةٍ خاصة بالإبهام، بل إلى سمة خاصة بالورقة. وطبقًا لنظرية الاحتمالات، من الضروري أن نفترِض أن كلَّ ورقة من الورقتَين اللتَين تحملان البصمتَين كان بها نسيج سائب له نفس الشكل والحجم تمامًا، وأن هذا النسيج علق بالإبهام، بطريق المصادفة، في الموضع نفسه تمامًا. لكن هذا الافتراض سيتعارض مع الاحتمالات أكثر من تعارُض افتراض آخر مفاده أن البصمتَين المتطابقتَين صنعهما شخصان مختلفان. ثم تأتي حقيقة أن الورقة التي وُجِدَت في الخزينة ليس بها نسيج سائب يُفَسِّر سبب وجود العلامة.»

«وما تفسيرك لوجود الدم المنزوع الفبرين في الخزينة؟»

«من المُرجَّح أن المُزوِّر استخدَمه في صناعة البصمة؛ لأن استخدام الدم الطازج لهذا الغرض لن يكون ملائمًا بسبب قابليته للتخثُّر. من المُرجَّح أن المزوِّر كان يحمل قدرًا صغيرًا منه في زجاجة، إضافةً إلى لوح التحبير والفرشاة الدوَّارة التي اخترعها السيد جالتون. من ثم يمكن أن يكون المزوِّر قد وضع قطرةً منه على لوح التحبير، ونشرَه ليصنع به شريحةً رقيقة ثم أخذ منه طبعةً نظيفة باستخدام ختمِه. ولا بد أن نتذكَّر أن اتخاذ المُزوِّر لهذه الاحتياطات كان أمرًا ضروريًّا؛ لأنه كان يتعيَّن عليه أن يصنع بصمةً مميَّزة من المحاولة الأولى. فإخفاقه في ذلك ومحاولته مرةً أخرى ستعني تخريب المظهر العرضي للبصمة، ومن شأن هذا أن يُثير الشكوك.»

«لقد أخذتَ صورًا فوتوغرافية مكبَّرة للبصمات، أليس كذلك؟»

«بلى. لديَّ هنا صورتان مكبَّرتان، إحداهما للبصمة من السجل، والثانية للبصمة الحمراء. العلامة البيضاء تظهر فيهما بوضوحٍ شديد وتساعد في مقارنتهما بالبصمتَين الأصليتَين اللتَين تظهر فيهما العلامة بوضوحٍ باستخدام عدسة.»

سلَّم ثورندايك الصورتَين إلى القاضي، ومعهما سجل بصمات الإبهام، وقطعة الورق المقطوعة من مفكرة السيد هورنبي، وعدسة مكبرة قوية ليفحصها بها.

فحص القاضي الوثيقتَين الأصليتَين بمساعدة العدسة وقارنهما بالصورتَين الفوتوغرافيتَين، وكان يومئ بالموافقة وهو يُحدِّد نقاط التوافُق بينها. ثم مرَّرها القاضي إلى هيئة المُحلَّفين ودوَّن ملحوظاتٍ في مفكِّرته.

وبينما كان هذا يحدُث جذب انتباهي والتر هورنبي. كان تعبيرا الذُّعر والقنوط قد استقرَّا على وجهه الذي أصبح شديد الشحوب ومُبتلًّا بفعل العرق. نظر والتر هورنبي خلسةً وبمكرٍ إلى ثورندايك، وإذ لاحظتُ كراهيته القاتلة تجاه ثورندايك في عينَيه، تذكَّرتُ مغامرتنا في منتصف الليل في شارع جون وتذكَّرت مسألة السيجار الغامض.

نهض والتر واقفًا فجأة، ومسح جبهته واستند على المقعد بيدٍ مرتعشة ليُثبِّت نفسه؛ ثم مشى في هدوء نحو الباب وخرج. ويبدو أنني لم أكن المُتفرج الوحيد الذي كان مُهتمًّا بما فعله؛ ذلك أن رئيس الشرطة ميلر نهض بعدَه وخرج من الباب الآخر.

