الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
(١) عَلَى الْحَشَائِشِ
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ» لِبِنْتِهَا «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ»: «مَا بَالُكِ لَمْ تَذْهَبِي مَعَ إِخْوَتِكِ وَأَبِيكِ إِلَى حَقْلِ الْبِرْسِيمِ؟»
أَجَابَتْهَا حَانِيَةً (عَاطِفَةً) مُتَوَدِّدَةً: «كَلَّا يَا أُمَّاهُ. مَا أَنَا بِجَائِعَةٍ. وَلَسْتُ أُوثِرُ (لَا أَخْتَارُ) شَيْئًا فِي الدُّنْيَا عَلَى الْبَقَاءِ إِلَى جَانِبِ أُمِّي الْحَبِيبِ. هَلُمِّي (أَقْبِلِي). نَامِي عَلَى هَذِهِ الْحَشَائِشِ اللَّيِّنَةِ الرَّقِيقَةِ؛ لَعَلَّهَا تُخَفِّفُ شَيْئًا مِنْ أَوْجَاعِكِ، وَتُزِيلُ آلَامَ سَاقَيْكِ.»
لَمْ تَتَرَدَّدْ «عِكْرِشَةُ» فِي ذَلِكَ.
أَعَانَتْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ». أَقَامَتْهَا حَتَّى أَجْلَسَتْهَا عَلَى الْحَشَائِشِ.
جَلَسَتْ إِلَى جَانِبِهَا صَامِتَةً (سَاكِتَةً).
(٢) حُبُّ الْقِصَصِ
سَأَلَتْهَا «عِكْرِشَةُ»: «فِيمَ تُفَكِّرِينَ يَا عَزِيزَتِي؟»
أَجَابَتْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «أَنْتِ أَدْرَى بِمَا يَشْغَلُنِي، يَا أُمَّاهُ. لَكِنَّكِ مَرِيضَةٌ مُتْعَبَةٌ. لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ بِكِ أَنْ أَزِيدَكِ تَعَبًا.»
قَالَتْ لَهَا «عِكْرِشَةُ»: «آهٍ. لَقَدْ عَرَفْتُ مَا تَطْلُبِينَ! أَلَسْتِ تُرِيدِينَهَا قِصَّةً؟»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «لَمْ تَعْدِي (لَمْ تَتَجَاوَزِي) مَا فِي نَفْسِي، يَا أُمَّاهُ. لَيْسَ أَشْهَى إِلَيَّ مِنْ سَمَاعِ قِصَصِكِ الْمُعْجِبَةِ.»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «اجْلِسِي أَمَامَ نَاظِرِي لِأُمَتَّعَ بِرُؤْيَتِكِ، وَيَبْهَجَ نَفْسِي جَمَالُ عَيْنَيْكِ الْبَرَّاقَتَيْنِ. إِنِّي قَاصَّةٌ عَلَيْكَ مَا وَقَعَ لِأَحَدِ أَشِقَّائِكِ، مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، لَا أَحْسَبُهُ يَقِلُّ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا.»
(٣) الطِّفْلُ الصَّغِيرُ
أَنْصَتَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» (سَكَتَتْ مُسْتَمِعَةً) لِحَدِيثِهَا. أَرْهَفَتْ أُذُنَيْهَا لِسَمَاعِ الْقِصَّةِ. اسْتَأْنَفَتْ «عِكْرِشَةُ» قَائِلَةً: «فِي مَسَاءِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ خَرَجْتُ وَمَعِي وَلَدِي «أَبُو نَبْهَانَ». لَعَلَّهَا أَوَّلُ مَرَّةٍ أَخْرَجْتُهُ فِيهَا مِنَ الْجُحْرِ. ذَهَبْنَا إِلَى حَقْلٍ نَاءٍ (بَعِيدٍ) مِنْ حُقُولِ «السَّعْتَرِ». كَانَ «أَبُو نَبْهَانَ» — بِكْرُ أَوْلَادِي — مُدَلَّلًا (مَحْبُوبًا يُلَاطَفُ وَتُتْرَكُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). كَانَ — إِلَى ذَلِكَ — عَنِيدًا شَاذًّا. أَلَا تَفْهَمِينَ مَا أَعْنِيهِ؟ أَعْنِي: أَنَّه كَانَ يَسِيرُ وَفْقَ أَهْوَائِهِ، لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يُرِيدُ. إِذَا عَنَّتْ (خَطَرَتْ) لَهُ فِكْرَةٌ خَاطِئَةٌ، لَمْ يَسْتَشِرْ أَحَدًا، وَلَمْ يَخْشَ كَائِنًا كَانَ، وَلَمْ يُبَالِ الْعَوَاقِبَ. إِذَا أَجْمَعَ إِخْوَانُهُ وَخُلَصَاؤُهُ (الْمُخْلِصُونَ لَهُ) عَلَى فَسَادِ خُطَّتِهِ، وَخَطَإِ طَرِيقتِهِ، هَزَأَ بِهِمْ، وَسَخِرَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُصْغِ (لَمْ يَسْتَمِعْ) إِلَى نُصْحِهِمْ، وَأَصَرَّ عَلَى إِنْفَاذِ مَا يُرِيدُ، فِي لَجَاجَةٍ وَإِلْحَاحٍ وَعِنَادٍ. جَرَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَمَاقَةُ أَشَدَّ النَّكَبَاتِ ….»
