المرحلة الرابعة
الفجر طالع، القوَّال يبدو كأنه يتوجس جرْسًا من جهة مراقي العلياء. تبدر منه صرخة.
فدا
ينحدر وخطاه متئدة، أما وجهه فعليه مسحة الغيب. الجمع يتنبهون. اللفيف كالمسحورين يحيطون
بفدا. هادي يعانقه. زينة والفلاحون في ذهول، في أثناء هذه المرحلة لا يحدق إلى العلياء
غير
فدا.
أصوات
(في اللفيف)
:
أنت؟ حي!
فدا
:
لِمَ لا أكون حيًّا؟
صوت
:
لماذا عدلتَ عن إلقاء الحجر؟
فدا
:
إلى من ألقي؟ إليكم؟
صوت
:
على ذلك اتفقنا.
فدا
(ضجِرًا)
:
آه.
(الكسيح والأعمى يدخلان وعليهما أمارات الاضطراب.)
الرجل الأول
:
لما قلنا: مات فدا. حلم الكسيح أنه رقَّاص والكفيف أنه رسام. (يقهقه).
هادي
:
الشماتة فنَّانة.
صوت
(لفدا)
:
هل أكلتَ من العشب؟ لقفتَ السر؟
(فدا لا يجيب. اللفيف يتساءلون. صمت. الإمام يدخل كالمقتحم.)
الإمام
(راضي النفس)
:
طمعتَ في مغامرة توعرت عليك، فقصَّرتَ، أمَا كنتُ أنبأتك؟ حجرًا حقيرًا ما قدرت
أن تُلقي.
(فدا يرشقه بنظرة يلهبها غضب متجهم.)
الإمام
:
لبستَ الغطرسة فاحتجبنا عن بصرك.
هادي
(يسرع إلى فدا، في صوته رنة عتاب)
:
أحقًّا نسيتنا.
فدا
(لهادي في إشفاق)
:
نسيتكم. (يشير إلى اللفيف تقدمهم الإمام)
لكنهم سرعان ما يخلطون الكبرياء بالارتواء. (مهلة) حدتني نبرات القيثار. رمتني في تيهٍ من الطرق الخوانق، نثر
الجِنُّ فيها فنون الخدع. ما زلَّت قدمي مرةً. أدغلت في أحضان الليل، في النهار،
خانني بصري تُزيغه حجارة نحتها السيل فبرقت برقَ أبكار الجواهر. على غفلة وجدتني
أسيرَ أجمة. من هنا ومن هنا شجر ينصب سهامًا رءوسها عناقيد وهاجة: ستائر تحمي
ملكوتَ الأمان … عند هذا الشوط في العلا تخلخلت النبرات حتى انقطعت؛ لأن تحنانَها
عَلِقت به رواسبُ من شواغل الأرض. (مهلة) ضللتُ
الطريق. ركعت أتضرع، وسجَّادتي أضراس الحجارة، فإذا نشيد من وراء السهام تتناثر
مدَّاته ولا تَبين الحروف. تسلل من بين العناقيد وفي رعشاته رَجعات صدر تخلع:
هفَّةُ رفق. فتَّت الحجارة، نهضتُ وقد لفحتني تباشير الوعد. عَطَف النشيد إلى
جبيني. عقد عليه مقاطعه يسلسلها شهابًا بعد شهاب من هالة الخُلد: انشقَّت أمامي
مجاهل الأجمة … ما أبهجَ الفُرجة! أخذتُ فيها أترقَّى وأدور على شُرُفات سحاب.
هنالك نسيتكم. طاحت الدنيا في قاعٍ من التوافه، (مهلة. في
اضطراب) ثم انحل النشيد دفعةً، أحسست بالحقد يتصاعد من سهلكم، يتراكم
على كفيَّ، فانسدَّت الفرجة. (صمت) أين النشيد؟
قمت أطارد أصداءه، تعثرتُ ألف مرة، وهأَنذا لا أزال حيًّا بفضل هبَّات، لها في جنبي
رفيف رهيف. (صمت طويل) من كان ينشد؟ (صمت طويل) من كان ينشد؟
(الجمع يتناظرون في ارتباك، ثم يتفرقون، يبقى فدا وهادي وزينة، أما
الأعمى والكسيح فيجلسان على انفراد يتحادثان بإشارات متهدجة، الفلاحون ينثنون إلى حقل
السنابل، القوَّال منهدٌّ، يُ برق عينيه نحو الكوخ.)
فدا
:
من هذا الروض طار النشيد، ها هنا تلتطم أصداؤه، وفي صدري تلتئم.
