المرحلة الخامسة
(اللفيف يدخلون فوجًا فوجًا، الإمام يلحق بهم.)
(الرجل الأول سقط.)
(للفيف ضحكات استهزاء سريعة. هادي ينتفض. زينة تخرج من الكوخ. الفلاحون
يأخذهم الشدَه فيكفون عن الترنم. صمت. القوَّال يدخل.)
زينة
(في هدوء)
:
أين سقط؟
الإمام
(منتصرًا)
:
عند طرف المرج هنالك، طرحته المنية وتربعت على صدره.
المرأة الأولى
:
آه المنية … عشيقته الحظية.
المرأة الثانية
:
عرف كيف يختار، عشيقة ماهرة … عضَّاضة، نهَّاشة، حقًّا فاجرة. الخبرة كلها عندها،
أما نحن فيا حسرة علينا: زرع أخضر.
زينة
(تتقدم. في صوت متمكن)
:
هلمَّ ندفنه.
القوَّال
:
هلم.
الإمام
(يستوقفهما)
:
مهلًا! بل نحمله إلى خيمته فنحرقها تحت بصر الفجر.
هادي
:
كلا!
زينة
:
وَيْ من قساوتكم.
هادي
:
ويُشهدون النور على عَتَمة قلوبهم.
الإمام
:
لا يستحق بطن الأرض، كم هزأ من وداعة سهلنا.
زينة
:
ما أراد إلا تمجيده.
هادي
:
وفاتكم ما أراد.
الإمام
(لزينة)
:
غمزكِ مرضهُ، ولا شفاء … عجيب! مِن قبلُ لما كان حيًّا صاولتِه رشَّاقة العين،
أما الآن فلا تبصرين إلا بطرْفه المهزوم.
زينة
:
الآن أسترد جوهر نفسي: بعثٌ، مَوردُه بوارق طيفِه.
(القوَّال يخرج. القيثاري يدخل ويتنحى.)
الإمام
:
ها، ها، ها، تتكلم على طريقته: إبهام، زَيَغان.
زينة
:
صحيح؟
المرأة الأولى
:
ولا تشعرين؟ ويل المرأة، تعشق فتضيع.
زينة
:
أُبصر بطرفه المهزوم … ألمعية ضرير.
المرأة الثالثة
:
لو كان متَّعك بحبه، على الأقل.
زينة
:
ليس للحب أجل مضروب.
(للنساء وبعض الرجال خفقات بالرءوس تعجبًا.)
زينة
:
ما دام القصد منصوبًا في نهاية الطريق فمهما تلكأ الركب، وتلهى فهو عاثر بحجارة
الحدِّ؛ عفوًا، في الظلام … هو يحبني الساعةَ في غار الموت.
المرأة الأولى
:
الساعة؟
زينة
:
لو لم يُحبني هذه اللحظة ما كنت لأُبقيَ على حبي له.
الإمام
:
عار عليك. لمَ يحفل بك وهو يغالب المنايا؟ فلما صرعَتْه أسرعتِ فانتشلتِه.
زينة
:
أسرفتُ فلم يحفل بي؛ كان شمسَ شتاء لا يسمح بالنظر الملي، لو كنتُ أحسنت اللمح
لكانت مقلتي غرقت في العطايا.
الإمام
:
عطايا أوهام، راح يقتنص أشباحها. أيَّ شيء جلب من غارته؟ هل زوَّدنا بما يسعف
كدَّنا في هذه الدار؟ إنما جاء بما يَمكُر بالرشد فيُدلس عليه الحماقة.
زينة
:
مكر؟ حماقة؟ لأنه عرف كيف يحدِّث الضمائر؟
هادي
:
يا لرقائق السمر! الحمد لله، أزعجتْ ظلالًا طالما أغفيتُم عند هدأَتها البلهاء …
أقليلٌ هذا؟
الإمام
:
تُرَّهات …! هه! كيف أخفق. طاح! هذا كلُّ شأنه.
هادي
(يشير إلى الفلاح)
:
إذا انهدَّ هذا الفلاح فإلى غير نهضة، تُربةٌ أكول مصَّت عظامه حتى صُبابات
الضنى، وهو راضٍ يستمتع ببضع سنابل … أما هو — هو الذي كتم في رئتيه مثل جلجلة
الرعد — فمَغْنمه أن يطرح العدم الذي يحصره، لكي ينهض بعبء الكون.