(٤) فِي سَبِيلِ الطَّعَامِ
سَكَتَتْ «عِكْرِشَةُ». تَأَوَّهَتْ مِنْ أَوْجَاعِهَا. قَالَتْ: «آيْ! آيْ! سَاقِي الْيُمْنَى … شَدَّ مَا تُؤْلِمُنِي سَاقِي الْيُمْنَى! … أَلَا تُسَاعِدِينَنِي عَلَى الْحَرَكَةِ لِأَضْطَجِعَ عَلَى جَنْبِي الْأَيْسَرِ؟»
لَبَّتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» طَلَبَهَا. شَكَرَتْ لَهَا «عِكْرِشَةُ» صَنِيعَهَا، وَحَمِدَتْ مَعْرُوفَهَا.
قَالَتْ لَهَا: «لَسْتُ أَذْكُرُ أَيْنَ انْتَهَيْتُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ؟ آهٍ … ذَكَرْتُ الْآنَ كُلَّ شَيْءٍ … حَدَّثْتُكِ أَنَّ «أَبَا نَبْهَانَ» كَانَ غَرِيبَ الطَّبْعِ. لَمْ يَشَإِ الْبَقَاءَ مَعَنَا فِي حَقْلِ «السَّعْتَرِ»: يَقْضَمُ مِنْهُ (يَكْسِرُ بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهِ) مَا يَشْتَهِي، وَيَأْكُلُ مِنْ طَيِّبَاتِهِ كمَا نَأْكُلُ. أَبَى إِلَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ (يَتَنَقَّلَ مُسْتَخْفِيًا) إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ. ابْتَعَدَ عَنَّا بَعْدَ قَلِيلٍ. لَعَلَّهُ كَانَ يَبْحَثُ عَنْ طَعَامٍ آخَرَ.
(٥) صَرْخَةُ الْمُسْتَغِيثِ
إِنِّي لَأَقْضَمُ سَاقًا مُزْدَهِرَةً مِنْ النَّبَاتِ، إِذْ دَوَّتْ فِي أُذُنَيَّ صَرْخَةٌ مُزْعِجَةٌ. أَجَلْتُ بَصَرِي (دُرْتُ بِعَيْنَيَّ) فِي أَوْلَادِي لِأُحْصِيَهُمْ (لِأَعُدَّهُمْ). لَمْ أَجِدْ بَيْنَهُمْ «أَبَا نَبْهَانَ». قَفَزْتُ عَادِيَةً (جَارِيَةً) — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — وَأَنَا أُنَادِيهِ بِأَعْلَى صَوْتِي: «يَا أَبا نَبْهَانَ! إِلَيَّ يَا أَبا نَبْهَانَ.»
سَمِعْتُهُ يُغَوِّثُ، طَالِبًا النَّجْدَةَ.
(٦) بَيْنَ مِخْلَبَيْنِ
أَعْزِزْ عَلَيَّ مَا لَقِيتَ مِنَ الْآلَامِ، يَا «أَبَا نَبْهَانَ»!
أَتَعْرِفِينَ مَا رَأَيْتُ — حِينَئِذٍ — يَا «زَهْرَةَ الْبِرْسِيمِ»؟
رَأَيْتُ مَا فَزَّعَنِي وَهَالَنِي وَكَادَ قَلْبِي يَنْفَطِرُ لَهُ (يَنْشَقُّ): أَبْصَرْتُ وَلَدِي الْعَزِيزَ بَيْنِ مِخْلَبَيْ سَبُعٍ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ (طَائِرٍ مِنْ أَكَلَةِ اللُّحُومِ) … لَكَ اللهُ، يَا وَلَدِي. حَاْوَلْتَ — جُهْدَكَ — أَنْ تُفْلِتَ مِنْ مِخْلَبَيْهِ، لَمْ تَسْتَطِعْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
كْنُتَ تَسْتَصْرِخُ أُمَّكَ الْحَنُونَ الْمِسْكِينَةَ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى إِنْقَاذِكَ مِنْ بَرَاثِنِ الرَّدَى (أَصَابِعِ الْمَوْتِ)!