زينة
(بعد لحظة تردد)
:
من هذا الروض.
فدا
:
من كان يغني؟
(زينة تمضي إلى فدا، تأخذ بيده في إشفاق إلى الكوخ، ترفع الستار.
فدا يدخل ثم يخرج مزعزعًا. القيثاري يجتاز آخرة المهاد.)
فدا
(همسًا)
:
من قتلها؟
هادي
:
الحجر الذي لم يسقط.
(فدا يحاول أن ينطق فيشرق بالكلمات.)
القوَّال
:
تلك المقاطع كانت دفقات من غيث الحب؛ أحيتك، أما هي فغصَّت بها … يا ويحَ النشيد!
وصل فيضه بإعجاز مشيك هنالك: ودَّع الوادي مجنونًا بك، مسَّك، استخفَّك، أترفك حتى
هزأتَ بمرارة تربتنا وأنكرت أهلها.
زينة
(بعد مهلة، في هدوء)
:
فتَلِفت طفلة تنشدك روحها، وجسمُها بكوخها مسمَّر. وقف الإنشاد، فإذا الوحشة حولك
تفرش عبوسها. ضللتَ الطريق، خفيت المعالم على وجدانك لما طوَّقته بالقسوة، لما
نسيتَها. (مهلة) ها أنت ذا فوَّضتَ عذابك إلى
يديك … ويلي على يدٍ طاهرة أذنبت!
فدا
:
ولكن … (يُعجزه التعبير. يمعن التفكر).
زينة
:
يد طاهرة.
فدا
:
طائشة … أجل، تسرعت في العصيان على حكم الحضيض. من راح يطلب طعم السماء فعليه أن
يتزود بمذاق الأرض … الأرض، هذه الحقيقة المعمورة بالشوك، خُلق ليُرْهف الوجدان
ساعة يستبين المعالم. (فدا جد مضطرب يدنو من الكوخ ويلمس
ستاره في حنان).
هادي
(يشير إلى الكوخ)
:
انطفأت كما تنطفئ شعلةُ معبدنا، خانها زيتٌ سرعان ما نفد. لا أنين، لا
نشيج.
فدا
(لنفسه)
:
خانها الزيت.
زينة والقوَّال
:
لا أنين، لا نشيج.
فدا
:
ما قالت شيئًا قبل أن تمضي؟ (في خفوت) هل
نادتني؟
زينة
:
ضممتها إلى صدري، رَمقُ شكواها في عينها ترقرق.
(فدا يمد يدًا تستجدي، لعل زينة تردد سر الشكوى.)
زينة
:
وا لهفي! لا يرد الرمق إلا القيثار. (تلتفت إلى الغيابة
اليسرى حيث القيثاري واقف) يا أخي، ألا تحيي لحن الوداع؟
القوَّال
(للقيثاري)
:
بأظفار من حرير هلَّا تنبشُ فواجع البشر.
(يعلو صوت هَنا يساوقه القيثار في خفض. هَنا تنشد نشيدها خافيةً عن
الأبصار. اللفيف يدخلون في أثناء النشيد يتقدمهم الإمام. اضطراب شامل. زينة تنزوي فتخلو
إلى نفسها.)
هنا
(تنشد)
:
الليلةَ قلبي على سِرِّه انْطوَى
حُقُّ لُؤْلُؤَةٍ مَا غَمَرَهَا ثَاقِبْ
يَرمُقها لمحٌ رَفِيقْ
هوى مِنْ كُوى محاجرِك
أين أنا منكَ؟
السُّها لك، تطوَّعْتَ لكفاحِ الأفُق بجناحِ الجوى
ولِيَ الثرى، مِن هُنا إليك يفزُّ حنانُ الرَّجا فيُشرفُ على نَهَمَات
شَططك
لمحٌ رفيق
فَوْحٌ مِنْ لهفٍ فيك، وُلد في غابِ الغرابة
طار في أثيرٍ يرهقني
أنت مشغول بالكمال
وأنا ظلُّك الصبور، أجرُّ جيشًا من الجراح لم يَنْفُر مِن حصْنِ
الضميرْ
نُوَاحِيَ الصَّامِتُ حداءُ همِّكَ الكبير.
الإمام
(لفدا)
:
ما أبرعَ ما صنعت! سارعتَ إلى الأبد وقذفت الموت من خلفك.
(فدا لا يجيب غارقًا في التفكير.)
الإمام
:
صامت هذه المرة.
فدا
(رابط الجأش)
:
الموت عثرة عارضة … هي راحت في يُسر: لا أنين، لا نشيج، إنما الجرم أن نهلك تحت
شناعة ظلم.