سأل القاضي وهو ينظر إلى السير هيكتور ترامبلر: «هل ستستجوب هذا الشاهد؟»

أجاب: «كلَّا يا سيدي.»

«هل ستستدعي مزيدًا من الشهود، يا سيد أنستي؟»

وأجاب أنستي: «شاهد واحد فقط، يا سيدي، وهو المُتهم، كمسألة شكلية، من أجل أن يدلي بإفادة تحت القسَم.»

ثمَّ اقتيد روبين من قفص الاتهام إلى منصة الشهود، وبعد أن أدلى بالقسَم، أعلن بطريقةٍ رصينة أنه بريء. تبع ذلك استجواب مُقتضب لم يُستنبَط منه شيء سوى أن روبين كان قد أمضى الأمسية في ناديه وأنه عاد إلى محل إقامته حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف وأنه دخل باستخدام مفاتيحه. وفي الأخير جلس السير هيكتور؛ وأُعيد المُتهم إلى قفصه، وقرَّرت المحكمة الاستماع إلى مداخلات المحامين.

شرع أنستي يقول بنبرته الصافية الرخيمة: «سيدي القاضي والسادة أعضاء هيئة المُحلَّفين، لا أريد أن أبدِّد وقتكم في خطابٍ طويل. إن الأدلة والشهادات التي قُدِّمت لكم واضحة ومفهومة وحاسمة في الوقت نفسه، بحيث لا شكَّ في أنكم ستتوصَّلون إلى حكمكم دون أن تتأثَّروا بأي عرضٍ خطابي سواء من جانبي أو من جانب المُمثل الموقَّر لجهة الادعاء.

غير أنه من المُستحسَن أن نُفَصِّل الوقائع والحقائق الجوهرية والحاسمة من هذا القدْر من الأدلة.

والآن، الحقيقة التي تبرُز في هذه القضية وتُهيمن عليها هي الآتية: أن صِلة المُتهم بالقضية ترتكِز فقط على نظرية الشرطة القائمة على معصومية البصمات ونزاهتها. وبمنأًى عن البصمة باعتبارها دليلًا، لا يوجَد — ولم يكن هناك مُطلقًا — أدنى قدْر من الشكِّ في المُتهم. لقد سمعتم عنه أوصافًا مفادها أنه رجل ذو شرَف لا تشوبه شائبة، وشخصيته منزَّهة عن العيب واللوم؛ وأنه رجل يحوز على ثقة كلِّ من يتعامل معه. ولم يمنحه هذه الصفات شخص غريب، بل منحه إيَّاها رجل يعرفه من طفولته. إن له سجلًّا حافلًا بالسلوك المُشرِّف؛ وكانت حياته حياة رجل نبيل ومُستقيم. والآن يقف أمامكم مُتهمًا بجريمة نكراء وحقيرة هي السرقة؛ يقف مُتهمًا بأنه سرق صديقه السخيَّ وعمَّه والرجل المُحسن له منذ طفولته والذي عمل جاهدًا من أجل رفاهته؛ باختصارٍ أيها السادة، إنه مُتهم بجريمة تقول كل الظروف المُرتبطة به وكل سماته الشخصية المعروفة عنه إنها لا تُصدَّق ولا تُتصوَّر عنه. والآن، على أي أساسٍ وُجِّه إلى هذا الشاب النبيل والنزيه الاتهام بهذه الجريمة النكراء؟ بكلِّ وضوحٍ وجلاء، أساس اتهامه هو الآتي: أن رجلًا عالمًا بارزًا وقديرًا أكَّد، ولم تقبل الشرطة بهذا التأكيد وحسب، بل وتجاوزوا عمليًّا معناه الأصلي. والتأكيد يقول: «إن تطابقًا تامًّا أو شِبهَ تامٍّ بين بصمتَين لإصبع … يُمثِّل دليلًا كافيًا لا يحتاج إلى تأييد بأنهما تعودان إلى الشخص نفسه.»

