أسرار
أثناء عودتنا سيرًا إلى المنزل، كان صديقي مُستغرِقًا في التفكير وصَموتًا على نحوٍ غير معتاد، وكان على وجهه تعبير ينمُّ عن التركيز، ظننتُ أن بوسعي أن أرى تحته شعورًا مكبوتًا بالإثارة والاستمتاع، وذلك رغم ما هو معتاد منه من جمود الملامح. ومع ذلك أحجمتُ عن الإدلاء بأي تعليقٍ أو طرح أي أسئلة، ليس فقط لأنني رأيتُ أنه كان مشغولًا، ولكن أيضًا لأنني رأيت، من خلال معرفتي بالرجل، أنه سيَعتبر أنَّ مِن واجبه أن يُبقي خُططه وأفكاره طي الكتمان، وألَّا يدلي بأي أسرار ليس ضروريًّا أن يُدلي بها.
ولدى وصولنا إلى مقرِّه سلَّم الكاميرا على الفور إلى بولتون وأعطاه بعض التوجيهات المُقتضبة فيما يتعلَّق بتحميض الشرائح، ولمَّا كان طعام الغداء جاهزًا بالفعل، جلسنا لتناول الطعام من دون إرجاء.
كنَّا قد شرعنا في تناول الطعام في صمتٍ لبعض الوقت حين وَضَع ثورندايك سكينه وشوكته فجأةً ونظر في وجهي بابتسامةٍ تُعبِّر عن فرحٍ هادئ.
وقال: «لقد أدركتُ الآن يا جيرفيس أنك أكثر الرفاق أُنسًا في العالم. فأنت تملك هبةً ربانيةً وهي الصمت.»
فأجبتُه بابتسامة: «إن كان الصمت اختبارًا للأُنس، فبإمكاني أن أُطري عليك إطراءً مُماثلًا بعباراتٍ أكثر تأكيدًا.»
فضحِك مبتهجًا وأجاب:
«أرى أنك يروق لك أن تتهكَّم؛ لكنني أتمسَّك برأيي. إن القدرة على الالتزام بالصمت في محلِّه هي أندر وأثمن صفات الكياسة الاجتماعية. فمُعظم الناس كانوا سيُمطرونني الآن بأسئلةٍ وتعليقات ثرثارة عمَّا قمتُ به في سكوتلانديارد، أما أنت فقد أعطيتني فرصةً لفرز كمٍّ من الأدلة وترتيبه دون مقاطعةٍ بينما لا تزال حاضرةً ومُثيرة للدهشة، لقد سمحتَ لي أن أتدبَّر كل عنصرٍ من العناصر وأُصنِّفه في أرفُف ذهني. بالمناسبة، لقد وقعتُ في سهوٍ سخيف.»
فسألته: «وما هو ذا؟»
«إنه يتعلق بسجل بصمات الإبهام. لم أتحقَّق مما إذا كانت الشرطة قد حصلت عليه أم أنه ما زال بحوزة السيدة هورنبي.»
فتساءلت: «وهل هو مُهم؟»
«ليس كثيرًا؛ لكنني في حاجة للاطلاع عليه. لعلَّه يُشكِّل عذرًا ممتازًا من أجل أن تتَّصل بالآنسة جيبسون. وحيث إنني مشغول في المستشفى عصر اليوم، وبولتون مشغول بمهام عديدة عليه أن يُنجزها، ستكون خطةً جيدة لو عرَّجتَ على إندسلي جاردنز — هذا هو العنوان حسبما أظن — وإن تمكَّنتَ من رؤية الآنسة جيبسون، حاول أن تتحدَّث معها على انفراد، وأن تتزوَّد بالمعلومات عن أساليب وعادات السادة هورنبي الثلاثة. تَحلَّ باللطف والابتسام وانتبِه جيدًا. اكتشف كل ما يمكنك اكتشافه عن شخصيات وعادات هؤلاء الرجال الثلاثة، بغضِّ النظر عن كل التحفُّظات التي تتعلَّق بالكياسة. فكل شيءٍ ذو أهمية لنا، حتى ولو كانت أسماء خيَّاطيهم.»
«وماذا بشأن سجل بصمات الإبهام؟»
«اكتشِف من يملكه، وإن كان لا يزال بحوزة السيدة هورنبي، اطلب منها أن تُعيرنا إيَّاه أو احصل على إذنٍ منها لتصويره، وهو ما قد يكون حلًّا أفضل.»
