سجل بصمات الإبهام
علَّق الدكتور ثورندايك حين التقَينا على طاولة الطعام، وقد أمددتُه بموجز لمغامراتي ظهر اليوم: «أرى إذن أنك ألقيتَ شباكك في مياهٍ هادئة ومعتدلة بحديثك مع نساء آل هورنبي.»
فأجبتُه: «أجل، وإليك صيد اليوم طازجًا وجاهزًا.»
وضعتُ على الطاولة اثنتَين من مفكراتي كنتُ قد سجَّلت فيهما ما استطعتُ استخراجَه من معلوماتٍ من خلال حديثي مع الآنسة جيبسون.
فقال ثورندايك: «سجلتَ المعلومات بمجرد أن عدتَ على ما أظن، صحيح؟ بينما كانت لا تزال حاضرةً في ذهنك؟»
«دوَّنتُ ملاحظاتي حين جلستُ على مقعدٍ في كينزنجتن جاردنز في غضون خمس دقائق بعد أن افترقتُ عن الآنسة جيبسون.»
فقال ثورندايك: «جيد! والآن لنرَ ما جمعت.»
ألقى نظرةً سريعةً على المدخلات في الدفترَين، وفي مرة أو مرتَين كان يُعيد النظر فيها، ووقف صامتًا وذاهلًا لبضع لحظات. ثم وضع المُفكرتَين على الطاولة بإيماءةٍ تنمُّ على شعوره بالرضا.
وقال: «معلوماتنا إذن كالآتي: روبين موظف دءُوب في عمله، وفي وقت فراغه، يدرس فنون العصور القديمة والوسطى؛ ومن المُحتمَل أن يكون أحمق وثرثارًا ووغدًا أو أنه، على العكس، مفترًى عليه ويتعرَّض لقذعٍ شديد.»
وأضاف: «ومن الواضح أن والتر هورنبي خبيث وعلى الأرجح كاذب؛ وهو رجل أعمال بارع، وربما كان باحثًا عن الثراء السريع في سوق المال في شارع ثروجمورتون؛ ومصوِّر فوتوغرافي محترف وعليم بعملية الطباعة الضوئية. لقد أديتَ عملًا ممتازًا اليوم يا جيرفيس. أتساءل إن كنت ترى مَغزى المعلومات التي جمعتها.»
فأجبته: «أظن أنني أرى مغزى بعضها؛ لقد كوَّنتُ، على الأقل، آراءً محددة.»
قال: «احتفظ بها لنفسك إذن يا صديقي، حتى لا أشعر أن عليَّ أن أبوح بما في صدري من آرائي الخاصة.»
أجبت: «سأُفاجَأ كثيرًا إن أنت فعلتَ يا ثورندايك، وما كنت لأرغب في معرفة رأيك الآن. فأنا أُدرك تمامًا أن آراءك ونظرياتك ملك موكلك ولا ينبغي استخدامها في الترفيه عن أصدقائك.»
ربَّت ثورندايك على ظهري مُداعبًا، لكنه بدا مسرورًا بصورة غير معتادة، وقال بإخلاص واضح: «أنا مُمتن لك حقًّا على قولك هذا؛ لأنني شعرتُ بشيء من الحرَج من كوني صموتًا معك وأنت تعرِف الكثير عن هذه القضية. لكنك مُحق، وأنا مسرور بأن أجدك بهذا القدْر الكبير من الفطنة والتعاطف. أقل ما يُمكنني فعله في ظل هذه الظروف هو أن نفتح زجاجةً من نبيذ بومار، وأن نشرب نخب زميلٍ بهذا القدر من الإخلاص والتعاون. آه. حمدًا للرب! ها هو بولتون، ككاهن قرابين تتبعه نكهة اللحم المَشويِّ الطيبة.» ثم أردف وهو يستنشِق الرائحة: «أتوقَّع أنها شريحة من لحم الخاصرة، إنها طيبة وكأنها مقدَّمة للإله شماش (لست في حاجةٍ لأن أقول إن هذه التورية كانت عَفْوية) أو لطبيبٍ شرعي شرِه. هلَّا فسَّرتَ لي يا بولتون، كيف أن شريحة لحم الخاصرة التي تُعِدها أفضل من أي شريحة لحمٍ غيرها؟ هل يعود هذا لأنك تملك ثيرانًا من نوعيةٍ خاصة؟»
تجعَّدت الملامح الجافة على وجه الرجل الضئيل الجسم من سعادته حتى صار وجهه مليئًا بالخطوط، وكأنه رسم تخطيطي لتقاطُع كلابام.