زينة
(متممة)
:
لكي ينهض بسرِّ المحبة.
(الإمام يحرك كتفيه استهزاء.)
زينة
(مواصلة)
:
هذا السر من حق البشر، ما داموا، في غفلة، يتزاحمون في وادٍ مسحور، شيطانه العشق،
ويبذلون في ملاعبه لحمًا ودمًا بلا حساب.
المرأة الأولى
:
تبذير لذيذ!
الرجل الأول
:
لذيذ.
(يتعانقان. زينة تشيح عنهما بوجهها وتعتمد يد هادي.)
الإمام
:
ذلك مغنم لا ثمر فيه. إنه مات، مات. البطولة ليست من دأبنا. دمنا عصير
الضآلة.
هادي
(يوافق ثم يستدرك)
:
عصير الضآلة، لكن البطولة من دأبنا … القوة سهم من أفكار، الضعف قوسٌ في يدنا.
حسبنا الرمي، لا نبالي: أصاب، قصُر، جاوز. (مهلة) قوتنا من ضعفنا تنبثق. بطلنا همومٌ تحترق.
الإمام
:
أراد أن يتحرش بالعلا، ما أوقحه!
هادي
:
لا، (الفلاحون يحيطون به) هل عانى كل هذا
التصعيد حتى يهبط إلينا فوق رأسه لواء الألوهة؟ يا خيبة المسعى إذن، متى ظفرنا بإله
يمشي بيننا دبَّ السأم في اطمئنانا، إنما كُتب علينا أن نتلطف لشفوف الجلالة نستنزل
منها في خلجاتنا.
الإمام
(للفيف)
:
هيا بنا نمضي … كلاهما يهذي … قبُحت هذه الحمَّى ترجف أذهانهم.
زينة
:
الحمَّى أتم نفعًا من السكينة، حتى تلذع الشعور فيتَّقد لا حين تُعييه
فيهمد.
هادي
:
هذا الضارب بالقيثار، سقام الوحشة في تناغيمه، لكن جولانه في أتون الدنيا يلفح
ألحانه فيجددها بحاثةً عن أصل الحسرة.
الرجل الثاني
(يشير إلى القيثاري)
:
هذا نكرهه … يبكي بغير دموع.
هادي
:
لأنه من صَمت المحنة يستنطق العَبْرة، ولكُم يترك الولولة.
زينة
:
لا ريب أنكم أعداء الدوار.
الإمام
:
عرفتِ الآن ما عاقبة الدوار. هلك صاحبكم؛ لأنه استطال.
هادي
:
لا.
زينة
:
مضى إلى العلياء يستطلع، هل وجد؟ ليس المهم أن يجد. لا، لا، يوم يلقى المرء ضالته
فيلتحم بها فيأتي عليها نهمًا أو تأتي عليه؛ تفتر السعادة ويرخص النصر … إنْ تعانق
إلفان على الأرض حتى انقطاعِ النفس فما هما سوى حزمة من عظام، متى نقرْتَ عليها
رنَّت جرَّةً جوفاء … ما كان للإنسان أن يقتحم أريكة الله، وما أراد الله أن يهتك
سريرة الإنسان، وإلَّا عاث في جنَّات الخصب طوفان، فتتلف ثمارٌ غُرٌّ عزيزة خلقت
للأنفاس تتهاداها تحيات ودٍّ … الخير كله أن يتلمس الرب أثره في عبده، وأن ينقب
العبد عن نصيبه من ربه: غوصة فعثرة فرجة، فتضوُّر فتجلُّد ثم صدمة، يكون من ورائها
الفوز، فوز يبرمه حوار، مواثيقه شهقاتُ محتَضر.
هادي
:
حينئذ يخفق القلب؛ لأن جوهر الإنسان تسامى، يُعطي ولا يَفنى، يأخذ ولا يُفنى …
تأليه الإنسان مَضْيَعةٌ لكونه، تأنيس الله مَضلَّةٌ لوجهه.
زينة
:
أجل، مات الحبيب وهو يعلِّق وقته بدوام الله. في لحظة الوصل قتَل الحبيب — الرب
المحدَث — نفسه، والذي قتله بشر كامن في أحشائه. الآن وضح كل شيء.
