الفصل الثاني
(١) خُطْبَةُ «الْخُزَيْزِ»
أَيُّهَا الْأَهْلُ الْكِرَامُ:
إِنَّ مَصْرَعَ ابْنِ أُخْتِي الْعَزِيزِ: «أَبِي نَبْهَانَ» قَدْ عَزَّ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَامْتَلَأَتْ قُلُوبُنَا مِنْهُ حُزْنًا وَأَسَفًا. لَكِنَّ الْحُزْنَ وَالْأَسَفَ — كَمَا تَعْلَمُونَ — لَا يَنْفَعَانِ أَحَدًا. فَلْنَتَّخِذْ مِنْ مَصْرَعِهِ عِبْرَةً لَنَا وَمَوْعِظَةً؛ فَلَا نُعَرِّضَنَّ أَنْفُسَنَا — مَرَّةً أُخْرَى — لِخَطَرِ هَذِه الْعَدُوِّ اللَّدُودِ الَّتِي فَتَكَتْ بِفَقِيدِنَا الْعَزِيزِ «أَبِي نَبْهَانَ»، وَلَا نَسْتَهِينَنَّ بِخَطَرِهَا وَقُوَّتِهَا، وَإِلَّا أَصَابَنَا مِثْلُ مَا أَصَابَ الْفَتَى الطَّائِشَ: أَبَا دِرْصَانَ.
(٢) الْعَجُوزُ الْقَاسِيَةُ
صَاحَ الْحَاضِرُونَ يَسْأَلُونَهُ: «وَمَا هِيَ قِصَّةُ أَبِي دِرْصَانَ؟»
أَيُّهَا الْأَعِزَّاءُ!
عَلَى سَطْحِ جُرْنٍ عَالٍ، فِي حَقْلٍ مُنْبَسِطٍ فَسِيحٍ، عَاشَتِ الْعَجُوزُ الْقَاسِيَةُ، بَعْدَ أَنِ اتَّخَذَتْ فِي ذِرْوَةِ الْجُرْنِ (أَعْلَاهُ) بَيْتًا تَأْوِي إِلَيْهِ مَعَ صِبْيَانِهَا الصِّغَارِ. أَتَعْرِفُونَ مَنِ الْعَجُوزُ الْقَاسِيَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْوِي إِلَى بَيْتِهَا الْعَالِي فِي سَقْفِ الْجُرْنِ الَّذِي يَخْزُنُ فِيهِ الزَّارِعُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ غَلَّاتِ حُقُولِهِمْ؟
إِنَّهَا عَدُوَّتُكُمُ اللَّدُودُ «أُمُّ الصِّبْيَانِ»: تِلْكُمُ الْبُومَةُ الَّتِي حَدَّثَكُمْ عَنْهَا عَمُّكُمْ الشَّيْخُ الْمُجَرِّبُ: «أَبُو نَابِهٍ». تِلْكُمُ الْعَجُوزُ الْفَرَّاسَةُ الْفَتَّاكَةُ الَّتِي لَا تَعْرِفُ الرَّحْمَةُ إِلَى قَلْبِهَا سَبِيلًا.
(٣) طُرْطُورُ الْعَجُوزِ
هِيَ فِي حَجْمِ الْغُرَابِ. لَكِنَّهَا أَوْفَرُ دَمَامَةً (أَكْثَرُ قُبْحًا) وَأَعْنَفُ طَبْعًا، وَجِسْمُهَا مُنَقَّطٌ بِالْبَيَاضِ.
اجْتَمَعَ الرِّيشُ فِي رَأْسِهَا. أَحَاطَ بِهِ. خَيَّلَ إِلَى رَائِيهَا أَنَّ طُرْطُورًا يَبْدُو عَلَى جَبِينِهَا.
أَطَلَّتْ مِنْ خِلَالِ هَذَا الطُّرْطُورِ عَيْنَانِ صَفْرَاوَانِ، اسْتَدَارَتَا كَمَا تَسْتَدِيرُ الْحَلْقَتَانِ الْوَاسِعَتَانِ، وَالْتَهَبَتَا كَمَا يَلْتَهِبُ الْمِصْبَاحَانِ الْمُضِيئَانِ.