المرأة الأولى
(لفدا)
:
كنتَ ناديتَها: يا حبيبتي، هل يُترك الحبيب؟
فدا
:
أجل، حتى يُفتش عنه في حُرقة الشغف.
المرأة الثانية
:
وهناك يذوب فيُفقد.
زينة
(تخرج من خلوتها)
:
لا يُفقد من كان معقدَ حبٍّ محض.
(هادي ينظر إلى زينة مشدوهًا.)
زينة
(لهادي. في تجلٍّ)
:
الآن أُدرك. ساعةَ ناداها: يا حبيبتي، على شفتيه تألفت صرخات الجسد وهمسات
السريرة، فانطلق لهيبًا إلى الذرى، هنالك، حيث تموت العداوات فلا خُلفَ بين خشونة
ونعومة.
فدا
:
وإلى هذه الذرى أعود.
الإمام
:
يعاوده نَزَقُه.
فدا
:
هذه المرة أصعد لغرضين: أسلب المغارة كنزَها، وأحاسبها على قساوتها، ويح
هَنا!
زينة
:
بالله لا تذهب مثقلًا بالحنق، أتذكر ما نبهتني إليه: «على قدر التحفز يكون مدى
القفز.»
فدا
:
يزول الحنق ما دام الوجهُ إلى فوق.
زينة
:
ويلي عليك! تذهب ولا يعينك نشيد. ماتت هَنا. هل أستطيع أن أُغرِّد عنها؟ لا، لا.
أحبتك وهي تجور على نفسها: جمعت في عزمك الأصم ألطاف ثروتها الدفينة ولم تفطن
لقدرها، أما أنا فعظَّمت ما أملك، فلما وهبتُه لك كنتُ لا أحب سوى نفسي فجُرتُ
عليك. كيف إذن أُغرِّد؟ أخشى على المقاطع أن تُكدرها آفة الأثرة عالقةً بشفتي …
الآن تبيَّنتُ الآفة. أجل، أصبحتْ عيني تلمح ما كان فاتها … بعضَ ما فاتها … ما
أبطأَ الظلمةَ حين تغادر مغاور النفس!
الإمام
:
زينة! ما هذه الحماقة؟ ما هذا التجديف؟ النفس إشراق.
زينة
:
يا لبساطة عقولكم! آن لي أن أهتدي إلى فتنة الحياة. (تلتفت إلى الكوخ) عن قريب يغسلني النور يوم تعصر أحشائي فزعةٌ كالتي
نَفَضتني الآن. يا لهفي عليكِ يا هَنا.
هادي
:
سناءُ الروح لا يبتسم على الجبين إلا بعد رجفٍ وصعق في الضمير.
زينة
(لفدا)
:
ها أنذي ألامس غُرَّة الحق. حدثتنا عن تيهٍ من الخوانق نُثرت فيها فنون الخدع.
ذلك هو المنفذ إلى صومعة النفس … (تشير إلى
اللفيف) النفس التي ما سبروها فتطوحت حولها ظنونهم. (مهلة) متى تنزل فزعة أخرى؟ (تنظر إلى فدا متفجعةً متخوفةً) حماك الله! نفضةٌ
بعد هذه وسرعان ما يهب بي جناح كشاف حتى الشوط الأخير، هناك حيث المنفذ يضيق،
يختنق، هنالك عند ثغر الفرجة. سموتَ فيها ثم انسدَّت … نفضة بعد هذه (تسرع إليه) ويلي عليك!
فدا
(يدنو من زينة منعطفًا)
:
حديثكِ عجب. لا أكاد أعرفك.
زينة
:
وهنا سعادتي … أنت عازم على الصعود، لا أحجزك الآن. (للفيف) دعوه يذهب.
الإمام
:
ركبها الشيطان.
زينة
(للفيف)
:
ما أجهلكم، ما أغباكم! (لفدا) لا أحجزك. لا.
(تودعه بنظرة وتمضي إلى طرف المهاد).
(فدا يتجه إلى الجبل. القوَّال وفلاحان يسرعان إليه.)
القوَّال
(في صوت متهدج)
:
قبل أن تصعد، خبِّرنا — فقد تطول رحلتك — خبِّرنا، أنت الذي يجسر على مطاولة
الأبدي: هل وجه الأرض باطل؟
فدا
(تلمع عيناه)
:
باطل؟ (ينفي بإيماءة ثم يتماسك) قد يكون … من
جراء الدم السمح تبذلونه في غفلة … آلام البشر تغذو غرور الطين. (مهلة) الأرض، كمثل السماء، جديرٌ بها أن تُكتسب،
لكنها لا تمنح كنوزها حرةً إلا إذا استعرت بجمرات الأنفس الزكيَّة، فيعتز عليها كل
هيِّن، وفيها يتأصل كل عارض، حتى تفاهةُ الرمال تتبخر في تماويج سراب، سراب يرقرقه
خاطر متشوف … إنما العدم نحن البشر إذا لم نمدَّ حبالنا إلى قبَّة الخيال.
