الْفَصْلُ الثَّالِثِ
(١) رَائِدُ الْحَقْلِ
لَمَّا أَتَمَّ «الْخِرْنِقُ» كَلِمَتَهُ، وَقَفَ عَمُّكِ الذَّكِيُّ «رَائِدُ الْحَقْلِ» الَّذِي طَالَمَا كَشَفَ لَنَا لَذَائِذَ مِنْ ثِمَارِ الْحُقُولِ الْقَاصِيَةِ وَالدَّانِيَةِ.
رَوَى لَنَا قِصَّةً مُعْجِبَةً فَيَّاضَةً بِالْمَوْعِظَةِ وَالْحِكْمَةِ.
مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ — فِي حَيَاتِي — قِصَّةً أَجْمَلَ مِنْهَا.
لَوْ سَمِعَهَا وَلَدِي «أَبُو نَبْهَانَ» لَكَفَّ عَنْ عِنَادِهِ وَلَجَاجَتِهِ، وَلَمْ يَتَمَادَ فِي ضَلَالِهِ وَغَوَايَتِهِ.
لَكِنَّ أَمْرَ اللهِ نَافِذٌ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ.
(٢) الطَّائِعُ وَالطَّامِعُ
أَيُّهَا الْأَهْلُ الْكِرَامُ:
عَاشَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، أَرْنَبَانِ فُتَيَّانِ (صَغِيرَانِ قَوِيَّانِ)، اسْمُ أَحَدِهِمَا: «الْقَانِعُ»، وَلَقَبُهُ: «الطَّائِعُ» (اللَّقَبُ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يُنَادِيهِ بِهَا عَارِفُوهُ، لِأَنَّهَا تَصِفُهُ). وَاسْمُ الْآخَرِ: «الْمَانِعُ»، وَلَقَبُهُ: «الطَّامِعُ».
كَانَ الْأَوَّلُ يُطِيعُ أُمَّهُ وَيَسْتَمِعُ إِلَى نُصْحِهَا وَلَا يُخَالِفُ لَهَا قَوْلًا.
كَانَ يَقْنَعُ مِنَ الزَّادِ (الطَّعَامِ) بِالْقَلِيلِ. لَمْ يَكُنْ جَمِيلَ الشَّكْلِ؛ لَكِنَّهُ طَيِّبُ الْقَلْبِ. أَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ — عَلَى الْعَكْسِ مِنْ أَخِيهِ — لَا يُطِيعُ لِأُمِّهِ نُصْحًا، وَلَا يَقْبَلُ لَهَا رَأْيًا، كَمَا كَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ، لَا يَقْنَعُ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
(٣) نَصِيحَةُ الْأُمِّ
وَذَا صَبَاحٍ فَرَغَ الزَّادُ مِنْ جُحْرِ أُمِّهِمَا، فَقَالَتْ لِوَلَدَيْهَا: «إِنِّي ذَاهِبَةٌ لِإِحْضَارِ الطَّعَامِ لَكُمَا. لَنْ أَغِيبَ عَنْكُمَا إِلَّا قَلِيلًا. نَظّمْتُ لَكُمَا — بَعْدَ عَوْدَتِي — نُزْهَةً جَمِيلَةً. لَا تَبْتَعِدَا كَثِيرًا عَنْ جُحْرِكُمَا حَتَّى لَا يُصِيبَكُمَا ضَرَرٌ.»
فِي أَثْنَاءِ غِيَابِهَا لَعِبَا بِالْقُرْبِ مِنْ مَكْوِهِمَا (دَارِهِمَا) وَقْتًا قَصِيرًا.
لَكِنَّ «الطَّامِعَ» أَصَرَّ عَلَى الِابْتِعَادِ عَنِ الدَّارِ.
حَاوَلَ «الطَّائِعُ» أَنْ يُذَكِّرَهُ نَصِيحَةَ أُمِّهِ، وَيُحَذِّرَهُ الْانْفِرَادَ بِرَأْيِهِ. قَالَ لَهُ «الطَّامِعُ»: «لَنْ نَذْهَبَ بَعِيدًا. تَعَالَ مَعِي. لَنْ نُخَالِفَ نُصْحَ أُمِّنَا أَبَدًا!»
