الفصل الثالث

فَتِّش عن المرأة

حين وصلت إلى مقرِّ ثورندايك في الصباح التالي، وجدتُ صديقي منهمكًا في العمل حقًّا. كان الفطور موضوعًا على أحد طرفَي الطاولة، وعلى الطرف الآخر وُضِع جهاز ميكروسكوب من النوع الذي يُستَخدَم في فحص مُستنبتاتٍ لكائنات دقيقة على صفائح، وعلى سطح الصفيحة العريضة استقرَّت إحدى البطاقات التي تحمِل ستَّ بصماتٍ للإبهام بالدم. وكان مُكثِّفٌ يُلقي ببقعة ضوء على البطاقة التي كان ثورندايك يفحصها حين دخلت، كما فهمت من وضع الكرسي، الذي دفعه ثورندايك الآن إلى الخلف نحو الحائط.

فعلَّقتُ قائلًا، بينما دخل بولتون حاملًا طعام الفطور، استجابةً لدقَّتَين على الجرس الكهربي: «أرى أنك شرعتَ في العمل على المسألة.»

فأجابني ثورندايك: «أجل. لقد افتتحتُ حملتنا، مدعومًا كالعادة برئيس أركاني الموثوق؛ أليس كذلك يا بولتون؟»

ابتسم الرجل الضئيل الجسم بفخر، وقد بدا مظهره المُهذَّب والمُثقَّف غريبًا وغير متناسِب مع صينية الشاي التي يحملها، وبنظرة إعجابٍ ومحبَّة لصديقي، أجاب:

«بلى يا سيدي. لقد عمِلنا بكدٍّ ونشاط وسرعة من دون تضييع أي وقت. ثمة صورة سالبة تُحَمَّض في الطابق العلوي، وكذلك صورة مكبَّرة على ورقٍ من البروميد، ستكون قد رُكِّبَت وجُفِّفَت بمجرد انتهائك من الإفطار.»

فعلَّق صديقي يقول بينما انسحب مساعده: «إنه رجل مُدهش يا جيرفيس. يبدو ككاهنٍ ريفي أو كقاضي محكمة عُليا، ومن الواضح أن القَدَر كان يريد له أن يكون أستاذًا جامعيًّا في الفيزياء. لكن في واقع الأمر كان الرجل في البداية صانع ساعات، ثم أصبح صانع أجهزة وأدوات بصرية، والآن يعمل مساعدًا جديرًا لطبيب شرعي. إن بولتون هذا مساعدي الذي لا غِنى لي عنه؛ فهو يفهم الفكرة قبل حتى أن تنطق بها؛ لكنك ستتعرَّف إليه أكثر وأكثر بمرور الوقت.»

فسألته: «من أين أتيتَ به؟»

«كان مريضًا مُقيمًا بالمُستشفى حين الْتقيتُ به لأول مرة، وكان سقيمًا ومُحطَّمًا بشدة، ضحية للفقر وسوء حظ غير مُستحَق. أعطيتُ له مهمةً أو مهمتَين صغيرتَين، وحين اكتشفتُ أي طرازٍ من الرجال هو، أخذتُه ليكون في خدمتي دائمًا. وهو مُخلص لي تمامًا، وعرفانه لي لا حدودَ له بقدْر ما هو غير ضروري.»

فسألته: «وما الصور التي كان يُشير إليها في حديثه؟»

«إنه يُعدُّ «نسخةً» مكبَّرةً لإحدى بصمات الإبهام على ورق من البروميد وصورةً سالبة بالحجم نفسه في حال أردْنا تكرار طباعتها.»

فقلت: «لا شكَّ في أنك تتوقَّع أن تكون قادرًا على مساعدة هورنبي المسكين، مع أنني لا أتصوَّر كيف ستشرع في العمل على ذلك. تبدو لي مسألته ميئوسًا منها بقدْر ما يمكن تصوُّره واستيعابه منها. لا أجد ميلًا إلى أن أُدينه، لكن رغم هذا، تبدو براءته غير واردة.»

فقال ثورندايك موافقًا: «تبدو مسألته ميئوسًا منها بالتأكيد، وفي الوقت الراهن لا أرى مَخرجًا منها. لكن لديَّ قاعدة واحدة في كل القضايا، وهي أن أتَّبع أساليب التحقيق الاستقرائي التقليدية الصارمة؛ بأن أجمع الحقائق، وأضع الفرضيات، وأختبرها، وأبحث عن أدلَّة إثباتها. ودائمًا ما أسعى إلى إبقاء عقلي مُنفتحًا.»

واستطرد: «والآن، فيما يخصُّ قضيتنا الراهنة، إذا ما افترضنا، كما يتعيَّن علينا، أن السرقة وقعت حقًّا، فثمة أربع فرضيات مُمكنة: (١) أن روبين هورنبي هو من ارتكب السرقة؛ (٢) أن والتر هورنبي هو من ارتكبها؛ (٣) أن جون هورنبي هو من ارتكبها؛ أو (٤) أن شخصًا آخر أو أشخاصًا آخرين هم من ارتكبوها.»

وتابع: «أقترح أن نترك الفرضية الأخيرة في الوقت الراهن، وأن ألتزم بالتحقيق في الثلاثة الأُخَر.»

