الإحالة للمحاكمة
نزل عليَّ تلميح ثورندايك بالخطر المُحتمَل الذي تُنبئ به مودتي المتزايدة مع جولييت جيبسون نزول الصاعقة، وقد كرهتُ ذلك منه حقًّا لأنني رأيت ذلك فظاظةً من جانبه. رغم هذا، مثَّل لي هذا التلميح مادةً خصبةً للتأمُّل والتفكُّر، وسرعان ما بدأتُ أشك في أن عين صديقي المُنتبهة ربما تكون قد رأت في أسلوبي تجاه الآنسة جيبسون شيئًا يُوحي بوجود مشاعر لم أكن قد انتبهتُ لها.
بالطبع سيكون من العبث والسخافة أن نفترِض إمكانية أن تنشأ أي مشاعر حقيقية في ظلِّ مُدة التعارف القصيرة للغاية هذه. فلم أكن قد التقيتُ الفتاة إلا ثلاث مرات، وبخلاف الأمور العملية، لم أستحقَّ أكثر من مجرد انحناءة تقديرٍ واحترام من جانبها. ومع ذلك، حين نظرتُ في الأمر بموضوعية ودون تحيُّز وتحقَّقت من سريرتي، لم يتسنَّ لي سوى أن أُقِرَّ بأنها أيقظت بداخلي اهتمامًا لا علاقة له بالدور الذي كانت قد لَعِبَته في الأحداث المُثيرة التي كانت تتكشَّف شيئًا فشيئًا. كانت حقًّا في غاية الجمال، وجمالها من نوعٍ يروق لي بصفةٍ خاصة؛ فهي مفعمة بالاحترام والحظوة، الأمر الذي يُبشِّر بكهولةٍ بهيجة ومتألِّقة. ولم تكن شخصيتها أقل جاذبيةً بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنها كانت تتَّسم بالصراحة والانفتاح، والمرح والذكاء، ورغم أنه كان جليًّا أنها كانت تعتمِد على ذاتها إلى حدٍّ بعيد، لم تكن تفتقر إلى تلك النعومة الأنثوية التي تجتذِب تعاطف الرجال.
باختصار، أدركتُ أنه لولا وجود روبين هورنبي، كنتُ سأنظر إليها باهتمامٍ غير عادي.
لكن، لسوء الحظ، كان روبين هورنبي حقيقةً لا لبس فيها، وعلاوةً على ذلك، كانت الصعوبات التي ينطوي عليها موقفه تُخوِّله الحق في أن تكون له اعتبارات خاصة جدًّا من جانب أي رجلٍ شريف. صحيح أن الآنسة جيبسون نفت أي مشاعر تجاهه غير مشاعر الصداقة الحميمة؛ لكن الشابَّات اليافعات لا يستطعنَ دومًا إصدار أحكامٍ مُحايِدة على مشاعرهن، وحيث إنني رجل ذو خبرة حياتية، فلم أملك إلا أن يكون لي رأي في هذه المسألة؛ رأي اعتقدتُ أن ثورندايك كان يشاركني إياه. وخلاصة ما أوصلني إليه تفكيري هو الآتي: أولًا، أنني أحمق وأناني، وثانيًا، أن علاقتي بالآنسة جيبسون هي علاقة عمل فقط ويجِب أن تجري في المستقبل على هذا الأساس، مع مراعاة أنني في الوقت الراهن الوكيل المؤتمَن لروبين هورنبي، وأنني مُلزَم بحكم الشرف أن أضع مصالِحَه في المقام الأعلى والأهم.
قال ثورندايك وهو يمدُّ لي يدَه ليأخذ كوب الشاي: «آمُل أن تأمُّلاتك العميقة هذه ذات صِلة بمسألة آل هورنبي؛ وفي هذه الحالة ينبغي أن أتوقَّع أن أسمع أنك قد وجدتَ حلًّا لهذا اللغز وأن الغموض قد انكشف.»