وأجاب: «ربما كان السبب هو المعاملة الخاصة التي تتلقَّاها يا سيدي. فعادةً ما أرضُّها في الهاوُن قبل أن أطهوَها، لكن من دون أن أُصيب ألياف الشريحة بالضرَر، ثم أُسخِّن فرن البوتقة الصغير إلى حوالي ٦٠٠ درجة مئوية، ثم أضع شريحة اللحم فيه على حاملٍ ثلاثي.»
فضحك ثورندايك على الفور. وصاح: «تستخدِم فرن البوتقة أيضًا. يا له من استخدامٍ ذميم لهذه الأداة … لكنني في نهاية المطاف لا أعرف إن كان هذا مذمومًا. على أي حال يا بولتون، افتح زجاجةً من نبيذ بومار وضع شريحتَي «معالجة» مقاس عشرة في ثمانية في الشرائح المُعتِمة. فأنا أتوقَّع قدوم سيدتَين إلى هنا هذا المساء ومعهما وثيقة.»
فتساءل بولتون وقد بدا الانتباه على تعبيرات وجهه: «هل ستأتي بالسيدتَين إلى الطابق العلوي يا سيدي؟»
أجابه ثورندايك: «أتوقَّع أني سيتعيَّن عليَّ ذلك.»
فقال بولتون، الذي كان من الواضح أنه يعي الفارق بين الرأي الذكوري والأنثوي عن المظهر الملائم لمحلِّ العمل: «إذن سأعمل على تحسين منظر المُختبر قليلًا.»
قال لي ثورندايك بعد أن هدأت شراهته إلى حدٍّ ما: «إذن تقول إن الآنسة جيبسون أرادت الاطلاع على آرائنا الخاصة في القضية؟»
فأجبته: «أجل»؛ ثم كرَّرت عليه محادثتنا بقدْر ما استطعتُ أن أتذكَّر منها.
علَّق ثورندايك: «إجابتك كانت في غاية الحصافة والدبلوماسية، وكان من الضروري جدًّا أن تكون كذلك؛ لأن من الجوهري ألَّا نُري سكوتلانديارد ما لدَينا من أوراق للعب؛ وإن كنا سنفعل ذلك مع سكوتلانديارد، فحريٌّ بنا أن نفعله مع العالم أجمع. نحن نعرِف ورقتهم الرابحة، وبإمكاننا ترتيب أوراقنا على هذا الأساس، ما دُمنا لا نكشف أوراقنا.»
«أنت تتحدَّث عن رجال الشرطة وكأنهم خصومك؛ لاحظتُ هذا في سكوتلانديارد صباح اليوم، وفوجئت أنهم تقبَّلوا هذه المرتبة. لكن من المؤكَّد أن عملَهم هو اكتشاف المُجرم الحقيقي، لا تثبيت الجريمة على شخصٍ بعينه.»
