المرحلة الثانية
(بينما زينة ترقص في شبه عناء إذ يبدو فدا من بعيد. يقف لحظةً، ثم يدنو غير حافل بما
يدور
حوله، الجمع يتفرسون فيه وقد ملكتهم بوادر رهبة. زينة تُؤْخذ ثم يُشْرِق وجهها؛ فتخط
حركات
في خفة باهرة، على حين تصبح الموسيقى علويةً منزهةً عن كل سبب جسماني، زينة تقارب فدا
فتنحني، فدا يرفعها برفق. هادي يلحق بهما. القوَّال يتجه إليهم. اللفيف يحيطون بهم …
الموسيقى تنقطع. زينة تقف في الصف الأول لكي تحض الإمام بلحاظها، ولكن في تحفظ.)
الإمام
(لفدا)
:
يا رجل! لا تصعد.
فدا
:
أنا صاعد.
الإمام
:
يا رجل! تلك خطيئة.
(فدا يرشق الإمام ببصره.)
الإمام
:
الليل راصد لأبهة الشمس، القحط يتوعد مرح الأرض، الموت يُحصي على الإنسان ضحكاته،
هكذا الكون ترتِّبه أسوارُ القدر.
فدا
:
تعذِّبهُ … أسوار: تخومٌ مرتجلة، مفازع ساجية، سرعان ما تنهار إذا رُجِمِت خلسةً
بنظرة، لا نظرةٌ من حدقة جُنَّت بغبار السنابل، ولكن من حدقة حرَّة، هي للروح
طاقة.
الرجل الثاني
:
عجرفة!
فدا
:
إنما تواضعكم استرخاء.
الإمام
:
كيف لا نُذعِن للقضاء؟ هل من حيلة معه؟
فدا
(على شفتيه بسمة)
:
آه … ذاك الحبل المحبوك! انسلَّ من لحى مشعوذين (يتفرس
في الإمام) سدَّت ألاعيبهم معارج الصدق. (إلى اللفيف) ركنتم إلى الحبل، تشدونه على رقابهم بأظفارٍ ربَّاها
صبرُ أقزام.
الإمام
(مستهزئًا)
:
أمَّا أنت فتستهين بقهر الآلهة … (يصيح)
تجرُّؤ على تجريحهم.
فدا
:
بل أنطلق بهم إلى ما يجاوز إرادتكم، وهي مُسِفَّة، ترونهم أصحاب جبروت يكبحون كل
إقدام، والحق أنهم لا يُسبغون النعم إلا على من يهجر إليهم فيطاولهم.
الإمام
:
ويلك يا سبَّاب، يا مجدِّف!
(اللفيف يضطربون. الفلاحون يقتربون من فدا.)
فدا
:
من واجهَ مطلعَ الغيب يستقبل فضاءً ماجَ باللمحات، سأواجهه، عنكم … لعلَّ بحر
مطامحنا يجيش، بعد أن وَدَعت ريحُه فيئستْ قلاعُ الأحلام أن تصطفق (مهلة) القدر: الإعصارُ نفسُه، يزمجر فيجرف البشر
إلى كوثر الرجاء. أنتم، ويلي عليكم منبطحين هنا، يهدهد أردافكم نسيمٌ يحبو. (في انفجار) أين الإعصار؟
الإمام
:
هذا السهل يكفينا.
فدا
:
يا له من شاهد على بلاهة السهولة. (في سرعة)
وبهِ مع هذا كبرياء لم تلقَ بعدُ عقابها.
الفلاحون
(في تحفظ)
:
آه (يتضامون).
(القوَّال يحدق إلى فدا.)
الإمام
:
اسخرْ من السهل ما شئت. هاه! اعلم أنَّ جهاته الأربع مقسمة على أحسن نظام،
محدَّدة، لكي نحيط بها لا نحتاج أنْ نهيم مع فلتات الهذيان، هذيانِك: يهرول، يجعجع
ولا يُجدي، أما نحن فنمشي؛ ولا نتسكع، إلى غاية مبيتها أسفل الجبل.
أصوات
(في اللفيف)
:
عالْ، عال.
فدا
:
خطأ! ما دامت السماء ترقبنا فليس الوجود سوى اندفاق، ينبوعه وجدان، في تموج وتوثب
… ما دامت السماء ترقبنا.
الإمام
:
تكفر بالله وتستوحي السماء، يا أخرق؟
(ضحك من جانب اللفيف. القوَّال يتقدم كأنه يتحدى.)
فدا
:
تذكر الله، أنت، أنت، سجانُ شريعةٍ تَقلص وجهُها؟
الإمام
:
يا ملحد! (اللفيف يصرخون) إلى من تجري ركعاتنا
ورفعات أيدينا وزمزمات الشفاه؟
فدا
:
إلى العالية، حيث الله غير موجود.
الإمام
(عينه إلى الذروة)
:
ألا تتوجها آية الألوهة؟ (مقطعًا)
الأبد.
(اللفيف يوافقون.)
فدا
:
ما أسرعكم في فك الألغاز! هل يستوي الموجود والموهوم؟
(اللفيف يتساءلون، الفلاحون في شدة، القوَّال يبتسم ابتسامة رضى،
هادي له بصر منسرح في الفضاء، زينة تتراجع.)
الإمام
:
أصبحنا لا نفهم كلامك.
فدا
:
هذه العالية شغلٌ أَكل ألبابكم.
(اللفيف والفلاحون يتفحصون الجبل، القوَّال يتنحى قليلًا. زينة
وهادي يتفرسان في فدا.)