فسألته، وقد شعرتُ أن وجهي احمرَّ بعض الشيء لمَّا وقعَتْ عيني في عينِه المُتلألئة: «ولماذا تتوقَّع هذا؟» كان ثمة شيء مزعج نوعًا ما، وجدتُه في ابتسامته الجافة والساخرة وفي فكرة أنني كنتُ تحت ملاحظته، وشعرت بحرَج شديد وكأني برغوث ماء واعٍ بذاته، وجد نفسه على منصةٍ مضيئة لمجهر مُكبِّر.
فقال ثورندايك: «يا صديقي العزيز، أنت لم تنطق بكلمةٍ واحدة طيلة ربع الساعة المنصرمة؛ وقد التهمتَ طعامك التهامًا وكأنك آلة نقانق، وبين الحين والآخر، كنتَ تُبدي تعبيراتٍ غير سارة تمامًا وأنت تنظر إلى إناء القهوة … وإن كنتُ أراهن أن إناء القهوة كان يُبادلك التعبيرات نفسها، وذلك إن جاز لي الاستناد إلى الصورة التي يعرضها الإناء لوجهي أنا.»
أيقظتُ نفسي من حالة أحلام اليقظة التي كنتُ فيها بضحكةٍ على فكرة ثورندايك الغريبة وبنظرة إلى انعكاس وجهي المُشوَّه بشكل يدعو للسخرية على الإناء الفضي اللامع.
وقلت مُقرًّا بنبرة اعتذار: «أخشى ما أخشاه أنني كنتُ رفيقًا مُضجرًا هذا الصباح.»
فردَّ ثورندايك مُبتسمًا: «على الإطلاق. بل على العكس، لقد وجدتك مُسليًا ومُعينًا، ولم أتحدَّث إليك إلا بعدما كنتُ قد أجهزتُ على قدراتك في أن تؤنِسَني بِصمْتِك.»
فقلت: «يروق لك أن تكون فَكِهًا على حسابي.»
أجاب: «لم تكن التكلفة مرتفعة. فأنا لم أستهلك إلا منتجًا عارضًا لنشاطك الفكري … مرحى! لقد وصل أنِسْتي بالفعل.»
كان سبب هتافه هذا طرقة غريبة على الباب الخارجي، على الأرجح أنها من صنع عصًا للمشي، وعندما نهض ثورندايك وفتح الباب، جاء صوت صافٍ ورنان، أعلنت إيقاعاته المُعتدلة أنه خطيب متمرِّس.
صاح صاحب الصوت: «مرحبًا، أخي العزيز! هل أتيتُ في وقتٍ غير ملائم وعكَّرتُ صفو أعمالك؟» وهنا دخل زائرنا الغرفة ونظر في أرجائها بجدية. ثم قال: «يبدو الأمر كذلك. يبدو أن الكيمياء الفسيولوجية وتطبيقاتها العملية هي موضوع اليوم. تحقيق كيميائي فسيولوجي في خصائص اللحم المُقدَّد والبيض المَقلي. هل هذا أخٌ علَّامة آخر؟»
ثم حدَّق فيَّ بإمعانٍ من وراء نظارته العديمة الإطار، وحملقتُ فيه بشيءٍ من الحرج.
فقال ثورندايك: «هذا صديقي جيرفيس، الذي سمعتني أتحدَّث عنه. إنه يعمل معنا في هذه القضية.»
فقال أنِسْتي وهو يمدُّ يدَه ليصافحني: «أصداء شهرتك وصلتني يا سيدي. أنا فخور بالتعرُّف إليك. كان ينبغي بي أن أتعرَّف إليك على الفور من صورة عمِّك المأسوف عليه في مستشفى جرينتش.»
فقال ثورندايك: «أنستي رجل فَكِه كما تفهم، لكنه أحيانًا يكون جادًّا. سيصير إلى ذلك قريبًا إن تحلَّينا بالصبر.»
فقال زائرنا الغريب الأطوار ناخرًا: «الصبر! إنني أنا من يحتاج إلى الصبر حين أُجَرجَر إلى المحاكم الشُّرَطِيَّة وبؤر الظلم الأخرى لأقدِّم الالتماسات من أجل اللصوص والنشَّالين وكأنني مُحامٍ من كيننجتون لين.»