أجابني ثورندايك: «من المُفترَض أن يكون الأمر كذلك، لكن في الواقع، الأمر مغاير ومختلف. حين يُلقي رجال الشرطة القبض على أحدهم، فإنهم يعملون من أجل إدانته. فإن كان الرجل بريئًا، فهذا شأنه هو لا شأنهم؛ فهو الذي يتعيَّن عليه أن يثبت براءته. هذا النظام خبيث ووخيم؛ لا سيما وأن كفاءة ضابط الشرطة، بالتبعية، عُرضة لأن تتحدَّد بعدد الإدانات التي يُحقِّقها، ومن ثَمَّ يُقَدَّم له حافز ليحصل على إدانة إن أمكن؛ لكن هذا جزء من الإجراء التشريعي عمومًا. والمحامون لا ينخرطون في المناقشات الأكاديمية أو في السعي للحصول على الحقيقة، لكنهم يحاولون بأي وسيلةٍ أن يُبرهنوا على مسألة بعينِها بغضِّ النظر عن حقيقتها الفعلية أو حتى عن الاعتقاد الشخصي للمحامي بشأن المسألة. هذا هو ما يُسبِّب الكثير من الاحتكاك بين المحامين والشهود من الخبراء في علمٍ ما؛ فكل فريق لا يستطيع فهم وجهة نظر الآخر. لكن لا ينبغي أن نجلس إلى الطاولة ونثرثر هكذا؛ لقد تجاوزتِ الساعة السابعة والنصف، وسيرغب بولتون في تحسين منظر هذه الحجرة.»
فعلَّقت قائلًا: «أُلاحظ أنك لا تستخدِم مكتبك كثيرًا.»
«بل قل إنني نادرًا ما أستخدِمه، باستثناء استخدامه مستودعًا للوثائق والأدوات المكتبية. أجد أن تبادل الحديث في المكتب باعث على البؤس، ومعظم أعمالي غالبًا ما تجري مع مُستشارين قانونيين أكون على معرفةٍ بهم؛ لذا ليس هناك حاجة لهذه الرسميَّات. لا بأس يا بولتون، سنكون على استعدادٍ في غضون خمس دقائق.»
كان جرس ساعة منطقة تيمبل يدق مُعلنًا الثامنة حين فتحتُ الباب المُحاط بالحديد؛ وبينما كنتُ أفتحه، أتى صوت الخطوات من الدرج بالأسفل. انتظرتُ زائرتَينا على فاصل الدرج، وتقدَّمتُهما إلى داخل الغرفة.
وحين قدَّمت الدكتور ثورندايك إلى السيدة هورنبي قالت: «يسرني كثيرًا أن أتعرف إليك؛ فقد سمعتُ عنك الكثير من جولييت …»
فقالت الآنسة جيبسون مقاطِعة، وقد وقعت عينها في عيني ووجدتُ فيها نظرة انتباه هزلي: «حقًّا يا عمتي العزيزة، هكذا ستتركين لدى الدكتور ثورندايك انطباعًا خاطئًا للغاية. لم أقل إلا أنني تطفَّلت عليه من دون سابق إنذار وأنه استقبلني بحفاوة وتقدير بالغَين.»
فقالت السيدة هورنبي: «لم تُخبريني عن الأمر بهذه الصياغة يا عزيزتي، لكن لا يُهم.»
فقال ثورندايك، وهو يرمق بنظرةٍ سريعة السيدة الشابة التي ابتسمت ابتسامةً مرتبكة: «نحن مُمتنَّان للغاية بحديث الآنسة جيبسون اللطيف عنا، بغضِّ النظر عن شكل التعبير عنه؛ كما أننا مَدينان لكِ كثيرًا لتحمُّلكِ العناء في سبيل مساعدتنا.»
فأجابت السيدة هورنبي: «لا عناء على الإطلاق، بل إن هذا من دواعي سروري»؛ وشرعَت تُسهب وتُطنب حتى كادت تعليقاتها تمتد إلى ما لا نهاية، مثل الدوائر المُتموِّجة التي يُحدثها سقوط حجَر في الماء. ووسط هذا الحديث، وضع ثورندايك كرسيين من أجل السيدتَين، واستند إلى المدفأة وثبَّت نظرةً جامدةً على الحقيبة الصغيرة التي تتدلَّى من معصم السيدة هورنبي.