(٤) ضَوْءُ الْبَدْرِ
كَانَ الْبَدْرُ يَمْلَأُ الدُّنْيَا نُورًا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. كَانَ يُرْسِلُ ضَوْءَهُ الْوَهَّاجَ عَلَى الْحُقُولِ فَيُنِيرُهَا، وَعَلَى الْأَشْجَارِ فَيَجُوسُ (يَتَخَلَّلُ) أَغْصَانَهَا الْعَارِيَةَ، ثُمَّ يَنْفُذُ إِلَى الْأَرْضِ، فَيُبَدِّدُ الظَّلَامَ الْحَالِكَ.
(٥) «أَبُو دِرْصَانَ»
سَيِّدِي الْعَمَّ، سَيِّدَاتِي وَسَادَتِي: بَنَاتِ نَبْهَانَ وَالْخُزَزِ:
رَوَيْتُ عَنْ أُمِّي، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا: أَنَّ جُرَذًا (فَأْرًا) اسْمُهُ: «أَبُو دِرْصَانَ»، كَانَ يَعِيشُ مَعَ وَالِدَتِهِ: «أُمِّ رَاشِدٍ» فِي جُحْرٍ صَغِيرٍ اتَّخَذَاهُ مَسْكَنًا لَهُمَا فِي أَسْفَلِ حَائِطِ هَذَا الْجُرْنِ الْكَبِيرِ الَّذِي حَدَّثْتُكُمْ بِهِ.
(٦) عُمْرُ الْبَدْرِ
كَانَتِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ — فِيمَا أَظُنُّ — أَعْنِي أَنَّ عُمْرَ الْقَمَرِ حِينَئِذٍ كَانَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. أَوْ لَعَلَّهَا كَانَتْ لَيْلَةَ السَّوَاءِ. أَعْنِي أَنَّ عُمْرَ الْقَمَرِ كَانَ فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
(٧) الْغِنَاءُ الْمُزْعِجُ
نَعَبَتِ الْبُومَةُ (صَوَّتَتْ) — عَلَى عَادَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ — بِصَوْتِهَا الْقَبِيحِ؛ فَانْزَعَجَ — لِسَمَاعِ نَعِيبِهَا — كُلُّ كَائِنٍ حَيٍّ. كَانَتْ تُسَمِّي صُرَاخَهَا الْقَبِيحَ: غِنَاءً، وَهِيَ تُصَوِّتُ نَاعِبَةً:
لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يَطْرَبُ لِصَوْتِهَا الْقَبِيحِ غَيْرُهَا.
(٨) غَيْظُ «أَبِي دِرْصَانَ»
بَيْنَا هِيَ مُسْتَرْسِلَةٌ فِي نَعِيبِهَا، إِذْ أَطَلَّ «أَبُو دِرْصَانَ» مِنْ جُحْرِهِ الضَّيِّقِ. هُو فَتًى مِنْ فِتْيَانِ الْجِرْذَانِ (الْفِيرَانِ). كَانَ سَلِيطًا (طَوِيلَ اللِّسَانِ سَيِّئَ الْكَلَامِ).
قَالَ لِلْبُوهَةِ (الْبُومَةِ) «أُمِّ الصِّبْيَانِ»: «أَيَّ صَوْتٍ مُزْعِجٍ تُرْسِلِينَ؟ أَمَرِيضَةٌ أَنْتِ؟ لِمَاذَا تَنْعَبِينَ؟»
تَغَاضَتْ عَنْهُ «أُمُّ الصِّبْيَانِ» (أَعْرَضَتْ وَلَمْ تُبَالِ). تَرَفَّعَتْ عَنْ مُنَاقَشَتِهِ. أَغْمَضَتْ عَيْنَهَا عَنْهُ. كَانَتْ أَحْزَمَ وَأْكَيَسَ مِنْ أَنْ تُنَاقِشَ «أَبَا دِرْصَانَ»: ذَلِكُمُ الطِّفْلُ الطَّائِشُ السَّلِيطُ اللِّسَانِ.
