المرحلة الأولى
(الظلام إلى الشدة. فدا وهادي، ثم زينة يبدون كأنهم خيالات. يسمع النظارة خاتمة
حوار.)
فدا
(لهادي)
:
هادي! قم بنا.
هادي
:
أرحل والحياة لا تزال تعانقني؟
فدا
:
قم! كلٌّ ذاهب. كل يعود.
هادي
:
لكن الموت يرصدني في شباك هذه المغامرة.
فدا
:
حسبُك أن تكون سلكت في الطريق … هادي! أن تهجرَ الخيمة بعد أن غلْغلتِ الصحراءُ
في فؤادك، ذلك عودٌ من مطرحٍ سحيق.
هادي
:
إن القشور التي كنتُ نفضتُها عني، بين يديك، رجعتْ هذه الليلة تتألَّب عليَّ،
وتشلُّني … أراني، كما كنت، أخشع لحركات الناس، أرضى بها جاريةً على نسقٍ هو هو،
يومًا بعد يوم: تزوِّر ما أشاهد، تيبِّس ما أحسُّ، حتى تراكبت فجأةً سدًّا بين
البصر والبصيرة، (مهْلة) خبِّرني، أستاذي: لماذا
تألبت القشور من جديد؟
فدا
:
أنتَ نفضتَها، ولم تَفقد قطرة دم. (يخرج).
زينة
(تأتي من الجهة المقابلة، لهادي)
:
بالله لا تذهب معه، عسى أن يَعدل، عسى … فأنت لك حظٌّ من قلبه. أنا؟ يا
حسرتي.
هادي
:
مهلًا، زينة! ألمحُ فيه شرارة حبٍّ لك.
زينة
(في تأسُّف)
:
حبُّه لي … هل استطعت أن أثيره؟ هل تهزُّ النسمة معبدًا من رخام؟ تنوح، تموت عند
عتبته. (تخرج. هادي يتبعها. صمت).
(الصبح يتنفس، القيثاري يجتاز المهاد في بطء، وهو يرسل على الأوتار
ائتلافات فرحة تتسرع شيئًا فشيئًا. صمت. في حين يغمر النور الجبل يتفق الفلاحون إلى قلب
المهاد. القوَّال يلحق بهم نشِطًا.)
القوَّال
(مشيرًا إلى الجبل)
:
ها هي ذي العالية، سِتُّنا (الجمع يحدُّون أبصارهم إلى
الجبل) ساعةُ استحمامها: تَغطُّ لأنفها وصدرها وساقها في غُلَواء
الشمس.
الفلاح الأول
:
ما أظرفَها! تتمطَّى بعد كل غطَّة، (للفلاح
الثاني) انظر بالله! انظر! لها حَدَبة ترتعش، متعاظمةً، تدري أنها في
ملكٍ عزيز.
الفلاح الثاني
:
يا سلام! كيف تتموَّج تحت اللهب، آه! مستودَع لذة.
الفلاح الثالث
:
غَوطُهُ لا يُجسُّ.
الفلاح الأول
:
لا يُجسُّ أبدًا … وا أسفا! هل يجرؤ أحد أن ينغز الحدبة، بعد التجربة التي عاناها
الكسيح، والأعمى؟
الفلاح الثاني
:
يُقال إنها مأوى لجنس من الطير، رءوس نسور وأجسام وطاويط.
الفلاح الأول
:
متى همَّ الفجر تسابقَ الطير في لعق أطرافها.
الفلاح الثالث
:
سِتٌّ، أيُّ ست!
الفلاح الثاني
:
أخْ. لو يُفضُّ هذا المستودع …
الفلاح الثالث
(للقوَّال)
:
فماذا يا ريِّس؟
القوَّال
:
النعيم … جيلًا بعد جيل تناقل أجدادنا هذه الهمسة: (في
خفوت) هنالك، في جوف الحدبة، مغارة غامضة، ترفرف فيها نفحة البقاء،
منذ القدم، حين استسلم الخلق لجهامة الموت، هوى من أفواه السماء طيف مجنَّح، نَقَر
المغارة بظُفرٍ من ذهب، ثم غرس في صُلبها عشبًا أبيض، قصيرًا، معسول الورق، مَن أكل
منه وهو ندٍ في منبته تملَّى الحياة إلى الأبد … السماء تستهوي الخلق أبدًا وتارةً
تغويهم … ألا مَن يسلب النفحة؟
الفلاح الثاني
:
وهي للنسور غذاء! أف، أف …
القوَّال
:
منذ القدم نَفَثها ملائكة دُهاة، هل سلبها أحد؟ (يضحك) أنْ نرضى بحرمان دائم، ذلك حظنا. (في وجوم) نُمنع الحياة، ومن المنَّاع؟ سِتُّنا.