فقاطعَتها الآنسة جيبسون، ردًّا على هذا الطلب الصامت: «هل سِجل البصمات في حقيبتكِ؟»
فأجابتها المرأة العجوز: «بالطبع يا عزيزتي جولييت. لقد رأيتِني وأنا أضعه. يا لكِ من فتاة غريبة الأطوار! أتعتقدِين أنه كان يتعين عليَّ أن أُخرجه من الحقيبة وأضعه في مكانٍ آخر؟ لا أقصد أن هذه الحقائب آمنة بحق، وإن كنت أظن أنها أكثر أمانًا من الجيوب، خاصةً الآن وقد صار من الموضة أن تصبح الجيوب في الجانب الخلفي من الملابس. ومع ذلك، فكَّرت كثيرًا كم سيكون سهلًا على السارقين واللصوص أو غيرهم من هذه المخلوقات البغيضة أن يختطفوا منكِ ما معكِ؛ لقد حدث هذا في واقع الأمر. إذ كنت أعرف سيدةً — اسمها السيدة موجريدج، أنتِ تعرفينها يا جولييت — كلا، لم تكن السيدة موجريدج، تلك مسألة أخرى، بل كان اسمها السيدة … السيدة … بحق السماء، كم أنا سخيفة! … ماذا كان اسمها؟ أتستطيعين مساعدتي يا جولييت؟ لا بد أنكِ تتذكَّرين تلك المرأة. كانت تزورنا كثيرًا في هولي جونسونز … أظن أنها كانت تأتي إلى هولي جونسونز، وإلا فإن هؤلاء كانوا قومًا آخرين …»
فقاطعَتْها الآنسة جيبسون قائلة: «ألن يكون من الأفضل لو أعطيتِ الدكتور ثورندايك سجلَّ البصمات؟»
«عجبًا، بالطبع يا عزيزتي جولييت. ألم نأتِ إلى هنا من أجل هذا؟» وبتعبيرٍ ينمُّ عن شيء من التضرُّر أصابها، فتحت السيدة هورنبي الحقيبة الصغيرة وشرعت تُخرج محتوياتها على الطاولة بتأنٍّ شديد. كانت تلك المحتويات عبارةً عن منديل من الدانتيل، وحافظة للمال، وحافظة بطاقات، وقائمة زيارات، وعبوة من «مسحوق البودرة»، وحين وضعت تلك العبوة على الطاولة، توقفت فجأةً وحدَّقت بوجه الآنسة جيبسون وكأنها حقَّقت اكتشافًا مذهلًا.
وقالت بنبرة مؤثِّرة: «لقد تذكرتُ اسم المرأة. كان اسمها السيدة جودج … السيدة جودج، أخت زوج …»
هنا غاصت يد الآنسة جيبسون بفظاظة في الحقيبة المفتوحة وأخرجت طردًا صغيرًا ملفوفًا في ورق ملاحظات ومربوطًا بخيطٍ من الحرير.
فقال الدكتور ثورندايك وهو يأخذ الطرد من يدِها بينما كانت السيدة هورنبي تمد يدها لتعترضهما: «شكرًا لكِ.» ثم قطع الخيط وأخرج من بين اللفافات دفترًا صغيرًا مجلَّدًا بقماش أحمر، وقد طُبِعَت على غلافه كلمة «سجل بصمات الإبهام»، وكان قد بدأ يفحصه حين نهضت السيدة هورنبي ووقفت إلى جواره.
وقالت وهي تفتح الدفتر على أول صفحة: «تلك هي بصمة إبهام الآنسة كولي. لا تربطنا بها صِلة. كما ترى البصمة ملطَّخة بعض الشيء … قالت إن روبين هزَّ مرفقها، لكني لا أظنُّ أنه فعل؛ على أي حال، هو أكَّد لي أنه لم يفعل، وكما تعلم …»
فقاطعها ثورندايك قائلًا: «آه. هذه هي التي نبحث عنها»، إذ كان يقلب صفحات السجل متجاهلًا ثرثرة السيدة هورنبي المُشوِّشة؛ وأردف: «إنها بصمة جيدة للغاية أيضًا، بالنظر إلى أنها أُخِذَت بنَزَق.»