تَأَلَّقَ ضَوْءُ الْقَمَرِ؛ فَأَنَارَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. ابْتَسَمَ لِلْكَوْنِ ابْتِسَامَتَهُ الْمَحْبُوبَةَ. لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ — فِيمَا أَعْلَمُ — يَأْبَهُ لَهُمَا (يَهْتَمُّ بِهما)، أَوْ يُعْنَى بِأَمْرِهِمَا.
(٩) جَزَعُ «أُمِّ رَاشِدٍ»
قَفَزَ «أَبُو دِرْصَانَ» عَائِدًا إِلَى جُحْرِه. تَلَقَّتْهُ «أُمُّ رَاشِدٍ» مَذْعُورَةً. قَالَتْ لَهُ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ (مُضْطَرِبٍ) يَكَادُ يَتَمَيَّزُ (يَتَقَطَّعُ) مِنَ الْغَيْظِ: «أَيُّ كَلَامٍ هَذَا الَّذِي كُنْتَ تُوَجِّهُهُ الْآنَ، إِلَى الْبُومَةِ «أُمِّ الصِّبْيَانِ»؟ أَلَمْ أُحَذِّرْكَ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّهَا مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ، وَإِنَّهَا فَرَّاسَةٌ، قَاسِيَةُ الْقَلْبِ، صَعْبَةُ الْمِرَاسِ (عَنِيفَةٌ فِي طَبْعِهَا وَمُعَامَلَتِهَا)، وَإِنَّ فَتَكَاتِهَا بِنَا — مَعْشَرَ الْجِرْذَانِ (الْفِيرَانِ) — قَاتِلَةٌ مُهْلِكَةٌ. أَلَمْ أُوصِكَ بِالِابْتِعَادِ عَنْهَا، وَالْفِرَارِ مِنْهَا، وَالْهَرَبِ مِنْ لِقَائِهَا، مَا وَجَدْتَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا؟ كَيْفَ نَسِيتَ نَصِيحَتِي، وَتَعَمَّدْتَ الْخُرُوجَ لِهَذَا الطَّائِرِ الْفَتَّاكِ؟»
(١٠) جَوَابٌ طَائِشٌ
قَالَ «أَبُو دِرْصَانَ»: «لَا تَتَمَادَيْ (لَا تَدُومِي وَلَا تَسْتَرْسِلِي) فِي غَضَبِكِ، يَا أُمَّاهُ. مَا أَظُنُّنِي قَدْ فَعَلْتُ مَا أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ كُلَّ هَذَا اللَّوْمِ وَالتَّعْذِيرِ (الْمُؤَاخَذَةِ وَالتَّوْبِيخِ).»
ارْتَفَعَ صَوْتُهُ عَالِيًا، وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَعْبَثَ (أَمْزَحَ وَأَلْهُوَ) بِهَا وَأُعَاكِسَهَا. لِمَ لَا؟ صَوْتُهَا — كَمَا تَسْمَعِينَ — مِنْ أَنْكَرِ الْأَصْوَاتِ وَأَقْبَحِهَا. أَيُّ حَرَجٍ عَلَيَّ إِذَا سَخِرْتُ مِنْهَا قَلِيلًا؟ وَدِدْتُ لَوْ سَمِعْتِهَا وَهِيَ تَنْعَبُ يَا أُمَّاهُ! إِذَنْ لَمَا تَمَالَكْتِ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِهَا. إِنَّ نَعِيبَهَا الْقَبِيحَ يُضْحِكُ الْقِطَّ!»
(١١) رِعْشَةُ الْخَوْفِ
صَرَخَتْ أُمُّهُ مُغْتَاظَةً: تَمَلَّكَهَا الْفَزَعُ وَالرُّعْبُ: «يُضْحِكُ الْقِطَّ؟ يَا لَكَ مِنْ غَبِيٍّ جَرِيءٍ! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ فَمِكَ، أَيُّهَا الْأَبْلَهُ! أَيُّ حَادِثٍ دَهَاكَ فَأَفْقَدَكَ رَشَادَكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ أَيُّ خَبَالٍ اعْتَرَاكَ، فَانْدَفَعْتَ تَهْرِفُ (تَتَكَلَّمُ عَلَى غَيْرِ هُدًى) بِهَذَا الْهَذَيَانِ؟ طَالَمَا نَهَيْتُكَ عَنِ التَّمَادِي فِي أَمْثَالِ هَذَا الْهُرَاءِ (الْقَوْلِ الْبَاطِلِ)!