القوَّال
(يشير إلى العالية)
:
مدارجها لا تنتهي! هل خطَّتها أماني الفقير؟ شواهقها تخدش السحاب كالشهوات عضت
بالغني.
هادي
:
وقرنها رمحٌ ركزه ربٌّ جبار. أي ثأرٍ يطلب يا تُرى؟
فدا
:
لا. لا! على الرمح … ها هي ذي … ها دموعٌ تصبَّبت (مهلة
في همس) يا لَحزن هذا الرب، شق عليه عجز الخلق عن إدراكه، أما من أحد
يرحل فيمسح الرمح بنقاوة قبلة، فينجلي العار؟
زينة
(مفجوعة)
:
يرحل فيستقبله الموت.
فدا
(نظرة إلى الفضاء)
:
لا يموت من شط به الصعود.
الإمام
:
تفخيمُ قدْر البشر تهوينٌ لقدرة الله.
فدا
(في وثبة)
:
لا، بل تزيكة لها، (مهلة) هذه العالية جسمُها
فتنكم.
الإمام
:
شعثاء، جرداء، هي السلطانة، أجل — ما عدا هذا اليوم — لا تلفُّتَ إليها إلا
والأكف مفروشة فوق الحواجب، نلمحها خفيةً … على أنها ترعانا أحسن رعاية: في الليل
تصد الزعازع، فتركب أحلامُنا أراجيح النزق، في النهار تحدُّ سعينا هجمةُ
سفحها.
(اللفيف يوافقون.)
فدا
:
كذلك أنتم، لا بدَّ لكم أن تجثموا في ظل شيء هائل متماسك، يتطاول فيهددكم بالسحق،
وإلا لفَّتِ القسوة قلوبكم، فهاج الشرُّ بكم.
(القوَّال يدنو إلى فدا يريد أن يتجرع ألفاظه. هادي يتجلى جبينه.
زينة تجمع كفيها على وجهها. الإمام محنق وقد أصاب كلامُ فدا مقتلًا منه. اللفيف
يغمغمون. الفلاحون يحاولون أن يتتبعوا حديث فدا.)
فدا
:
الجبن قيَّدكم بحضيضها، ولا تزالون بعيدًا عنها، أمَّا أنا فسرها حائم
حولي.
القوَّال
:
سرها.
فدا
:
ما يعجزنا شأنه خليق أن يوسِّدنا الأرق، أما الذعر فلا.
(اللفيف يضطربون.)
فدا
:
هذا الكون — قِممه ولُججه — مُصحف، حروفه صُبَّت في سبائك من غيوم، تصونه درع من
ياقوت ولؤلؤ … ذلك سحر الخلق … وأبصاركم بزخرف الدرع تتلهى عن خطر المكنون.
الإمام
:
إنَّ سِرَّها مِلك لها.
فدا
:
ملك للحياة.
الإمام
:
الحياة ليست لنا.
(فدا يتحدى اللفيف ثم يبتعد. هادي يتبعه. القوَّال يمشي إليهما، ثم
يقف. زينة تريد أن تبكي. الأعمى يدخل حاملًا الكسيح.)
أصوات
(لفدا)
:
يا رجل! لا تصعد.
فدا
:
إني صاعد.
(زينة لها إشارة مرتجفة. الكسيح والأعمى في شغل بال.)
الإمام
(يلحق بفدا)
:
تريد أن تغزو ربوة الخلد، أيُّ شيء أعددت، قل لي: (في
تحقير) أهذه الفورة، تشحذها رشة دم في صدر بشر؟ هَهْ!
فدا
:
ذخيرة الجنَّة نَضحاتٌ من وَلَه الشهداء.
الإمام
:
هل تغلِب سلطان الشرائع؟
اللفيف
(في استكانة)
:
الشرائع …
(الفلاحون يطرقون.)
الإمام
:
صخور رسخت … أنت تحتقرها، وترفع رعونتَك هباءً، علينا أن نستعصم به، حتى تستبد
بنا، بالكون.
فدا
:
أستبد بكم؟ يا لي من افترائك! الاستبداد بالعشيرة من فجور المستهتر بالسيادة
وسفهِ الفاشل المتعالي؛ اذبحوهما حيثما كانا. (مهلة) مستبد بالكون؟ هذا فرضٌ على من يسعى إلى الخروج من ذل نفسه …
الكون مبذول لنا، ليست أنفاسنا رعيةً له هينةً، أمَّا رِواقه المشحون بتزاويق العبث
فلا يطمئن تحته إلا تثاقل في الجسد.
المرأة الأولى
(للثانية)
:
هي، أتحسين أنت أنَّ جسمك ثقيل؟
المرأة الثانية
:
لا. (تتحسس صدرها وخصرها).
المرأة الثالثة
(للثانية)
:
لحظة. أساعدك. (تساعدها على التحسس).
المرأة الأولى
(للرجل الأول)
:
وأنت، أين المساعدة؟
الرجل الأول
(يبسط يديه)
:
حسِّس، حسس، حسس … كم سنة! ذابت يدي يا أختي.
المرأة الأولى
:
آه يا خاين! (تُوليه ظهرها).
الرجل الأول
(يتأمل ظهرها)
:
ولو! (يرفع رأسه منكرًا)
(اللفيف يضحكون.)