ثم مدَّ يده نحو عدسة القراءة التي تتدلى من على مسمارها والمُعلَّقة عليه فوق المدفأة، ومن تحمُّسه أثناء نظره باستخدامها عرفتُ أنه كان يبحث عن شيءٍ ما. بعد برهة، شعرت بأنني متأكد من أنه قد وجد ضالَّته؛ لأنه بعد أن أعاد العدسة إلى مكانها بهدوء ورصانة ودون أن يُبدي تعليقًا، كان ثمة لمعة في عينه وتورُّد تكاد لا تُدركه العين في وجنته بفعل شعورٍ مكبوت بالحماس والانتصار كنت قد بدأت أنتبه له وأُدرِكه تحت القناع الجامد الذي يظهر به للعالم.
ثم قال مُقاطعًا الثرثرة المُتلاحقة وغير المترابطة للسيدة: «سأطلب منكِ أن تتركي هذا السجلَّ الصغير معي يا سيدة هورنبي، وحيث إنني قد أُضيفه إلى الأدلة، سيكون من الحكمة احترازيًّا لكِ وللآنسة جيبسون أن تُوقِّعا اسمَيكما — بخطٍّ صغير قدر الإمكان — على الصفحة التي تحمِل بصمة إبهام السيد روبين. من شأن هذا أن يتدارك أي إشارةٍ بتلاعُب في السجلِّ بعد أن تتركاه.»
شرعت السيدة هورنبي تقول: «سيكون من السفاهة أن يُشير أي أحد إلى مثل هذا الاقتراح»؛ لكن عندما وضع ثورندايك قلم الحبر السائل في يدِها، خَطَّت توقيعها في المكان الذي أشار إليه وسلَّمت القلم إلى الآنسة جيبسون التي وقَّعت تحت توقيعها.
فقال ثورندايك: «والآن، سنأخذ صورةً فوتوغرافيةً مكبَّرةً لهذه الصفحة مع البصمة؛ وهذا لا يعني أنه من الضروري أن نفعل هذا الآن، حيث إنكما ستتركان السجلَّ في حوزتي؛ لكن ستكون هناك حاجة لهذه الصورة الفوتوغرافية، وحيث إن مساعدي يتوقع صعودنا وقد أعدَّ الجهاز، فبإمكاننا أن نُنهي المسألة في الحال.»
وافقت كلتا السيدتَين على ذلك (إذ كان الفضول في واقع الأمر يعتريهما بشأن مقرِّ عمل زميلي)، ومن ثمَّ انطلقنا نجتاز مجموعة الغُرَف في الطابق العلوي، والتي كان بولتون العبقري يبسط سلطانه عليها في أُبَّهة وانعزال.
كانت هذه زيارتي الأولى إلى هذه البقعة الغامضة، فنظرت حولي بالقدر نفسه من الفضول الذي كان لدى السيدتَين. كانت الغرفة الأولى التي دخلناها هي على ما يبدو الورشة؛ فقد كانت تحتوي على منضدة نجار صغيرة، وآلة خرط، ومنضدة للأعمال المعدنية، وعدد من الأدوات الميكانيكية التي لم أستطع فحصها حينها؛ لكنني لاحظتُ أن المكان بأكمله كان يبدو للعين مرتبًا للغاية بحيث لا يبدو أن أحدًا يعمل فيه، الأمر الذي لم يغفل عنه ثورندايك؛ إذ ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه وهو يجول بعينه على المناضد الخالية والأرضية النظيفة.