هذا التأكيد، أيها السادة، مُضَلِّل لأقصى درجة، وما كان ينبغي الإدلاء به دون مراعاة المحاذير والشروط المُرتبطة به. عمليًّا، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، بحيث إن عكسه تمامًا هو الحقيقة؛ بمعنى أن وجود بصمة دليلًا من دون وجود ما يؤيدها هو أمر لا قيمةَ له على الإطلاق. ومن بين كل أشكال التزييف، فإن تزييف بصمةٍ هو الأسهل والأكثر أمانًا، كما رأيتم جميعًا اليوم. فكِّروا في شخصية المُزوِّر الرفيع المستوى؛ تأمَّلوا مهارته وقُدرته على الابتكار وسعة حيلته. وانظروا إلى أوراق المال المُزيفة التي لا يُقلِّد نقشها وتصميمها وتوقيعها فقط، بل حتى الورق نفسه وعلاماته المائية، انظروا كيف تُقَلَّد بإتقانٍ يُثير إعجاب ويأس أولئك الذين يتعيَّن عليهم التمييز بين الحقيقي منها والمُزيَّف؛ وانظروا إلى الشيكات المُزوَّرة التي يُقَلِّد فيها المُزوِّر الثقوب ويقتطع أجزاءً منها ويستبدل بها أجزاء أخرى لا يمكن تمييزها؛ تأمَّلوا كل هذا، ثم تأمَّلوا البصمات التي يمكن لأي صبي حفار فوتوغرافي أن يصنع لكم منها نُسخًا مُزيفة لا يستطيع أفضل الخبراء حتى أن يُميزوها عن الأصلية، ويمكن لأي هاوٍ بارعٍ بعد التدريب عليها لشهرٍ أن يُقلِّدها تقليدًا لا يسمح بكشفِها؛ ثم اسألوا أنفُسكم إن كان هذا هو نوع الأدلة التي يجب على أساسها، ومن دون وجود ما يدعمها أو يؤكِّدها، أن يُجرَّ رجل ذو شرَف ومكانة إلى محكمة جنائية ويُتَّهم بارتكاب جريمة من أدنى وأقذر الجرائم.

لكني لن ألفت أنظاركم إلى مناشدات ومطالبات غير ضرورية. بل سأُذكِّركم بالحقائق الجليَّة. ترتكز دعوى جهة الادعاء على التأكيد على أن بصمة الإبهام التي وُجِدَت في الخزينة كانت من صُنع إبهام المُتهم. وإن لم يكن المُتهم قد صنع هذه البصمة، فلا يعني هذا سقوط الدعوى بحقِّه فحسب، بل سقوط أي اشتباهٍ من أي نوع.

والآن، هل هذه البصمة من صُنع إبهام المتهم؟ لقد حصلتم على أدلَّةٍ دامغة تُثبت عدم صحة ذلك. فقد اختلفت تلك البصمة عن البصمة الأصلية للمُتهم من حيث حجم أو مقياس نمط النتوءات. كان الاختلاف طفيفًا، لكنه أصاب نظرية الشرطة عن المُتهم في مقتل؛ فالبصمتان ليستا متطابقتَين.

لكن، إن لم تكن هذه البصمة هي بصمة إبهام المُتهم، فما هي إذن؟ كان التشابُه بين النمطَين دقيقًا للغاية بحيث لا يمكن اعتبارها بصمة شخصٍ آخر؛ لأنها لم تُنتِج نمط النتوءات على إبهام المُتهم وحسب، بل نتج عنها أيضًا ندبة تعود لجرحٍ قديم. والإجابة التي أقترِحها على هذا السؤال هي أن هذه البصمة كانت تزويرًا لإبهام المُتهم وكانت الغاية منها إثارة الشبهات حول المتهم ومن ثمَّ ضمان سلامة المُجرم الحقيقي. هل هناك أي حقائق تدعم هذه النظرية؟ أجل، هناك عدة حقائق تدعمها بقوة.