هَمَمْتُ — يَا «زَهْرَةَ الْبِرْسِيمِ» — أَنْ أُسْرِعَ لِنَجْدَتِهِ. لَكِنَّ سَاقَيَّ لَمْ تَقْوَيَا. لَمْ أَسْتَطِعِ السَّيْرَ. انْتَظَمَتْنِي الرِّعْدَةُ (شَمِلَتْنِي الرِّعْشَةُ) سَرَتْ فِي جِسْمِي. تَفَكَّكَتْ أَوْصَالِي. لَمْ أَخْطُ — مِنْ مَكَانِي — خُطْوَةً وَاحِدَةً. وَقَفْتُ — حَيْثُ كُنْتُ — وَقَلْبِي يَكَادُ يَتَمَزَّقُ مِنَ الْأَلَمِ. دَنَتِ السَّاعَةُ الْمَرْهُوبَةُ الْهَائِلَةُ ….
(٧) دَمْعَةُ الْحُزْنِ
لَمَّا وَصَلَتْ «عِكْرِشَةُ» إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْمُؤَثِّرِ، هَاجَتْهَا الذِّكْرَى. وَقَفَتْ عَنِ الْكَلَامِ. كَفْكَفَتْ (مَسَحَتْ) بِيَدِهَا دَمْعَةً مُتَحَدِّرَةً عَلَى أَنْفِهَا.
أَقْبَلَتْ عَلَيْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» تُؤَسِّيهَا، وَتَقُولُ لَهَا: «كَفَى.. كَفَى، يَا أُمَّاهُ!.. لَا تُتِمِّي هَذِهِ الْقِصَّةَ، مَا دَامَتْ تُثِيرُ أَشْجَانَكِ وَهُمُومَكِ.»
تَجَلَّدَتْ «عِكْرِشَةُ». قَالَتْ لِبِنْتِهَا مُتَأَسِّيَةً (مُتَعَزِّيَةً مُتَصَبِّرَةً): «إِنَّ قَضَاءَ اللهِ مَحْتُومٌ، لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ. إِنِّي مُتِمَّةٌ مَا بَدَأْتُهُ. أَنْصِتِي إِلَيَّ. اُذْكُرِي هَذَا الْحَدِيثَ طُولَ عُمْرِكِ. إِنَّ فِيهِ دَرْسًا نَافِعًا لَكِ، وَعِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ يَعْتَبِرُ. السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ (عَرَفَ الْعَوَاقِبَ وَتَذَكَّرَهَا بِمَا يَحْدُثُ لِسِوَاهُ)، وَالشَّقِيُّ مَنْ وُعِظَ بِنَفْسِهِ (عَرَفَ الْعَوَاقِبَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ السُّوءِ وَالْأَذَى).»
(٨) مَصْرَعُ «أَبِي نَبْهَانَ»
سَكَتَتْ «عِكْرِشَةُ» لَحْظَةً. اسْتَأْنَفَتْ قَائِلَةً: «رَأَيْتُ لِهَذَا السَّبُعِ الْفَاتِكِ مِنْقَارًا أَعْقَفَ (مُلْتَوِيًا) وَعَيْنَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ مُسْتَدِيرَتَيْنِ. عَلِمْتُ أَنَّهُ عَدُوُّنَا اللَّدُودُ: «أُمُّ الْخَرَابِ»!
رَأَيْتُ «أُمَّ الْخَرَابِ» — أَعْنِي: تِلْكَ الْبُومَةَ الْفَرَّاسَةَ الْعَادِيَةَ (الظَّالِمَةَ) — تَرْتَفِعُ بِوَلَدِي فَجْأَةً. رَأَيْتُهَا تَضْرِبُهُ بِمِنْقَارِهَا الْحَادِّ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَتُخْمِدُ أَنْفَاسَهُ.
رَأَيْتُ «أَبَا نَبْهَانَ» يَكُفُّ عَنْ صُرَاخِهِ: مَالَ رَأْسُهُ. تَخَلَّجَ ذَنَبُهُ (اضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ)! فَاضَتْ رُوحُهُ. أَصْبَحَ جُثَّةً هَامِدَةً.
أَمْسَكَتْ بِهِ «أُمُّ الْخَرَابِ» بَيْنَ مِخْلَبَيْهَا. فَتَحَتْ مِنْقَارَهَا الْهَائِلَ. ابْتَلَعَتْهُ. غَاصَ فِي جَوْفِهَا.»