فقلت: «سألتزم بتعليماتك حرفيًّا. سأكون في أفضل حلَّة، وستكون ظهيرة اليوم شاهدةً على أول ظهورٍ لي بشخصية بول براي.»
بعد حوالي الساعة، وجدتُ نفسي أمام باب منزل السيد هورنبي في إندسلي جاردنز أستمع إلى دقات الجرس الذي ضربته الآن.
كرَّرت الخادمة قولي ردًّا على سؤالي: «الآنسة جيبسون يا سيدي؟» وأردفَت: «كانت تتحضَّر للخروج، لكني لستُ واثقةً إن كانت قد غادرت حقًّا. تفضَّل بالدخول وسأذهب لأراها.»
تبعتُ الخادمة إلى غرفة الصالون، ومررتُ بين الطاولات الصغيرة المتناثرة وقطع الأثاث المتنوِّعة التي تُحوِّل بها سيدات اليوم منازلهنَّ إلى ما يُشبه معرضًا لتجارة السلع الاستهلاكية، ثم استقررتُ إلى جوار المِدفأة انتظارًا لما ستأتي به الخادمة.
ولم يطُل انتظاري، ففي غضون أقل من دقيقة، دخلت الآنسة جيبسون بنفسها الغرفة. كانت ترتدي قُبعتها وقفازها، فهنَّأت نفسي على وصولي في الوقت المناسب.
فقالت وهي تمدُّ يدَها بشكلٍ ودود ومنفتح: «لم أتوقع رؤيتك بهذه السرعة يا دكتور جيرفيس، لكنك مُرحَّب بك على أي حال. هل أتيت لتُخبرني بشيءٍ ما؟»
فأجبتُها: «على العكس، بل أتيتُ لأسألكِ عن بعض الأشياء.»
فقالت، وقد بدَت عليها مسحة من الخيبة: «هذا أفضل من لا شيء. هلَّا جلست؟»
جلستُ باحتراسٍ على كرسي صغير بدا عتيقًا ومهترئًا، وغير مريح، وشرعت في العمل من دون مقدمات.
«هل تذكرين شيئًا يُدعى سجل بصمات الإبهام؟»
فأجابت بحماس: «بالتأكيد أذكُره. كان هذا هو سبب كل هذه المتاعب.»
«هل تعرفين إن كان بحوزة الشرطة؟»
«لقد أخذه المُحقِّق إلى سكوتلانديارد حتى يتسنَّى لخبراء البصمات فحصه ومقارنة البصمتَين إحداهما بالأخرى؛ وقد أرادوا الاحتفاظ به، لكن السيدة هورنبي كانت منزعجةً للغاية من فكرة استخدامه دليلًا فسمحوا لها باستعادته. كما ترى، لم يكن لهم به حاجة أخرى؛ فقد كان بإمكانهم أخذ بصمات روبين حين كان رهن الاحتجاز؛ وفي الواقع، تطوَّع هو بأن تُؤخَذ بصماته على الفور بمجرد إلقاء القبض عليه، وهكذا تم الأمر.»
«إذن هذا السِّجل بحوزة السيدة هورنبي في الوقت الراهن؟»
«أجل، إلا إن كانت قد دمَّرته. فقد تحدَّثت عن فعل ذلك.»
فقلتُ بشيءٍ من القلق: «آمُل ألَّا تكون قد فعلت؛ لأن الدكتور ثورندايك مُهتم بشدة، لسببٍ ما، بأن يفحصه.»
«حسنًا، ستنزل السيدة هورنبي في غضون دقائق، وسنتبيَّن الأمر. لقد أخبرتُها أنك هنا. ألدَيك أي فكرة عن سبب رغبة الدكتور ثورندايك في الاطلاع عليه؟»
فأجبتُها: «على الإطلاق. فالدكتور ثورندايك كتوم كالقبر. وهو يتعامل معي كما يتعامل مع الجميع؛ يستمِع بانتباه، ويلاحِظ بدقَّة، ولا ينطق بشيء.»
فقالت الآنسة جيبسون في تأمُّل: «هذا لا يبدو مسلكًا وديًّا جدًّا؛ ومع ذلك فقد بدا الدكتور ثورندايك في غاية اللطف والتعاطف.»