يُضْحِكُ الْقِطَّ؟ كَيْفَ جَرُؤْتَ عَلَى أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الِاسْمَ الْكَرِيهَ الْمُفَزِّعَ؟ كَيْفَ سَاعَفَكَ لِسَانُكَ عَلَى النُّطْقِ بِهَذَا اللَّفْظِ الرَّاعِبِ؟
إِنَّ سَمَاعَ اسْمِ الْقِطِّ — وَحْدَهُ — لَيَكْفِي لِإِيذَائِي وَإِلْحَاقِ الْمَرَضِ بِي. وَيْحَكَ! لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِهَذَا السَّبُعِ الْفَرَّاسِ. مَلَأْتَ قَلْبِي فَزَعًا وَرُعْبًا.»
مَا أَتَمَّتْ قَوْلَهَا حَتَّى ارْتَعَدَ جِسْمُهَا مِنَ الْفَزَعِ. سَرَتِ الرِّعْشَةُ فِيهِ كُلِّهِ، فَانْتَظَمَتْهُ (شَمِلَتْهُ) مِنْ أَعْلَى رَأْسِهِ إِلَى طَرَفِ ذَيْلِهِ الطَّوِيلِ.
(١٢) آَرَاءٌ خَاطِئَةٌ
دَهِشَ «أَبُو دِرْصَانَ» مُتَضَجِّرًا. قَالَ فِي نَفْسِهِ: «يَا لَهَا مِنْ جَبَانَةٍ رِعْدِيدَةٍ (شَدِيدَةِ الْخَوْفِ)!»
ثُمَّ لَفَّ جِسْمَهُ وَكَوَّرَهُ — قَبْلَ أَنْ تَأْخُذَهُ سِنَةٌ (غَفْوَةٌ) مِنَ النَّوْمِ — وَهُوَ يَقُولُ: «لَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّ «أُمَّ الصِّبْيَانِ» دَمِيمَةٌ (قَبِيحَةُ الصُّورَةِ). إِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُلْحِقَ بِي شَيْئًا مِنَ الْأَذَى.
إِنَّهَا بَلْهَاءُ نَؤُومٌ (كَثِيرَةُ النَّوْمِ). لَيْسَ لَهَا مِنْ عَمَلٍ تُؤَدِّيهِ — طُولَ وَقْتِهَا — سِوَى الْجُلُوسِ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْجَوْفَاءِ (الْفَارِغَةِ)، مُحْدِقَةً فِيهَا بِعَيْنَيْنِ لَا تَزَالَانِ تَطْرِفَانِ، وَلَا يَكُفُّ عَنِ الرِّعْشَةِ هُدْبَاهُمَا (الشَّعْرُ الَّذِي يَنْبُتُ فِي أَطْرَافِ الْجَفْنَيْنِ).
لَسْتُ أَرْتَابُ (أَشُكُّ) فِي أَنَّنِي أَسْرَعُ مِنْهَا عَدْوًا (جَرْيًا) وَأَوْفَرُ (أَكْثَرُ) نَشَاطًا. هَلْ فِي قُدْرَةِ هَذِهِ الْعَجُوزِ الْمِكْسَالِ (الشَّدِيدَةِ الْكَسَلِ) أَنْ تَسْبِقَنِي؟ كَلَّا، مَا أَظُنُّ ذَاكَ.
مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْهَرِمَةَ (الْكَبِيرَةَ السِّنِّ) إِلَّا عَاجِزَةً عَنِ الْحَرَكَةِ، بَلْهَ الْعَدْوَ (فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ السَّرِيعِ وَالْجَرْيِ)!»