الفلاحون
(في تجرؤ مكبوت)
:
وتخدعنا.
القوَّال
(يستقبل الجبل. في انفجار)
:
هذا يومُكم؛ لا يومَ سواه طول السنة. المحظور مستباحٌ فيه، لكم أن تحدقوا إلى
العلياء. هيَّا! تحدَّوها بقوة جديدة مستلَّة من تعظيمكم لها، بِرَشقات العيون،
اليوم، عوِّضوا شهورًا ضاعت تقديسًا لها، ضاعت وعَزَماتكم مُطرِقة، ما أثقلَ
النعاسَ الذي ركب أجفانكم! (يشير إلى الأرض)
السهل كله فزَّ هذا الصباح؛ وقد نفَّش خدودَه شوكُ الغضب … أين صراخكم؟ (الفلاحون يصرخون ويركضون هنا وهنا) هذي انتفاضة
المكبَّل! يومٌ ولا يوم سواه … (بينما الفلاحون يدورون
حول حقل السنابل كأنهم عصبة من أهل الغابات في موسم) لِنَضربنَّ الأرض
بجراحاتنا، لعلنا ندفن تحت هدي السنابل، ما تبقَّى من همَّة دمنا، نحن العبيد.
هلمُّوا إلى الفرح، نحكُّ بزَبَده خَتمَ العذاب في أعناقنا! هذا عيدكم يا عرائس،
زفَّها استهزاءُ الموت، (يكف الفلاحون عن
الدوران).
الفلاح الأول
:
واه! هذا السهل …
الفلاح الثاني
:
أمِنْهُ غذائي أم أنا الذي يغذِّيهِ؟
(الفلاحون يتناظرون في ارتباك.)
القوَّال
(ينشد)
:
وَغَدِيرٍ رَمَى بِدَمِي
عِنْدَ حَقْلٍ مِنْ الفِتَنِ
نُزْهَةُ الأَرْضِ مِنْ سَقَمِي
أَنَا أُسْطُورَةُ الزَّمَنِ
عِنْدَ حَقْلٍ مِنَ الفِتَنِ
رَفُّهُ خِفَّةُ النِّعَمِ
عَزَّ نَشْوَانَ مِنْ مِحَنِي
هُوَ يَحْيَا وَلِي عَدَمِي
نُزْهَةُ الأَرْضِ مِنْ سَقَمِي
مِنْ غَرَامِي بِمُمْتَهِنِي
أَمَلِي مُضْغَةُ النَّهَمِ
لَفَّنِي الخَصْبُ فِي كَفَنِي
أَنَا أُسْطُورَةُ الزَّمَنِ
تَاجُ وَهْمٍ مِنَ الهِمَمِ
ضَيْفُ رَوْضٍ بِلَا فَنَنِ
غَرِدٌ فِي دُجَى الصَّمَمِ
أَنَا أُسْطُورَةُ الزَّمَنِ
(الفلاحون حول حقل السنابل يتمايلون، وهم يرددون في نوبة واحدة هذا
الشطر: «أنا أسطورة الزمن»، الإمام يدخل، تتبعه الطائفة الأولى من اللفيف، الفلاحون
يلزمون السكوت.)
الرجل الأول
(في وسط اللفيف)
:
آن لهذا اليوم أن يحل، لِنَلْتَهمْ ساعاتِه، يَلَّا!
الإمام
:
اضحكوا، غنوا، ولكن حذار حذار: إنَّ تحررتم لحظةً فاتقوا ما وجبت حُرمتُه … إياكم
وحنقَ القويِّ.
القوَّال
:
هاه، هاه! هذا يومنا. حق أو غير حق؟ (الفلاحون يوافقون
بإطراق الرءوس وهم يترنحون في صمت) هل يَحسن الترددُ والموت في لفتة
الطريق؟ سوف نقطع رقبة الحرمة.