(٤) مِشَنَّةُ الْخَسِّ
ظَلَّ يُحَادِثُ أَخَاهُ وَيَقُصُّ عَلَيْهِ أَجْمَلَ الْقَصَصِ — وَهُمَا سَائِرَانِ — حَتَّى ابْتَعَدَا عَنْ مَكْوِهِمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرَانِ.
تَنَبَّهَ «الطَّائِعُ» إِلَى مُخَاطَرَةِ أَخِيهِ. قَالَ لَهُ خَائِفًا مُفَزَّعًا: «بَعُدْنَا عَنِ الْمَكْوِ (الْبَيْتِ)؛ فَلْنُسْرِعْ بِالْعَوْدَةِ حَتَّى لَا تَفْزَعَ أُمِّي، إِذَا عَادَتْ إِلَى مَكْوِنَا (دَارِنَا) فَلَمْ تَجِدْنَا.»
قَالَ «الطَّامِعُ»: «كَلَّا. لَا تَخَفْ. سَنَبْلُغُ الْمَكْوَ قَبْلَ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ أُمُّنَا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ. أَلَا تَرَى مَكْوَنَا (جُحْرَنَا) غَيْرَ بَعِيدٍ مِنَّا؟ لِمَاذَا تَجْزَعُ (تَخَافُ)؟ أَمَامَنَا زَمَنٌ طَوِيلٌ نَقْضِيهِ فِي اللَّعِبِ وَالسُّرُورِ. انْظُرْ إِلَى ذَلِكَ الْخَسِّ. مَا أَجْمَلَهُ وَأَشْهَاهُ! إِنِّي لَأَذُوبُ شَوْقًا إِلَى تَذَوُّقِهِ وَأَكْلِهِ.»
كَانَ الْخَسُّ فِي مِشَنَّةٍ تَرَكَهَا صَاحِبُهَا فِي الطِّرِيقِ، رَيْثَمَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْهُ لِطَبَّاخِ بَيْتٍ قَرِيبٍ.
أَسْرَعَ «الطَّامِعُ». أَقْبَلَ عَلَى أَكْلٍ الْخَسِّ فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ.
(٥) جَزَاءٌ عَادِلٌ
صَرَخَ فِيهِ «الْقَانِعُ»: «مَاذَا تَفْعَلُ؟ لَوْ رَأَتْكَ أُمُّكَ لَقَالَتْ عَنْكَ: سَارِقٌ!»
اِلْتَفَتَ إِلَيْهِ «الطَّامِعُ». كَانَ قَدْ أَتَى عَلَى الْخَسَّةِ الْأُولَى (أَتَمَّ أَكْلَهَا)، وَأَقْبَلَ عَلَى الْتِهَامِ الْخَسَّةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ: «أُمِّي لَمْ تُحْضِرْ لَنَا خَسًّا شَهِيًّا كَهَذَا مِنْ قَبْلُ؟»
مَا إِنْ أَتَمَّ «الطَّامِعُ» قَوْلَتَهُ (جُمْلَتَهُ)، حَتَّى طَوَّحَتْ بِجِسْمِهِ رَفْسَةٌ عَنِيفَةٌ، دَحْرَجَتْهُ كَالْكُرَةِ.
دَوَّتْ فِي أُذُنِهِ صَيْحَةُ غَضَبٍ، تَقُولُ مُتَوَعِّدَةً (مُنْذِرَةً مُخَوِّفَةً): «أَيُّهَا الْأَرْنَبُ اللِّصُّ، مَا أَجْدَرَكَ بِأَنْ تُذْبَحَ، وَتُسْلَخَ، وَيُطْبَخَ لَحْمُكَ!»
(٦) هَرَبُ الْأَخَوَيْنِ
لَعَلَّكُمْ عَرَفْتُم مَاذَا حَدَثَ؟
نَعَمْ! خَرَجَ صَاحِبُ الْخَسِّ مِنَ الْبَيْتِ.