(١٣) فِي عَالَمِ الْأَحْلَامِ
أَسْلَمَ عَيْنَيْهِ لِلْكَرَى (لِلنَّوْمِ). رَأَى — فِي مَنَامِهِ — حُلْمًا بَهِيجًا، لَمْ يَرَ أَجْمَلَ مِنْهُ طَوَالَ حَيَاتِهِ: وَجَدَ نَفْسَهُ فِي مَخْزَنٍ حَافِلٍ بِأَشْهَى أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ. رَأَى أَمَامَهُ أَكْدَاسًا مِنَ الشَّمَعِ وَالْجُبْنِ، وَهُوَ يَتَأَنَّى فِي الْمَضْغِ، وَيَتَذَوَّقُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا لَذَّ وَطَابَ.
كَانَ بَابُ الْحُجْرَةِ مُغْلَقًا.
لَمْ تَسْتَطِعْ «أُمُّ الصِّبْيَانِ» أَنْ تَنْفُذَ إِلَى «أَبِي دِرْصَانَ».
لَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَنْغِيصِ زَادِهِ الشِّهِيِّ، وَمَأْكَلِهِ الْهَنِيِّ.
رَأَى — فِيمَا رَأَى — أَنَّ «أُمَّ الصِّبْيَانِ» وَقَفَتْ خَارِجَ النَّافِذَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا.
حَاوَلَتِ الدُّخُولَ فَلَمْ تَسْتَطِعْ لِضَخَامَةِ جِسْمِهَا: وَقَفَتْ مُتَأَلِّمَةً حَسْرَى (مُتَوَجِّعَةً مُتَحَسِّرَةً)، تُحَاوِلُ أَنْ تَشْرَكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ زَادِهِ، دُونَ أَنْ تَظْفَرَ مِنْهُ بِطَائِلٍ (بِفَائِدَةٍ).
(١٤) حُلْمُ الْجَائِعِ
رَآهَا تَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ ضَارِعَةً أَنْ يُخْرِجَ لَهَا — مِنَ النَّافِذَةِ — وَلَوْ قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنَ الْجُبْنِ. لَكِنَّ الْجُرَذَ لَمْ يُجِبْ لَهَا شَفَاعَةً وَلَا رَجَاءً. أَصَرَّ عَلَى رَفْضِ مَا تَطْلُبُهُ فِي عِنَادٍ وَشَمَاتَةٍ.
مَا زَالَ الْجُرَذُ يُواصِلُ الْأَكْلَ مُتَأَنِّيًا (بَطِيئًا)، وَلَا يَكُفُّ عَنِ الطَّعَامِ إِلَّا لَحَظَاتٍ يَسِيرَةً، يَتَفَكَّهُ فِي خِلَالِهَا بِمُدَاعَبَةِ «أُمِّ الصِّبْيَانِ» وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهَا.
كَانَ يَرَاهَا — فِي مَنَامِهِ — وَهِيَ تُلِحُّ فِي الدُّخُولِ مِنَ النَّافِذَةِ الضَّيِّقَةِ فَلَا تَسْتَطِيعُ؛ فَتَتَمَثَّلُ لَهُ غَبَاوَتُهَا، وَيَتَخَيَّلُ أَنَّهَا بَلْهَاءُ، حَقُّ بَلْهَاءَ.
(١٥) فِي عَالَمِ الْيَقَظَةِ
اسْتَغْرَبَ (زَادَ فِي الضَّحِكِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ). تَمَادَى فِي فَرَحِهِ وَابْتِهَاجِهِ بِمَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ، حَتَّى أَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ.
انْقَضَى حُلْمُهُ، وَاسْتَخْفَى — عَنْ نَاظِرِهِ — الْمَخْزَنُ الْحَافِلُ بِمَا يَحْوِيهِ مِنْ جُبْنٍ شَهِيٍّ وَعَسَلٍ سَائِغٍ وَشَمَعٍ لَذِيذٍ!
وَاحَسْرَتَا عَلَيْهِ! كانَ مَا رَآهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ (أَخْلَاطَهَا).
تَأَوَّهَ مَحْزُونًا وَقَالَ: «يَا لَهُ حُلْمًا رَائِعًا بَهِيجًا!»