  • أولًا: لديكم الحقائق التي ذكرتها الآن. بصمة الإبهام الحمراء لا تتفق مع البصمة الأصلية من حيث المقاس أو الأبعاد. لم تكن هذه البصمة هي بصمة المُتهم؛ لكنها لم تكن كذلك بصمة أي شخصٍ آخر. البديل الوحيد هنا هو أنها كانت مزيفة.
  • ثانيًا: لا شك في أن هذه البصمة صُنعت باستخدام معدات ومواد معيَّنة، وقد وُجِدت إحدى هذه المواد في الخزينة، وأعني تحديدًا الدم المنزوع الفبرين.
  • ثالثًا: لدَينا المصادفة المُتمثِّلة في أن البصمة كان من الممكن تزويرها. فالمُتهم يملك عشر أصابع؛ ثماني أصابع وإبهامَين. لكن كانت توجَد بالفعل بصمة لإبهامَيه، في حين لم تكن هناك أي بصماتٍ متاحة لأصابعه؛ من ثمَّ سيكون من المُستحيل تزييف بصمةٍ لأي إصبع من أصابعه. وهكذا نجد أن بصمة الإبهام الحمراء تشابهت مع إحدى البصمتَين اللتَين كان من الممكن تزييفهما.
  • رابعًا: بصمة الإبهام الحمراء تُعيد إنتاج سمة عارضة من سمات البصمة الموجودة في سجلِّ بصمات الإبهام. والآن، إذا كانت بصمة الإبهام الحمراء مزيَّفة، فلا بد أنها صُنِعَت من البصمة الموجودة في سجل بصمات الإبهام؛ حيث لا توجَد أي بصمة أخرى يمكن صُنعها منها. وبذا نقِف أمام حقيقة مُذهلة وهي أن بصمة الإبهام الحمراء هي نسخة طبق الأصل — بما في ذلك السمات العارضة — للبصمة الوحيدة التي يمكن استخدامها في صُنع بصمةٍ مزيَّفة. والعلامة العارضة التي تتَّخذ شكل حرف S كبير في سجل بصمات الإبهام سببها حالة الورقة نفسها؛ أما وجود هذه العلامة في البصمة الحمراء فلا تُفسِّره حال الورقة، ولا يمكن تفسيره بأي طريقة، سوى من خلال افتراض أنها نسخة عن الأخرى. ولذلك فالنتيجة الحتمية هي أن بصمة الإبهام الحمراء نسخة ضوئية وميكانيكية للبصمة الموجودة في سجل بصمات الإبهام.

لكن ثمة نقطة أخرى. إذا كانت بصمة الإبهام الحمراء هي نسخة مُعاد إنتاجها من البصمة الموجودة في سجل بصمات الإبهام، فلا بدَّ إذن أن يكون المُزوِّر قد تمكَّن من الوصول إلى السجل في وقتٍ ما. والآن، لقد سمعتم القصة الرائعة التي ذكرتها السيدة هورنبي عن الاختفاء الغامض للسجلِّ وظهوره الأكثر غموضًا. لا يمكن أن تكون هذه القصة قد تركت في أذهانكم أي شكٍّ في أن شخصًا ما أخذ سجلَّ البصمات خلسة، وأعاده سرًّا بعد مدة غير معروفة من الزمن. وبذا نجد أن النظرية القائلة بأن هذه البصمة مزوَّرة تلقى دعمًا وتأكيدًا في كل نقطةٍ من نقاطها، وأنها تتوافق مع كل الحقائق والوقائع المعروفة؛ في حين أن النظرية القائلة بأن بصمة الإبهام الحمراء هي بصمة حقيقية هي نظرية مَبنية على افتراض غير مُبرَّر، ولم تُقَدَّم حقيقة واحدة تدعمها.