فصحتُ متعجبًا: «أتظن أن السيد هورنبي سرق الألماس من خزينته الخاصة؟»

فأجابني ثورندايك: «في الوقت الراهن، لا أميل إلى أي نظريةٍ في هذه المسألة. إنما أسرد الفرضيات وحسب. كان جون هورنبي يملك إمكانية الوصول إلى الألماس، ومِن ثمَّ من الممكن أن يكون قد سرقها.»

«لكن من المؤكَّد أنه مسئولٌ أمام مُلَّاكها.»

«ليس في غياب الإهمال الجسيم، الأمر الذي سيجد مُلاكُ الألماس صعوبةً في إثباته. كما ترى، لقد كان ما يُطلَق عليه مُودَعًا إليه بلا سند، وفي هذه الحال، لا يقع على المُودَع إليه أي مسئولية على التعويض عن الخسائر، إلا إن كان هناك إهمال جسيم من جانبه.»

فقلتُ متعجبًا: «ولكن لدينا البصمة، يا صديقي العزيز! كيف يمكنك أن تُغفِل ذلك؟»

فأجابني ثورندايك بهدوء: «لا يُمكنني أن أفعل؛ لكنني أرى أنك تنتهج نهج الشرطة نفسه؛ فهم يصرُّون على النظر إلى البصمة باعتبارها مقياسًا سحريًّا، أو دليلًا نهائيًّا لا يحتاجون إلى التحقيق فيه. وهذا خاطئ تمامًا. ما البصمة إلا معلومة من المعلومات — وأُقِرُّ بأنها معلومة مهمة للغاية ولها دلالة كبيرة — لكنها ما تزال معلومة، ومثلها مثل أي معلومة أخرى، يتطلَّب الأمر قياسها وتقديرها من حيث قيمتها باعتبارها إثباتًا.»

«إذن ما الذي تقترح فعله أولًا؟»

«سأسعى أولًا إلى إقناع نفسي بأن بصمة إبهام المُشتبه به متطابقة من حيث طابعها المُميز مع بصمة روبين هورنبي؛ وإن كنت لا أشك في هذا الأمر كثيرًا؛ لأن بالإمكان الوثوق بخبراء البصمات في تخصُّصهم.»

«وماذا بعد؟»

«سأجمع معلومات جديدة، وهذا هو ما أريد مساعدتك بشأنه، وإن كنَّا قد انتهَينا من الإفطار، فسأُقلِّدك واجباتك الجديدة.»

ثم نهض ودق الجرس، وبعد ذلك جلب من المكتب أربعة دفاتر ملحوظات صغيرة غلافها من الورق ووضعها أمامي على الطاولة.

وقال: «سنُخصِّص أحد هذه الدفاتر للمعلومات التي تخصُّ روبين هورنبي. ستكتشف كل ما يمكنك أن تكتشفه عنه — أي شيء، مهما بدا تافهًا أو غير ذي صِلة ظاهريًّا — ويكون مرتبطًا به بأي شكلٍ وتدوِّنه فيه.» ثم كتب على الدفتر «روبين هورنبي» ومرَّره لي. وتابع: «وفي الدفتر الثاني بالمِثل، ستُدوِّن أي شيء يمكنك معرفته عن والتر هورنبي، وفي الدفتر الثالث، ستُدوِّن المعلومات المرتبطة بجون هورنبي. أما الدفتر الرابع، فستُخصِّصه للمعلومات العشوائية المُرتبطة بالقضية لكنها لا ترتبط بهذه العناوين الثلاثة الأخرى. والآن لننظُر فيما صنعه بولتون.»

ثم أخذ من يد مساعِده صورةً فوتوغرافيةً بمقاس عشر بوصات طولًا في ثماني بوصات عرضًا، مطبوعةً على ورق بروميد ومسطَّحةً على بطاقةٍ مقوَّاة. وكانت الصورة تُظهر «نسخةً» مكبَّرةً لإحدى البصمات، يمكن فيها رؤية كل التفاصيل الدقيقة بوضوحٍ وبالعَين المجرَّدة، مثل فتحات الغدد العرقية وأوجه الشذوذ الطفيفة في النتوءات، والتي لا يمكن رؤيتها إلا بمساعدة عدسة. علاوةً على ذلك، كانت البصمة بأكملِها مُغطاةً بشبكة من الخطوط السوداء الدقيقة، والتي قسَّمتها إلى عددٍ من المربعات الصغيرة، وكل مربَّع مميَّز برقم.