أَبْصَرَ هَذَا الشَّرِهَ (الْحَرِيصَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْأَكْلِ) وَهُوَ يَسْرِقُ خَسَّهُ. غَضِبَ وَأَسْرَعَ يَهُمُّ بِمُعَاقَبَتِهِ.
هَرَبَ الْأَرْنَبَانِ. ظَلَّا يَعْدُوَانِ (يَجْرِيَانِ) وَلَا يَكُفَّانِ عَنِ الْوَثْبِ وَالْقَفْزِ، مَا وَسِعَهُمَا جُهْدَاهُمَا.
لَمْ يُصَبِ «الطَّامِعُ» بِضَرَرٍ كَبِيرٍ. لَكِنَّ الْخَوْفَ كَادَ يَقْتُلُهُ.
سَمِعَ الْأَرْنَبَانِ، وَهُمَا يَهْرُبَانِ، صَاحِبَ الْخَسِّ يَتَوَعَّدُ السَّارِقَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، قَائِلًا: «أَيُّهَا اللِّصُّ، مَا أَجْدَرَكَ بِالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ وَالطَّبْخِ!»
(٧) نَبَاتٌ غَرِيبٌ
مَا زَالَ الْأَرْنَبَانِ يَقْفِزَانِ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى حَقْلٍ مُخْضَرِّ النَّبَاتِ. كَانَ الْوَثْبُ قَدْ جَهَدَهُمَا (أَتْعَبَهُمَا) حَتَّى ضَاقَتْ أَنْفَاسُهُمَا، فَكَادَا يَخْتَنِقَانِ.
قَالَ «الطَّائِعُ» وَهُوَ يَرْتَعِدُ خَوْفًا: «تُرَى أَيْنَ بَيْتُنَا الْآنَ؟»
أَجَابَهُ «الطَّامِعُ»: «لَعَلَّهُ قَرِيبٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. سَنَبْلُغُهُ تَوًّا (فِي الْحَالِ). لَا تَنْزَعِجْ. لِنَسْتَرِحْ هُنَا قَلِيلًا حَتَّى يَخِفَّ أَلَمُ الرَّفْسَةِ، وَيَذْهَبَ أَثَرُهَا. اُنْظُرْ. مَا أَبْهَجَ هَذَا الْحَقْلَ!»
قَالَ «الطَّائِعُ»: «صَدَقْتَ. مَا أَغْرَبَ نَبَاتَهُ. مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي رَأَيْتُ نَبَاتًا مِثْلَهُ طُولَ حَيَاتِي!»
قَالَ «الطَّامِعُ»: «أَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ. أَمَّا أَنَا فَخَبِيرٌ بِهِ. إِنَّهُ نَبَاتُ الْبَقْدُونَسِ. أَمَا لَوْ ذُقْتَ هَذَا النَّبَاتَ اللَّذِيذَ لَشَكَرْتَ لِي أَنْ هَدَيْتُكَ إِلَيْهِ. تَعَالَ فَكُلْ مِنْهُ. أَنَا لَمْ أَرَ — فِيمَا رَأَيْتُ — مِثْلَهُ فِي الْازْدِهَارِ وَالنُّضْجِ وَالنَّمَاءِ. تَعَالَ مَعِي نَتَذَوَّقْ مِنْهُ شَيْئًا.»
قَالَ «الطَّائِعُ»: «كَلَّا. لَسْتُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ. لَسْتُ وَاثِقًا — يَا أَخِي — أَنَّهُ نَبَاتُ الْبَقْدُونَسِ الَّذِي تَظُنُّ. مِنَ الْخَطَإِ أَنْ نَأْكُلَ طَعَامًا لَمْ تَأْذَنْ لَنَا أُمُّنَا فِي أَكْلِهِ.»
ثُمَّ هَزَّ أُذُنَيْهِ الطَّوِيلَتَيْنِ مَحْزُونًا، وَقَالَ: «خَيْرٌ لَنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى الْبَيْتِ.»