أجبتُ مؤكِّدًا: «هو في غاية اللطف والتعاطف حقًّا، لكنه لا يجعل نفسه ودودًا على حساب إفشاء أسرار مُوكِّليه.»
فقالت مُبتسمة، وإن بدا عليها أنها منزعجة من هذه الملاحظة غير اللبقة نوعًا ما التي أدليتُ بها: «لا أظن أنه يصحُّ أن يفعل ذلك؛ لقد ألجمتني بلجامٍ من القول.»
وبينما كنت أُسارع إلى إصلاح الخطأ الذي وقعتُ فيه بالاعتذار وإدانة النفس، انفتح الباب ودلفت إلى الحجرة امرأة مُسنة. كانت قوية البِنية نوعًا ما، وودودةً وهادئة المظهر، ووقع في نفسي عنها (كي أكون صادقًا تمامًا) أنها تبدو حمقاء بعض الشيء.
قالت الآنسة جيبسون، وهي تُقدِّم لي مُضيِّفتها: «ها هي السيدة هورنبي»؛ وأردفَت: «لقد أتى الدكتور جيرفيس من أجل أن يسأل عن سجلِّ بصمات الإبهام. آمُل أنك لم تُخرِّبيه، هل فعلتِ؟»
فأجابت: «كلَّا يا عزيزتي. إنه في مكتبي الصغير. ماذا يريد الدكتور جيرفيس أن يعرف بشأنه؟»
ولمَّا رأيتُ أنها مرتاعة من أن تنزل عليها مفاجأة رهيبة أخرى كالصاعقة، أسرعتُ أطمئنها.
فقلت: «زميلي الدكتور ثورندايك يرغب في فحصه. إنه يتولَّى أمر الدفاع عن ابن أخ زوجكِ، كما تعرفين.»
فقالت السيدة هورنبي: «أجل، أجل. أخبرَتني جولييت عنه. إنها تقول إنه عزيز جدًّا. هل تتفق معها؟»
هنا وقعت عيني على عين الآنسة جيبسون فوجدتُ فيها تلألؤًا مرحًا، ولاحظتُ احمرارًا أشدَّ في وجنتَيها.
فأجبتُ بمراوغة: «في الواقع، لم أنظر إلى زميلي قطُّ بعين الحُب والاعتزاز، لكنني أُنزله مقامًا عاليًا في كل شأنٍ وصدد.»
فقالت الآنسة جيبسون، وهي تتغلَّب على الشعور المؤقَّت بالإحراج الذي نتج عن تكرار السيدة هورنبي لجُملتها بسذاجة: «هذا ولا شك هو المرادف الذكوري. أرى أن التعبير الأنثوي عملي وشمولي أكثر. لكن لنعُد إلى غرض زيارة الدكتور جيرفيس. هلَّا سمحتِ له بالحصول على سجلِّ بصمات الإبهام يا عمة، ليعرضه على الدكتور ثورندايك؟»
فردَّت السيدة هورنبي: «آهٍ يا عزيزتي جولييت، إنني على استعدادٍ لأن أفعل أي شيء، أي شيء، لأُساعد ابننا المسكين. لن أُصدِّق أبدًا أن يكون قد اقترف جرم السرقة؛ السرقة بهذه الطريقة المُبتذلة والفاحشة. ثمة خطأ مهول، أنا مقتنعة بهذا، وقد أخبرتُ المُحقِّقين بذلك. أكَّدت لهم أن روبين لا يمكن أن يكون قد ارتكب السرقة، وأنهم مُخطئون تمامًا في ظنِّهم أنه قادر على إتيان فعلٍ كهذا. لكنهم لم يسمعوا لي، رغم أنني أعرفه منذ كان طفلًا صغيرًا، ولا بد أن يكون لديَّ القدرة على الحكم على ذلك، إن كان هناك من يُمكنه أن يفعل. الألماس! أسألك، ما حاجة روبين إلى الألماس ولم يكن قد صيغ بعدُ حتى؟»
وهنا أخرجت السيدة هورنبي منديلًا حوافُه مِن الدانتيل ومسحت به عينَيها.
فقلتُ بغرَض وقف أمواج تأمُّلاتها: «أنا واثق أن الدكتور ثورندايك سيكون مُهتمًّا كثيرًا بسجلكِ الخاص.»