هادي
:
قتل الرب نفسه، ولن يبعثه إلا بشر. سيأتي يوم أتسلق فيه منارة الأبد، فأسأل
بهاءها ما يقتضيه الفوز من عروقٍ تنفجر.
زينة
:
خذ في طريقك، أيها الطفل، لعلك تستطيع أن تثأر للأرض، إياك إذن أن تحب … ولكن هل
تُوغل والعشق ليس معك؟ وداعًا، علي أن أدفنه. (تهمُّ
بالانصراف).
الإمام
:
لا، حرام على جسده وعلى يدك التراب … إلى النار.
(الإمام واللفيف يتهيئون للخروج. زينة تحول دونهم. إلى جنبها هادي.
صمت. القوَّال يدخل، يليه الأعمى والكسيح.)
القوَّال
(يشير إلى الأعمى والكسيح)
:
وَسَّداه التراب، منذ هنيهة، ثم غمغما عند لحده: لهجة غريبة.
(الإمام يتفرس في الأعمى والكسيح ملتهبًا غضبًا. زينة وهادي ينفرج
عنهما الهم.)
زينة
(لنفسها)
:
وي! أشلاؤه! أشلاء تختلج … (تلامس
كفيها).
الفلاح الأول
(مستريحًا)
:
أصبح ضيفَ الأرض.
(فجأة يحدق القوَّال والفلاحون إلى العالية.)
هادي
(لزينة)
:
زينة! انظري. أصبحوا ينصبون الرءوس ويحدقون إلى العلياء.
(الكسيح يضحك، الأعمى يبكي. اللفيف يجتهدون في أن يصرفوا أبصارهم عن
العالية. الإمام مزعزع.)
زينة
(لهادي)
:
أرأيت؟ (في بطء) كلُّ شيء ممكن، إذا خلَّص
القلبَ من خيلائه صِدقُ الشوق.
هادي
:
يحدقون إلى العلياء وقد تركها.
(الإمام يخرج مهرولا.)
زينة
:
مهلًا، هادي! إنه لا يزال فيها. إليه يحدقون ولن يكفوا، يا له من نصر! ما حسبتهم
يبلغونه … نصر عابر، نعم. هل للبشر أن يُفلحوا في قطع الحبال تشدُّ سواعدهم إلى
ذبذبة الجبن؟ إرخاء الحبال بُرهةً بعد برهة، ذلك كسبٌ عظيم. (مهلة) هب أستاذك، ثَقَب سور المحظور، إلا أن كره
البشر للإعجاز لن يُبطئ أن يَلحم الثغرة، أما هو فلن يغيب عن البصائر أبدًا.
(في بطء) الباقي سرٌّ ما ذهب … أن يترك
المرءُ الأرض عن رضًى؛ ذلك سبيله إلى الدوام؛ يترك الأشياء كلها، حتى الحب، تمجيدًا
للحب. يقبل على حسِّه يُنزِّه مداره فيحتفى بمنحٍ غمضت، أومضت، من كنوز إلهامٍ
منيع، يستصغر الحياة فيخاطر باللظى عَزَف على العضل ورنَّم في اللحم. يخاطر وهو يخف
إلى حيث الريح عربدت فأضمرت إعصارًا عصفاته قَذَفات خناجر. (مهلة) هذا الذي يحدقون إليه، يا هادي نجوم دارت على
قطب الحق، كلومٌ حول جيد النور … يا لِشظايا قلبٍ كبَّره جبروت الزوال.
(اللفيف ينصرفون، وهم يردون أنظارهم بعناء عن العالية. القوَّال
والفلاحون يحدقون إليها بلا توقف. الأعمى والكسيح يتناقشان في صمت. هادي ينظر إلى زينة
مليًّا، ثم ينصرف من غير الجهة التي قصد إليها اللفيف، وعلى وجهه أمارات جسارة خاشعة.
زينة تمضي وحدها إلى صدر المهاد كأنها في ملاءة نور. موسيقى يغلب عليها الروحاني. ظِلُّ
القيثار يتخطط على المهاد.)
القوَّال
:
هل خرجنا من أسطورة الزمن؟
(الستار يسقط)