أَطْبَقَ عَيْنَيْهِ ثَانِيَةً. حَاوَلَ أَنْ يَسْتَعِيدَ الْحُلْمَ الْجَمِيلَ مَرَّةً أُخْرَى. لَكِنْ كَيْفَ يَتَسَنَّى لِلْحَالِمِ أَنْ يَسْتَعِيدَ — بَعْدَ الْيَقَظَةِ — مَا كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ جَمِيلِ الْأَحْلَامِ؟
(١٦) غُرُورُ الْحَمَاقَةِ
مَا لَبِثَ «أَبُو دِرْصَانَ» أَنِ اسْتَسْلَمَ لِلضَّحِكِ مَرَّةً أُخْرَى.
تَمَلَّكَتْهُ الْبَهْجَةُ مِمَّا ظَفِرَ بِهِ فِي نَوْمِهِ مِنَ السُّخْرِيَة بِأُمِّ الصَّبْيَانِ، وَالضَّحِكِ مِنْ بَلَاهَتِهَا!
إِنَّه لَغَارِقٌ فِي هَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ السَّارَّةِ، إِذْ دَوَّتْ (ارْتَفَعَتْ) — فِي الْفَضَاءِ — صَيْحَاتُ «أُمِّ الصِّبْيَانِ» وَهِيَ تَنْعَبُ (تَنْعَقُ) بِأَعْلَى صَوْتِهَا الْقَبِيحِ. مَا إِنْ سَمِعَ نَعِيبَهَا (نَعِيقَهَا) حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الضَّحِكُ مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ فَرْحَانَ مَسْرُورًا: «لَيْتَ شِعْرِي (لَيْتَنِي أَشْعُرُ وَأَعْلَمُ)! هَلْ تَعْرِفُ هَذِهِ الْعَجُوزُ الْبَلْهَاءُ: أَيُّ صَوْتٍ مُنْكَرٍ سَخِيفٍ يَنْبَعِثُ مِن فِيهَا (فَمِهَا)؟
أَلَا لَيْتَهَا تَعْلَمُ كَمْ يُسَلِّينِي هَذَا السُّخْفُ مِنْهَا وَالْهُرَاءُ! لَعَلَّ مِنَ الْبِرِّ بِهَا، وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْهَا (أُخْبِرَهَا) بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ الْغَالِيَةِ، وَأَنْ أُبَيِّنَ لَهَا حَقِيقَةَ أَمْرِهَا؛ حَتَّى يَتَأَكَّدَ لَهَا أَنَّ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا تُجْمِعُ عَلَى اسْتِهْجَانِهَا (كَرَاهِيَتِهَا) وَاسْتِنْكَارِ صَوْتِهَا.
يَا صِدْقَ مَنْ سَمَّاهَا: غُرَابَ اللَّيْلِ!»
(١٧) فِي خَارِجِ الْجُحْرِ
أَطَلَّ «أَبُو دِرْصَانَ» مِنْ جُحْرِهِ. أَبْصَرَ الْبَدْرِ لَا يَزَالُ يَتَأَلَّقُ (يُضِيءُ) فِي السَّمَاءِ، وَيَنْفُذُ نُورُهُ مِنْ خِلَالِ السُّحُبِ الْمُتَرَاكِمَةِ (الْمُتَجَمِّعَةِ) وَهِيَ تُسْرِعُ فِي جَرْيِهَا، فَلَا تَكَادُ تَسْتَقِرُّ فِي الْفَضَاءِ. لَمْ يَرَ الْجُرَذُ أَثَرًا لِأُمِّ الصِّبْيَانِ. ابْتَعَدَ عَنْ جُحْرِهِ قَلِيلًا. حَدَّقَ بِبَصَرِهِ فِي الْجَوِّ. لَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا يَخْشَاهُ.
كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ خَرَجَتْ — فِي أَثْنَاءِ نَوْمِهِ — لِبَعْضِ شَأْنِهَا.
لَمْ يَجِدْ مَنْ يَرْدَعُهُ وَيَكُفُّهُ (يَزْجُرُهُ وَيَمْنَعُهُ) عَنِ الْمُخَاطَرَةِ.