وبِناءً على ذلك، أيها السادة، أؤكِّد على أن براءة المتهم قد ثَبتت بأكثر الطرُق اكتمالًا وإقناعًا، وأطلب منكم الحكم بما يتوافق مع ذلك الإثبات.»

عندما عاد أنستي إلى مقعده، سُمِعَ تصفيق خافت من منصة المشاهدين. وهدأ الصوت على الفور بإشارةٍ من القاضي تنمُّ عن الاستنكار، فعمَّ القاعةَ الصمت، وشرعت الساعة في عدم اكتراثٍ ساخر تُعلن بنغمتها الرتيبة والفظَّة مرور الثواني العابرة.

همست جولييت بانفعال: «لقد نجا يا دكتور جيرفيس! لقد نجا بالتأكيد! لا بدَّ أنهم يرَون الآن أنه بريء.»

فأجبتُها: «اصبري قليلًا. قريبًا جدًّا سينتهي كل شيء.»

كان السير هيكتور ترامبلر قد نهض بالفعل، وبعد أن رمق هيئة المُحلَّفين بنظرة صارمة مُخَدِّرة، اندفع بحماسٍ في ردِّه في جوٍّ من الإقناع والصِّدق يُثيران الإعجاب بحق.

فقال: «سيادة القاضي، السادة أعضاء هيئة المُحلَّفين: إن الدعوى التي أمام عدالة المحكمة اليوم، كما سبق وأن ذكرت، تُسلط ضوءًا سلبيًّا للغاية على الطبيعة البشرية. لكنني لستُ بحاجة إلى أن أشدِّد على هذا الجانب من القضية، هذا الجانب الذي لا شكَّ في أنه قد أثَّر فيكم بما يكفي. ولا يبقى من الضروري أمامي، كما أشار بجدارة صديقي المُوقَّر، سوى أن أستخلِص حقائق هذه الدعوى من شبكة التحايُلات التي نُسِجت حولها.

وهذه الحقائق في غاية البساطة. فقد فُتِحت خزينة وسُرِقَ منها غرضٌ ذو قيمة كبيرة. وفُتحت هذه الخزينة بمفاتيح منسوخة. والآن هناك رجُلان فقط كانا يحوزان بين حينٍ وآخر المفاتيح الأصلية لهذه الخزينة، ومن ثمَّ كانت أمامهما فرصة صُنع نُسَخ عنها. وحين فتح مالك الخزينة الشرعي خزينته، كان الغرَض قد اختفى، وقد وُجدت بصمة إبهام أحد هذَين الرجُلَين. لم تكن تلك البصمة موجودةً حين أُغلِقت الخزينة. والرجل الذي وُجدت بصمتُه فيها أعسر؛ والبصمة تعود لإبهامٍ يسرى. يبدو لي أيها السادة أن ما نخلُص إليه من هذا في غاية الوضوح بحيث لا يمكن لأي إنسانٍ عاقل أن يُحاجَّه؛ وأؤكِّد لكم على أن الاستنتاج — الممكن والوحيد — الذي سيصل إليه أي إنسانٍ عاقل هو أن البصمة التي عُثِر عليها في الخزينة هي بصمة الشخص الذي سرق الغرض منها. غير أن البصمة التي عُثِر عليها تعود — وباعتراف الجميع — إلى المُتهم الماثل أمامكم، ومن ثمَّ فإن المُتهم هو من سرق الألماس من الخزينة.