فأجابت: «أوه، سجل بصمات الإبهام. أجل، سأسمح له أن يحصل عليه بكل سرور. أنا سعيدة بأنه يرغب في الاطلاع عليه؛ فهذا يجعلني أشعر بالأمل؛ لأن هذا يجعلني أعرف أنه يولي القضيةَ اهتمامًا كبيرًا. هل تُصدِّق هذا يا دكتور جيرفيس؟ أولئك المُحقِّقون كانوا يريدون أن يحتفظوا به ليأتوا به دليلًا ضد ذلك الفتى المسكين. سجلِّي أنا! لكنني تمسَّكتُ بموقفي فتعيَّن عليهم إعادته لي. إذ عزمتُ على ألَّا يحصلوا على أي مساعدة منِّي في مسعاهم لتوريط ابن أخي زوجي في هذه المسألة المُريعة.»
فقالت الآنسة جيبسون: «إذن، لعلكِ تُعطين الدكتور جيرفيس هذا السجل، وبإمكانه أن يُعطيه هو إلى الدكتور ثورندايك.»
فقالت السيدة هورنبي: «بالطبع سأفعل؛ على الفور؛ ولستُ في حاجة، يا دكتور جيرفيس، لأن تُعيده. حين تنتهي منه، ألْقِ به في النار. لا أرغب في رؤية ذلك الشيء مجددًا.»
لكنَّني كنتُ قد أخذت أُفكِّر سابقًا في المسألة، وتوصَّلت إلى استنتاجٍ مفاده أن سيكون من الحماقة والطيش أن نأخذ السجل من حوزة السيدة هورنبي، فشرعت الآن أشرح هذا الموقف.
وقلت: «ليس عندي أي فكرة عن غرَض الدكتور ثورندايك من وراء فحصه، لكن لعلَّه يرغب في وضعه ضِمن الأدلَّة، وفي هذه الحال، سيكون من الأفضل ألَّا يخرج عن حوزتكِ في الوقت الراهن. إنما طلب منِّي الدكتور ثورندايك أن أستأذنكِ في تصويره.»
فقالت السيدة هورنبي: «أوه، إن كان يريد تصويره فوتوغرافيًّا، فسأتدبَّر له أمر ذلك من دون أي صعوبة. سيلتقِط والتر ابن أخي زوجي صورةً له من أجلِنا إن طلبتُ منه ذلك، أنا واثقة. إنه ماهر للغاية كما تعلم؛ أليس كذلك يا عزيزتي جولييت؟»
أسرعت الآنسة جيبسون تجيب: «أجل يا عمة، لكنني أتوقَّع أنَّ الدكتور ثورندايك سيرغب في أن يلتقِط الصورة الفوتوغرافية بنفسه.»
فوافقتُها قائلًا: «أنا واثق من أنه سيرغب في ذلك. في الحقيقة، إن الْتقط أحدٌ غيره الصورة فلن تكون ذات نفعٍ له.»
فقالت السيدة هورنبي بنبرةٍ جريحة بعض الشيء: «آه، أتظنُّ أن والتر مجرد هاوٍ؛ إنك ستندهش لو أريتُك بعض الصور التي يلتقطها. أؤكِّد لك أنه ماهر للغاية.»
سألتني الآنسة جيبسون: «أتودُّ أن نُحضر السجلَّ إلى مقرِّ الدكتور ثورندايك؟ من شأن هذا أن يوفِّر الوقت والعناء.»
فشرعت أقول: «إنه لُطف مُفرط من جانبكم …»
«لا عليك مطلقًا. متى نُحضره؟ هل تودُّ أن تحصل عليه هذا المساء؟»
فأجبت: «نود ذلك كثيرًا. حينها سيكون بإمكان زميلي فحصه واتخاذ قرارٍ بشأن ما يتعيَّن فعله به. لكن هذا سيُسبِّب لكم الكثير من العناء.»
