الفصل الرابع
(١) أَلَمُ الْجُوعِ
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ» لِبِنْتِهَا «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ»: «هَذِهِ — يَا عَزِيزَتِي — هِيَ الْخُطَبُ النَّفِيسَةُ الَّتِي أَبْدعَهَا خُطَبَاءُ الْحَفْلِ. فِيهَا — كَمَا تَرَيْنَ — نَصَائِحُ غَالِيَةٌ، يَجْدُرُ بِكُلِّ أَرْنَبٍ مُتَبَصِّرٍ أَنْ يَتَدَبَّرَهَا وَيَتَوَخَّاهَا، وَيَعْمَلَ بِهَا وَلَا يَنْسَاهَا.»
أَطْرَقَتْ «عِكْرِشَةُ» لَحْظَةً. بَدَتْ عَلَى وَجْهِهَا أَمَارَاتُ الْكَآَبَةِ (الْحُزْنِ) وَالْقَلَقِ.
سَأَلَتْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «فِيمَ تُفَكِّرِينَ يَا أُمَّاهُ؟»
قَالَتْ: «أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ لِأَبِيكِ وَإِخْوَتِكِ حَادِثٌ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ. الرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تَلْبَثِي (تَمْكُثِي) فِي مَكَانِكِ سَاعَةً حَتَّى أَخْرُجَ وَأَعُودَ. طَالَتْ غَيْبَتُهُمْ. سَأَرَى: فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ نَحْنُ الْآنَ؟ لَعَلَّ نُهُوضِي يُخَفِّفُ قَلِيلًا مِنْ أَوْجَاعِ سَاقَيَّ.»
قَفَزَتْ «عِكْرِشَةُ» فِي جُهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَصَلَتْ إِلَى حَافَةِ الْجُحْرِ. أَخْرَجَتْ أَنْفَهَا تَتَنَسَّمُ الْهَوَاءَ.
عَادَتْ إِلَى «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ» قَائِلَةً: «إِنَّ النَّهَارَ وَشِيكُ الطُّلُوعِ (قَرِيبُ الظُّهُورِ). مَرَّ بِنَا الْوَقْتُ سَرِيعًا. نَحْنُ لَاهِيَانِ بِقَصِّ الْحِكَايَاتِ. اشْتَدَّ بِيَ الْجُوعُ. أَصْبَحْتُ لَا أُطِيقُ الْبَقَاءَ بِلَا طَعَامٍ. هَلْ تُحِسِّينَ مِثْلَ مَا أُحِسُّ مِنْ آلَامِ الْجُوعِ؟»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «إِنَّ بِي مِثْلَ مَا بِكِ. لَكِنَّنِي لَمْ أَشَأْ أَنْ أَسْبِقَ أُمِّي بِالْقَوْلِ فِي هَذَا.»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ» وَهِيَ تُحَاوِلُ أَنْ تَظْفَرَ بِنَبَاتٍ تَقْضَمُهُ (تَكْسِرُهُ بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهَا وَتَأْكُلُهُ): «إِذَنْ فَلْنَقْضَمْ أَيَّ شَيْءٍ نَلْقَاهُ؛ لِيَظَلَّ فِي فَمِنَا، وَتَظَلَّ أَسْنَانُنَا تَلُوكُهُ زَمَنًا طَوِيلًا لِنَنْسَى آلَامَ الْجُوعِ، وَلِنَلْفِظْهُ بَعْدَ ذَلِكَ. لَعَلَّنَا نَظْفَرُ — بَعْدُ — بِمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ.»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «رَأَيْتُ — أَمْسِ — بَعْضَ الْحَشَائِشِ الْجَمِيلَةِ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرِ قَفَزَاتٍ مِنْ جُحْرِنَا. هَلْ تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَقْفِزِي مَعِي حَتَّى نَصِلَ إِلَيْهَا؟»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «سَأُحَاوِلُ إِمْكَانِي، يَا عَزِيزَتِي. هَلُمِّي بِنَا.»