فدا
(غير حافل بالضحك)
:
لنجعلنَّ الياقوت واللؤلؤ نهبةً سهلةً … لن تنفد لأن ضمائركم قلَّما يتحرك
نهمُها. (مهلة) إنَّ الأغلال التي أَحْكَمتم
تذهيبها تليق بمن رفع بصرًا سرعان ما يطيش فينكسر، ومعه ينكسر العطش
الخفيُّ.
(الإمام ساخط. بعض اللفيف يجمجمون. الفلاحون في ارتباك لا يخلو من
استحياء. القوَّال له ابتسامة مكتومة. هادي وزينة طوعُ شفتي فدا. الكسيح والأعمى
يقتربان.)
فدا
:
هذه العالية، هذه التهمت نُزهةَ لحظي، وكم يحلو لي أن أرنو إليها، ذات صباح،
فأهمس في كهوفها: الآن لا أخشى طلاسم سحرك. إنَّ سرك زار الأرض … لما انتزعتُه من
ضلعك وعُدت به أُرسله في دورة دَفَقاتي فجاشت بعد إعياء. (مهلة) الآن بعد أن تناظرنا وتصاولنا، أنا الفائق الفائز: إذا كنتِ
يومًا صاحبة السر، إن كنت حتى اليوم صاحبته، فأنا الذي ينعم به. (مهلة) هنالك في العلياء عرفتِ كيف تلقَفين
الممتنِع، فظللتِ تلوَّحين به، من وراء ضباب، حتى شل عبيدك، ها هنا، مطروحين تحت
جاهٍ لا يرحم … أنا، في قدرتي اليوم أن أجرِّد الممتنع من صَلفه فأفضحه في ساحة
الواقع.
(هادي والقوَّال والفلاحون ينظرون فدا معجبين. الكسيح والأعمى
يطوفان به. زينة مزعزعة. اللفيف مضطربون.)
الإمام
(يعاود هجومه مشيرًا إلى الكسيح والأعمى)
:
ولكن هذا الكسيح وهذا الأعمى، أتزدري قصتهما؟ العبرة يا رجل.
هادي
:
هما من معشر غير معشره.
الإمام
(لفدا)
:
هما، قبلك، جذبهما الصعب فذهبا في طلبه، حتى قربا من العشب الأبيض وربما اقتطفاه.
(بين الكسيح والأعمى حديث بالإشارة) أتحسس
هذا مما يدور بينهما من إشارات غريبة، غائمة، تعال، تأمل فيهما: (يومئ إلى الكسيح) هذا نصيبه قدمان عصفت بهما رِعدة
الجزع … من الذي لا ينهدُّ وقد حرر الوقت الذي يحتويه من قيد الفلك المقدور؟ حتى إن
كان الوقت أقصر من ومضة وهم، (مهلة يومئ إلى
الأعمى) أمَّا هذا فأصبح نظره لا يدور إلا في انحلاله الباطن.
هادي
(معقبًا)
:
آه من الشمس! تقتل من حيث تريد أن تحيي. ألهبت المغارة حتى إنها أطفأت
العين.
فدا
(متممًا)
:
رَضيتِ العين بالصهد، بذكرى مبتورة، فاتتها الحقيقة التامة، فتفرق ضوءها لطول ما
تردد بين ما كان وما يكون.
الإمام
(لفدا)
:
ألا ترى إلى كل منهما، نقَّب في جهة تفوت مرمى الظن، وخاب، لا يعلم أحد: آلموت
يستهزئ بهما أم يستهزئان به؟ (الكسيح يضحك، الأعمى
يبكي) كلاهما يتمم صاحبه منذ رجعا: هذا يضحك، هذا يبكي، وكلاهما أليف
الصمت، فإذا افترقا عجز كلٌّ على حِدَته أن يستمرئ النقيضين في مأدبة
الدنيا.
القوَّال
:
خبطتهما الهواجس، فتطوحا جنبًا إلى جنب في سراب الغبطة. (يلتفت إلى فدا) هل أفلحا؟ (للفلاحين) ونحن، نحن نتهافت بين أزهار الفناء، هل أفلحنا؟
فدا
(يقبل على الكسيح والأعمى)
:
هما ركضا إلى القدسي. أنا، على مهل، أفرش في الطريق إليه نفثاتِ الرُّقية. إنَّ
الكأس التي زخرت بجمر الإيمان نبت عنهما، أبت نهشة الشهوة لما أقبل كلاهما يكبس
الشفتين على ثغرها؛ رجاءَ أنْ يضرم الضلوع، تحت ستر الليل بدفقة واحدة … جفِّ العشب
الأبيض في تلك اللحظة. (مهلة) أما أنا فسوف
أهزهز الكأس على خطراتِ ولهي، ثم أترشف نسيمَ أُنسها وقد سطع فيه شذا الومض؛ فندى
العشب بالرضا. (صمت. يمشي إلى اللفيف) كذلك شأن
المرأة. ما رغبتكم إليها؟ (زينة تخِفُّ إليه)
أنْ تُحسن الترفيه عنكم … أنا، في فورة حنان، أَلويها تحت همتي أستودعها غليل
الشوق، فيصبح طوع يدي يوم أطلبه للسبب الخطير، ألويها فأسلُّ منها رعشة الوجد،
وأرسل مكانَها حرَّ عزمي يستسلم لها بريئًا.
(زينة تتأمل فدا مأخوذة.)
المرأة الثانية
(لفدا)
:
يا مجرم!
فدا
:
إي والله، لا أجد مروءتي إلا حين أجد همتي قادرةً على حياة غيري. (اللفيف يزمجرون) تفهموا ما أقول، إنما تنشط حياتي
عندما أقدُر حياة غيري حق قدرها، من أي وجهٍ أقدرها إذا هي امتنعت عليَّ؟ (الأعمى يقبل ويدور حول فدا حاملًا الكسيح. زينة بين إعجاب
وفزع) … لا بدَّ لي من حياة غيري (مضطربًا)؛ لأن حياتي لا تخضع لي؛ عمياء هي تخط رحلتي في مدار الأرض،
فتدفعني واثقةً بأني أُراضيها. نعم، أراضيها، كيف أجرؤ عليها فأنتقم: (في بطء) من لطخ يديه بدم داس حماه، خان سلاحه، بكف
باغية يضرب القرحة التي تمزق جنبه، تقزُّزًا من نفسه، كراهةً للبشرية … لا يقتل
نفسه إلا من تفقَّد حياته فانفلت من ضغطها، ولست كذلك، حياتي بين يديَّ، ولكنهما لا
تسعانها.
الرجل الأول
:
ما أحلى الحياة! سيل دافئ.
المرأة الثانية
(بالتذاذ)
:
دافي.
الرجل الثاني
(للمرأة الثانية)
:
تعترفين الآن (يتيه غرورًا وهو يُمرُّ أنامله على
ذراعها).
فدا
(كأنه لم يسمعهم)
:
الحياة فياضة، وا لهفي! كيف أحصرها كلها في أحشائي. (مهلة) هل أُسمِّر شطِّيها في لوح الأحكام والسنن؟ هذا هو الجبن! هل
ألقي بها إلى حرج النفس أو إلى رزانة العقل يتصرفان بعنفوانها؟ يا للخيانة! الحرج
يهرب من العقبة، الرزانة تأباها … لتتحررْ شهامة الرجل. (اختلاج شامل. هادي والقوَّال في تفكر. زينة تتنحى حَصِرة الصدر) إني
صاعد لأستخلص عمري من براثن العدم، فتنجو ساعات ليلي ونهاري. قُبِّحت هذه الساعات!
لحظاتٌ يتنازعها تميُّع الأفراح وتفه الأحزان. سوف أرجع من القمة وأنا أتحكم في
شحنة الحياة، أَصرفها إلى غاية، ومن قبل راحت ضياعًا: النفَس؟ أحدُّ مداه، الجسد …
أقمع طغيانه، أما ضنائن الصدر فهذه أنشلها هفافةً من مخدعها، أمَّا الروح — تلك
التي حِرتم فيها — فلن تتلوَّى أبدًا، تكون قد ملِصت من ضنك الشك … إني
صاعد.
(زينة ترتعش. الإمام ينظر إليها مغلوبًا على أمره.)
زينة
:
والمهالك؟ كيف تتخطاها؟
القوَّال
(معقبًا)
:
وقد ابتكرها الموت — عدونا — نصبها فَخًّا فخًّا.
فدا
:
الهاوية، الصدع، المطلع المطمع، المسقط الخادع، كل هذه يسوِّيها نظرٌ تصوبه النية
الخالصة … مساءً بعد مساء، سأُلقي إليكم، عند شجر البرتقال، بحجر أبيض ينبئكم
بسلامتي، ويوم أتحدر إليكم — ناسكًا طاف بزوايا الغيب — سوف تطيحون عند قدمي، وكأني
الآن تطن في مسمعي صرخاتكم، تلتفون عليَّ وتسألونني أن أفتك بهذا الكسيح وبهذا
الأعمى؛ لأنهما فتشا وقلبهما خِلوٌ من اليقظة.
(الكسيح والأعمى لهما حركات مختلجة بين ضحك وبكاء خفيفين،
يخرجان.)
فدا
:
إني صاعد.
(الإمام يمضي إلى زاوية مهزومًا. الرجال يلحقون به. هادي ينتبذ
ناحيةً طلبًا للتأمل. الفلاحون يخرجون. القوَّال يتبعهم.)
زينة
(تسرع إلى فدا، في صوت مجروح)
:
لا!
(فدا يتصفح وجه زينة منعطفًا إليها، ثم يهم بالانصراف.)
زينة
(توقف فدا بحركة مرتعدة، حديثها ينم على اضطراب، تمد
يديها)
:
ها بين يديك الهبة، كاملة صادقة. (للنساء وقد أخذن
يلتففن عليها إشفاقًا) هل ينفع المكر بعد أن محا قحط القلب فنون
الجذب؟ محا حتى أهون الأكاذيب. (لفدا) ما بيدي
حيلة. عبثًا تتَّقد الخلجات (في خفوت) تتحرى
مطالع بُرجك.
فدا
(ينفي بأصابعه)
:
يا ضيعة الهبة إذا تخلت نفسٌ عن جوهرها في سبيل نفس أخرى. (مهلة) ما المطالبة بالتخلي سوى استجداء، من ورائه
ظلم وأثَرة؛ ظلم رب، ظلم عاشق، أثرة الضعيف.
زينة
:
لا أملك غير الهبة دليلًا.
(النساء يتضاممن حول زينة.)
فدا
:
لا يحتاج إلى دليل إلا من حمل رأيًا يثقله التصلب، أنا أحمل قلبي، فما شأني
والدليل؟
(الإمام من بعيد يهز كتفيه تهكما.)
زينة
:
ما أستطيع إلا أن أهب.
فدا
:
صدقت.
المرأة الثانية
(لزينة)
:
غلبتِه يا زينة.
زينة
(مسرورة لفدا)
:
إذن ترى رأيي.
فدا
:
هبي نفسك لنفسك، هي لك أولًا. (النساء يتناظرن
مبهوتات) لا تعظم الهبة ولا تنجع إلا إذا وافقت معدن الذي يتقبلها …
هذا ضارب القيثار يفد علينا وقد تنسَّم الأحاديث من أفق إلى أفق فيقول: هنالك إله
لم يرضَ إلا بلحم ابنه ودمه قربانًا. (مهلة)
الفورة التي في جنبك عجلي كسرها، ثم قدمي فُتاتها ضحيةً إلى الوثبة التي تشغلك …
الشمس تحترق لتنثر الشعاع.
زينة
(مخلصة)
:
ما عليَّ إذا جمعتُ بين الفورة والوثبة؟
فدا
:
ألا تميزين حدَّة البصر من صفوه؟
الإمام
(يقهقه)
:
هل سمعتم؟ (ساخرًا) يا ناس، قوموا ميزوا حدة
البصر من صفوه.
الرجل الثاني
:
تخريف! (للمرأة الثانية) تعالي (تقبل إليه تمد وجهها، يُقبِّل ما بين عينيها) لا
أجد ما أميِّز.
أصوات رجال
:
انزل!
الرجل الثاني
(يضرب بخفة على ساقي المرأة)
:
والساق واحدة.
أصوات رجال
:
والبصر واحد.
زينة
(تستشير بالنظر صواحبها وهن مفحمات. تفكر هنيهةً
كالمغتنمة)
:
سأجتهد في كسر الفورة.
فدا
:
تجتهدين؟ الحرص آلة الاجتهاد، والحرص لا ينفع هنا … هيهات أن ينكشف ما بين حدة
البصر وصفوه إلا للجسارة التي تترفق. ينكشف سرًّا، عفوًا، فيندفع سهمًا رشيقًا من
معاقل المعرفة إلى ناحية يتفرغ فيها الواقع من الأثقال ويتنزه السعي عن التكلف،
هنالك بمعزل عن الخطوط الواضحة المستقيمة، كالتي تحبس هذا السهل في جهات أربع:
قصرًا طوقوه بالمرمر الزائف.
الإمام
:
ها، ها! كلنا قد فهمنا.
أصوات رجال
:
كلنا. كلنا.
الرجل الأول
(ساخرًا)
:
هذا والله حكيم.
زينة
(مشغولة بوجدها. لفدا)
:
ألا ترى إلى شوقي كيف يجيش؟
فدا
:
للشوق رسالة: أنْ يَحزَّ ولا يكف … إذا استرسل المراد صدئ القلب.
(الرجال من بعيد يرفعون أكتافهم تهكمًا. هادي يخرج من خلوته
ويقترب.)
المرأة الأولى
(مستهزئةً)
:
عظيم!
زينة
(للمرأة الأولى)
:
ما شأنك؟ حديثه لي.
المرأة الأولى
:
طيب. طيب. ماذا قلت؟
المرأة الثانية
(للأولى)
:
خليها في حالها. عشقت مجنونًا.
المرأة الثالثة
(للثانية)
:
عِشقُ المجنون … يا عيني. يا عين. من يدري كيف تطيش الهزَّات بجنبه؟
المرأة الأولى
(للثالثة)
:
أما كفاك أزواجك؟ ستة يا أختي، واحد ورا واحد، وكلهم فتوة.
المرأة الثالثة
:
مروا كالماء على بلاطة. بس يا حبيبي، الزوج عرفناه.
المرأة الثانية
:
وراء هذه التلة عاشرت رجالًا من نار.
المرأة الثالثة
:
هؤلاء شعراء، لا رجال.
(زينة تظل مرتبكةً في أثناء الحوار السابق. ترفع إلى فدا عينًا يجول
فيها عتاب. فدا يرثي لها صادقًا في صمت.)
زينة
(في ضنى)
:
آه! (تمشي إلى هادي كأنها تستنجد به).
(هادي له حركة انعطاف.)
فدا
:
عجيب. أن تهبي نفسك لي أهون عليك من أن تهبيها لنفسك.
زينة
:
لا أجدُني إلا ساعة أهيم في طلبك، أتعقب طفراتك وهدآتك.
فدا
:
ظِلٌّ يلزمني، ما نفعه؟
(زينة تحار منهدة.)
فدا
(في رفق)
:
هل أجرُّ ميتة؟
زينة
:
جُرَّها. إن الهوس الدائر في سمائك لكفيل بأن يبعثها.
فدا
:
الحياة لا تأتي من الخارج.
زينة
:
الورد يحييه الماء.
فدا
:
يفتِّحه، لا أكثر.
المرأة الأولى
(لفدا)
:
ترهقها. ألفاظك خناجر.
زينة
(لنفسها)
:
ودِرعي الفريدة، بل ثروتي الفريدة هي هذه السلسلة من الحسرات.
(فدا لا يحفل بكلامها. هادي ينظر إلى زينة في مواساة.)
زينة
(تجعل يدًا محتشمةً على صدرها)
:
ها هو ذا يبكي. (في خفوت) يصيح.
فدا
:
القلب لا يبكي، لا يصيح … يُذعن أو يَحرن … يَضيق بالصخب وبه يذل. لا تجد الصرخة
مسربًا إلى سمعي، وأنتِ يحسن بكِ — في يومٍ آتٍ — أنْ تطوي حديث الوجدان فينبض في
الضمير رَفَّةً من رفَّات حياتك، دعيه هنالك نازحًا سارحًا تحت خمائل الحنان.
(في خفوت) الجهر به تدنيس له.
المرأة الثانية
(لفدا)
:
قل ما تشاء، هي لا تملك غير هذه الخفقات.
زينة
(تعيد يدها إلى صدرها. لفدا)
:
استمع إليها (صمت. في تضرع) استمع.
فدا
:
مهما أستمع … (له حركة نافية بلا غلظة)
يُثقلها التكلف، كيف لها أن تراسل أنغام خاطري.
زينة
:
هل في لوعتي تكلف؟
فدا
(في شدة)
:
أراك تبحثين عن دليل.
زينة
:
أطلبه من أجلك، آه! أُقنعك أني لك، بالرغم مني … بالرغم منك.
فدا
:
بالرغم من الحب.
المرأة الأولى
:
ما شاء الله! يلفظ كلمة الحب.
المرأة الثانية
:
يا أسفي، شاعر! ولم يخطر ببالي.
(النساء يأخذن في الضحك. الرجال يخرجون. الإمام يبقى
منفردًا.)
زينة
(لفدا)
:
إذن لا تحبني.
فدا
:
هبي نفسك لنفسك.
(زينة تنظر إليه في حرج.)
فدا
:
ألا فانثري أنفاسك لآلئ وانظمِيها سياجًا لبستانك.
زينة
:
فيبذل كل ما فيه.
فدا
:
بل كل ما فيه — حتى العوسج — يُعطر صبَاحات رجائك.
زينة
(في صوت خفيت)
:
وأكون قد فقدتك.
فدا
(لا يسمع قولها)
:
تممي نفسك يَعظمْ كلانا بصاحبه … لا يَزخر المحيط من رشح جَدْولَينِ.
زينة
:
لكل غاية مبتدأ. الماء يقطر فيسيح فيتراكب، حتى إذا دبَّ طَمَس ذكرى القطران …
فدا
:
المبتدأ هو الأصل. على قدر التحفُّز يكون مدى القفز … هبي نفسك لنفسك، أنتِ بها
الآن أولى.
زينة
(في تضرع)
:
ألا تدع الجدولين يقترنان؟
فدا
:
الغنم في الامتزاج.
(فدا ينثني عن زينة فيخلو إلى هواجسه. زينة تمضي إلى هادي وتستند
إلى ذراعه. تدنو منها إحدى النساء. صمت. هَنا تدخل من آخرة المهاد. لا يبصر بها سوى
الإمام فيسرع إليها ويهمس في أذنها. هَنا تجلس ناحيةً فتصغي إلى بقية الحوار بين فدا
وزينة في اضطراب مكبوت. الإمام يخرج وهو يرشق فدا بنظرات حنق.)
زينة
(بعد استرداد قواها تقبل على الهجوم)
:
مخبول أنت، ألا تفيق؟ قم! تلقَّط الثمر المطروح في دربك.
فدا
:
فأرسقه من الأرض.
زينة
:
أنت جبان.
(النساء يدهشن من جسارتها الفاجئة. هادي له حركة مختلجة.)
فدا
(يسكن هادي بحركة. لزينة)
:
قد أكون جبانًا، على أني غنيٌّ أي غِنًى؛ لأني أعف عن غنيمة مبذولةٍ مصيرها
التلف.
زينة
:
بأي شيء؟ قل لي بأي شيء أنت غني.
فدا
(على مهل)
:
بما شتت سدود قلبي ولم يشتت بعد سدود قلبك.
زينة
:
تغيظي.
فدا
:
ونفسي راضية، ما عليَّ؟
زينة
:
هذا كل همك: نفسك … ضميرك.
فدا
:
ميزان الحق لم يعتدل إلا بعد خوضٍ في هول المحن: أسأت ثم كفَّرت.
زينة
(كالساخرة)
:
أنت خبرتَ المحن؟ أنت؟ لا تُحسن سوى إنكار الحسرات، أما توبتك فأنا أعلم بها: ذهن
بارد يراجع نيَّات معقَّدة.
(هادي يحرك رأسه استنكارًا.)
فدا
:
هل وافيتُ الواحة الضاحكة إلا بعد أنْ سَبَرتُ من الآبار أبخلَها وأبشعها؟
زينة
:
أبخلها … أبشعها، (تشير إلى صدرها بضم اليدين
عليه) وتزدري طعم الشهد؟
(فدا لا يجيب وقد فطن أن موقفه يفوت إدراك زينة.)
زينة
(في جفاء)
:
أنت لا تحبني.
فدا
:
أحب فيك ما أحبه لك. (للنساء ضحكات مضغوطة لا يحفل بها
فدا) أين القربان حتى يطيب جوَّ أملك برائحة الثقة؟ فيعينَني على صون
إرادتي من كل خبث.
زينة
:
ويلي منك! الظلم جالس في صدرك أنت. لا يبلغ رب ولا عاشق قسوتك. أراك ترفِّق يدًا،
جبلتَها من ثلج، فتمسح بها قلبًا أنت خلعته وصلبته.
(فدا يتعجب صامتًا.)
زينة
(مغضبةً)
:
ستكون أنت القربان، أنت! اسمك الذي طالما ناغيته فدللته بين جوانحي سأطرحه في
حفرة الغِلِّ (تشير إلى الغيابات من حيث خرج الإمام
والرجال) فتمزقه ألسنة تنمَّرت في أفواهٍ سود (مهلة) آه، ما أغلظ الحنق عليك هنا!
هادي
:
لأنه اخترق الغمة.
المرأة الثانية
(تتأمل هادي. لصواحبها)
:
ما أجمل تلميذه!
فدا
(لزينة)
:
اسمي يُمزَّق … لم لا؟ للفورة أيضًا حق في طلب القربان.
زينة
(كأنها لم تسمع، تزداد غضبًا)
:
تردُّني؟ تردني! أنا؟ أنا أزحم النور طول النهار، وفي الليل أوقد الحسد في أحشاء
الليل ساعة يَلفح وهْجُ طيفي هواجسَ أنامها الاستحياء.
النساء
(غيارى)
:
هو، هو! (فيما بينهن) ونحن …؟
فدا
:
هواجسي تتألق تحت أشعة أهملت دوركم.
المرأة الثانية
(ساخرةً. لفدا)
:
حق، لا مثيل لك في هذا الوادي.
زينة
(لفدا)
:
تردُّني؟ ما قولك لو تركتُ أحد خصومك ينزعني من قبضتك؟ لن يكون جبانًا، سيأخذني
على حالي … بل دون ما أنا عليه، أنت تنكر سدود القلب، أما هو فتأسره. (مهلة) يريدني؛ لأنه يحبني.
المرأة الأولى
:
يا بختَها!
(فدا يتفرس في زينة خائب الأمل.)
زينة
(مكابرةً)
:
نعم. يحبني لأنه يريدني.
المرأة الثالثة
(للثانية في وجد مفتعل)
:
سمعتِ يا أختي؟
(المرأة الثانية تدنو إلى هادي في شغف، ولكن هادي مشغول عنها بما
يدور من نضال بين زينة وفدا.)
زينة
:
يريدني. (النساء الثلاث يأخذ بعضهن بأيدي بعض في تدلل،
على ذكر هذه الكلمة) هذا هو الدليل المكين، يخاطب حسي بنطق بيِّن.
(مهلة) أما الذي يرقص مع السوانح فيرنم في
الغيوم، فلا وجود له حين تتأوه النفس.
فدا
(بعد صمت)
:
خبلتكم حناجر تطبِّل وتصفِّر، أصبحتم لا تأنسون إلى التغريد.
(هادي له حركة تواجد تحير المرأة الثانية.)
زينة
(بعد انطواء)
:
ولكننا، على الأقل، أصحاب طرب، أما أنت فتحتقره.
فدا
:
طربكم؟ هذه الغشية، هذا الانكباب على الأرض؟
زينة
(يلهبها حب ممزوج بغلٍّ)
:
أجل، هذا الرجل، خصمك، أراه، أراه قد أكبَّ على وجهه. أفلا يستهويك أن أنساه عند
قدمي، يرتطم في ذلِّه؟ ألا يحلو لك أن تكون الغالب؟
المرأة الثالثة
(للأولى)
:
خبيثة والله.
فدا
:
لا بدَّ للغلبة من مغالبة … هل تصدَّيتُ لخصم؟
زينة
:
أنت جبان.
هادي
:
على مهلك يا زينة.
فدا
:
جبان … ولكني قوي.
زينة
(ساخرةً)
:
إيهْ؟
فدا
:
ألا يكفيك برهانًا ما عانيتهِ الآن في نضالي؟
زينة
:
من تكون؟ (في التهاب) من تكون أنت؟
فدا
:
أنا الذي تحسينه في تلك الحنيَّة الغامضة. هنالك، حيث الحواجز بين الحب والبغض
تنهزم. أنا الذي تحسين، لا أكثر، لا أقل.
زينة
(في جفاء)
:
إنما أنت وهمٌ قائم.
فدا
(في هدوء)
:
مثل كل حقيقة.
(فدا ينحرف عن زينة ويمضي إلى العالية فيجلس على المرقى الأول،
ويخلو إلى نفسه. جميع الأشخاص يخرجون ما عدا هَنا. القيثاري يدخل ويتربع على الأرض في
زاوية. فدا يدنو إليه. موسيقى بلا قيثار: مصدر خشوع. هَنا تسير إلى فدا في رقة سحابة.
تمد ذراعيها إليه، وعلى وجهها مخايل من حب ملفوف برهبة. الموسيقى تنقطع. فدا يخرج من
خلوته فيلمح هنا. يضطرب على الفور ثم يتماسك. ينهض. هَنا تخطو بضع خطًى لتحول بين فدا
والعالية.)
فدا
:
يا حبيبتي!
(هنا تتطلع إليه حيرى البصر والسمع.)
فدا
(في صوت خافض)
:
نعم. يا حبيبتي … آن أن تسمعي هذا النداء. فلطالما أمسكتُ عنك لغط الضلوع، مخافة
أن يُعطل لطافة حَدْسك. (صمت في عمق) الحدس …
أتدرين ما هو؟ سياحة السمع في محراب المحجوب، حَوَمان الوهم على لهب
العرفان.
(هنا يأخذها الحديث على قلق.)
فدا
:
الحدس الممتع! (في خفوت) ها هنا، عن يمينك
روضة ينمنمها البنفسج، تُباكرينها وحدك، والوجه حر يستندي بهجة الفجر، فيرفع له
الكون فاتحةَ إنجيله. يتواضع لها الجفن فيصونها قبل أن يدبدب النهار فيَفُض
الرشائق، وفجأةً تغزو عزلتك فتجرحها كوكبةٌ من الصبايا؛ صواحبك … تصيح صبيَّة: ما
أبهرَ الروضة! … يا للصيحة الآثمة، صيحة طاعنة، مزعت سترَ النجوى: ينفرج الجفن،
ينزعج السحر، يفرُّ، فتسترد الأشياء حجومها وأشكالها، تضرب بها الحواس فتفيق، أفاقت
بعد أن ذاقت رحيق الفتوح … يا ضيعة الفراسة! أصبحت العين لا تأخذ إلا الذي تراه، وا
رحمتاه لطُرف الخفاء! (مهلة) أعرفتِ الآن ما
الحدس؛ يا حبيبتي؟ أمسكتُ عنك من قبل لغط الضلوع حتى يَطيب لشعورك أن يتوجسها
فيتمثلها فيسهرَ لها. (على مهل) الحب كالجمال؛
هو البريق الموار في الياقوت الرقيق … الحب، الجمال، ماء الجواهر لا يفعل فعله إلا
إذا رَعَش من وراء حجاب، نسجوه من أهداب حور، يا حبيبتي … يا غرَّة الرشائق.
(هنا تدنو من فدا وقد أطربها حديثه، تنصب وجهها له مستزيدة.)
فدا
:
ما أحراني الآن بأن أناديك: يا حبيبتي، هذا موعد الفراق. لحظة يُنزع حسٌّ من حس
تتهالك الألفاظ عند حنجرة تنشرم، فلا يحق إلا للفظٍ قُدسي أن يغلب حاجزًا من دماء …
إني قاصد إلى حيث تسبح تراتيل لا تنفصل أبياتها ولا تتهمل. في تلك المناسك أغوص على
نغمٍ نجا من التشتت، تمدُّ رجْعَه في أنفاسنا هنا كلمةُ الحب. (مهلة) اليومَ لي أن أقول الكلمة — يا حبيبتي — لأني
قريب الانعقاد بالقوة الراسخة … آه كم يُضحكني الناس — حتى النساء — متى رددوا في
نبرة جازمة عباراتٍ تقتبس من حمو العواطف. ربما صَفَتْ نيَّاتهم حين يذكرون الحب،
لكنهم يحفَّونه بأصوات يقتطعونها من طنطنة الصبوات، فسرعان ما تحرف إشارات الضمير …
شفَةٌ تُرقِّص الحديث، والزمان الماكر يرهقها بمهمازٍ هلِع، تتهاوى الحروف ثمارًا
فجةً … نحن بشر، حركاتنا هي المزلق إلى سرداب الموت، أما الحب فحابس الدهر الدائر
في دوَّامة وجد.
(هنا لها نظرة هائمة، تتساقط على أول مراقي الجبل.)
فدا
:
أتخشَين أن تشغلني الأبدية عنك؟ هوِّني عليك. لا أهواها، لا أطأطئ لها، إنما أريد
أن أروضها.
(هنا ينسحب على وجهها الوجوم.)
فدا
:
لا، لا حبيبتي، على جبينك ألمح دبَّة الجزع، بالله لا تغاري من الأبد. سرُّ مطلعه
لن يزحم شمسَ طلعتك حولي، إنما أنت التي ترشدينه إلى بابي حين تقذفين في همي شعاعًا
غضًّا جذبتِه من براءتك، فيوقد في رجولتي غضبًا للحق.
(هنا غير مقتنعة، لها حركات تنم على البلبلة في أسى.)
فدا
:
أنت والأبد تلتقيان: كلاكما يكشف مباسم النعيم. اطمئني، هذا كل الشبه، إنما هو
الصراط إلى صرحك، وهنالك أجلس إليك — ندًّا طلب الند — أطارحك رهائف شدوك: أنت
امرأة تستودع حبيبها هِزَّة عالَمها المغلق، فتَسقي فؤاده لألاء البلور، أما هو،
الحبيب، فرجل أنزل الممتنع إلى السهل لما عقد بين البقاء والفناء: شرَّد الحدود
فأصبح يَسَع الأشياء كلها ولا يسعه سوى فردوس فرحتك … يا حبيبتي (مهلة) عليَّ أن أمضي.
(هنا لا توافق، لها نظرة تفجع.)
فدا
:
علي أن أمضي … أن أسرع فأتلقن كيف أجعل بعضي يُذكي بعضي، إذن يسطع وجودي من ذات
نفسه، فأرد إليك الشعاع. صوني حرَّه في حرير جفونك يعينك يوم تستوضحين شررًا يطلقه
جبيني، يَهديني إلى مقدِس حنينك … عليَّ أن أمضي، أن أصعد.
(هنا تمد ذراعين تنطقان باليأس. يأخذ الرجل في مراقي الجبل. يخرج
القيثاري من مكمنه، فدا يلمحه.)
فدا
(للقيثاري)
:
أيُّها القِيثارْ
رَفْرَفْتَ نشيدًا هَامْ
ضَجِر من أوكارْ
عَلَّقُوا بها قصيدًا دارْ في كعبة الوطن
أيُّها القِيثارْ
قَلَقٌ عَجول
يَنشد الثِّمارْ طابت
تحت شمس ما راودها حِسبان
أيُّها المتمرِّد في وادٍ هانْ حَزَمَتْه مخاوِفُ الصِّغَار
أيُّها القِيثارْ
يا أخي في الظَّما
أين أهازيج أنهارْ صَدقت عندها الأساطيرْ
تُغْرِي هَوَج الأَوْتَارْ فتهتف حرَّةً مَرِحَةْ
هاتِ شَيِّعْ جِهَادِي في مَهاوِي قِفارْ
طوَّحَ أطْرافَها نَصِيبي الخطيرْ.
(فدا يصعد في عزم. ظلمة. تقاسيم على القيثار.)
(الستار يسقط)