قال ثورندايك مُستحسنًا عمل مساعده: «ممتاز يا بولتون؛ هذه نسخة مكبَّرة مثيرة للإعجاب للغاية. كما ترى يا جيرفيس، لقد صوَّرنا بصمة الإبهام صورًا فوتوغرافية على ميكرومتر مرقَّم ومقسَّم إلى مربعات مساحة كل مربع منها واحد على اثني عشر من البوصة. وحجم الصورة المكبَّرة أكبر بثمانية أضعاف من حجمه الفعلي في كل بُعد، بذا يكون قُطر كل مربع من المربعات هنا ثلثَي البوصة. لديَّ عدد من هذه الميكرومترات بمقاييس مختلفة، وأجِدها أدواتٍ قيِّمةً في فحص الشيكات والتوقيعات المشكوك بها وما شابه. أرى أنك حزمت الكاميرا والميكروسكوب يا بولتون؛ فهل وضعتَ الميكرومتر معهما؟»

أجابه بولتون: «نعم سيدي، وكذلك العدسة الشيئية بمقاس ستِّ بوصات والعدسة العينية المُنخفضة الطاقة. كل شيء في الحقيبة؛ وقد وضعتُ ألواحًا «خاصة وسريعة» للشرائح المُعتِمة في حال كان الضوء سيئًا.»

فقال ثورندايك، وهو يعتمر قُبعته ويرتدي قفازه: «لنذهب إذن ونباري سِباع سكوتلانديارد في عرينهم.»

فقلت: «ولكن من المؤكَّد أنك لن تأخذ هذا الميكروسكوب الكبير إلى سكوتلانديارد، في حين أنك لن تحتاج إلا إلى عدسة بقُطر ثماني بوصات. أليس لديك ميكروسكوب تشريحي أو أداة قابلة للحمل؟»

«لدَينا أروع الأدوات التشريحية، وهي من صنع بولتون؛ سوف يُريك إيَّاها. لكنني قد أحتاج إلى أداةٍ أقوى، ودعني في هذا المقام أُوجِّه لك تحذيرًا: مهما رأيتني أفعل، لا تُدْلِ بأي تعليق أمام المسئولين. نحن من نبحث عن المعلومات، لا من نُقدِّمها، أنت تعي هذا.»

في هذه اللحظة، وحيث كان الباب الخارجي مفتوحًا، صدر عن المِطرقة النحاسية الصغيرة على الباب الداخلي قرْع مُتكرر ينمُّ عن التردد والاعتذار.

غمغم ثورندايك وهو يُعيد وضع الميكروسكوب على الطاولة: «بحق الجحيم من يمكن أن يكون الطارق؟» ثم اجتاز الغرفةَ نحو الباب الخارجي وفتحَه في فظاظةٍ نوعًا ما، لكنه على الفور خلع قُبعته بسرعة، وحينها رأيتُ سيدةً تقف على عتبة الباب.

قالت السيدة متسائلة: «الدكتور ثورندايك؟» وبينما انحنى زميلي مُحييًا، أردفَت: «كان حريًّا بي أن أكتُب لك لأستأذنك في موعدٍ للقائك، لكن الأمر مُلحٌّ جدًّا؛ إنه يخص السيد روبين هورنبي، وأنا لم أعرف منه أنه قد استعان باستشاراتك إلا صباح اليوم.»

فقال ثورندايك: «رجاءً، تفضَّلي بالدخول. كنت أنا والدكتور جيرفيس على وشْك أن نتوجَّه إلى سكوتلانديارد لهذا الشأن تحديدًا. اسمحي لي أن أُقدِّمكِ إلى زميلي، الذي يعمل معي على هذه القضية.»

بادلتني زائرتنا بنت العشرين ربيعًا أو نحو ذلك انحناءة التحية، وقالت برصانةٍ مثالية: «اسمي جيبسون … الآنسة جولييت جيبسون. أنا هنا لأمرٍ بسيط للغاية ولن أؤخِّركما لأكثر من دقائق معدودة.»

وجلست على الكرسي الذي وضعَه لها ثورندايك، وتابعت تقول بنبرة سريعة وعملية:

«لا بد أن أُخبركما بمن أكون من أجل أن أُفسِّر لكما سبب زيارتي. لقد عشتُ طيلة السنوات الست المنصرمة مع السيد والسيدة هورنبي، على الرغم من أنه لا تربطني بهما صِلة قرابة. في البداية أتيت إلى منزلهما رفيقةً من نوعٍ ما للسيدة هورنبي، وإن كنتُ لا أجد حاجةً لأن أقول إن واجباتي وقتها لم تكن شاقَّة؛ إذ لم أكن وقتها قد جاوزت الخامسة عشرة من العمر؛ في واقع الأمر، أظن أن السيدة هورنبي آوَتني لأنني كنتُ يتيمةً ولم تتوفر لي أسباب العيش، كما أنها لم تُنجِب أولادًا.»

ثم أضافت: «وقبل ثلاث سنوات، حصلتُ على ثروةٍ جعلتني مُستقلة؛ لكنني كنت في سعادة بالغة مع صديقيَّ الطيبَين حتى إنني طلبتُ أن يُسمَح لي أن أبقى معهما، ومنذئذٍ وأنا في منزلة ابنتهما المُتبنَّاة. وبطبيعة الحال، عايشتُ ابنَي أخوي السيد هورنبي قدرًا كبيرًا من الوقت؛ فهما يقضيان وقتًا طويلًا في المنزل، ولست في حاجة لأن أُخبركما أن التهمة الفظيعة التي صدرت في حقِّ روبين قد وقعت علينا كالصاعقة. والآن، ما أتيت أخبركما به هو الآتي: لا أعتقد أن روبين سرق ذلك الألماس. فهذا ينافي تمامًا كل خِصاله في ضوء خبرتي السابقة عنه. وأنا مُقتنعة بأنه بريء، وأنا على استعدادٍ لأن أقدِّم الأدلة التي تدعم رأيي.»

فسألها ثورندايك: «ماذا تقصدين؟»

أجابته الآنسة جيبسون: «أقصد أنني على استعدادٍ لأن أُمِدَّكما بالمال اللازم. أعرف أن المشورة والمساعدة القانونية تنطوي على قدْر كبير من النفقات.»

فقال ثورندايك: «يؤسِفني أن أقول إن معلوماتك صحيحة.»

«حسنٌ، وأنا واثقة من أن موارد روبين المالية محدودة جدًّا؛ لذا من الضروري أن يدعمه أصدقاؤه، وأريد أن تَعِدانِي بأنكما لن تدَّخِرا وسعًا في أي شيءٍ من شأنه أن يساعد في إثبات براءته إن تحمَّلتُ مسئولية أي تكاليف لا يستطيع هو سدادها. وأرغب بالطبع ألَّا أظهر في الصورة، إن كان من الممكن تفادي ذلك.»

فقال زميلي بابتسامة: «صداقتكِ مفيدة للغاية يا آنسة جيبسون. لكن في الواقع، مسألة التكاليف هذه لا تخصُّني. إن دعت الحاجة لِمَا يمكن أن تجودي به، فسيتعيَّن عليكِ التواصُل مع محامي السيد روبين عبر راعيكِ السيد هورنبي، وبموافقة المُتهم. لكني لا أظن أن الحاجة ستستدعي ذلك، وإن كنتُ مسرورًا للغاية بزيارتكِ؛ إذ يمكنكِ أن تُقدِّمي لنا مساعدةً قيِّمة بطرقٍ مختلفة. على سبيل المثال، يُمكنكِ الإجابة عن بعض الأسئلة التي تبدو غير لائقة.»

أجابته زائرتنا: «لن أعتبر أي سؤالٍ غير لائق إن كنت ترى أن طرحه ضروري.»

فقال ثورندايك: «سأتجرَّأ إذن على سؤالكِ إن كانت هناك علاقة خاصة بينكِ وبين السيد روبين.»

قالت الآنسة جيبسون وهي تضحك، وقد تورَّدت وجنتاها قليلًا: «أنت تبحث عن الدافع الذي لا مَحيد عنه في امرأة. كلَّا، لا توجَد علاقة عاطفية بيني وبين روبين. فما نحن إلا صديقان عزيزان وحميمان؛ في الواقع، ثمة ما يمكن أن أصِفه بأنه انجذاب من جانبٍ آخر؛ هو والتر هورنبي.»

«هل تقصدين أنكِ مخطوبة إلى السيد والتر؟»

فأجابت: «أوه، كلَّا، لكنه طلبَني للزواج … أكثر من مرةٍ في الحقيقة؛ وأنا أعتقد حقًّا أنه مُنجذبٌ إليَّ انجذابًا صادقًا.»

قالت الآنسة جيبسون جُملتها الأخيرة تلك بنبرةٍ مُستغرِبة، وكأن ما تؤكِّد عليه كان عجيبًا ويدعو للدهشة، ولا شك أن ثورندايك لاحظها كما لاحظتُها أنا؛ ذلك أنه أردف:

«بالطبع. لمَ لا؟»

ردَّت الآنسة جيبسون: «في الواقع، أنا أملك دخلًا خاصًّا يقارب ستمائة جنيه في العام، ولن أُعتَبَر شريكة حياة غير مناسبة لشابٍّ مثل والتر، الذي لا يحوز لا على ملكية ولا على تطلُّعات، ومن الطبيعي أن يأخذ المرء هذا الأمر بعين الاعتبار. لكن رغم هذا، وكما قلت، أعتقد أنه صادِق في جهره بمشاعره وأن انجذابه ليس لأموالي وحسب.»

فقال ثورندايك بابتسامة: «لا أجد رأيكِ غير معقول على الإطلاق، حتى ولو كان السيد والتر شابًّا جشعًا، وأنا لا أجده كذلك.»

واحمرَّ وجه الآنسة جيبسون بشدة وهي تجيب:

«أوه، أرجوك لا داعي للإطراء؛ فأنا لستُ بأي حالٍ من الأحوال غافلةً عن مناقبي. لكن فيما يخصُّ والتر هورنبي، يؤسِفني أن أقول إنه ينطبق عليه مصطلح «جَشِع»، ومع ذلك … في الواقع، أنا لم أقابل شابًّا أكثر تقديرًا منه لقيمة المال. وهو يريد تحقيق النجاح في الحياة، ولا شكَّ لديَّ في أنه سيفعل.»

«هل أفهم من هذا أنكِ رفضتِ عروضه بالزواج؟»

«نعم. فمشاعري تجاهه مشاعر ودودة ليس إلا، لكنها ليست بالشكل الذي يسمح لي بأن أُفكِّر في الزواج منه.»

«والآن، لنتحدَّث عن السيد روبين قليلًا. تعرفينه منذ أعوام، أليس كذلك؟»

أجابت: «أعرفه معرفةً حميمة منذ ستِّ سنوات.»