(٢) فِي الْغَابَةِ
نَهَضَتْ «عِكْرِشَةُ» مُتَثَاقِلَةً. وَصَلَتْ إِلَى فُوهَةِ الْجُحْرِ (فَمِهِ). وَقَفَتْ لَحْظَةً مُفَكِّرَةً مُنْصِتَةً، شَأْنُ الْأَرَانِبِ الرَّشِيدَةِ الْمُتَبَصِّرَةِ. أَخْرَجَتْ فَاهَا (فَمَهَا) قَلِيلًا، ثُمَّ أَعَادَتْهُ مِنْ فَوْرِهَا.
صَبَرَتْ قَلِيلًا. أَخْرَجَتْ فَاهَا ثَانِيَةً — بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهَا — وَأَدَارَتْهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَهِيَ تُجِيلُ بَصَرَهَا (تُدِيرُ نَظَرَهَا) فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ.
وَثِقَتْ مِنَ السَّلَامَةِ. خَرَجَتْ مِنْ جُحْرِهَا.
سَارَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» فِي أَثَرِهَا.
قَفَزَتْ «عِكْرِشَةُ» قَفَزَاتٍ قَلِيلَةً. خَارَتْ قُوَاهَا (ضَعُفَتْ). عَجَزَتْ عَنْ مُتَابَعَةِ السَّيْرِ. وَقَفَتْ مُتَأَلِّمَةً. قَالَتْ مَحْزُونَةً لِبِنْتِهَا «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ»: «جَهَدَنِي الْمَرَضُ. اشْتَدَّ بِي النِّقْرِسُ (وَجَعُ الْمَفَاصِلِ). أَعْجَزَنِي عَنِ الْمَشْيِ. لَا بُدَّ لِي مِنَ الرَّاحَةِ — زَمَنًا قَلِيلًا — حَتَّى أَسْتَعِيدَ نَشَاطِي، وَأَسْتَرِدَّ قُوَّتِي عَلَى السَّيْرِ. اذْهَبِي أَنْتِ. إِنِّي لَاحِقَةٌ بِكِ بَعْدَ قَلِيلٍ.»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «كَلَّا، يَا أُمِّي. لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُعْجِلُنَا. اسْتَرِيحِي كَمَا تَشَائِينَ. ثُمَّ سِيرِي الْهُوَيْنَى (امْشِي عَلَى مَهَلٍ) وَلَا تَتَعَجَّلِي.»
شَكَرَتْ «عِكْرِشَةُ» لِبِنْتِهَا حُبَّهَا وَأَدَبَهَا.
اِسْتَأْنَفَتَا السَّيْرَ (بَدَأَتَا الْمَشْيَ بَعْدَ الْوُقُوفِ). وَصَلَتَا إِلَى الْغَابَةِ.
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ» وَهِي تَقْضَمُ الْحَشَائِشَ الْيَابِسَةَ (تَكْسِرُهَا بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهَا، وَتَأْكُلُهَا): «مَا أَلَذَّ هَذَا الْبَقْلَ وَأَشْهَاهُ!»
سَأَلَتْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» وَقَدِ اسْتَسَاغَتْهُ (اسْتَعْذَبَتْهُ وَاسْتَحْلَتْ أَكْلَهُ)، وَأَقْبَلَتْ تَقْضَمُهُ فِي ابْتِهَاجٍ وَفَرَحٍ: «مَا اسْمُ هَذَا الْبَقْلِ الشَّهِيِّ، يَا أُمَّاهُ؟»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «اسْمُهُ: الْهِنْدِبَاءُ. هُوَ — فِيمَا سَمِعْتُ مِنْ جَدِّي — خَيْرُ دَوَاءٍ يَشْفِي الْمَعِدَةَ مِنْ أَمْرَاضِهَا وَآلَامِهَا. صَدَقَ جَدِّي. إِنِّي كُلَّمَا أَكَلْتُ هِنْدِبَاةً وَاحِدَةً مِنْ هَذَا الْهِنْدِبَاءِ الْكَثِيرِ، شَعَرْتُ بِنَشَاطٍ عَجِيبٍ. يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّنِي رَجَعْتُ إِلَى شَبَابِي الْآنَ.»
ابْتَهَجَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ». اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْفَرَحُ. قَفَزَتْ حَوْلَ أُمِّهَا مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ وَهِيَ تَقُولُ: «يَا لَسَعَادَتِي وَهَنَائِي! كُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّكِ عَلَى وَشْكِ الشِّفَاءِ (أَنَّ الْبُرْءَ قَرِيبٌ مِنْكِ، سَرِيعٌ إِلَيْكِ)، مَا دُمْتِ تَشْعُرِينَ بِلَذَّةِ الطَّعَامِ، وَتُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهِيَّةِ الْعَجِيبَةِ.»
(٣) «ابْنُ وَازِعٍ»
لَكِنَّ فَرَحَهَا لَمْ يَطُلْ. حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحِسْبَانِ.
كَفَّتْ «عِكْرِشَةُ» عَنِ الطَّعَامِ. وَقَفَتْ عَلَى قَدَمَيْهَا. رَفَعَتْ أُذُنَيْهَا الطَّويلَتَيْنِ. ضَرَبَتِ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهَا بَغْتَةً.
اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الرُّعْبُ. صَاحَتْ مَذْعُورَةً: «اِنْجِي بِنَفْسِكِ، يَا صَغِيرَتِي. آهِ … أَسْرِعِي بِالْفِرَارِ … إِنَّهُ «ابْنُ وَازِعٍ» بِعَيْنِهِ.. رَبَّاهُ … هَلَكَنْاَ جَمِيعًا!»
لَمْ تَكُنْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» قَدْ رَأَتْ — فِي حَيَاتِهَا — كَلْبًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. أَيْقَنَتْ أَنَّ ذَلِكَ — بِلَا شَكٍّ — عَدُوٌّ خَطِرٌ شِرِّيرٌ. لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فَزِعَتْ أُمُّهَا لِرُؤْيَتِهِ.
صَاحَتْ «عِكْرِشَةُ» مَرَّةً أُخْرَى: «إِلَى الْجُحْرِ … إِلَى الْجُحْرِ، يَا عَزِيزَتِي. لَا تُعْنَيْ بِأَمْرِي … أَسْرِعِي، يَا صَغِيرَتِي. إِنِّي أَسْمَعُ نُبَاحَ «ابْنِ وَازِعٍ» الْخَبِيثِ … أَظُنُّهُ يَقْتَرِبُ … أَسْرِعِي! … أَسْرِعِي!»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِكِ وَحِيدَةً. هَلُمِّي مَعِي، يَا أُمِّي الْعَزِيزَةَ. اعْتَمِدِي عَلَيَّ هَكَذَا … تَشَجَّعِي، يَا أُمَّاهُ. إِنَّ الْجُحْرَ مِنَّا قَرِيبٌ.»
جَاءَ الْكَلْبُ نَابِحًا عَادِيًا (مُسْرِعًا فِي الْجَرْيِ) فِي مِثْلِ سُرْعَةِ الرِّيحِ.
أَسْرَعَتْ «عِكْرِشَةُ» فِي سَيْرِهَا، عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا. لَكِنَّ «زَهْرَةَ الْبِرْسِيمِ» تَوَسَّلَتْ إِلَيْهَا أَنْ تُضَاعِفَ مِنْ سُرْعَتِهَا.
قَالَتْ لَهَا وَهِيَ تُشَجِّعُهَا: «هَلُمِّي … أَسْرِعِي، يَا أُمَّاهُ. لَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إِلَّا قَفْزَتَانِ … وَصَلْنَا. شُكْرًا لِلهِ عَلَى نَجَاتِنَا مِنْ ذَلِكِ الْخَطَرِ الدَّاهِمِ.»