قَالَ «الطَّامِعُ»: «الْحَقُّ مَا تَقُولُ. لَكِنْ يُؤْسِفُنِي أَنْ يَفُوتَكَ هَذَا الطَّعَامُ السَّائِغُ الشَّهِيُّ (الطَّيِّبُ الْهَنِيُّ). آهِ لَوْ تَذَوَّقْتَهُ مَعِي!»
(٨) مَرَضُ «الطَّامِعِ»
بَلَغَا الدَّارَ. رَأَيَا أُمَّهُمَا قَادِمَةً عَلَيْهِمَا.
قَالَ «الطَّائِعُ»: «أَقْبَلَتْ أُمُّنَا. هَلُمَّ (أَقْبِلْ) لِتَحِيَّتِهَا.»
أَجَابَهُ «الطَّامِعُ» بِصَوْتٍ خَافِتٍ: «اذْهَبْ أَنْتَ. إِنِّي مُتْعَبٌ قَلِيلًا. مَا أَحْوَجَنِي إِلَى الرَّاحَةِ.»
قَالَ «الطَّائِعُ»: «إِنَّ الْمَرَضَ لَيَبْدُو وَاضِحًا عَلَى سِيمَاكَ (مَنْظَرِكَ)، هَلْ تَشْعُرُ بِهِ؟»
قَالَ لَهُ أَخُوهُ مُنْزَعِجًا: «كَلَّا، لَسْتُ مَرِيضًا. إِنَّ الْأَرْنَبَ قَدْ يَتْعَبُ، دُونَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا! أَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، يَا أَخِي؟ لَا تَقُلْ لِأُمِّي: إِنَّنِي مَرِيضٌ!»
لَمْ يُجِبْهُ «الطَّائِعُ» بِشَيْءٍ، بَلْ ذَهَبَ إِلَى لِقَاءِ أُمِّهِ. بَقِيَ أَخُوهُ يَتَلَوَّى مُتَدَحْرِجًا مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجُحْرِ.
تَعَاوَنَ «الطَّائِعُ» مَعَ أُمِّهِ فِي حَلِّ حُزْمَةٍ مِنْ لَذِيذِ الطَّعَامِ أَحْضَرَتْهَا الْأُمُّ لِيَنْعَمَ بِأَكْلِهَا وَلَدَاهَا الْعَزِيزَانِ.
أَقْبَلَ «الطَّائِعُ» عَلَى هَذَا الطَّعَامِ الَّذِي يُحِبُّه حُبًّا جَمًّا (كَثِيرًا).
أَكَلَ مِنْهُ نَصِيبَهُ شَاكِرًا مَسْرُورًا.
حَاوَلَ «الطَّامِعُ» أَنْ يَأْكُلَ. لَمْ يَسْتَطِعْ. أَحَسَّ الْمَرَضَ: سَخَنَ حَتَّى كَاَد رَأْسُهُ يَحْتَرِقُ. اِنْتَظَمَ الْأَلَمُ جِسْمَهُ (شَمِلَهُ) كُلَّهُ. فَاضَ بِهِ الْأَلَمُ. لَمْ يُطِقِ احْتِمَالَهُ بَعْدَ هَذَا.
اِرْتَمَى عَلَى الْأَرْضِ مُتَقَلِّبًا صَارِخًا مِنْ قَسْوَةِ الْمَرَضِ.
(٩) النَّبَاتُ السَّامُّ
قَالَتْ أُمُّهُ مَحْزُونَةً مَشْدُوهَةً (مَدْهُوشَةً): «أَيُّ حَادِثٍ أَصَابَكَ، يَا وَلَدِي؟»
أَجَابَهَا: «إِنِّي أَشْعُرُ بِأَلَمٍ هُنَا — يَا أُمَّاهُ — وَهُنَا!.. إِنِّي أُحِسُّ كَأَنَّ وَحْشًا ضَارِيًا (مُفْتَرِسًا) يَعَضُّنِي وَيُمَزِّقُ أَحْشَائِي! آهِ. آهِ. آهِ!»