فقال ثورندايك: «أفهم من هذا أنك تحدَّثت إلى لولي.»
«أجل، وأخبرني أن موقفنا ميئوس منه.»
«كلَّا، علينا أن نُفكِّر بطرُق غير تقليدية، كما ينبغي برجال العلم والثقافة. لكن لولي لا يعرف شيئًا عن القضية.»
فقال أنستي: «إنه يظن أنه يعرف كل شيءٍ عنها.»
فردَّ ثورندايك: «هذه هي حال معظم الحمقى. فهم يصِلون إلى تلك المعرفة بالحدس؛ وهذا طريق سهل ورحلته غير مُكلفة. أما نحن فنحتفظ بحُججنا وأدلَّة دفاعنا الرئيسية حتى اللحظة الأكثر ملاءمة … أظن أنك مُتفق على هذا، أليس كذلك؟»
«بلى. لا شك في أن القاضي سيُحوِّله إلى المحكمة إلا إن كان لديك إثبات قوي بأنه كان في مكانٍ آخر وقت وقوع الجريمة.»
«سنسير في هذا الطريق، لكننا لا نعتمِد عليه اعتمادًا تامًّا.»
فقال أنستي: «إذن، من الأفضل أن نحتفظ بحُججنا وأدلَّة دفاعنا الرئيسية؛ وقد حان الوقت لنبدأ رحلتنا الطويلة؛ فنحن على موعدٍ في مكتب لولي في تمام العاشرة والنصف. هل جيرفيس قادم معنا؟»
فقال ثورندايك: «نعم، من الأفضل أن تأتي يا جيرفيس. هذه جلسة الاستماع المؤجَّلة لقضية المسكين هورنبي. لن نفعل شيئًا من جانبنا، لكن قد نتمكَّن من الْتقاط إشارةٍ ما من جهة الادعاء.»
فقلت: «أرغب في أن أسمع ما سيحدُث على أي حال»، ثمَّ انطلقنا معًا في اتجاه لينكولن إن، الذي يقع مكتب السيد لولي في الجهة الشمالية منها.
قال المحامي بينما كنا ندخل المكتب: «آه! يسرُّني حضوركم؛ إذ كنتُ بدأت أشعر بالقلق … فليس من المناسب أن يتأخر المرء في هذه المناسبات كما تعرفون. لنشرع بالأمر، هل تعرفون السيد والتر هورنبي؟ لا أظنُّ ذلك.» ثم قدَّم ثورندايك وقدَّمني إلى ابن عم موكِّلنا، وبينما كنا نتصافح، راح كلٌّ منَّا يُطالع الآخر باهتمامٍ متبادل كبير.
قال والتر، وهو يُوجِّه خطابه لي بالأخص: «لقد سمعت عنكما من عمتي. يبدو أنها تَعُدُّكما ساحرَين في الميدان القانوني مثل ماسكيلين وكوك. وآمُل من أجل مصلحة ابن عمي أن تتمكَّنا من الإتيان بالأعاجيب والمعجزات التي تتوقَّعها منكما. يا له من مسكين! يبدو موقفه سيئًا للغاية، أليس كذلك؟»
رمقتُ روبين بنظرةٍ خاطفة، وكان في تلك اللحظة يتحدث مع ثورندايك، ولمَّا وقعت عينُه في عيني، مدَّ يدَه ليُسلم علي بودٍّ وجدته مثيرًا جدًّا للشفقة. إذ بدا وكأنه تقدَّم في العمر دهرًا منذ آخر مرةٍ رأيته فيها، وكان شاحبًا وأكثر نحولًا، لكنه كان رابط الجأش وبدا لي أنه يتحمَّل كربَه برمَّته جيدًا.
أعلن أحد الموظفين: «عربة الأجرة عند الباب، يا سيدي.»
فكرَّر وهو ينظر إليَّ بريب: «عربة أجرة؛ نحن في حاجة إلى حافلة.»
