مياه ضحلة ورمال متحركة
حين وصلت إلى إندسلي جاردنز، كانت الآنسة جيبسون في المنزل، وشعرتُ بفرحة عارمة لأن السيدة هورنبي لم تكن موجودة. كنت أوقِّر الصفات الأخلاقية لتلك السيدة توقيرًا كبيرًا، لكن حديثها كان يقودني إلى حافة الجنون … جنون لا يخلو من أفكارٍ ونزعات للقتل.
قالت الآنسة جيبسون باندفاع ونحن نتصافح: «لطيف منك أن تأتي … وإن كنتُ توقعت أن تفعل. لقد كنتما في غاية التعاطف والإنسانية … أنت والدكتور ثورندايك … كما كنتما بعيدَين كل البُعد عن الجمود الخاص بالرسميَّات والمِهنية. لقد ذهبَت العمة لترى السيد لولي بعد أن تلقَّينا برقية والتر مباشرة.»
فقلت: «أشعر بالشفقة تجاهها»، (وكنت على وشك أن أقول «وتجاهه» لكن لحُسن الحظ ألجمتني ومضة من الإدراك)؛ فأضفت: «ستجده جافًّا بما يكفي.»
«أجل؛ إنه لا يروق لي البتة. أتعرف أنه بلغت به الوقاحة أن يُشير على روبين أن يُقر بأنه مُذنب بارتكاب الجريمة؟»
«لقد أخبرَنا بأنه فعل، وقد نال ما يستحق من التوبيخ والازدراء من ثورندايك، جزاءً وفاقًا.»
فردت بشراسة: «يسرُّني ذلك كثيرًا. لكن أخبِرني بما حدث. قال والتر فقط إنه «نُقل إلى محكمة أعلى درجة»، وهو ما يعني أنه «أُحيل للمحاكمة». فهل أخفق الدفاع عنه؟ وأين روبين؟»
«حق الدفاع محفوظ لحينٍ آخر. إذ رأى الدكتور ثورندايك أن الأرجحية الكبرى تتمثَّل في أن يُحال روبين للمحاكمة، وعلى هذا قرَّر أن من الضروري أن يُبقي جهة الادعاء في جهالة عن استراتيجية الدفاع. فكما تعلمين، إن عرف رجال الشرطة ماهية دفاعنا، سيُعيدون مراجعة خُططهم طبقًا لذلك.»
فقالت بإحباط: «فهمت هذا، لكنني مُحبطة للغاية. كنت آمُل أن يتمكن الدكتور ثورندايك من إسقاط الدعوى. ماذا حدث لروبين؟»
كان هذا هو السؤال الذي أخشاه، والآن وقد صار من الضروري أن أجيب، تنحنحتُ وأطرقتُ إلى الأرض.
وقلت بعد أن سكتُّ سكوتًا غير مريح لبرهة من الوقت: «لقد رفض القاضي قَبول الكفالة.»
«وماذا بعد؟»
«ومن ثمَّ صار روبين … رهن الاحتجاز.»
فصاحت وهي تشهق: «أتقصد أنهم أرسلوه إلى السجن؟»
«ليس كمُدانٍ، كما تعلمين. إنما هو مجرد مُحتجز في انتظار محاكمته.»
«لكنه في السجن؟»
كنتُ مجبرًا على الإقرار: «أجل، في سجن هولواي.»
نظرت الآنسة جيبسون إلى وجهي مصعوقةً لبضع ثوانٍ، وكانت شاحبةً وعيناها مُتسعتان، لكنها كانت صامتة؛ ثم وبتلاحُقٍ مفاجئ في أنفاسها، التفتت مشيحةً بوجهها ووضعت إحدى يدَيها على حافة رف المدفأة وأرخت رأسها على ذراعها وانخرطت تنتحب نحيبًا حارًّا.
أنا، في عموم الأمر، لستُ رجلًا عاطفيًّا، ولست كذلك من المُندفعين؛ لكنني أيضًا لست صنمًا أو حجرًا أو تمثالًا من الخشب؛ لا بد وأنني كنت سأكون هكذا بكل تأكيد لو كان بوسعي أن أنظر إلى هذه المرأة الطبيعية المُضحِّية والقوية والشجاعة والبارَّة من دون أن أتأثر تأثُّرًا عميقًا بحُزنها. وفي واقع الأمر، اقتربتُ منها وأخذت يدَها الأخرى المتدلِّية بهدوء ولطف في يدي، وغمغمت لها بكلمات مواساة غير متَّسقة وبصوت مبحوح.