(فدا يصعد. الأعمى والكسيح يتأملانه. القوَّال ينصرف إلى باب الكوخ.
الفلاحان ينقلبان إلى حقل السنابل. اللفيف يتهامسون ثم ينفضون. هادي يجلس ناحيةً
ويتفكر.)
زينة
(لنفسها، وفدا صاعد)
:
خذ سبيلك إلى بروج الظنون، قبلتَ الرهان لما حلفتَ أن تتجسس قِبلةَ البعيد،
فاستبسلْ. نعم أُزيِّن لك المخاطرة … لا يحق لأحد أن يقمع المستميت في تفجير النبع،
لا سيما إذا تلوَّح صدره فاقتات من رشاشات قروح … ها أنت ذا عبأت الشقاء في عروقك
لتَسبي النعماء، وسرعان ما تحوِّل وجودك إلى الخفا. (يغيب
فدا عن الأنظار) بعُدتَ، لستَ الآن سوى صدًى شَرود. أيُّ فكر يستطيع
أن يرصدك؟ هل أنت حي، هل أت ميت؟ (في بطء) ليس
بين الحياة والموت غير درجة، تدقُّ عن اللحظ، سمُّوها المحبة، هنالك من يلفه الفتور
وهو مترع بالحياة، وهنالك من يهرول ومهمازه الموت: هذا يزدري الدرجة وذاك يجهل
خبرها، أما أنت فعن كلا الحزبين غريب: وَلَعُكَ بالحياة يتَّقد حين تلاعب الموت، ما
أحسن ما ترفرف فوق الدرجة! لا رفرفة أُلعبان يتذبذب على حبل توتر. هذا خطر تستهين
به، لا تجد عنده شرف الروعة. لا! إن الدُّوار الذي يترقبك — ماذا أقول؟ — هَهْ، إن
الدوار الذي ترعاه في نفسك أبلغ هولًا وأبعد استهواء … أتراك جربت الحب؟ هل تدري؟
تطالب الحب بما يفزع منه الحب نفسه: تبتغي الملء الطافح. (مهلة) لك هذا، وأنا أجاريك … متى نلتقي؟ واحسرتاه! أنت تحيا
متهالكًا على غمام الموت، وأنا لا أزال أعاني الشره إلى برق الحياة. بيني وبينك
الآن حفرة، رُكزت فيها حراب تسهر لدمائنا، لن تنفلَّ فينكسرَ جشعها حتى أُشرف على
الفرجة: قِبلة البعيد. متى نلتقي؟ إنْ أنا أسررت إليك الآن: أُحبك فهيهات، لا
أجذبك، لن يقدر استسلامي إلا أن يهيج الدوار … يهيج الدوار. ليتك تسقط! (يزعزعها هذا التمني) حماك الله! (تعود إلى التمني في صوت محبوس) آه! تسقط فألملم
النثار فأحضنه … أحضنك … إذا أضاع المرء ذاته فما أسعده حين يضم أشلاءً تختلج!
أشلاء الجسد الذي هاجرتْ إليه ذاته. (مهلة)
عندئذ بعد طول التلوي تنفسح الغمة … أهلًا بالفرجة! إذن أجدك في عجاج الوله، فألمس
ما يفوت اللمس، فوق تلك الحفرة، ولن يقطر مني ولا منك دم؛ لأنَّا نكون قد عَبرنا
إلى ملكوت الأمان.
(صمت. القيثاري يدخل، يهم بجس القيثار، يتردد ثم يكف. القوَّال يأخذ
بذراعه فيخرجان. الأعمى والكسيح يلحقان بهما في بطء وهما يتناقشان بإشارات موجهة إلى
الجبل.)
زينة
(تنظر إلى حيث صعد فدا)
:
دعني أودعك، أطوف حولك بجوارح أصبحت تتنفس عند حافة الغيب. (ترقص رقصةً هفافةً، مجلوَّة الوجه. موسيقى غاية في
اللطافة).
(زينة بعد رقصتها تغيب في الكوخ. هادي لا يزال في تفكره. في آخرة
المهاد يترنم الفلاحون ببيت النشيد «أنا أسطورة
الزمن».)
(الستار يسقط)