ومن هذه الحجرة دلفنا إلى المعمل، الذي كان حجرةً كبيرة، أحد جوانبها مُخصَّص للأبحاث الكيميائية، كما بدا من رفوف الكواشف التي تُغطي جدار ذلك الجانب، والقوارير والمقطرات المعوجَّة والأدوات الأخرى التي كانت موضوعةً على المنضدة بترتيب وكأنها زخارف على رفِّ مدفأة في غرفة صالون. وعلى الجانب الآخر من الحجرة كان ثمة آلة تصوير كبيرة الحجم، مقدِّمتها التي تحمل العدسة مُثبَّتة، وحامل النسخ يتحرك على أداتَي توجيهٍ متوازيتَين، نحوها أو بعيدًا عنها على حامل طويل.
شرع ثورندايك يشرح هذا الجهاز لزائرتَينا بينما ثبَّت بولتون سجلَّ بصمات الإبهام على مِمسك مُتصل بالحامل.
وقال مجيبًا على سؤالٍ طرحَته الآنسة جيبسون: «كما ترَون، أنا أتعامل مع الكثير من التوقيعات والشيكات والوثائق المتنازع عليها من الأنواع كافَّة. والآن، يمكن للعَين الخبيرة وبمساعدة عدسة جيب أن تنتبِه إلى تفاصيل في غاية الدقة على شيك أو ورقة مالية؛ لكن ليس من الممكن أن يُعير المرء عينه الخبيرة إلى قاضٍ أو عضو هيئة مُحلفين؛ لذا غالبًا ما يكون مناسبًا جدًّا أن تُقَدَّم له صورة فوتوغرافية مكبَّرة حقًّا، ويُمكنه مقارنتها مع الصورة الأصلية. فالأشياء الصغيرة، عند تكبيرها، تُظهِر سِماتٍ وخصائص غير متوقعة إلى حدٍّ كبير؛ مثلًا، لقد تعاملتم، على ما أظن، مع الكثير من الطوابع البريدية، لكن هل لاحظ أحد منكم من قبلُ البُقَع الصغيرة البيضاء في الزاوية العلوية من طابع البنس الواحد، أو لاحظتم حتى الفارق في الزخارف على جانبي الإكليل؟»
أقرَّت الآنسة جيبسون أنها لم تفعل.
فأردف ثورندايك: «حسبما أظن، قلة فقط، باستثناء جامعي الطوابع، من لاحظوا ذلك، لكن انظروا إلى هذا الطابع الآن وستجدون أن هذه التفاصيل تفرِض نفسها على انتباهكم.» وبينما هو يتحدَّث، ناولها صورةً فوتوغرافية أخرجها من درج؛ كانت الصورة لطابع البنس الواحد مُكبَّرة بطول ثماني بوصات.
وبينما كانت السيدتان تُطالعانها وتتعجَّبان منها، مضى بولتون في عمله. فثَبَّتَ سجل بصمات الإبهام في مكانه، وسلَّط ضوء مصباح غازي قويًّا ومُتوهِّجًا عليه، وكان ثمة عاكس مكافئ مثبَّت على المصباح، والكاميرا موضوعة على مسافةٍ مناسبة.
تساءلت الآنسة جيبسون، مشيرةً إلى تسلسُل الأرقام على أحد جانبي الجهاز: «ما الذي تُشير إليه تلك الأرقام؟»
قال ثورندايك مفسِّرًا: «إنها تُشير إلى درجة التكبير أو التصغير. حين يكون المؤشِّر على الرقم ٠، تكون الصورة بالحجم الطبيعي نفسه للشيء الذي صُوِّر فوتوغرافيًّا؛ وحين يشير المؤشِّر إلى ×٤، تكون الصورة الفوتوغرافية أكبر من الحجم الطبيعي بأربعة أمثال، وإذا أشار المؤشِّر إلى ÷٤، تكون الصورة الفوتوغرافية أصغر من الحجم الطبيعي بأربع مرات. وهو الآن، كما ترَين، يشير إلى ×٨؛ لذا فإن الصورة ستكون ثمانية أمثال حجم البصمة الحقيقي.»