(٩) حُزْنُ الْعَشِيرَةِ
اسْتَأْنَفَتْ «عِكْرِشَةُ»، قَائِلَةً: «ظَلِلْتُ أَبْكِي — بَيْنَ الْأَعْشَابِ — زَمَنًا طَوِيلًا، حَتَّى نَفِدَتْ دُمُوعِي (فَنِيَتْ). رَجَعَتْ إِلَى الْحَقْلِ مَحْزُونَةً كَاسِفَةَ الْبَالِ، تَغْشَانِي الْهُمُومُ. أَخْبَرْتُ عَشِيرَتِي بِذَلِكَ الْحَادِثِ الْجَلَلِ (الْعَظِيمِ). تَمَلَّكَ الْأَسَفُ قُلُوبَهُمْ. بَكَوْا لِمُصَابِي فِي عَزِيزِي الْحَبِيبِ: «أَبِي نَبْهَانَ».
دَنَا مِنِّي عَمُّكِ الشَّيْخُ «أَبُو نَابِهٍ». ظَلَّ يُؤَسِّينِي. هُوَ — كَمَا تَعْلَمِينَ — شَيْخٌ مُجَرَّبٌ بَصِيرٌ.»
(١٠) خُطْبَةُ «أَبِي نَابِهٍ»
عَزِيزَاتِي وَبَنَاتِي وَأَبْنَائِي:
إِنَّ قَلْبِي حَزِينٌ يَكَادُ يَنْفَطِرُ مِنَ الْأَسَى وَالْأَلَمْ. إِنَّ «أَبَا نَبْهَانَ» — وَهُوَ ابْنُ أَخِي الْعَزِيزُ — كَانَ مِثَالَ الذَّكَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثَالَ الطَّاعَةِ. كَانَ — لَوْلَا عِنَادُهُ — وَاعِدًا (مَرْجُوَّ الْمُسْتَقْبَلِ). لَوْ عَاشَ لَأَصْبَحَ فَخَارَ أُسْرَتِنَا، وَمَنَاطَ رَجَائِنَا (مَعْقِدَ أَمَلِنَا الَّذِي نَتَعَلَّقُ بِهِ). لَكِنَّ الْقَضَاءَ عَاجَلَهُ. لَيْسَ لَنَا مِنْ حِيلَةٍ فِي رَدِّ عَادِيَة الرَّدَى وَدَفْعِ غَائِلَةِ الْمَوْتِ (هُجُومِهُ)؛ فَلْنَبْكِهِ مُتَرَحِّمِينَ عَلَيْهِ.
بَكَتْ أُسْرَةُ الْأَرَانِبِ مَصْرَعَ «أَبِي نَبْهَانَ» وَفَاجِعَتَهُ.
وَأَنْتُمْ يَا أَبْنَاءَ أَخِي، وَيَا بَنَاتِ شَقِيقِيَ الْعَزِيزِ:
أَلَمْ تَعْتَبِرُوا بِهَذَا الْمَصْرَعِ الْمُؤْلِمِ؟ أَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الْعِنَادِ، وَالِانْفِرَادِ بِالرَّأْيِ، وَاحْتِقَارِ نَصِيحَةِ النَّاصِحِينَ؟ فَلْيَكُنْ لَكُمْ فِي هَذَا الْمُصَابِ دَرْسٌ وَعِظَةٌ، وَلْتُعَاهِدُونِي — جَمِيعًا — عَلَى أَنْ تَكُونُوا مِثَالَ الطَّاعَةِ، وَأَنْ تَعِيشُوا كَمَا يَعِيشُ الْعُقَلَاءُ الْمُتَبَصِّرُونَ؛ حَتَّى تَأْمَنُوا مِثْلَ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْمُفَزِّعَةِ.
(١١) نَصِيحَةُ الْمُجَرِّبِينَ
كَانَ الْأَرَانِبُ الصِّغَارُ يُصْغُونَ (يَسْتَمِعُونَ) إِلَى كَلَامِ «أَبِي نَابِهٍ» وَيُنْصِتُونَ إِلى نَصِيحَتِهِ، بِقُلُوبٍ وَاعِيَةٍ. أَرْهَفُوا آذَانَهُمْ، فَلَمْ تُفْلِتْ مِنْهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَقَلَّ حَرَكَةٍ.