فَرِحَ «أَبُو دِرْصَانَ» بِمَا ظَفِرَ بِهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَتْ أُمُّهُ مِنَ الْجُحْرِ وَابْتَهَجَ. إنَّهُ سَيُحَقِّقُ مَا يَهْوَاهُ، دُونَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهَا مَا يَكْرَهُهُ — مِنَ اللَّوْمِ — وَيَخْشَاهُ.
(١٨) مُغَامَرَةٌ حَمْقَاءُ
اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الزَّهْوُ، وَتَمَادَى بِهِ الْغُرُورُ، حَتَّى أَنْسَيَاهُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، وَخَيَّلَا إِلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى بَيْتِ «أُمِّ الصِّبْيَانِ»، لِيَنَامَ فِيهِ، وَيُعْلِنَ لَهَا سُخْرِيَتَهُ بِهَا وَجْهًا لِوَجْهٍ.
أَصَرَّ عَلَى تَنْفِيذِ مُخَاطَرَتِهِ. تَلَفَّتَ حَوْلَهُ. لَمْ يَجِدْ لِلْبُومَةِ الْعَجُوزِ أَثَرًا. قَالَ مُتُوَعِّدًا، وَهُوَ يَكَادُ يَتَمَيَّزُ (يَتَقَطَّعُ) مِنَ الْغَيْظِ: «أَيْنَ أَنْتِ، يَا «غُرَابَ اللَّيْلِ»؟ أَيْنَ أَنْتِ، يَا «أُمَّ الصِّبْيَانِ»؟ أَلَا لَيْتَهَا تَجِيءُ إِلَيَّ! أَمَا لَوْ جَاءَتْ وَوَقَعَتْ عَلَيْهَا عَيْنَايَ لَقُلْتُ لَهَا: أَيَّتُهَا الْهَرِمَةُ الْعَجُوزُ ….»
(١٩) عَاقِبَةُ الطَّيْشِ
لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَاذَا كَانَ يُرِيدُ «أَبُو دِرْصَانَ» أَنْ يَقُولَهُ لِلْبُومَةِ: «أُمِّ الصِّبْيَانِ»؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، وَلَمْ يُتِمَّ جُمْلَتَهُ إِلَى الْآنَ.
أَتَعْرِفُونَ لِمَاذَا؟ لِأَنَّ مَا حَذَّرَتْهُ أُمُّهُ إِيَّاهُ قَدْ وَقَعَ: انْقَضَّ (سَقَطَ) عَلَيْهِ فَجْأَةً جَنَاحَانِ هَائِلَانِ، خَيَّلَا إِلَيْهِ أَنَّ جَبَلَيْنِ هَوَيَا عَلَى جِسْمِهِ الضَّعِيفِ.
أَحَسَّ كَأَنَّ عَاصِفَةً جَارِفَةً اكْتَسَحَتْهُ فِي طَرِيقِهَا، وَسَهْمًا مَارِقًا (نَافِذًا) شَكَّهُ فَانْتَظَمَهُ (شَمِلَهُ) فِي مِثْلِ لَمْحَةِ الْبَرْقِ الْخَاطِفَةِ.
أَنْشَبَتِ الْعَجُوزُ الْقَاسِيَةُ مَخَالِبَهَا الْصُّلْبَةَ فِي جِسْمِهِ الْغَضِّ؛ فَلَقِيَ مَصْرَعَهُ. كَانَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» بَعِيدَةً عَنْ وَلَدِهَا، فَلَمْ تَسْمَعْ صَرَخَاتِهِ الْحَزِينَةَ.
لَمْ يَكُنْ يَدُورُ بِخَلَدِهَا (لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهَا) هَذِهِ الْخَاتِمَةُ الرَّاعِبَةُ الَّتِي انْتَهَتْ بِهَا حَيَاةُ وَلَدِهَا الطَّائِشِ الْمَغْرُورِ.