(٤) بَعْدَ الْعَوْدَةِ
كَانَ الْجُهْدُ وَالْإِعْيَاءُ (التَّعَبُ وَالْكَلَالُ) قَدْ أَضْنَيَا «عِكْرِشَةَ» (جَهَدَاهَا وَهَزَلَا جِسْمَهَا). ارْتَمَتْ فِي جُحْرِهَا خَائِرَةَ الْقُوَى. بَقِيَتْ سَاكِنَةً لَا حِرَاكَ بِهَا. جَزِعَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ». اشْتَدَّ خَوْفُهَا عَلَى أُمِّهَا. حَسِبَتْهَا مَاتَتْ. صَاحَتْ مَذْعُورَةً: «أُمِّي! … أُمِّي!»
فَتَحَتْ «عِكْرِشَةُ» الْمَرِيضَةُ عَيْنَيْهَا. اطْمَأَنَّتْ عَلَيْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ». أَسْرَعَتْ إِلَيْهَا تَلْحَسُ جِسْمَهَا مُتَوَدِّدَةً مُتَلَطِّفَةً.
لَمْ تَلْبَثْ «عِكْرِشَةُ» أَنِ اسْتَعَادَتْ قُوَّتَها، وَرَجَعَتْ نَشَاطَهَا.
(٥) مُطَارَدَةُ الْكِلَابِ
سَأَلَتْهَا «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «أَيُّ عَدَاءٍ وَخُصُومَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكِلَابِ؟ مَا بَالُهَا تُطَارِدُنَا عَلَى غَيْرِ جَرِيرَةٍ (دُونَ ذَنْبٍ، وَبِلَا جَرِيمَةٍ) أَسْلَفْنَاهَا، وَلَا إِسَاءَةٍ قَدَّمْنَاهَا؟»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «إِنِّي قَاصَّةٌ عَلَيْكِ — يَا عَزِيزَتِي — سَبَبَ مُطَارَدَةِ الْكِلَابِ إِيَّانَا. أَلَا تَعْرِفِينَ النَّاسَ؟
لَقَدْ أَرَيْتُكِ وَاحِدًا مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ السَّالِفَةِ.
مَا أَحْسَبُكَ نَسِيتِ ذَلِكَ الْعِمْلَاقَ (الطَّوِيلَ جِدًّا) الَّذِي يَمْشِي مُسْتَوِيًا عَلَى سَاقَيْنِ، كَمَا يَمْشِي الْأَرْنَبُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَظَرَّفَ فِي مِشْيَتِهِ.
حَدَّثَنِي أَبُوكِ أَحَادِيثَ طَرِيفَةً عَنِ الرِّجَالِ وَالْكِلَابِ. لَقَدْ عَاشَ مَعَهُمْ وَمَكَثَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ — كَمَا أَخْبَرْتُكِ — رَدَحًا مِنَ الزَّمَنِ (وَقْتًا طَوِيلًا).
(٦) لَحْمُ الْأَرْنَبِ
عَلِمْتُ مِنْهُ مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ. هَلْ تَعْرِفِينَ مَاذَا يَطْعَمُ النَّاسُ؟»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «لَعَلَّهُم يَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ، وَالسَّعْتَرَ، وَالْبِرْسِيمَ، وَمَا إِلَيْهَا مِنْ حَشَائِشِ الْأَرْضِ!»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «كَلَّا، يَا عَزِيزَتِي! النَّاسُ لَا يَأْكُلُونَ الْحَشَائِشَ الَّتِي نَأْكُلُهَا. لَكِنَّهُمْ يَطْعَمُونَ لُحُومَ الْحَيَوَانِ.