فقال والتر هورنبي مقترحًا: «بإمكاني أنا والدكتور جيرفيس أن نسير. سنصِل في وقت وصولكم نفسه على الأرجح، ولا يُهم إن لم نفعل.»
فقال السيد لولي: «حسنٌ، هذا سيفي بالغرَض؛ فلتسيرا معًا إذن. والآن لنذهب نحن.»
خرج جمعُنا إلى الرصيف، وكانت هناك عربة بأربع عجلات مصفوفة إلى جواره، وبينما كان الآخرون يدلفون إليها، وقف ثورندايك بالقُرب مني لحظة.
وقال بنبرة خفيضة ومن دون أن ينظر إليَّ: «لا تدعه يستنزف المعلومات منك»؛ ثم دخل بسرعة إلى عربة الأجرة وأغلق الباب بقوة.
علَّق والتر، بعد أن سِرنا صامتَين لدقيقةٍ أو نحو ذلك: «يا لها من قضية غير عادية؛ مسألة فظيعة للغاية. لا بد أن أُقرَّ بأنني لا أفهم أي شيءٍ منها.»
فسألته: «وكيف هذا؟»
«يبدو أنه لا يوجَد إلا تفسيران لهذه الجريمة، وكلٌّ منهما يبدو غير مُتصوَّر. الأول هو أن يكون روبين ذو الشرف الرفيع — بقدْر معرفتي به — قد ارتكب جريمة السرقة الوضيعة والخسيسة هذه من دون معرفة دافعٍ له في ذلك؛ لأنه ليس فقيرًا ولا يمرُّ بضائقةٍ مالية ولا يتَّسِم بالجشع. على الجانب الآخر، لدَينا بصمة إبهامه التي ترقى، في رأي الخبراء، إلى رتبة شاهد عيان بأنه هو من ارتكب السرقة. هذا الأمر مُحيِّر جدًّا. ألَا تظن ذلك؟»
فأجبته: «القضية مُحيِّرة للغاية كما قلتَ.»
فألحَّ بسؤالٍ لم يُخفِ فيه لهفته: «لكن بأي طريقةٍ أخرى يمكنك أن ترى الأمر؟»
«في رأيي، إن كان روبين كما تعتقد، فإن هذه القضية غامضة للغاية.»
فوافقني قائلًا: «هي كذلك حقًّا»، مع أنه كان بلا شك خائب الأمل من إجاباتي الفاترة.
شرع والتر يسير لبضع دقائق في صمت، ثم قال: «أظن أن من غير الإنصاف أن أسألك إن كنتَ ترى مخرجًا من هذا المأزق؟ فنحن جميعًا، بطبيعة الحال، قلِقون بشأن ما ستئول إليه المسألة، بالنظر إلى موقف روبين المسكين فيها.»
«بطبيعة الحال. لكنني في الواقع لا أعرف عن هذه المسألة أكثر مما تعرف أنت، وفيما يخصُّ ثورندايك، فلن يجدي إن سألته؛ فهو كتوم مثل سكان وايتستيبل.»
«أجل، هذا ما فهمته من جولييت. لكنني ظننتُ أنك ربما تكون قد استخلصتَ فكرةً ما عن استراتيجية الدفاع من خلال عملكما في المعمل؛ بالميكروسكوب وبالصور الفوتوغرافية أقصد.»
«لم أدخل قَط إلى المعمل حتى ليلة أمس، حين أخذني ثورندايك مع عمتك والآنسة جيبسون؛ ومساعد ثورندايك هو من أنجز العمل، ومعرفته بالقضية لا تتجاوز معرفة القائم على سباكة حروف الطباعة بالكتب التي يساعد في طباعتها. كلَّا؛ ثورندايك رجلٌ لا يلعب إلا منفردًا، ولا أحد يعرف البطاقات التي بحوزته حتى يضعها على الطاولة.»