فقالت الآنسة جيبسون: «لا عليك من ذلك. أنتِ لا تُمانعين القدوم معي هذا المساء يا عمتي، أليس كذلك؟»
ردَّت السيدة هورنبي: «بكل تأكيد لا أُمانع على الإطلاق، يا عزيزتي»، وكانت على وشك أن تُسهِب في الكلام حين نهضت الآنسة جيبسون ونظرت في ساعتها وصَرَّحَت بأن عليها التوجُّه لإنجاز أمرٍ ما على الفور. فنهضتُ أنا أيضًا لأنصرف، فعلَّقت الآنسة جيبسون قائلة:
«إن كانت وجهتك هي وجهتي نفسها يا دكتور جيرفيس، فبإمكاننا ترتيب موعد الزيارة إليكم بينما نمضي في طريقنا.»
ولم أتباطأ في استغلال هذه الدعوة، وفي غضون ثوانٍ لاحقة، كنَّا قد غادرنا المنزل معًا، تارِكين السيدة هورنبي مبتسمةً ابتسامة حمقاء في إثرنا أمام الباب المفتوح.
وسألتني الآنسة بينما نتقدَّم سيرًا في الشارع: «في ظنك، هل ستكون الثامنة موعدًا مناسبًا؟»
فأجبتُها: «أوافق تمامًا على أنه سيكون موعدًا مناسبًا للغاية. وإن برز شيء يجعل اللقاء غير مُمكن، سأُرسل إليكِ برقية. كنتُ أتمنَّى لو تأتين بمفردكِ؛ فاجتماعنا سيكون لأغراض العمل.»
فضحكت الآنسة جيبسون ضحكةً ناعمة، وكم كانت ضحكتها جذابةً وشجيَّة.
وقالت موافِقة: «أجل. فالسيدة هورنبي العزيزة تميل إلى الإسهاب ومن الصعب أن تلتزِم بموضوعٍ واحد؛ لكن يتعيَّن على المرء أن يكون متسامحًا مع سقطاتها الصغيرة؛ ستُسامحها لو كنت قد تعرَّضت لعطفها وكرمها كما تعرَّضتُ أنا.»
فأجبتُها: «أنا واثق من أني سأفعل؛ بل في الواقع أنا متسامح معها الآن حقًّا. ففي نهاية المطاف، القليل من الإطناب في الحديث وغموض الأفكار لا يُمثِّلان سقطاتٍ كبرى لامرأةٍ سخيَّة في سنِّها.»
منحتني الآنسة جيبسون، ردًّا على هذا الرأي السديد، ابتسامةً صغيرةً تنمُّ عن الاستحسان والتصديق، ورُحنا نسير بُرهةً في صمت. ثم التفتت لي فجأةً وبتعبيرٍ جادٍّ للغاية، وقالت:
«أريد أن أطرح عليك سؤالًا يا دكتور جيرفيس، وسامِحني رجاءً إن طلبتُ منك أن تضع جانبًا تحفُّظك المِهني ولو قليلًا من أجل خاطري. أُريدك أن تُخبِرني إن كان الدكتور ثورندايك يرى أملًا أو توقعًا لأن يكون قادرًا على إنقاذ روبين المسكين من هذا الخطر المُهلك الذي يتهدَّده.»
كان هذا سؤالًا مباشرًا إلى حدٍّ كبير، وقد تريَّثت لأفكِّر فيه قبل أن أُجيب.
فقلتُ أخيرًا: «سأُخبركِ بالقدر الذي يُلزِمني به واجبي تجاه زميلي أن أخبركِ؛ لكن هذا يُعَد أقلَّ من أن يكون جديرًا بأن يُقال. ومع ذلك، يمكنني أن أقول لكِ الآتي من دون أن أكون قد أفشيتُ سرًّا: الدكتور ثورندايك تولَّى القضية وهو يعمل عليها بكد، وبكل تأكيد ما كان سيفعل لا هذا ولا ذاك إن كان يرى أن المسألة ميئوس منها.»
فقالت هي: «هذه وجهة نظر مُشجِّعة للغاية في المسألة، وكانت قد تبادرت إلى ذهني بالفعل. هل لي أن أسأل إن كان أي شيء قد تمخَّض عن زيارتكما إلى سكوتلانديارد؟ أرجوك، لا تظن أني متطفلة؛ إنما أنا في غاية القلق والاضطراب.»