«وما ظنكِ بشخصيته؟»

أجابت: «من خلال ما لاحظته عليه، يمكنني القول إنني لم أُجرِّب عليه كذبًا، ولم أجد منه أي فعلٍ شائن. أما أن يرتكب سرقة، فهذا محض عبث. فالاقتصاد من عاداته، وهو قنوع إلى حدِّ اعتبار هذا نقيصة، وفُتوره تجاه «مصالحه الخاصة» جليٌّ بقدر وضوح تطلُّعات والتر. وهو رجل كريم أيضًا، وإن كان حريصًا ومثابرًا.»

فقال ثورندايك: «شكرًا لكِ يا آنسة جيبسون. سنلجأ إليكِ من أجل المزيد من المعلومات مع تقدُّم القضيَّة. وأنا واثق من أنكِ ستكونين مصدر عونٍ متى استطعتِ إلى ذلك سبيلًا، وأنكِ تستطيعين تقديم العون إن كنتِ تريدين، من خلال صفاء ذهنكِ وصراحتكِ المُثيرة للإعجاب. وإذا ما تركتِ بطاقة الاتصال بك، سنُبقيكِ أنا والدكتور جيرفيس على اطلاع بالتطوُّرات الهامة في القضية وسنطلُب منكِ المساعدة متى احتجناها.»

وبعد أن غادرت زائرتنا الجميلة، وقف ثورندايك برهةً يُحدِّق في نار المدفأة وهو مُستغرِق في التفكير. ثُم رمق ساعته بنظرةٍ سريعة، وأعاد اعتمار قبعته، وأمسك بالميكروسكوب، وسلَّمني حقيبة الكاميرا وتوجَّه نحو الباب.

وقال متعجِّبًا، بينما كنَّا ننزل الدرج: «كم يمرُّ الوقت سريعًا! لكنه لم يضِع هباءً يا جيرفيس، صحيح؟»

فأجبتُه في تردُّد: «كلَّا، لا أظن ذلك.»

أجاب قائلًا: «لا تظنُّ ذلك! عجبًا، نحن أمام لُغز مُعقَّد — ما يُطلَق عليه بأسلوب الروايات، مُعضلة سيكولوجية — ومُهمتك هي حلُّ هذا اللغز.»

«تقصد الآنسة جيبسون وعلاقتها بهذَين الشابَّين؟»

فأومأ ثورندايك إيجابًا.

فسألته: «ألنا أي شأنٍ بهذا؟»

ردَّ ثورندايك: «بالتأكيد. كل شيءٍ من شأننا في هذه المرحلة المبدئية. نحن نبحث عن دليلٍ ويتعيَّن علينا ألَّا نترك أي شيءٍ من دون تدقيق وتحقيق.»

«إذن، بدايةً، الآنسة جيبسون، إن جاز لي القول، ليست مفتونةً بوالتر هورنبي.»

فقال ثورندايك موافقًا وكان يضحك ضحكةً ناعمة: «كلَّا؛ يُمكننا القول إن والتر الماكر لم يُثِر في الآنسة جيبسون شغفًا كبيرًا.»

فأكملتُ أقول: «وإن كنتُ خاطبًا يد الآنسة جيبسون، فأظن أنني سأكون أقربَ إلى شخصية روبين منِّي إلى والتر.»

فقال ثورندايك: «أتَّفق معك مُجددًا. أكمل.»

فأردفت: «وقد وصلَني من زائرتنا الحسناء انطباع بأن إعجابها الواضح بشخصية روبين قد شابَهُ شيءٌ سمِعَته من طرفٍ ثالث. فتعبيرها «من خلال ما لاحظتُه عليه» بدا أنه يُشير إلى أن ملاحظاتها عنه لم تكن مُتفقةً تمامًا مع ملاحظات شخصٍ آخر.»

فصاح ثورندايك: «أحسنت»، وهو يصفعني على ظهري، ممَّا أثار دهشةً صادقة من شُرطي كنَّا نمرُّ بجانبه؛ وأضاف ثورندايك: «هذا ما كنتُ أنتظره منك … القدرة على رؤية ما يتوارى تحت الأمور البديهية. أجل؛ ثمَّة مَن كان يقول شيئًا عن موكِّلنا، وما علينا اكتشافه هو ما كان يُقال، وعلى لسان مَن. سيتعيَّن علينا أن نتذرَّع بذريعةٍ ما من أجل إجراء مقابلةٍ أخرى مع الآنسة جيبسون.»

فسألته بحمق: «بالمناسبة، لماذا لم تَسألها عما كانت تقصده؟»

فابتسم ثورندايك في وجهي. وكرَّر عليَّ السؤال: «لماذا لم تسألها أنت؟»

أجبت: «لا، لا أظن أنَّ مِن الحصافة أن نبدوَ فطنَين أكثر من اللازم. دعني أحمل عنك الميكروسكوب لبعض الوقت؛ أرى أنه يؤلِم ذراعك.»

فقال وهو يُناولني الحقيبة ويفرك أصابعه: «شكرًا، إنه ثقيل حقًّا.»

فقلت: «لا يسعني أن أفهم ما تريده من هذه الأداة الكبيرة. فعدسة جيب عادية يمكنها فعل كلِّ ما هو مطلوب. علاوةً على ذلك، العدسة الشيئية بمقاس ستِّ بوصاتٍ لن تُكبِّر الصورة أكثر من مرتَين أو ثلاث.»

ردَّ ثورندايك: «ستُكبِّرها مرتَين، مع انغلاق الأنبوب المنزلق، ويمكن للعدسة العينية المنخفضة الطاقة أن ترفع قُدرة التكبير إلى أربع. لقد صنعهما بولتون من أجلي لفحص الشيكات والأوراق المالية وغير ذلك من الأشياء الكبيرة. لكنك ستعرف حين تراني أستخدِمه، وتذكَّر ألَّا تُدلي بأي تعليق.»

بحلول ذلك الوقت، كنا قد وصلنا إلى مدخل مبنى سكوتلانديارد، وكنَّا نجتاز الشارع الضيِّق حين لاقَينا موظفًا يرتدي زيًّا رسميًّا، فتوقَّف الرجل وحيَّا زميلي.

وقال بنبرةٍ ودية: «آه، فكَّرت في أننا سنراك هنا مرةً أخرى عمَّا قريب، أيها الطبيب. سمعت هذا الصباح أنك تولَّيت قضية بصمة الإبهام تلك.»

ردَّ ثورندايك: «صحيح، سأرى ما يمكن فِعله من أجل جهة الدفاع.»

فقال الضابط وهو يُرشدنا إلى داخل المبنى: «حسنًا، لقد سبق وأن فاجأتنا كثيرًا، لكنَّك ستُفاجئنا مفاجأةً أكبر إن استطعتَ الوصول إلى شيءٍ في هذه القضية. في رأيي أنَّ نتيجتها محسومة.»

فقال ثورندايك: «لا وجود لمِثل هذا أيها الزميل العزيز. أنت ترمي إلى أنَّ هناك «دعوى ظاهرة الوجاهة» بحقِّ المُتهم.»

فأجابه الضابط وهو يبتسِم ابتسامةً ماكرة: «سَمِّها ما شئت؛ لكني أظن أنك ستجد هذه القضية الأصعب من بين القضايا التي تولَّيتها، وأنا أُقِرُّ لك بأنك ذو باع طويل في هذا الأمر. من الأفضل أن تدخُلا إلى مكتب السيد سينجلتون»، واصطحبنا الضابط حيث عبرنا ممرًّا، ثم دلف بنا إلى غرفة كبيرة قليلة الأثاث، فوجدْنا سيدًا ذا مظهرٍ هادئٍ جالسًا إلى منضدة كتابة كبيرة.

وقال السيد وهو ينهض من مكانه ويمد يده مصافحًا: «كيف حالك أيها الطبيب؟ يمكنني أن أُخمِّن سبب قدومك. تريد رؤية بصمة الإبهام تلك، صحيح؟»

فأجابه: «صحيح تمامًا»، وبعد أن قدَّمَني له أردف يقول: «كنَّا شركاء وزملاء في المباراة السابقة، لكننا هذه المرة على جانبَين متقابلَين من الرقعة.»

وافقه السيد سينجلتون: «أجل، وسنهزمك ونقول لك: مات الشاه!»

ثم فتح درجًا وأخرج منه حافظةً صغيرة، واستخرج من الحافظة ورقةً وضعها على الطاولة. بدا أن الورقة قد مُزِّقت من دفتر مذكِّرات مُثَقَّب، وكانت عليها كتابة بالرصاص نَصُّها: «سلَّمه روبين في الساعة ٧:٣٠ مساءً، ٩ / ٣ / ١٩٠١. ج. ﻫ.» وفي أحد أطرافها كان ثمَّة بقعة دماء لامعة، سببها سقوط قطرة كبيرة من الدم، وقد تلطَّخت تلك البقعة قليلًا، على ما يبدو بفعل ضغط إصبع أو إبهام عليها. وبالقُرب منها كان ثمة لطختان أو ثلاث وبصمة إبهام واضحة وضوحًا بارزًا.

حدَّق ثورندايك باهتمام في الورقة لدقيقة أو دقيقتَين، مُدقِّقًا تباعًا في بصمة الإبهام واللطخات، لكنه لم يُبدِ تعليقًا، في حين راقب السيد سينجلتون وجهه الجامد بفضول وترقُّب.

ثم علَّق المسئول في آخر المطاف: «لا يتطلَّب تحديد هذه العلامة صعوبةً كبيرة.»

وافقه ثورندايك: «كلَّا، إنها بصمة مُمتازة ولها نمط مميَّز للغاية، حتى من دون الجرح.»

أجاب السيد سينجلتون قائلًا: «أجل، الجرح يجعل الأمر محسومًا تمامًا. أظن أن معك نسخةً من البصمة، أليس كذلك؟»

أجابه ثورندايك: «بلى»، واستخرج من جيبه ذي الغطاء الصورة الفوتوغرافية المُكبَّرة، وعندما رآها السيد سينجلتون ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.