فكَّر رفيقي في هذه الجُملة في صمتٍ بينما هنَّأتُ نفسي أنني تصدَّيت بمهارة كبيرة لسؤال غير مريح بقدْر كبير. لكنني سرعان ما سأُعاتب نفسي عتابًا مريرًا على أنني كنتُ بهذا القدْر من الصراحة والحسم.
فقد تابع والتر بعد أن سكت برهة: «إن حالة عمي الراهنة مُزرية، بعد أن أُضيفت هذه المسألة الفظيعة إلى قائمة همومه الشخصية.»
فسألته: «هل يُجابه أي مشكلاتٍ خاصة إلى جانب هذه؟»
«عجبًا، ألم تسمع بالأمر؟ ظننتُ أنك تعرف، وإلا ما تحدَّثت … ليس لأن في الأمر سرًّا بأي شكل؛ فهو شائع في المدينة. الحقيقة أن أحواله المادية صعبة بعض الشيء في الوقت الراهن.»
فقلتُ متعجبًا، ومذهولًا جدًّا من هذا التطوُّر الجديد: «حقًّا؟!»
«أجل، لقد اتخذت الأمور منعطفًا حرِجًا، وإن كنتُ أظنُّ أنه سيخرج من هذه المشكلة سالمًا. فهذا هو المعتاد كما تعلم … في مجال الاستثمارات، أو ربما يجدُر بالمرء أن يقول المضاربات. يبدو أنه وضع قدرًا كبيرًا من رأس المال في المناجم؛ إذ كان يظنُّ أنه «مطَّلع على بواطن الأمور»، وليس هذا غريبًا عليه؛ ولكن يبدو أنه لم يكن كذلك في نهاية المطاف، وقد ساءت الأمور، فانتهى به الحال إلى أنه أصبح يُجازف بقدر من المال أكبر مما يُمكنه تحمُّله وإلى إمكانية تعرُّضه لخسارة فادحة إن لم تُدِرَّ الاستثمارات أرباحًا. ثم هناك مسألة الألماس اللعين هذا. هو غير مسئول أخلاقيًّا كما نعلم؛ لكن المشكلة تكمن فيما إذا كان مسئولًا قانونيًا، وإن كان المحامون يظنون أنه لا تطاله أي مسئولية قانونية. على كل حال، سيُعقد اجتماع للدائنين غدًا.»
«وماذا تظنُّهم فاعِلين؟»
«أوه، على الأرجح سيُترَك لحال سبيله في الوقت الراهن؛ لكن بالطبع إن اعتُبِر مسئولًا عن الألماس فسوف «يمر بفترة عصيبة»، كما قال الخبير المالي.»
«هل كان الألماس بقيمةٍ عالية إذن؟»
«باختفاء ذلك الطرد، اختفى ما يتراوح بين خمسة وعشرين إلى ثلاثين ألف جنيه إسترليني.»
فأطلقتُ صافرةً تعجبًا. كان هذا المبلغ أكبر بكثيرٍ مما تصورت، وكنت أتساءل إن كان ثورندايك قد أدرك حجم السرقة حين وصلنا إلى المحكمة الشُّرَطِيَّة.
قال والتر: «أظن أن زملاءنا قد دخلوا. لا بد أنهم وصلوا قبلنا.»
أكَّد هذه الفرضية شرطيٌّ سألناه، ووجَّهَنا إلى مدخل المحكمة. ولمَّا اجتزنا الممر ونحن نشق طريقنا بصعوبة بين حشد المتسكعين، توجَّهنا إلى مقصورة المحامين، وما كدنا نجلس حتى نودي على القضية.
كانت الإجراءات القضائية القصيرة التي تلت ذلك كئيبةً ومُحبطة بقدرٍ لا يوصف، وأوحت بصورةٍ مروِّعة بعجز رجل بريء وقع تحت طائلة القانون ودارت عليه آلته التي لا ترحم.