(٢٠) هَلْ عَلِمَ الْبَدْرُ؟
عَادَتْ «أُمُّ الصِّبْيَانِ» بِفَرِيسَتِهَا إِلَى عُشِّهَا، حَيْثُ يَأْوِي صِبْيَتُهَا الثَّلَاثَةُ. ظَلَّ الْبَدْرُ يُرْسِلُ إِلَى الْكَوْنِ أَشِعَّتَهُ الْمُتَأَلِّقَةَ، وَيُشِيعُ ابْتِسَامَتَهُ الْعَذْبَةَ مِنْ خِلَالِ غُصُونِ الشَّجَرِ.
لَسْتُ أَدْرِي: هَلْ عَلِمَ الْبَدْرُ الْمُنْيرُ شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْمَأْسَاةِ؟ هَلْ شَهِدَ مَصْرَعَ «أَبِي دِرْصَانَ»؟ هَلْ أَصْغَى إِلَى أَنَّاتِهِ الْحَزِينَةِ وَهُوَ يُحْتَضَرُ؟ مَا أَظُنُّ هَذَا، أَيُّهَا الْأَهْلُ الْكِرَامُ!
إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ صَاحِبَنَا الْبَدْرَ الْمُنِيرَ، لَوْ عَلِمَ بِمَصْرَعِ «أَبِي دِرْصَانَ»، دُونَ أَنْ يَحْزَنَ لَهُ وَيَكُفَّ عَنِ ابْتِسَامَتِهِ الَّتِي لَا تُفَارِقُ صَفْحَتَهُ، لَكَانَ قَاسِيَ الْقَلْبِ.
لَكِنَّ الْقَمَرَ — كَمَا تَعْلَمُونَ — بَعِيدٌ عَنْ عَالَمِنَا الْأَرْضِيِّ.
لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ يَتَسَنَّى لَهُ — وَهُوَ بَعِيدٌ عَنَّا — أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَأْسَاةِ؟ تُرَى هَلْ يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْكُمْ غَيْرَ هَذَا؟
(٢١) خُطْبَةُ «الْخِرْنِقِ»
قَامَ أَرْنَبٌ ذَكِيٌّ فَتِيٌّ (صَغِيرٌ قَوِيٌّ) اسْمُهُ «الْخِرْنِقُ».
خَطَبَ الْحَاضِرِينَ قَائِلًا: «لَعَلَّ الْبَدْرَ كَانَ مَشْغُولًا — كَمَا عَهِدْنَاهُ دَائِمًا — بِإِنَارَةِ الطَّرِيقِ لِلسَّارِينَ (الَّذِينَ يَمْشُونَ بِالّليْلِ)؛ لِيَهْدِيَهُمْ سَوَاءَ السَّبِيلِ، لِلْوُصُولِ إِلَى غَايَاتِهِمُ الَّتِي يَرْجُونَهَا.
مَا أَظُنُّ الْبَدْرَ يَلْتَفِتُ إِلَى مَنْ يَعْصِي كَلَامَ أُمِّهِ، وَيَسْتَهِينُ بِنَصَائِحِهَا الْغَالِيَةِ. كَلَّا. مَا أَحْسَبُهُ يُعْنَى بِمَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِتَجَارِبِ غَيْرِهِ مِنْ كِرَامِ النَّاصِحِينَ.
(٢٢) ثَمَنُ الْعِنَادِ
لَوْ عَرَفَ «أَبُو دِرْصَانَ» كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنَ النُّورِ، لَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الْهَاوِيَةِ، وَنَجَا مِنَ التَّعَرُّضِ لِلتَّهْلُكَةِ.
مَا كَانَ لِلْبَدْرِ أَنْ يُضِيعَ وَقْتَهُ الثَّمِينَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى مِثْلِ «أَبِي دِرْصَانَ» الَّذِي لَمْ يَرْحَمْ نَفْسَهُ، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يُضِيعَ حَيَاتَهُ بِغُرُورِهِ وَجَهْلِهِ، وَتَمَادِيهِ فِي عِنَادِهِ، وَاسْتِهَانَتِهِ بِخَطَرِ عَدُوِّهِ الْبَاَطِشِ الْغَلَّابِ.»