صحيح أن بعض المحاولات الخيالية قد بُذِلَت للتقليل من أهمية هذه الحقائق الواضحة. لقد طُرحت بعض النظريات العلمية المُتكلَّفة والبعيدة الاحتمال، كما عُرِضت بعض الحِيَل الخداعية التي أظن أنها كانت ستُصبح ملائمةً أكثر إن عُرضت في مكانٍ للترفيه العام وليس أمام محكمة عدلية. لا شك أن ذلك العرض وفَّر لكم تسليةً كبيرة. فقد سرَّى عنكم كثيرًا وأخرجكم من جدِّية الأعمال في المحكمة. بل إنه حتى كان عرضًا تثقيفيًّا؛ إذ بيَّن إلى أي درجةٍ يمكن تحريف الحقائق الواضحة من خلال الابتكار المُضلِّل. لكن ما لم تكونوا على استعدادٍ للنظر لهذه القضية على أنها خدعة مُتقنة — أو طرفة ثقيلة نفَّذها مجرم ساخِر يتمتَّع بمعرفةٍ ومهارة وإنجازات عامة غير عادية — فيجب عليكم في نهاية المطاف أن تصلوا إلى النتيجة التي تُبرِّرها الحقائق والوقائع: وهي أن هذا المُتهم فتح الخزينة وسرق الغرض. وعلى هذا أيها السادة، وبالأخذ في الاعتبار منصبكم المُهم باعتباركم أوصياء على سلامة مواطنيكم وأمنهم، ألتمس منكم أن تُصدِروا حكمًا وفقًا للأدلة، وذلك بحسب ما أقسمتُم عليه؛ وأُشدِّد على أن مفاد هذا الحُكم هو أن المُتهم مذنب بالجريمة المنسوبة إليه.»

جلس السير هيكتور، أما أعضاء هيئة المُحلَّفين، الذين كانوا قد أنصتوا لحديثه بانتباهٍ خالص، فحدَّقوا في القاضي في ترقُّب، وكأنهم يريدون أن يقولوا له: «والآن، أيٌّ من هذين يجب علينا أن نُصَدِّق؟»

قلَّب القاضي في ملحوظاته بجوٍّ من الاتزان والهدوء، مُدَوِّنًا كلمةً هنا وأخرى هناك وهو يُقارن النقاط العديدة والمختلفة المتعلقة بالشهادات والأدلة. ثم التفت إلى هيئة المُحلَّفين الْتفاتةً تدل على الاستمالة والخصوصية.

وشرع يقول: «لا حاجة لي أيها السادة إلى أن أُطيل عليكم بتحليلٍ شامل للأدلة والشهادات. تلك الشهادات التي سمعتموها بأنفسكم والأدلة التي قُدِّمت لكم في الغالِب بوضوحٍ مُثير للإعجاب. علاوةً على ذلك، جمع مُمثل الدفاع الموقَّر هذه الأدلة والشهادات وقارنها بوضوح تام، وأستطيع أن أقول بحيادٍ تامٍّ أن تكرار ذلك تفصيليًّا من جانبي سيكون من نافلة القول. من ثمَّ سأقتصر على بعض التعليقات التي يمكن أن تساعدكم بينما تنظرون في حكمكم.

لا حاجة لأن أُبرز أنَّ ما أشار إليه مُمثل الادعاء الموقَّر بشأن النظريات العلمية المُتكلفة هو إشارة مُضلِّلة إلى حدٍّ ما. فالشهادة الوحيدة التي كانت لها سِمة نظرية هي الشهادة التي قدَّمها خبيرا البصمات. أما شهادة الدكتور رو والدكتور ثورندايك فتناولتا حصرًا مسائل واقعية. والاستنتاجات التي توصَّلا إليها كانت مصحوبةً بالبيانات والإفادات التي أدَّت إلى هذه الاستنتاجات.