مَتَى حَلَلْتُمْ حَقْلًا مِنْ حُقُولِ الْكُرُنْبِ، فَلَا تَشْغَلَنَّكُمْ لَذَّةُ الطَّعَامِ عَنِ التَّبَصُّرِ وَالْيَقَظَةِ، وَلْتُرْهِفُوا أَسْمَاعَكُمْ حَتَّى لَا تَدْهَمَكُمْ «أُمُّ الصِّبْيَانِ»: تِلْكُمُ الْبُومَةُ الْفَاتِكَةُ الْعَادِيَةُ (الظَّالِمَةُ) الَّتِي قَتَلَتْ شَقِيقَكُمْ. إِنَّهَا تَتَحَيَّنُ الْفُرَصَ لِقَتْلِكُمْ، وَتَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ؛ وَهِيَ أَلَدُّ أَعْدَائِنَا.
إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَهَا الْكَرِيهَ وَهِيَ تَصِيحُ «وُو — وُو!» فَاخْتَبِئُوا — مِنْ فَوْرِكُمْ فَإِنَّهَا حَادَّةُ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ.
وَهِيَ تَرَى وَتَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَهْبِطُ عَلَيْنَا فَجْأَةً دُونَ أَنْ نَسْمَعَ لَهَا حَرَكَةً، وَتَقْتُلُنَا بِنَقْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِنْقَارِهَا الْحَادِّ الْأَعْقَفِ (الْمُنْحَنِي)، وَتَبْتَلِعُنَا دَفْعَةً وَاحِدَةً: شَعْرًا وَلَحْمًا وَدَمًا وَعَظْمًا!
وَهِيَ تَقْتَنِصُنَا — مَعْشَرَ الْأَرَانِبِ — كَمَا تَقْتَنِصُ الْفِئْرَانَ وَالْجِرْذَانَ وَبَنَاتِ عِرْسٍ، وَغَيْرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَطَرِيقَتُهَا أَنْ تَبْتَلِعَ الْفَرِيسَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَتَخْزُنَها فِي جَوْفِهَا حَتَّى يَتِمَّ هَضْمُهَا، ثُمَّ تُلْقِي بِعِظَامِهَا وَفَرْوِهَا — أَوْ رِيشِهَا — فِي الْعُشِّ؛ لِتَتَّخِذَ هَذِهِ الْبُومَةُ مِنْهَا أَثَاثًا لِبَيْتِهَا، وَفِرَاشًا لَهَا وِلِبَنَاتِهَا.
(١٢) عِقَابُ الشَّرَهِ
لِلْبُومَةِ — كَمَا لِأَمْثَالِهَا مِنَ الْجَوَارِحِ، أَعْنِي: سِبَاعَ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ — مِنْقَارٌ مَعْقُوفٌ (شَدِيدُ الِانْحِنَاءِ). وَهُوَ — عَلَى قِصَرِهِ — غَلِيظٌ مَتِينٌ.
مَخَالِبُهَا — كَمَا حَدَّثَنَا الثِّقَاتُ الْعَارِفُونَ — قَوِيَّةٌ قَابِضَةٌ مُنْحَنِيَةٌ، تُنْشِبُهَا (تُعَلِّقُهَا) فِي الْجُدْرَانِ وَغُصُونِ الشَّجَرِ.
مَتَى شَبِعَتِ الْبُومَةُ، نَامَتْ عَلَى غُصْنِهَا — حَيْثُ أَقَامَتْ عُشَّهَا — نَوْمًا عَمِيقًا.
لَكِنْ لَا تَنْسَوْا — يَا أَوْلَادِي — أَنَّ لِكُلِّ إِسَاءَةٍ عِقَابًا، وَأَنَّ جَزَاءَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَشِدَّةِ النَّهَمِ (الشَّرَهِ فِي الْأَكْلِ)، لَا بُدَّ حَائِقٌ بِذَوِيهِ (مُحِيطٌ بِأَصْحَابِهِ)، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا.
إِنَّ «أُمَّ الْخَرَابِ» مَا إِنْ تَسْتَيْقِظُ مِنْ سُبَاتِهَا الْعَمِيقِ (نُوْمِهَا الْمُسْتَغْرِقِ)، حَتَّى تَنْتَابَهَا الْآلَامُ وَالْأَوْجَاعُ فِي رَأْسِهَا وَمَعِدَتِهَا، كَمَا تَنْتَابُنَا إِذَا أَفْرَطْنَا فِي أَكْلِ الْحَشَائِشِ الْمُبْتَلَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
لَيْسَتْ تَخِفُّ آلَامُهَا حَتَّى تَلْفِظَ مِنْ جَوْفِهَا جِلْدَنَا وَعَظْمَنَا. فَإِذَا أَخْرَجَتْهُ اسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ مَرَّةً أُخْرَى.