«لا يسعني أن أُخبرك إلا بالقليل جدًّا عن نتائج رحلتنا؛ لأني لا أعلم إلا القليل؛ لكن تُراودني فكرة أن الدكتور ثورندايك ليس مستاءً من العمل الذي أجراه في الصباح. من الواضح أنه أمسك بخيوط بعض الوقائع، وإن كنتُ لا أملك أدنى فكرة عن طبيعتها، وبمجرد أن وصلنا إلى المنزل، راوَدَته رغبة مفاجئة في أن يفحص سجلَّ بصمات الإبهام.»
فقالت بامتنان: «أشكرك يا دكتور جيرفيس. لقد أثلجتَ صدري أكثر ممَّا يُمكنني أن أصف لك، ولن أطرح عليك المزيد من الأسئلة. هل أنت واثق أنني لا أحيد بك عن وجهتك؟»
فأجبتُها على عجل: «على الإطلاق. في الواقع، كنتُ قد أردتُ أن أحظى بمحادثة صغيرة معكِ بعد أن ننتهي من أمر سجلِّ البصمات؛ لذا يُمكنني أن أقول إنني أمزج بعض العمل بقدْر كبير من الاستمتاع، إن كانت رفقتي لكِ مقبولة.»
فأحنت رأسها انحناءةً صغيرة ساخرة وسألت:
«إذن باختصار، يمكنني أن أتوقَّع أنك ستستجوبني لاستخراج معلوماتٍ منِّي؟»
فرددت: «بحقكِ، أنتِ من كنتِ تستخرجين مني المعلومات بحماسٍ شديد. لكن هذا ليس مقصدي على الإطلاق. كما ترين، نحن غريبان تمامًا عن كل الأطراف المَعنية بالقضية، الأمر الذي يؤدي بالطبع إلى تقييمٍ موضوعي بشأن شخصياتهم. لكن في نهاية المطاف، المعرفة مفيدة لنا أكثر من الموضوعية. مثال على ذلك، موكلنا. لقد ترك انطباعًا إيجابيًّا للغاية لدى كِلَينا، حسبما أظن؛ لكن ربما كان الشابُّ محتالًا وجيهًا وله سجلٌّ في غاية السوء. ثم تأتين وتُخبريننا أنه شابٌّ نبيل المَحتِد وذو شخصية لا تشوبها شائبة فنُصبح على الفور أكثر تثبُّتًا.»
فقالت الآنسة جيبسون وهي مُمعِنة في التفكير: «فهمت، وهب أنني أخبرتكما — أو أن أحدًا آخر أخبركما — بأشياء تُسيء إليه. هل كان ما قُلنا سيؤثِّر على سلوككما تجاهه؟»
فأجبتها: «عندئذٍ فقط، كان سيتعيَّن علينا أن نستقصي حقيقة ما يُقال وأن نتيقَّن من أصلِه.»
«أظن أن ذلك هو ما ينبغي أن يفعله المرء دومًا»، هكذا قالت وهي لا تزال غارقةً في التفكير، الأمر الذي شجَّعني على سؤالها:
«هل لي أن أسألك إن كان أحدٌ من معارفكِ قد قال شيئًا ليس في صالح السيد روبين؟»
تفكرَت مليًّا قبل أن تُجيبني وقد ثبَّتت عينَيها على الأرض مستغرقةً في التفكير. وأخيرًا قالت بشيء من التردد:
«إنه أمر بسيط وربما لا يمتُّ لهذه المسألة بصِلة. لكنه سبَّب لي اضطرابًا كبيرًا، حيث تسبَّب هذا إلى حدٍّ ما في وضع حائلٍ بيني وبين روبين؛ وقد كنَّا من قبلُ صديقَين حميمَين. وقد لُمتُ نفسي على السماح لهذا الأمر أن يؤثِّر — ربما بشكلٍ مُجحف — على رأيي فيه. سأخبرك بالأمر، وإن كنتُ أتوقَّع أنك ستراني في غاية الحماقة.
لا بد أن تعرف أنني وروبين كنا مُقرَّبين للغاية حتى قبل حوالي ستة أشهر، رغم أننا لم نتجاوز إطار الصداقة، كما تفهم. لكننا كنا في منزلة الأقارب؛ لذا لم يكن هناك شيء غير عادي بشأن صداقتنا. كما أن روبين طالِب نَهِم للفنون من العصور القديمة والوسطى، وهذا أيضًا موضع اهتمامٍ كبير عندي؛ لذا اعتدنا زيارة المتاحف وصالات العرض معًا، كما اعتدنا على الاستمتاع كثيرًا بمقارنة آرائنا وانطباعاتنا عما رأينا وشاهدنا.»