والآن، فإن استعراضًا للشهادات والأدلة التي سمعتموها ورأيتموها يُبيِّن، كما أشار مُمثل الدفاع الموقَّر، أن الدعوى برمَّتها تُختَزَل في سؤالٍ واحد، وهو: «هل كانت بصمة الإبهام التي وُجِدَت في خزنة السيد هورنبي من صُنع إبهام المُتهم أم لا؟» إن كانت تلك البصمة من صنع إبهامه، فلا بد إذن أن المتهم كان، على الأقل، حاضرًا حين فُتِحَت الخزينة بطريقة غير مشروعة. وإن لم تكن من صنع إبهامه، فلا شيء يربطه بالجريمة. إن المسألة تتعلَّق بالوقائع، والتي سيكون من واجبكم أن تُقرِّروا على أساسها؛ ويجب أن ألفت انتباهكم أيها السادة إلى أنكم أنتم الحكام الوحيدون على وقائع هذه القضية، وأنكم لا بد وأن تتناولوا تعليقاتي وملحوظاتي على أنها مجرد اقتراحات يمكن لكم أن تَقْبَلوها أو تتجاهلوها وفقًا لتقديركم.

والآن دعونا نُفكِّر في هذا السؤال في ضوء الأدلة والشهادات. إما أن هذه البصمة كانت من صُنع إبهام المُتهم وإما أنها لم تكن من صنعه. ما الأدلة التي قُدِّمَت لتُبيِّن أنها من صُنع المتهم؟ هناك دليل نمط النتوءات. فهذا النمط يتطابق مع نمط بصمة إبهام المتهم، بل ويحتوي كذلك على ندبة تتقاطع مع النمط بصورةٍ مُعينة في بصمته. ولسنا في حاجة لأن نخوض في الحسابات المُطوَّلة المتعلقة باحتمالات التطابق؛ فالحقيقة المُهمة والعملية هنا والتي لا جدال عليها أن بصمة الإبهام الحمراء هذه إن كانت بصمةً حقيقية، فقد صُنعت بإبهام المُتهم. لكن يُزعَم أنها ليست بصمةً حقيقية؛ أي إنها نسخة مقلَّدة، بل في الواقع نسخة مزورة.

وعليه يُصبح السؤال الأعم مُختَزَلًا إلى صيغة أكثر تحديدًا: «أهذه بصمة حقيقية أم مزيفة؟» لننظر في الوقائع والأدلة. أولًا، ما الوقائع التي تقول إن هذه بصمة حقيقية؟ لا توجَد أي وقائع تقول ذلك. فتماثُل نمط النتوءات لا يُمثِّل دليلًا عند هذه المرحلة؛ لأن البصمة المُزيَّفة ستُظهِر أيضًا تماثلًا في النمط. أما أصالة البصمة فهو أمر افترضَتْه جهة الادعاء، ولم تُقدِّم أي دليل عليه.

والآن، ما الأدلة على أن بصمة الإبهام الحمراء مزيفة؟

أولًا، هناك مسألة الحجم. لا يمكن أن يصنع إبهامٌ واحدٌ بصمتَين بحجمَين مختلفَين. وهناك أيضًا الأدلة التي تُشير إلى استخدام أدواتٍ في صنعها. فلصوص الخزائن لا يحملون معهم في الظروف العادية لوح تحبير وفرشاةً دوَّارة ليصنعوا بها بصمات مُميزة وواضحة لأصابعهم. هناك أيضًا العلامة العارضة على البصمة، والتي لا تتواجد كذلك إلا على البصمة الحقيقية الوحيدة التي يمكن استخدامها بغرَض التزييف، ومن السهل تفسير وجود هذه العلامة بِناءً على نظرية التزييف، لكن بخلاف ذلك، يُعَد وجودها مبهمًا وغير مفهوم. وأخيرًا، هناك مسألة الاختفاء الغامِض لسجل بصمات الإبهام وظهوره الأغرب. كل هذه أدلة قوية ومهمة، ويجب أن نُضيف إليها ما قَدَّمه الدكتور ثورندايك باعتباره يوضِّح أنه من الممكن للغاية تزييف البصمات.