الرجل الثاني
:
الاستمتاع بالمحرَّم … يا حلاوة! مثلَ زوجة الجار؛ تتستَّر، تتمنع، وعلى غفلة
ترمي الملاية.
الإمام
:
هي! هي! حدقوا إلى العلياء كيفما شئتم، أمَّا أنْ تُشنِّعوا عليها فلا، (في شبه تكتم) هل نسيتم أنها حامل إلى الأبد؟ في
حضنها سرُّها.
المرأة الأولى
(في وسط اللفيف)
:
حامل؟ لا تقل هذا يا شيخ، فال الله لا فالك. (تلتفت إلى
النساء وهي تتحسس بطنها).
أصوات رجال
(في قلق)
:
سرها …
(الفلاحون يحدقون إلى العلياء.)
القوَّال
(في شبه غيظ)
:
سرها.
(ذهول شامل. الطائفة الثانية من اللفيف تدخل ورجالها يحملون
زينة.)
الطائفة الثانية
(في دخولها)
:
ارقصي يا زينة.
الطائفة الأولى
(مستقبلة زينة)
:
آ. ارقصي.
(زينة تحجم، تغريها الطائفتان بحركات، وليات من طرائق
الرقص.)
القوَّال
:
كيف؟ تُحجمين عن الرقص؟ في هذا العيد الفريد؟ الآن أنتِ، أنت البرق يتنزَّى فيمزع
غيم اليأس، قبل أنْ يدبَّ على جباهنا ضبابُ سنة كاملة. إيهِ، رشيقةً صاولي الرياح،
فتترنَّح معك صباباتٌ لنا زائلةً … ها هو ذا الخلاء، ديوانُ الخطرات الشوارد،
سلِّطي أنامل هفهافة تترسَّل فيه، عسى أن تنقل من مُلح اللُّمَح رهافات المسرَّة …
وهذا الصعيد، شرَّابُ الدماء، دعي جَلَبةَ البدن تقرعه، وعلى وجه الحقل تضوَّري
فاقذفي زفراتنا.
اللفيف
:
ارقصي زينة. ارقصي.
زينة
:
لا أقدر على الرقص.
المرأة الأولى
:
يا دلال، يا دلال …
المرأة الثانية
(للأولى)
:
ربما أجهدتْ خصرَها في الليل.
المرأة الثالثة
:
قرصة من هنا، قرصة من هنا، وهي ترقص.
(ضحك. هادي يدخل ويمضي نحو زينة.)
زينة
(تنتظر إلى هادي كأنهما على اتفاق)
:
أرقص والقلب مثقل؟
القوَّال
:
مثقل، اليوم؟
زينة
:
إنه ذاهب.
أصوات
(في اللفيف)
:
من؟
زينة
:
حبيبي.
المرأة الثالثة
:
حبيبها … آه! يا لطافة الكلمة.
المرأة الأولى
:
كنت أظن صنف الأحباب نَفد، وقتنا ذا هَمُّ الرجال نطٌّ وضغط.
(النساء يسترسلن في الضحك، زينة لا تبالي.)
الإمام
:
إلى أين ذاهب؟
(زينة تجلي ببصرها حتى ذروة العالية.)
الإمام
(حنقًا)
:
إيه؟
زينة
:
أجل، كان الليل يلملم نجومه حين رأيته يبري طرف عكازه، (ترنو إلى هادي) أما رأيته أيضًا؟
(هادى يوافق بإشارة.)
القوَّال
(في جدٍّ فائق)
:
رجل يصعد.
الفلاحون
(في قلق)
:
رجل يصعد.
الإمام
:
كلا!
أصوات
(لزينة)
:
ارقصي.
الإمام
(لزينة)
:
هيَّا ارقصي، لن يصعد.
(زينة تنظر إلى الأمام مرتابة في قوله.)
الإمام
:
وَعدتُ. (للرجل الأول) في وهمها أني أمنع
حبيبها من الصعود مرضاةً لها.
(ضحك مكبوت من جانب الرجال، زينة تشرع في «رقصة السنابل» على ثقل في
الحركات. موسيقى ذات أنغام هائجة.)
المرأة الثانية
(وزينة ترقص)
:
عجيب! هذه المرة أين خفَّتها؟