غمس القاضي رئيسُ المحكمة، الجاف والعديم المشاعر، قلَمَه في الحبر بينما كان روبين، الذي سلَّم نفسه طبقًا لاتفاق الكفالة، يُودَع في قفص الاتهام وتُتلى عليه التهمة. وقدَّم المستشار القانوني المُمثل للشرطة مُلخَّصًا للقضية بأسلوبٍ عملي وكأنه وكيل عقارات يصِف عقارًا مناسبًا. وبعد ذلك، وحين ردَّ المُدَّعى عليه بأنه «غير مذنب»، استُدعِيَ الشهود. لم يكن هناك سوى شاهدَين اثنَين، وحين نودِيَ على اسم الأول، جون هورنبي، نظرتُ نحو منصَّة الشهود بفضولٍ كبير.
حتى تلك اللحظة لم أكن قد التقيتُ السيد هورنبي، ولمَّا دلف إلى منصة الشهود، رأيتُ رجلًا مُسنًّا طويل البنية ومتورِّد الخدَّين ومحافظًا على صحته، لكنه متوتر وتعبيراته جامحة وكان يُعبِّر عن انزعاجه الخارج عن السيطرة بحركاتٍ عصبية مُستمرة تتعارَض تعارضًا مثيرًا للفضول مع سلوك المُتهم الهادئ الرصين. ومع ذلك أدلى بشهادته بطريقةٍ مترابطة تمامًا، فحكى الوقائع المرتبطة باكتشاف الجريمة تقريبًا بالكلمات نفسها التي سمعت السيد لولي يستخدِمها، رغم أنه كان بالفعل أكثر حزمًا منه فيما يتعلق بشخصية السجين الممتازة والرائعة.
وبعده جاء السيد سينجلتون من قسم البصمات في سكوتلانديارد، والذي استمعتُ لشهادته باهتمامٍ شديد. فأخرج الورقة التي تحمل بصمة الإبهام بالدم (والتي كان السيد هورنبي قد تعرَّف إليها سابقًا) وورقةً تحمل البصمة التي أخذها هو بنفسه للإبهام اليسرى للسجين. وقال إن البصمتين متطابقتان من كل الجوانب.
سأله القاضي بنبرة جافة وعملية: «وهل تعتقد أن البصمة على الورقة التي وُجِدَت في خزينة السيد هورنبي هي بصمة الإبهام اليسرى للسجين؟»
«أنا واثق من ذلك.»
«هل تعتقد أنه لا يُحتَمَل وجود خطأ؟»
«لا وجود لخطأ مُحتمَل، يا سعادة القاضي. هذا أمر مؤكد.»
نظر القاضي إلى أنِسْتي مُستفهمًا، وحينها نهض المحامي.
«نحن نحتفظ بحقِّنا في تقديم حُجج الدفاع في موعدٍ لاحق، يا سعادة القاضي.»
حينها وبالنبرة العملية نفسها، حكم القاضي بتحويل السجين إلى المحاكمة في المحكمة الجنائية المركزية، ورفض إطلاق سراحه بكفالة، وبينما كان روبين يُقتاد خارج القفص، نودي على القضية التالية.
وبتفضُّلٍ خاص من السلطات، سُمِح لروبين أن يقطع رحلته إلى هولواي في عربة أجرة، ومن ثمَّ سينجو بنفسه من أهوال شاحنة السجن القذِرة، وبينما كان يجري ترتيب ذلك، سُمِحَ لأصدقائه بتوديعه.
وقال ثورندايك حين تُرِكْنا وحدَنا نحن الثلاثة بعيدًا عن الآخرين لبضع لحظات: «هذه تجربة صعبة يا هورنبي»؛ وبينما كان يتكلَّم تسلل من بين ملامحه الجامدة دفء طبيعته المتعاطفة بحق. وأردف: «لكن ابتهج؛ لقد اقتنعتُ ببراءتك وأعقدُ آمالًا كبيرة بأن أُقنِع العالَم بها … لكن ما أقوله هذا لك أنت وحدك، فلا تحدِّث به أحدًا آخر.»