وتابعت: «وقبل حوالي ستة أشهر، تنحَّى بي والتر جانبًا ذات يوم، وبوجهٍ في غاية الجدِّية سألني إن كان هناك تفاهُم من نوع ما بيني وبين روبين. حينها رأيتُ أن في سؤاله هذا وقاحةً من جانبه، ورغم هذا أخبرتُه بالحقيقة، وهي أنني وروبين مجرد صديقَين لا أكثر.
فقال لي وهو مُتجهِّم للغاية: «إن كان هذا هو الحال، فأنصحكِ بألَّا تقضي معه كثيرًا من الوقت على مرأًى من الناس.»
فسألته بطبيعة الحال: «ولِمَ لا؟»
فقال لي والتر: «الأمر أن روبين أحمق بغيض. فقد كان يُثرثر مُتحدِّثًا إلى الرجال في النادي، ويبدو أنه ترك فيهم انطباعًا بأن سيدةً شابة ذات حسَب ومال تُثابر في نصب شباكِها حوله، ولكن لأنه فيلسوف سامي الروح ولا يتأثَّر بالمُغريات التي يتأثَّر بها غيره من البشر العاديين، فإنه أرفع منزلةً من مداهنتها ومن الانجذاب إلى أموالها»، وأضاف: «لقد نبَّهتكِ من أجل إرشادكِ، ولا أريد لِمَا سمعتِ منِّي أن يخرج إلى ثالثٍ غيرنا. ويجب ألَّا تغضبي من روبين. فأفضل الشبان غالبًا ما يتصرَّفون بتصلُّف وغباء، ولا شكَّ عندي في أن الناس قد بالغوا كثيرًا فيما قال؛ لكنني ارتأيتُ أن من الصائب أن أنبِّهكِ.»»
وتابعت: «الآن وكما قد تخمن، جعلني ما قاله والتر في غاية الغضب، فأردتُ أن أواجِه به روبين من فوري. لكن والتر رفض السماح بهذا؛ إذ قال: «لا فائدة من أن تنفجري فيه غضبًا»، وأكَّد لي أنه قال لي إن الأمر يجب أن يبقى طيَّ الكتمان؛ فماذا كان ينبغي بي أن أفعل؟ لقد حاولتُ تجاهل الأمر وأن أُعامل روبين كعادتي معه دائمًا، لكنني وجدتُ هذا مستحيلًا؛ فكبريائي الأنثوي أُصيب بجرحٍ بالِغ. ومع ذلك، شعرت بدناءة شديدة أن تُخالجني هذه الأفكار من دون أن أمنحه فرصة الدفاع عن نفسه. ورغم أن ما قيل لم يكن من شِيَم روبين من بعض الجوانب، كانت جوانب أخرى منه تُشبهه جدًّا؛ لأنه كان دائمًا ما يُعبِّر عن ازدرائه للرجال الذين يتزوَّجون امرأةً تعولهم. وهكذا ظَلِلتُ عالقةً في هذه المعضلة، وما زلت. في رأيك، ماذا كان ينبغي أن أفعل؟»
فركتُ ذقني في شيءٍ من الإحراج من هذا السؤال. ومن نافلة القول أنني كرهت سلوك والتر هورنبي، ولم أجد ولو ميلًا قليلًا لأن ألوم رفيقتي الجميلة على الإصغاء إلى ذمِّه الخبيث لابن عمِّه؛ لكن من الواضح أنني لستُ في موقفٍ يُخوِّل لي الحكم على حيثيات الأمر بغير تفكير.
فقلت بعد أن سكتُّ برهة: «يبدو لي أن الأمر كالآتي: إما أن روبين تحدَّث عنكِ بسوء وبالباطل، أو أن والتر كذب بشأنه عامدًا.»