بعد قليل تمالكَت نفسها قليلًا وسحبَت يدَها بنعومةٍ من يدي بينما كانت تلتفِت إليَّ وتُكفكف عينَيها.
وقالت: «سامحني على ما سبَّبت لك من أسًى، كما أخشى أن أكون قد فعلت؛ فأنت في غاية اللطف، وأشعر أنك صديقي بحقٍّ وصديق لروبين كذلك.»
فأجبتها: «أنا كذلك حقًّا، يا عزيزتي الآنسة جيبسون، وأؤكِّد لكِ أن زميلي صديقٌ لكما أيضًا.»
فردَّت: «أنا واثقة من هذا. لكنني كنتُ حقًّا غير مستعدة لهذا … لا يسعني معرفة سبب لذلك سوى أنني كنت أثق في الدكتور ثورندايك تمام الثقة … وما حدث فظيع للغاية، لا سيما أنه يكشف وبشكلٍ مريع عما يمكن أن يحدث. حتى الآن كان الأمر برمَّته يبدو ككابوس مريع، لكنه غير حقيقي. لكن الآن وحيث إنه في السجن حقًّا، تحوَّل الكابوس إلى واقعٍ فظيع ومرير، وأشعر بالرعب يغمرني. أوه! يا له من مسكين! ماذا سيحلُّ به؟ أرجوك لأجل خاطري يا دكتور جيرفيس، أخبرني بما سيحدث.»
ماذا كان يمكنني أن أفعل؟ كنت قد سمعت كلمات ثورندايك المُشجِّعة لروبين، وكنت أعرف زميلي معرفةً كافية لأن أشعر بالثقة في أنه كان يقصد كلَّ ما قال. لا شك في أن المسار المناسب لي هو أن أحتفظ بآرائي لنفسي وأن أُماطل الآنسة جيبسون بعباراتٍ غامضة وحذِرة. لكنني لم أستطع؛ كانت تستحق ثقةً أكبر من ذلك.
قلت لها: «لا داعي للقلق المُفرط بشأن المستقبل. لقد فهمت من الدكتور ثورندايك أنه مقتنع ببراءة روبين، ويأمُل في أن يستطيع إثبات ذلك للعالم.» ثم أضفت بقليل من تأنيب الضمير: «لكني لم أكن مخوَّلًا بأن أُفشي هذا.»
فقالت بنبرة ناعمة: «أعرف هذا، وأشكرك من صميم قلبي.»
أردفتُ: «أما بشأن المِحنة الراهنة، فلا تدعيها تؤرقكِ أكثر من اللازم. حاولي أن تُفكِّري في الأمر كما لو كان عمليةً جراحية، هي في حدِّ ذاتها شيء رهيب، لكنها تُصبح مقبولةً عوضًا عن شيء آخر أكثر ترويعًا بقدْرٍ لا يوصف.»
فأجابتني بوداعة: «سأحاول أن أفعل ما تُخبرني به، لكن من الصادم أن أفكِّر في أنَّ شابًّا نبيلًا ومُهذبًا مثل روبين يُزَج به مع اللصوص والقتلة ويُحبس في قفص وكأنه حيوان بري. فكِّر فيما في ذلك من ذلٍّ ومهانة!»
فقلت: «ليس ثمة ذلٌّ في أن يُتَّهم المرء ظلمًا»، وأعترف أني شعرت بالذنب قليلًا؛ فقد عاودتني كلمات ثورندايك بكامل قوتها. لكني أكملتُ بغض النظر: «تبرئة ساحته ستُعيده إلى مكانته وبسمعةٍ غير ملطَّخة، ولن يتبقى من هذا الأمر شيء يُذكر سوى ضيق عابر.»
كفكفت دمعها مرةً أخيرة، وأبعدت منديلها بعزم.
وقالت: «لقد أعدتَ إليَّ شجاعتي وبدَّدت خوفي. لا يسعني أن أخبرك عن مدى شعوري بطيبتك، ولا أملك شيئًا لأشكرك به، سوى وعدٍ بأن أكون شجاعةً وأن أتحلَّى بالصبر من الآن فصاعدًا، وأن أثق بك ثقةً تامة.»