هزَّ روبين يد «صديق وقت الضيق» هذا، وشدَّ عليها لكنه لم يكن يستطيع الكلام في اللحظة الراهنة؛ ولمَّا وصلت قدرته على ضبط نفسه إلى نقطة الانهيار، ودَّعه ثورندايك بسرعةٍ بغريزة الرجال الطبيعية، وتأبط ذراعي والتفت مبتعدًا.
وهتف بأسًى بينما كنَّا نسير في الشارع: «أتمنَّى لو كان بالإمكان إنقاذ هذا المسكين من طول أمَد إجراءات التقاضي، وخاصةً مِن المهانة التي ينطوي عليها سجنه.»
فأجبته لكن من دون اقتناع: «لا شك أن مجرد الاتهام بجريمةٍ لا يحطُّ من قدْر المرء. فقد يحدُث هذا لأفضلنا؛ كما أنه لا يزال رجلًا بريئًا في نظر القانون.»
فردَّ عليَّ: «أنت تعرف يا عزيزي جيرفيس كما أعرف أنا تمامًا أن هذه مجرد سفسطة قانونية. فالقانون يزعم أنه يَعتبر الرجل غير المُدان بريئًا؛ لكن كيف يُعامله في الواقع؟ سمعتَ كيف خاطب القاضي صديقنا؛ خارج المحكمة كان ليُنادي عليه بالسيد هورنبي. أنت تعرف ما سيحدث مع روبين في سجن هولواي. سيتلقى الأوامر من السجَّانين، وسيكون له علامة مُرقَّمة مثبتة على معطفه، وسيُحبَس في زنزانة بها ثُقب في الباب للتجسُّس عليه، ويمكن لأي غريبٍ عابر أن يتلصَّص عليه ويُراقبه من هذا الثقب؛ سيتناول طعامه في طبقٍ من الصفيح بسكينٍ وملعقة من الصفيح؛ وسيُستدعى إلى خارج زنزانته بين الحين والآخر ويُساق إلى ساحة التدريب مع جماعة تتألف في معظمها من صعاليك الأحياء الفقيرة والعشوائية في لندن. فإن بُرِّئت ساحته، سيُطلَق سراحه من دون أي إشارةٍ إلى تعويض أو اعتذار عن هذه الإهانات أو الخسائر التي ربما تكون قد لحِقت به أثناء احتجازه.»
فقلت: «ما زلتُ أرى أن لا مفرَّ من هذه الشرور.»
فردَّ قائلًا: «هذا قد يكون صحيحًا وقد لا يكون كذلك. ما أريد قوله هو أن افتراض البراءة محض خيال؛ وأن معاملة المُتهم منذ لحظة القبض عليه هي المعاملة نفسها التي يتلقَّاها المجرم.» واختتم حديثه وهو يُنادي على عربة أجرة مارة: «ومع ذلك، لا بد من تأجيل هذه المناقشة وإلا سأتأخَّر على المستشفى. ماذا ستفعل؟»
«سأتناول غداءً ثم أعرِّج على الآنسة جيبسون لأُطلِعها على حقيقة الوضع.»
«أجل، سيكون لطيفًا منك أن تفعل ذلك، على ما أظن؛ إذ يمكن للأخبار أن تبدوَ مقلِقةً إلى حدٍّ كبير إذا ما أُبلِغَت بفجاجة. كنت أفكِّر في أن أُسقِط الدعوى في المحكمة الشُّرَطِيَّة، لكن هذا ما كان سيُصبح موثوقًا. فعلى الأغلب كان سيذهب للمحاكمة في نهاية المطاف، وحينها سنكون قد كشفنا أوراقنا لجهة الادعاء.»
ثم قفز إلى داخل العربة وسرعان ما ابتلعه الزحام، في حين استدرتُ أنا عائدًا إلى المحكمة الشُّرَطِيَّة لأسأل بشأن قواعد الزيارة في سجن هولواي. وعند الباب التقيتُ المفتش اللطيف الذي قابلناه في سكوتلانديارد، فقدَّم لي المعلومات التي كنتُ أحتاجها، وحيث إنه كان في ذهني مطعم فرنسي ذو جو هادئ، توجَّهت صوب منطقة سوهو.