وعلَّق قائلًا: «لا يحتاج المرء لارتداء نظارة لينظر في هذه البصمة؛ لن تكتسب ميزةً إضافيةً من كل هذا التكبير؛ فالتكبير لثلاثة أمثال الحجم كافٍ للغاية للتحقُّق من أنماط النتوءات. وأرى أنك قسمتَ البصمة إلى مُربعات مُرقمة، وهي ليست بخطةٍ سيئة؛ لكن خُطتنا — أو بالأحرى خطة جالتون؛ لأننا استعرنا الطريقة منه — أفضل في تحقيق هذا الغرَض.»

ثم سحب من الحافظة صورةً بمقاس ستِّ بوصاتٍ ونصف في أربع بوصاتٍ ونصف لبصمة الإبهام، فبدت وكأنها مكبَّرة بمقدار نحو أربع بوصات. وكانت النسخة تحمِل عددًا من الأرقام كُتِبَت بدقةٍ باستخدام قلَم ذي سنٍّ دقيق، وكُتِبَ كل رقم على جزءٍ خاص منعزل من البصمة أو على حلقة في النتوءات أو على تشعُّب فيها، أو على جزءٍ مُميَّز وبارز من أجزاء نمط النتوءات.

وقال السيد سينجلتون: «إن نظام الترقيم هذا باستخدام أرقام مرجعية أفضل من طريقتك التي تستخدِم المربعات؛ لأن الأرقام لا توضَع إلا على النقاط المُهمة للمقارنة، في حين أن المُربعات أو تقاطُعات الخطوط تقع بصورةٍ عرضية واعتباطية على النقاط والأجزاء المُهمة وغير المُهمة، حسب الصدفة. أضف إلى ذلك أننا لا نستطيع أن نسمح لك بوضع علاماتٍ على النسخة الأصلية كما تعلم، وإن كنَّا بالطبع نستطيع أن نُقدِّم لك صورةً فوتوغرافية منها، الأمر الذي سيكون كافيًا.»

فقال ثورندايك: «كنت سأطلب منك الآن أن تسمح لي بالْتقاط صورة.»

فأجابه السيد سينجلتون: «بكل تأكيد، إن كنتَ تُفضِّل أن تحظى بصورةٍ من الْتقاطك أنت. أنا أعرف أنك لا تُحِب أن تأخذ أي شيءٍ مأخذ التصديق. والآن يتعين عليَّ أن أُكمِل عملي، إذا سمحتُما لي. وسيُقدِّم لكما المُفتش جونسون أي مساعدة تطلبانها.»

أضاف ثورندايك، وهو يبتسِم للمفتش الذي أرشدنا لطريق الدخول: «وسيحرص على ألَّا أضع الصورة الأصلية في جيبي.»

فقال الأخير وهو يبتسم: «أوه، سأحرص على ذلك»؛ وبينما عاد السيد سينجلتون إلى طاولته، فتح ثورندايك حقيبة الميكروسكوب وأخرجه منها.

صاح السيد سينجلتون وهو يلتفِت ويبتسِم ابتسامةً عريضة: «عجبًا، هل ستضعها تحت الميكروسكوب؟»

فأجابه ثورندايك، وهو يُعِدُّ الميكروسكوب ويُثبِّت عدستَين إضافيتَين إلى القطعة الثلاثية العدسات: «عليَّ أن أكدح بما أكسب من أُجرة.»

وأضاف، مُوجِّهًا حديثه إلى المفتش، وهو يأخذ الورقة من على منضدة السيد سينجلتون ويضعها بين شريحتَين من الزجاج: «ولتُلاحظ أنه لا يوجَد أي خداع.»

فأجابه المفتش ضاحكًا: «أنا أراقبك يا سيدي»؛ وكان يراقبه بالفعل، بانتباهٍ شديد وباهتمام بالغ، في حين وضع ثورندايك شريحتَي الزجاج على منصة الميكروسكوب وشرع ينظر فيه.

راقبتُه أنا أيضًا، وكنت مُستمتعًا كثيرًا بما يفعله زميلي. وبعد نظرةٍ مبدئية باستخدام العدسة المُكبِّرة بمقاس ست بوصات، لفَّ ثورندايك القطعة الحاملة للعدسات ليستخدِم العدسة بمقاس نصف البوصة، ووضع قطعةً عينية أقوى، وأخذ يفحص بُقَع الدماء بحرصٍ شديد، ثم وضع بصمة الإبهام في مجال الرؤية في الميكروسكوب. وبعد أن نظر فيها برهةً باهتمامٍ شديد، استخرج من الحقيبة ساعور كحول صغيرًا بدا أنه كان مملوءًا بمحلولٍ كحولي لأحد أملاح الصوديوم؛ وذلك لأنني تعرَّفت إلى اللهب الأصفر المُميِّز للصوديوم حينما أشعله. ثم أزال إحدى العدسات ووضع مكانها منظارًا طيفيًّا، ولمَّا وضع الساعور الصغير بالقُرب من مرآة الميكروسكوب، عَدَّلَ في وضع المطياف. من الواضح أن صديقي كان يُعَدِّل موضع خطِّ الصوديوم في مجال الطيف.