حينها كان بولتون قد ضبط درجة تركيز الكاميرا، وبعد أن رأينا الصورة المُكبَّرة على شاشة التركيز وسُررنا بها، انسحبنا إلى حجرةٍ أصغر مُخصَّصة لعِلم البكتيريا والأبحاث المجهرية، وذلك حتى الانتهاء من عملية التعرُّض وطباعة الشريحة. ثم بعد برهة، انضمَّ إلينا بولتون حاملًا الصورة السالبة بلُطف شديد، وقد استطعنا أن نرى عليها صورةً شفافةً مُدهشةً لبصمة إبهام ضخمة.
أخذ ثورندايك يفحصها باهتمام ولهفة، وبعد أن أعلن أن النتيجة مُرضية، أبلغ السيدة هورنبي بأن الغرَض من زيارتها قد تحقَّق وشكرها على ما تكبَّدته من عناء.
بعد ذلك بوقت قصير، قالت لي الآنسة جيبسون ونحن نسير على مَهَل في إثر السيدة هورنبي وثورندايك في ميتري كورت: «لقد سُررت كثيرًا بمجيئي، وسُررت أيضًا بأنني رأيتُ هذه الأدوات الرائعة. لقد جَعَلَتني أدرك أن شيئًا يُنجَز وأن الدكتور ثورندايك يرى حقًّا غايةً ما. لقد شجَّعني ما رأيت تشجيعًا كبيرًا.»
فأجبتُها: «وهذا صحيح حقًّا. أنا أيضًا، وإن كنتُ لا أعرف حقًّا أي شيءٍ عما يفعله زميلي، فإنني أشعر بشعور قوي أنه ما كان ليتحمَّل كل هذا العناء ويضيع هذا الوقت الثمين إن لم يكن يرى غايةً مُحددة وأسبابًا قوية لتبنِّي هذا الموقف المتفائل.»
أجابت بنبرة ودود: «أشكرك على قولك هذا؛ وستسمح لي بأن أعلم بأي تطوُّر ولو بسيط حين يمكنك هذا، أليس كذلك؟» ونظرت إلى وجهي بأسًى شديد وهي تطرح هذا الطلب حتى إنني تأثرت إلى حدٍّ ما؛ وحقًّا، كانت حالتي الذهنية في تلك اللحظة تُبرِّر تمامًا موقف صديقي المُتحفظ تجاهي.
ومع ذلك، ولحُسن الحظ، لم أكن أعرف شيئًا لأبوح به؛ لذا حين خرجنا إلى شارع فليت ووجدنا السيدة هورنبي مُحتجبةً بالفعل في عربة أجرة، لم يسعني سوى أن أقطع لها وعدًا، بينما كنت مُمسكًا بيدِها التي قدَّمَتها لي، بأن أراها مجددًا في أقرب فرصة؛ كان وعدًا أكَّدت لي سريرتي أنني سألتزم بتحقيقه أشد التزام.
عَلَّقَ ثورندايك ونحن نمشي عائدَين إلى مقره: «يبدو أنك طوَّرت علاقةً موثوقة وخاصة مع صديقتنا الجميلة. يا لك من فتًى ماكر وداهية يا جيرفيس!»
أجبت: «إنها تتميز بالصراحة ولين المعشر.»
«أجل. إنها فتاة صالحة وفطنة، كما أنها جميلة. أظن أنه لا توجَد ضرورة لأن أقترح عليك أن تأخذ حذرك، أليس كذلك؟»
فأجبته عابسًا: «على أي حال، لا ينبغي بي أن أنتزِعَها من رجلٍ واقع في ورطة.»
«بالطبع لا ينبغي أن تفعل، ومن ثمَّ أنت بحاجةٍ إلى أن تحترس. هل تحقَّقتَ من العلاقة الحقيقية بين الآنسة جيبسون وروبين هورنبي؟»
أجبت: «كلَّا.»
فقال ثورندايك: «قد يكون من الجدير أن نعرف ذلك»، ثم عاد إلى صمته.