قالت مقولتها هذه بابتسامةٍ مُمتنَّة للغاية، وبدا وجهها شديد اللطف والأنوثة حتى إنني وقعت أسير رغبةٍ جامحة في أن آخُذها بين ذراعَي. عوضًا عن ذلك، قلت لها بضعف مقصود: «أنا مُمتن للغاية لأني استطعتُ أن أُمِدَّكِ بالشجاعة؛ التي ينبغي أن تتذكَّري أنني في نهاية المطاف لستُ مصدرها المباشر. فجميعنا نتطلَّع إلى الدكتور ثورندايك آمِلين في أن تأتي الحرية على يديه.»
«أعرف هذا. لكن أنت من أتيتَ لتُعزيني في محنتي، فينبغي أن يكون التكريم مقسومًا بينكما … وأخشى أنه لن يكون مقسومًا بالتساوي؛ لأن النساء مخلوقات غير عقلانية، كما أنبأَتْك، ولا شكَّ، خبراتُك التي مررتَ بها. أظن أنني أسمع صوت عمتي؛ لذا من الأفضل أن تهرب قبل أن تقطع عليك طريق الرجعة. لكن قبل أن تذهب، ينبغي أن تُخبرني متى وكيف أستطيع رؤية روبين. أريد أن أراه في أول فرصةٍ ممكنة. يا للمسكين! يجب ألَّا ندعه يشعر بأن أصدقاءه نسوه ولو للحظة واحدة.»
فقلت: «يُمكنكِ رؤيته غدًا إن أردتِ»؛ وضاربًا بقراراتي الجيدة عُرض الحائط، أردفت: «سأذهب لرؤيته بنفسي، وربما سيذهب الدكتور ثورندايك أيضًا.»
«هلَّا سمحتما لي أن آتي إلى منطقة تيمبل وأن أذهب معكما؟ هل سأكون عائقًا كبيرًا؟ أجد من المُخيف أن أذهب إلى السجن وحدي.»
فأجبتُها: «هذا غير وارد. عرِّجي على منطقة تيمبل فالطريق إلى السجن يمر بنا، ويمكننا الذهاب معًا إلى سجن هولواي. هل عقدتِ العزم على الذهاب؟ سيكون الأمر مزعجًا بعض الشيء، كما تعلمين على الأرجح.»
«لقد عزمت أمري. متى ينبغي أن آتي إلى منطقة تيمبل؟»
«حوالي الساعة الثانية، إن كان ذلك مناسبًا لكِ.»
«ممتاز. سآتي في الموعد؛ والآن عليك أن تذهب وإلا وقعتَ في قبضتها.»
ثم دفعتني برفقٍ نحو الباب، ومدَّت لي يدَها لتصافحني، وقالت:
«لم أشكرك بما يكفي، ولن أستطيع أن أوفِّيك الشكر أبدًا. إلى اللقاء!»
غادَرَتْ وكنتُ واقفًا في الشارع وحدي، وكانت سحابات من الضباب مائلة للصفرة قد بدأت تتدفَّق. لقد كان الجو صافيًا ومشرقًا إلى حدٍّ كبير حين دلفت إلى المنزل، لكن السماء الآن كانت تتَّخذ لونًا رماديًّا باهتًا، وكان الضوء آخذًا في الخفوت، والبيوت تتضاءل شيئًا فشيئًا إلى أشكالٍ غير حقيقية تختفي عند نصف ارتفاعها. ومع ذلك خرجتُ بنشاط وواصلت السير بوتيرة سريعة نوعًا ما، كما يفعل شابٌّ حين يكون عقله في حالة من الإثارة. في واقع الأمر، كان هناك الكثير من الأشياء التي تشغل ذهني، وكما يحدُث غالبًا مع الناس، كبيرهم وصغيرهم على حدٍّ سواء، كانت الأشياء التي تؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على حياتي وآفاقي المستقبلية هي أول ما تَلقى انتباهي.
ما نوع العلاقة التي تتنامى بيني وبين جولييت جيبسون؟ وما وضعي فيها؟ فيما يخصُّها، بدا الأمر واضحًا بما يكفي؛ كانت مهتمةً كثيرًا بروبين هورنبي، وكنتُ أنا صديقها المقرَّب لأنني كنت صديقًا مقرَّبًا له. لكن فيما يخصُّني، لم يكن ثمة مجال لإخفاء حقيقة أنني بدأتُ أهتم بها بما لا يُبشِّر بالخير فيما يتعلَّق براحة بالي.