وبعد أن أجرى تعديلاته، أخذ يفحص لطخات الدم وبصمة الإبهام مرةً أخرى، عبر الضوء المُنبعث وكذلك عبر الضوء المنعكس، وراقبتُه وهو يرسم بسرعةٍ رسمةً بيانيةً أو نحو ذلك في دفتر ملاحظاته. ثم أعاد المِطياف والساعور إلى الحقيبة وأخرج الميكرومتر — وهو شريحة من الزجاج الرقيق يبلُغ طولها ثلاث بوصات وعرضها بوصةً ونصفًا — فوضعه فوق بصمة الإبهام مكان الشريحة الزجاجية العُليا.

وبعد أن ثبَّته في موضعه بالمشابك، أخذ يُحرِّك الميكرومتر، وأخذ يقارن مظهر البصمة بمظهر النسخة ذات الخطوط على الصورة الفوتوغرافية الكبيرة، والتي كان يمسك بها في يده. وبعد أن استغرق وقتًا في الضبط، بدا عليه الارتياح؛ إذ علَّق موجِّهًا حديثه إليَّ:

«أظن أني جعلتُ الخطوط في نفس الموضع الذي هي عليه في نُسختنا، ومن ثمَّ وبمساعدة المُفتش جونسون، سنلتقِط صورةً يمكننا فحصها في وقتٍ لاحق على راحتنا.»

ثم أخرج الكاميرا من حقيبتها وفتحها، وكانت شريحتها بمقاس ثلاث بوصاتٍ وربع في بوصتَين ونصف. وبعد أن وضع الميكروسكوب على حامله في وضعٍ أفقي، أخرج من حقيبة الكاميرا لوحًا من خشب الماهوجني له ثلاثة أرجل نحاسية، فوضع الكاميرا عليه فجعلها في مستوى القطعة العينية في الميكروسكوب.

وكان مُثبَّتًا على واجهة الكاميرا جُلبة جلدية قصيرة، مصنوعة من جلدٍ رقيق أسود، فمرَّر فيها القطعة العينية الخاصة بالميكروسكوب، وثبَّتها حول ماسورة الميكروسكوب باستخدام حزام قوي من المطاط، وبذا كان قد صنع وصلة تصوير معزولةً تمامًا عن الضوء.

أصبح كل شيء الآن جاهزًا من أجل التقاط الصورة. وبعد أن ركَّز ثورندايك الضوء القادم من النافذة على بصمة الإبهام باستخدام مكثِّف، شرع في ضبط تركيز الصورة على الشريحة الزجاجية بعناية فائقة، ثم وضع غطاءً جلديًّا صغيرًا على العدسة، وأدخل الشريحة المُعتِمة وسحب مصراع الكاميرا.

ثم قال لي وللمُفتش: «يتعيَّن أن أطلب منكما أن تجلسا وتحافظا على سكونكما بينما أضبط التعرُّض. إن اهتزازًا ضئيلًا للغاية كفيلٌ بأن يُخرِّب حِدة الصورة.»

ثم جلسنا، فأزال ثورندايك الغطاء ووقف بلا حراك والساعة في يده، بينما عرَّض الشريحة الأولى.

ثم قال، وهو يُعيد وضع الغطاء ويُغلق المصراع: «يمكننا أيضًا أن نأخذ صورةً ثانية، في حال لم تخرج هذه بالشكل المطلوب.»

وعكس الشريحة المُعتِمة وعرَّض صورة أخرى بالطريقة نفسها، ثم وبعد أن أزال الميكرومتر واستبدل به شريحةً من الزجاج الشفَّاف، الْتقط صورتَين أخريَين.

وعلَّق يقول وهو يستخرج الشريحة المُعتِمة الثانية: «بقيَت شريحتان. أظنُّ أنني سألتقط عليهما صورًا لبقعة الدم.»

ثم الْتقط صورتَين أخريَين، واحدةً لبقعة الدم الكبرى، وواحدة للَّطخات الصغرى.

وقال بنبرة ارتياح وهو يشرع في حزم ما وصفه المُفتِّش بأنه «صندوق الحِيَل»: «أظن أنَّ بحوزتي كل البيانات التي يمكننا انتزاعها من سكوتلانديارد، وأنا مُمتنٌّ لك كثيرًا يا سيد سينجلتون، على تسهيلك للكثير من الأشياء لعدوِّك الطبيعي، محامي الدفاع.»

فاحتجَّ السيد سينجلتون قائلًا: «محامو الدفاع ليسوا أعداءنا الطبيعيين أيها الطبيب. نحن نعمل بهدف الإدانة بالطبع، لكننا لا نُلقي بالعقبات في طريق جهة الدفاع. أنت تعرِف هذا تمام المعرفة.»

أجاب ثورندايك، وهو يصافح المسئول بقوة: «بالطبع أيها السيد العزيز». وأضاف: «ألم أنتفع من مساعداتك مرات عديدة؟ ومع ذلك أنا مُمتنٌّ ومَدين لك على أي حال. إلى اللقاء!»

«إلى اللقاء أيها الطبيب. أتمنَّى لك التوفيق، وإن كنتُ أخشى أن المُهمة مستحيلة هذه المرة.»

ردَّ ثورندايك: «سنرى»، ثم لوَّح بودٍّ للمفتِّش وأخذ الحقيبتَين وتقدَّمني إلى خارج المبنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