فقالت موافقة: «أجل، هذا هو الموقف؛ لكن أيهما يبدو لك أكثر رجوحًا؟»
فأجبتها: «تحديد هذا أمر في غاية الصعوبة. فثمة أوغاد من فئة مُعيَّنة يميلون إلى التبجُّح بمغامراتهم وعلاقاتهم. ونحن جميعًا نعرف هؤلاء ونستطيع عمومًا التعرُّف إليهم بمجرد رؤيتهم، لكن يتعيَّن أن أقول إنني لم أجد روبين هورنبي من هذا النوع على الإطلاق. وحينها يتَّضح أن التصرُّف الملائم من جانب والتر، إن كان حقًّا قد سمع هذه الإشاعات، أن يناقش المسألة مع روبين، عوضًا عن أن يهمس إليكِ بهذه الأقاويل. هذا هو حدسي، لكن بالطبع، قد أكون مخطئًا بشأنه. لكنني أظنُّ أن صديقَينا الشابَّين ليسا رفيقَين مقرَّبين، صحيح؟»
«بل هما رفيقان مقرَّبان جدًّا، لكن كما ترى، اهتماماتهما وآراؤهما بشأن الحياة مختلفة تمامًا. فروبين وإن كان موظفًا ممتازًا أثناء ساعات العمل؛ فهو تلميذ، أو ربما ما يمكن أن يُطلِق عليه المرء باحثًا، في حين أن والتر أمْيَل إلى أن يكون رجلًا عمليًّا؛ فهو قطعًا فطِن وداهية. ولا شك في مهارته، كما قالت السيدة هورنبي.»
فأشرت: «هو يلتقط الصور، على سبيل المثال.»
«أجل. لكن ليست صور هواة عادية؛ فعمله يغلب عليه الطابع الفني والإتقان. فقد أبدع مثلًا سلسلةً من الصور الفوتوغرافية الدقيقة لقطاعاتٍ من الصخور المعدنية، وقد استنسخها من أجل طباعتها باستخدام عملية الطباعة الضوئية، بل إنه طبع الشرائح بنفسه.»
«فهمت. لا بد أنه بارع جدًّا في هذا.»
فقالت مُقرَّة: «حقًّا هو كذلك، وهو حريص كل الحرص على تحقيق مكانةٍ عالية لنفسه؛ لكن أخشى أنه مُولَع بالمال من أجل المال في حدِّ ذاته، وهذه ليست سمةً جذَّابة في السمات الشخصية للشاب، أليس كذلك؟»
وافقتُها على قولها.
وأردفت الآنسة جيبسون تقول، وكأنها عرافة حكيمة: «الحرص المُفرط على الجوانب المادية مآلُه اتباعُ طرائق فاسدة في جمع المال؛ أوه، لستَ في حاجة لأن تبتسِم ردًّا على أقوالي الحكيمة يا دكتور جيرفيس؛ فهذا صحيح كل الصحة، وأنت عليم بهذا. الأمر أنني أحيانًا ما يُراوِدني شعور مزعج بأن رغبة والتر في أن يُحقِّق الثراء تميل به لأن يُجرِّب طُرقًا تبدو سريعةً وسهلة في جمع المال. فثمة صديق له — اسمه السيد هورتون — يعمل وسيطًا في البورصة، وهو «يدير» عملًا على نطاق واسع — أعتقد أن التعبير المستخدَم في هذا السياق هو «الإدارة»، وإن كان يبدو أن الأمر لا يعدو المقامرة العادية — وقد راودتني الشكوك أكثر من مرةٍ في أن والتر منخرط فيما يُطلِق عليه السيد هورتون «مراهنة صغيرة».»
فعلَّقتُ بحصافة وموضوعية شخصٍ مُفلس ومن ثمَّ متماسك وغير مُنبهر: «لا أجد في هذا التصرُّف ما ينمُّ على الفطنة.»
فقالت موافِقة: «بالفعل. لكن المقامر دائمًا ما يظنُّ أنه سيحقِّق الربح؛ وإن كنتُ لا أريد أن أترك لديك انطباعًا بأن والتر مُدمن على المقامرة. ها قد وصلتُ إلى وجهتي. أشكرك على مرافقتي هذا القدْر من الطريق، وآمُل أن يكون إحساسك بالغربة عن عائلة هورنبي قد انحسر عنك قليلًا. سنأتي لزيارتكما الليلة في تمام الثامنة.»
مدَّت لي يدَها بابتسامةٍ بيِّنة، وارتقت برشاقةٍ الدرج المؤدي إلى باب الشارع؛ وحين عاودتُ النظر إليها، بعد أن عبرتُ الطريق، أومأَت لي بإيماءةٍ صغيرة ودودة وهي تلتفِت لتدخل المنزل.