لم أكن قد التقيتُ من قبل بامرأةٍ يتجسَّد فيها كل ما كنت أرى أن المرأة ينبغي أن تكون عليه، ولا كنت قد التقيتُ من قبلُ بامرأة تمارس هذا القدْر الهائل من السحر والجاذبية علي. كانت قوتها وكبرياؤها ونعومتها وانقيادها، ناهيك بجمالها، بمثابة أسلحةٍ ضرورية لتحقيق خضوعي التام لها. وكنت خاضعًا تمامًا لها؛ لم يكن ثمة طائل من إنكار هذه الحقيقة، وإن كنتُ أدركتُ حقًّا أنه سيأتي عما قريب وقت لن تعود لها فيَّ رغبة، ولن يبقى لي أي علاج سوى أن أبتعِد وأحاول نسيانها.
لكن هل تصرُّفاتي هذه تصرفات رجل شريف؟ شعرت أن باستطاعتي الإجابة ﺑ «نعم» على هذا السؤال؛ لأنني لم أكن أفعل سوى واجبي، ولم يكن بوسعي أن أتصرَّف بشكلٍ مُغاير إن رغبتُ في ذلك. علاوةً على ذلك، لم أكن أُعرِّض سعادة أحدٍ للخطر سوى سعادتي أنا، وبإمكان المرء التصرُّف في سعادته كما يحلو له. كلَّا؛ ما كان ثورندايك نفسه ليستطيع اتهامي بأني آتي بسلوكيات شائنة.
بعد ذلك اتخذَت أفكاري منعطفًا جديدًا وبدأت أتدبَّر ما سمعته بشأن السيد هورنبي. كان ما سمعته يُمثِّل تطوُّرًا مدهشًا حقًّا، وتساءلت عن الفارق الذي سيُحدثه هذا في فرضية ثورندايك عن الجريمة. لم أكن قادرًا مُطلقًا على أن أُخمِّن فرضيته، لكن بينما كنت أتقدَّم عبر الضباب الذي تتزايد كثافته، حاولتُ وضْع هذه المعلومة الجديدة وسط ما جمَعْنا من معلومات، وحاولتُ تحديد تأثيرها وأهميتها.
وأخفقتُ في هذا إخفاقًا تامًّا، لبعض الوقت. كانت بصمة الإبهام الحمراء تشغل كل تفكيري لدرجة إقصاء أي شيءٍ آخر. كانت هذه البصمة تُمثِّل لي، وكذلك للجميع ما عدا ثورندايك، حقيقةً نهائية، وتُشير إلى استنتاجٍ دامغ. لكن بينما رحت أُقَلِّب في ذهني قصة هذه الجريمة مرةً تلوَ مرة، واتتني بعد قليل فكرة حرَّكت سلسلةً من الأفكار الجديدة والمُثيرة جدًّا للدهشة.
هل يمكن أن يكون السيد هورنبي نفسه هو اللص؟ بدا إخفاقه مفاجئًا للعالم، لكن لا بد أنه رأى الصعوبات تلوح في الأفق. كانت هناك، حقًّا، تلك البصمة الحمراء على الورقة التي كان قد نزعها من دفتر ملحوظاته الصغير. أجل! لكن من رآه وهو ينزعها؟ لا أحد. وكانت الحقيقة تستند على تصريحه هذا المجرَّد عن أي دليل.