تَأَكَّدَ لِي — مِمَّا قَالَهُ أَبُوكِ «الْخُزَزُ» — أَنَّ لَحْمَ الْأَرَانِبِ هُوَ أَفْخَرُ طَعَامٍ عِنْدَهُمْ. أَلَمْ أُحَدِّثْكِ أَنَّ أَبَاكِ «الْخُزَزَ» هَرَبَ مِنْ بَيْتِ زَارِعٍ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَرْنَبًا مَذْبُوحًا؟»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «ذَكَرْتُ الْآنَ ذَلِكِ الْحَدِيثَ الْغَرِيبَ!»
(٧) كَلْبُ الصَّيْدِ
اسْتَأْنَفَتْ «عِكْرِشَةُ» قَائِلَةً: «لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَالِقَةِ (الطِّوَالِ جِدًّا) سَاقَانِ طَوِيلَتَانِ. لَكِنَّهُمْ — عَلَى سُوقِهِمُ الطَّوِيلَةِ — لَا يَسْتَطِيعُونَ الْجَرْيَ فِي مِثْلِ خِفَّتِنَا.
لَوِ اقْتَصَرَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكِ، لَعِشْنَا وَادِعِينَ آمِنِينَ، فِي الْخَلَاءِ مُسْتَرِيحِينَ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَمَالِقَةَ يَسْتَعْدُونَ عَلَيْنَا (يُثِيرُونَ وَيَهِيجُونَ) خَدَمَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ الْأُخْرَى الَّتِي تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ.
هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ يَرْتَادُونَ (يَقْصِدُونَ) الْأَرَاضِيَ الْمُؤَرْنَبَةَ (الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْأَرَانِبُ): يَشَمُّونَ رَائِحَتَنَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
يُسْرِعُونَ إِلَيْنَا — عَدْوًا (جَرْيًا) — حَتَّى يَظْفَرُوا بِنَا، فَيُقَدِّمُونَا إِلَى سَادَتِهِمُ الْأَنَاسِيِّ لُقَمًا سَائِغَةً.
«ابْنُ وَازِعٍ» — ذَلِكِ الْكَلْبُ الَّذِي رَأَيْتِهِ بِعَيْنَيْكِ — هُوَ خَادِمٌ مِنْ خَدَمِ أُولَئِكِ الْعَمَالِقَةِ.
إِنَّمَا اخْتَارُوهُ لِصَيْدِنَا وَالْفَتْكِ بِنَا، لِمَاَ وَهَبَهُ اللهُ مِنْ قُدْرَةٍ عَجِيبَةٍ عَلَى السِّبَاقِ وَالْعَدْوِ. أَعَرَفْتِ السِّرَّ فِيمَا حَدَثَ لَنَا مَعَهُ الْيَوْمَ؟»
قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «أُوه! فَهِمْتُ كُلَّ شَيْءٍ، يَا أُمِّي. لَسْتُ أَكْتُمُ مَا بَعَثَهُ «ابْنُ وَازِعٍ» مِنَ الرُّعْبِ فِي قَلْبِي، حِينَ دَوَّى (عَلَا وْاشْتَدَّ) نُبَاحُهُ الْمُفْزِعُ فِي أُذُنَيَّ.»
(٨) جِلْدُ الْأََرْنَبِ
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ» وَهِيَ تَلْحَسُ شَعْرَ ابْنَتِهَا الْأَبْيَضَ الْجَمِيلَ: «حَدَّثْتُكِ أَنَّ النَّاسَ يَطْعَمُونَ لَحْمَنَا. هَلْ عَرَفْتِ، يَا «زَهْرَةَ الْبِرْسِيمِ»، مَاذَا يَصْنَعُونَ بِجِلْدِنَا — مَعْشَرَ الْأَرَانِبِ — بَعْدَ أَنْ يَأْكُلُوا لَحْمَنَا الشَّهِيَّ؟ إِنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْ جِلْدِنَا — كَمَا يَتَّخِذُونَ مِنْ جِلْدِ ابْنِ عَمِّنَا «الْأَرْنَبِ الْبَرِّيِّ» — قَلَانِسَ (أَغْطِيَةً لِرُءُوسِهِمْ) فِي الشِّتَاءِ، فَيَتَّقُونَ بِهَا بَرْدَهُ الْقَارِسَ (الْقَوِيَّ الْعَنِيفَ).»
غَضِبَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» قَائِلَةً: «يَا لَهُ نَبَأً هَائِلًا، يَا أُمَّاهُ! فَلْنَحْمَدِ اللهَ عَلَى أَنْ مَنَحَكِ أُذُنَيْنِ سَمِيعَتَيْنِ لَوْلَا يَقَظَتُكِ وِانْتِبَاهُكِ، لَأَصْبَحْنَا فِي قَبْضَةِ أُولَئِكِ الْعَمَالِقَةِ.»
قَالَتْ «عِكْرِشَةُ»: «إِنَّهُمْ — لِفْرَطْ إِعْجَابِهِمْ بِجَمَالِ فَرْوِنَا — يُطْلِقُونَ عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِمْ اسْمَ: الثِّيَابِ الْمَرْنَبَانِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلِطُونَ غَزْلَهَا بِشَعْرِنَا.»
(٩) هَدِيَّةُ «الْخُزَزِ»
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، سَمِعَتَا ضَجَّةً كَبِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنْ مَكْوِهِمَا (الْجُحْرِ الَّذِي تَسْكُنُهُ الْأُسْرَةُ الْأَرْنَبِيَّةُ)؛ فَعَلِمَتَا أَنَّ الْأُسْرَةَ قَادِمَةٌ إِلَيْهِمَا مِنْ رِحْلَتِهَا … وَقَدِ اسْتَقْبَلَتَاهَا — حِينَئِذٍ — فَرَأَتَا أَمَارَاتِ الْفَرَحِ بَادِيَةً عَلَى وَجْهِ «الْخُزَزِ» وَأَوْلَادِهِ.
قَرَّ قَرَارُهُمْ. قَالَ «الْخُزَزُ»: «مَا كَانَ أَسْعَدَهَا لَيْلَةً، وَأَلَذَّهُ طَعَامًا! لَقَدْ جِئْتُكُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الْبِرْسِيمِ، لِتُشْرِكَانَا فِي هَذَا الطَّعَامِ السَّائِغِ الْهَنِيءِ.»
خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
حَدَّقَ «الْخُزَزُ» فِيهِمَا بُرْهَةً (زَمَنًا طَوِيلًا)، ثُمَّ قَالَ مَذْعُورًا: «يَلُوحُ (يَظْهَرُ) لِي أَنَّ حَادِثًا أَلَمَّ بِكُمَا؛ فَإِنِّي أَرَى أَمَارَاتِ الْحُزْنِ مُرْتَسِمَةً عَلَى وَجْهَيْكُمَا!»
قَصَّتْ «عِكْرِشَةُ» عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَادِثَ الرَّاعِبَ الْمَرْهُوبَ الَّذِي عَرَضَ لَهُمَا.
كَانَتِ الْأَرَانِبُ الصِّغَارُ جَالِسَةً تُنْصِتُ إِلَى حَدِيثِ «عِكْرِشَةَ» — فِي صَمْتٍ وَدَهْشَةٍ — وَآذَانُهَا مُنْتَصِبَةٌ مُمْتَدَّةٌ إِلَى الْأَمَامِ، وَأَذْنَابُهَا مُرْتَفِعَةً.
لَمَّا انْتَهَى حَدِيثُ «عِكْرِشَةَ» أَقْبَلَ عَلَيْهَا بَنُوهَا وَبِنْتاها يَلْحَسُونَ أَعْيُنَ أُمِّهِمُ الْعَجُوزِ الرَّءُومِ، وَأُخْتِهِمُ الصَّغِيرَةِ الْجَمِيلَةِ «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ».
محفوظات
أُمُّ الصِّبْيَانِ
قَالَتْ:
قَالَ لَهَا التَّابِعَانِ: