المرحلة الثالثة
(من الآن فصاعدًا يبرز في صدر المهاد كوخ يحجب داخله ستار جانبي. هنا على الأرض بقرب الكوخ. القيثاري في الغيابة اليسرى، يبدو من القيثار طرف العنق مع بعض الملاوي. في هذه المرحلة لا يحدق أحد إلى العالية، فيكون النظر إليها مخالسةً مع أكف مبسوطة فوق الحواجب.)
(زينة تدخل من آخرة المهاد في خطًا مترفة، تستمع إلى هنا في حسرة وبلا ضغينة.)
(ها هنا يعلو صوت فدا بهذه الكلمات في بطء) «البعد يدني الأشياء، يدنيها في الخاطر … بين وجه الدنيا وقلبها موجودات تهاجرت وتفاوتت، ثم نهض بعضها يسعى إلى بعض يستشف، فالتقت وتواشجت وراء الأقاليم المطروقة، عند قفرٍ تصول فيه رياح القلق. هنالك يأبى الكدح أن ينقضي فيطمئن؛ لأن الممكنات لا تنفك تبرز للعزم مستطرفةً فتستهويه. (مهلة) لا راحة هنالك! إنما الراحة نصيب مشاعر حرصت على الظفر بما تشتهي، وقد رفضت رعدة النشوة … نشوة تُضني، وتُغني، متى غلبت العصبَ شدت الفؤاد، فيهبُّ الظن ويمرح وقد شرع يؤلف بين طائفة من القوى، كان الكون بعثر عِقدها لِيَمدَّ بساطه، فذهبت مذاهب حتى بدت كأنها في شقاق منذ الأزل. (مهلة) في هذه الليلة كلُّ ما يضطرب بين الأرض والسماء ينقاد لمعجزة النشوة. هأنذا أخف إلى بروج الظنون؛ لعلي أعثر في مسابح الأثير على النفَس الزاخر، ينتظرني؛ فلطالما لمعت آيةُ مصيري تحت ركام السنين. (صمت) أصبحتُ بعيدًا عنك، فانقطع الحبل الظاهر … أنا أبدًا معك، وأنتِ معي … لا شقاق بيننا: نبضٌ إلى نبض يهتدي عند ميثاق الأنس، تحت جناح الديمومة. نحن كالنقرتين على صدر دُفٍّ، كلتاهما الآن في سبيلها، سوف تشتبكان يوم يُدوي طبل النصر وقد نشز على الأوزان الدارجة. حينئذ يلتصق القلب بالقلب، يقتسمان عبء الغبطة». (ينقطع صوت فدا).
(تعود هَنا إلى حديثها) عند هذا الحدِّ ذاب الصوت في العلا. حدَّقتُ فقرأت في وجه الحبيب حظه الأرفع: حروفًا وشَّت الخدين بلَهَب فطهرت، أما أنا فبقيت حيث كنت، أتأمله عسى أن أحزر ما تكون إتاوة النصر … عجزت عن الحركة: حَجزتني الأرض رهينةً لقاء فكره الجسور. فجأةً وقف الدهر معي ليُحكم قرع الضلوع بمِطرقة الوعيد. (مهلة) خفِي عن بصري. عدت إلى نفسي. أخذت أنحدر، وإذا أناملي تسحر ألفافًا من الشوك، فتَخلُص لها براعم أريجها مُقنَّع: نسمةٌ من خَفَر الحب. سرعان ما افترَّت الورقات عن مكنونها. جعلت أنثرها في حِجر شجرة يبس عودها وقسا، هبطت من مروج السحب. ويلي! هذه الورقات يُفَتِّحُها البِشر، هل تستطيع أن تُنَضِّر العود وتمسحَه برقتها.
(زينة مزعزعةً. القيثاري يعلق على حلم هَنا بلحن منطلق. هادي والقوَّال ثم الفلاحون يدخلون من آخرة المسرح في أثناء ذلك، على وجوههم جميعًا لوائح ألم بليغ. ينقضي اللحن فتنهض زينة مقلقةً وتسرع إلى هادي والقوَّال. هَنا لا تفطن لما يجري حولها وتأخذ في الإنشاد فيجمد الجمع.)
(القوَّال يقطع على هادي الكلام بإشارة.)
(القوَّال يدنو من زينة ويهمس في أذنها …)
(هَنا تلتفت دهشةً. صمت طويل كله توجع. الجمع، في مقدمتهم زينة، يخفُّون إلى هَنا. يتناظرون مرتبكين يريدون أن يقولوا لها قولًا، ولكن أحدًا لا يقدم. زينة تعتمد ذراع القوَّال. هادي له نظر تائه.)
(هنا تلقي برأسها على كتف زينة.)
(اللفيف يدخلون في تهجم.)
(اللفيف يجمجمون، في حين زينة تدخل إلى الكوخ وتخرج منه بعد قليل.)
(موسيقى غائمة. صمت. بدء الظلمة. زينة تقترب من الكوخ فتقف مفجوعةً. هادي يسرع إليها.)
(ذهول شامل. زينة واثنان من الفلاحين يخطون بضع خطوات: رقص الندب، بلا موسيقى، ثم يشرعون في صلاة مخافتة. هادي وسائر الفلاحين يحذون حَذْوَهم. القوَّال يستند إلى الكوخ مطرقًا. اللفيف يسترسلون للنوم حيث هم. القيثاري يدخل ويتوجه إلى الكوخ، يخفض عنقَ القيثار حزنًا، يتصفح المشهد ثم يمضي. الظلمة تنتشر.)