لكن ماذا بشأن البصمة؟ كان من المُمكن أن تكون البصمة صُنِعت مصادفةً في وقت سابق ونسِيَها روبين، أو لم يلاحظها حتى؛ وإن كان هذا من غير المرجَّح، ولكن لا يزال الاحتمال قائمًا. وكان السيد هورنبي قد رأى سجلَّ بصمات الإبهام، بل إن السجلَّ يحمل بصمته، ومن ثمَّ انتبه إلى أهمية البصمات في تحديد الهُوية. ربما ظلَّ محتفظًا بالورقة التي تحمِل البصمة حتى يجد لها استخدامًا في المستقبل، ووقت وقوع السرقة، كتب تاريخ اليوم على الورقة، ودسَّها في الخزينة باعتبارها وسيلةً مضمونة لتحويل الشكوك عنه. كان كل هذا غير مُرجَّح إلى أقصى درجة، لكن كل تفسير آخر لوقوع الجريمة كان غير مرجَّح بالمثل؛ وفيما يتعلق بوضاعة الفعل نفسه، ما أوضع ما يمكن أن يفعله مُقامر يمر بضائقةٍ وصعوبات؟
كنت أشعر بإثارةٍ وغبطة شديدتَين لإبداعي في تشكيل فرضية جليَّة ومعقولة عن الجريمة، حتى إنني صرتُ مُتلهِّفًا للوصول إلى البيت حتى أنقل ما لديَّ من أخبارٍ إلى ثورندايك وأرى كيف سيكون وقعُها عليه. لكن وبينما كنت أقترب من وسط المدينة، ازدادت كثافة الضباب كثيرًا حتى إنني كنتُ في حاجةٍ لتركيز كل انتباهي في اجتياز حركة المرور بسلام؛ وكان الضباب يُضفي جوانب غريبةً وخادعة على الأشياء المألوفة ويمحو معالم المدينة، فجعل تقدُّمي بطيئًا لدرجة أن الساعة كانت قد تجاوزت السادسة بالفعل حين تحسَّستُ طريقي في ميدل تيمبل لين وانسللت عبر كراون أوفيس رو باتجاه مقرِّ زميلي.
وعند عتبة الباب وجدتُ بولتون يُحدِّق بوجهٍ يعتريه القلق في الضباب الأصفر المُمتد الفارغ.
قال بولتون: «لقد تأخَّر الطبيب يا سيدي. أعاقه الضباب بحسب ما أعتقد. لا بد وأنه كثيف للغاية في المدينة.»
(سأذكر هنا أن بولتون كان يرى أن ثورندايك هو الطبيب. وأن هناك بالفعل مخلوقات أخرى أدنى منزلةً يتَّصفون بهذا اللقب؛ لكنهم كانوا لا يُعتَد بهم في رأي بولتون. كانت الألقاب العائلية لهؤلاء كافيةً للإشارة إليهم.)
فأجبته: «أجل، هذا صحيح، بالنظر إلى حالة شارع ستراند.»
دخلتُ وصعدت الدرج، مسرورًا جدًّا بمنظر الغرفة الدافئة والجيدة الإضاءة بعد مسيري الشاق في الشوارع الحالكة، وتبِعني بولتون في شيءٍ من التردُّد بعد أن ألقى نظرةً أخيرة على الممشى في كلتا الجهتَين.
ثم قال وهو يُدخلني (رغم أنني الآن كنت أملك مفتاحًا): «أظن أنك ترغب في القليل من الشاي، صحيح؟»
فكَّرت أنني في حاجة إلى الشاي، ومن ثمَّ شرع في تحضيره بطريقته البارعة والرشيقة، لكنه كان ذاهلًا على نحوٍ غير معتاد منه.
ثم علَّق، وهو يضع إبريق الشاي على صينية التقديم: «قال الطبيب إنه سيكون في المنزل بحلول الخامسة.»
فأجبته: «إذن فقد تأخَّر. سنُعاقبه على ذلك بأن نُخفِّف شايه بالماء.»
فأردف بولتون يقول: «الطبيب، يا سيدي، رجل رائع دقيق في مواعيده. فهو غالبًا ما يحافظ على المواعيد بالدقيقة.»
«لا يمكن للمرء أن يلتزم بمواعيده في «لندن الضبابية»»، هكذا قلتُ بشيءٍ من نفاد الصبر؛ إذ كنت أرغب في أن أكون وحيدًا لأفكِّر في بعض الأمور، وكان اهتياج بولتون وعصبيته يُزعجانني. كان أشبه بمُدبِّرات المنازل في قلقه.
وعلى ما يبدو أن الرجل الضئيل الحجم أدرك حالتي الذهنية؛ فقد انسلَّ بعيدًا في صمتٍ وتركني أشعر بالندم والخجل، وعرفت لمَّا وقفتُ أنظر من النافذة أنه ذهب ليُكمل مراقبته عند عتبة الباب. ثم عاد بعد برهة من نقطة المراقبة تلك ليحمِل أغراض الشاي؛ وبعد ذلك، ومع أن الجو الآن كان حالكًا وضبابيًّا، فإنني سمعته يتسلَّل كَمدًا على الدرج صعودًا وهبوطًا، حتى إنني صرتُ في نهاية المطاف في حالة من القلق والتخوُّف مثله تمامًا.