هذه هي الحقائق الأساسية في هذه الدعوى، وعليكم أنتم يقع عبء النظر فيها. فإذا ما نظرتم فيها بعناية وقرَّرتم أن بصمة الإبهام الحمراء من صنع إبهام المُتهم، سيكون من واجبكم أن تُعلنوا أنه مذنب؛ وإذا ما وازنتُم بين الأدلة وقرَّرتم أن البصمة مزيفة، فسيكون من واجبكم أن تُعلنوا أنه بريء. لقد تجاوزت الساعة الآن ساعة الغداء المُعتادة، وإن كنتم ترغبون، يمكنكم أن ينفرد بعضكم ببعض للتفكير في حُكمكم بينما ترفع المحكمة جلستها.»

تهامس أعضاء هيئة المُحلَّفين فيما بينهم لبضع لحظاتٍ ثم نهض رئيس الهيئة.

وقال: «لقد اتفقنا على حُكمنا، يا سيادة القاضي.»

هنا أُعيد السجين إلى قفص الاتهام بعد أن كان قد اقتيد إلى الحجز. ووقف كاتب المحكمة ذو الشعر المُستعار الرمادي وخاطب هيئة المُحلَّفين.

«هل اتفقتم جميعًا على حكمكم أيها السادة؟»

فأجاب رئيس الهيئة: «نعم.»

«ما حكمكم أيها السادة؟ هل السجين مذنب أم بريء؟»

فأجاب رئيس الهيئة وهو يرفع صوته وينظر إلى روبين: «بريء.»

اندلعت عاصفة من التصفيق والتهليل من منصة النظارة وتجاهلها القاضي للوقت الراهن. وبصوتٍ مرتفع ضحكت السيدة هورنبي — ضحكةً غريبة وغير طبيعية — ثم حشت منديلها في فمِها، وجلست على حالها هذا تحدِّق في روبين والدموع تنهمر على وجهها، بينما أسندت جولييت رأسها على الطاولة وراحت تبكي في صمت.

وبعد برهةٍ رفع القاضي يدَه منذرًا، وحين هدأت الضجة، وجَّه حديثه إلى السجين الذي كان يقف عند الحاجز هادئًا ورابط الجأش وإن كان في وجهه توهُّج طفيف:

«روبين هورنبي، بعد أن درست هيئة المُحلَّفين الأدلة في هذه الدعوى على نحوٍ وافٍ، وجدَتك الهيئة غير مُذنب بالجريمة التي نُسِبَت إليك. وأنا أتفق مع هذا الحُكم اتفاقًا تامًّا. وفي ضوء الأدلة التي تقدَّمت، أرى أنه لم يكن من الممكن التوصل إلى حُكم آخر، وأستطيع أن أقول إنك ستغادر هذه المحكمة ببراءة راسخة وسمعة ناصعة. إن تعاطف المحكمة وتعاطف كل الحاضرين يُرافقك في المِحنة التي واجهتَها مؤخرًا وفي فرحك بهذا الحكم، وذلك التعاطف لن يتضاءل بسبب اعتبار أنه لو كان الدفاع أقل كفاءة، لكانت النتيجة مختلفةً تمامًا.

وأودُّ أن أُعبِّر عن إعجابي بالطريقة التي أُجري بها ذلك الدفاع، وأودُّ بخاصة أن أنوِّه إلى أن عموم الجماهير مدينون بشدة، إلى جانبك، للدكتور ثورندايك الذي من المُرجَّح أنه نجح بفضل بصيرته ومعرفته وعبقريته في تجنُّب حدوث خطأ فادح في تطبيق العدالة. تُرفع جلسات المحكمة حتى الساعة الثانية والنصف.»

ثم نهض القاضي من مجلسه ونهض الحاضرون جميعًا؛ ووسط صخب وضجيج الأقدام على سُلَّم منصة المشاهدين، فتح رجل شرطة مُبتسِم باب قفص الاتهام ونزل روبين من القفص إلى قاعة المحكمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