قَالَتْ لَهُ: «مَاذَا صَنَعْتَ فِي أَثْنَاءِ غِيَابِي؟ هَلْ أَكَلْتَ شَيْئًا! خَبِّرْنِي بِجَلِيَّةِ أَمْرِكَ (بِحَقِيقَتِهِ).»
اِصْفَرَّ وَجْهُ «الطَّائِعِ». قَالَ: «ذَهَبْنَا إِلَى حَقْلِ الْبَقْدُونَسِ.»
صَاحَ «الطَّامِعُ»: «إِنَّ «الطَّائِعَ» لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، يَا أُمَّاهُ! كَلَّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ قَطُّ. أَمَّا أَنَا فَأَكَلْتُ كَثِيرًا! آهٍ! أَيُّ أَلَمٍ أُحِسُّ! الْغَوْثَ يَا أُمَّاهُ. أَغِيثِينِي! الْعَوْنَ يَا أُمَّاهُ، أَعِينِينِي!»
قَالَتْ أُمُّهُ: «نَبَاتُ الْبَقْدُونَسِ! أَوَاثِقٌ أَنْتَ مِنْ أَنَّهُ نَبَاتُ الْبَقْدُونَسِ؟»
قَالَ «الطَّائِعُ»: «مَا أَظُنُّ ذَلِكِ، يَا أُمِّي. كَانَ قَرِيبَ الشَّبَهِ مِنْهُ. قُلْتُ لِأَخِي: إِنَّهُ نَبَاتٌ آخَرُ. شَمِمْتُ لَهُ رَائِحَةً غَيْرَ رَائِحَةِ الْبَقْدُونَسِ!»
صَرَخَتِ الْأُمُّ مَذْعُورَةً: «يِا لَتَعَاسَةِ هَذَا الْفَتَى الصَّغِيرِ! أَكَلَ نَبَاتَ الشَّوْكَرَانِ، وَهُوَ يَحْسَبُهُ نَبَاتَ الْبَقْدُونَسِ! يَا لشَقَاوَتِهِ! إِنَّهُ سَمٌّ قَاتِلٌ! رَبَّاهُ! كَيْفَ أَصْنَعُ؟ وَارَحْمْتَاهُ لَكَ، يَا وَلَدَاهُ! أَسْرِعْ — يَا «طَائِعُ». اسْتَدْعِ لَهُ الطَّبِيبَ!»
(١٠) آخِرَةُ «الطَّامِعِ»
كَادَ «الطَّامِعُ» يَغِيبُ عَنِ الْوُجُودِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ.
اِرْتَمَى بِلَا حِرَاكٍ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجُحْرِ.
كَانَتْ تَنْبَعِثُ مِنْهُ — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — أَنَّةٌ خَافِتَةٌ، أَوْ حَرَكَةُ رِجْلٍ، أَوْ خَلْجَةُ أُذُنٍ خَفِيفَةٌ.
ظَلَّتْ أُمُّهُ الْمَحْزُونَةُ وَاقِفَةً بِالْقُرْبِ مِنْهُ، تُحَاوِلُ أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ أَلَمِهِ دُونَ جَدْوَى (بِلَا فَائِدَةٍ)، وَتَتَرَقَّبُ حُضُورَ الطَّبِيبِ بِفَارِغِ الصَّبْرِ.
لَمْ يَسْتَطِعِ «الطَّامِعُ» أَنْ يَنْطِقَ — بَعْدَ هَذَا — إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. قَالَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مُتَأَوِّهًا، وَهُوَ يُحْتَضَرُ (حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ): «أَيُّ أَلَمٍ أُحِسُّهُ؟ الْغَوْثَ يَا أُمَّاهُ!»
•••
ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ (مَوْتُهُ)؛ فَهَمَدَتْ جُثَّتُهُ (أَصْبَحَتْ بِلَا حَرَاكٍ)، وَسَكَنَتْ نَأْمَتُهُ (سَكَتَ صَوْتُهُ).
صَاحَتْ أُمُّهُ مُتَفَجِّعَةً: «وَاحَرَّ قَلْبَاهُ! مَاتَ الطَّامِعُ!»