الفصل الرابع
(تُرفع الستار عن ملك الهند، وزيره، الأمير محمود، همت مغمى عليه.)
المنظر الأول
ملك
:
أهذا هو الدرويش الصريع؟
غلام أول
:
نعم، أيها الملك الرفيع، هذا هو الدرويش الذي صرعه
الغرام حينما نظر الصورة على باب الحمَّام، وقد حملناه
وجئنا به إلى هذا المكان، بعدما جهدنا أن يفيق، فما أمكن
يا ملك الزمان.
ملك
:
عجائب أهكذا يفعل العشق والغرام؟
محمود
:
نعم أيها الهُمام، فكم له من قتيل وشهيد! وكم به من شقي،
وسعيد! أوله قَطر، وأخره بحر.
والعشق يختلف باختلاف المصابين، وما جُبِلوا عليه من
القساوة واللين، فمنهم من رأى الصورة الحسنة فمات، ومنهم
من وقع عند رؤية الحبيب في سكرات.
من ذاق أيها الملك عرف، وعذر أهل الشغف.
تولَّع بالعشق حتى عشق
فلمْ يستقل لما لم يطق؟
رأى لُجة ظنها موجة
فلما تمكن منها غرق
مات إذ رأى الجمال تجلَّى
من حبيب وذاك مُغمًى عليه
لا يعرف العشق إلا من يُكابده
ولا الصبابة إلا من يُعانيها
ملك
:
صدقت أيها الأمير، والشهم الخطير.
وبماذا يصحو من إغمائه، وتجتني أثمار أنبائه؟
إن رب البيت أدرى
بالذي فيه يكون
محمود
:
لا يصحو يا ملك صريع الهوى، إلا بذكر من كابد بعشقها
الجوى، فأنا أذكر له ذكر زهر الرياض، فتنجاب عن قلبه
الأمراض.
قم يا صريع العشق وانظر إلى
خد به الحُمرة شابت بياض
واجنِ ثمار القرب من غادةٍ
فتَّانة تُدعى بزهر الرياض
همت
:
زهر الرياض، آه وا فرحتاه.
ترى المحبين صرعى في ديارهم
كفِتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا
ماتوا وإن عاد من يهوونه بُعثوا
مرحبًا برشيقة القوام، أهذه أضغاث أحلام؟
الله في مهجتي زهر الرياض فقد
كلمت قلبي بهذا الهجر فارثي لي
غيري غدَا مستريحًا في الهوى
وأنا
دومًا أموت وأحيا بالأباطيلِ
محمود
:
آه وا مصاباه.
ملك
:
ما هذا البلاء أيها الوزير؟
محمود
:
أين أنا؟
همت
:
أنتَ معي في عذاب السعير.
محمود
:
من جفا زهر الرياضِ
ربة الطرف الكحيل
همت
:
زاد حزني واكتئابي
قد غدا جسمي نحيل
محمود
:
لم أذُق طيب اغتماضي
سيدي أين السبيل؟
همت
:
غرب عضب العشق ماضي
كم به صبٌّ قتيل
محمود
:
أعد ذكر زهر الروض يا هذا إنها
بها القلب عانٍ والدموع سواجمُ
أعيش بها ما عشت صبًّا مُتيمًا
وإن مت بالهجران فالله دائمُ
همت
:
بديعة حسن لو تبدت لناظري
لشام بُدورًا أشرقت بين أنجمِ
على الأُسْد تسطو بالسيوف جفونها
وألحاظها ترمي القلوب بأسهمِ
لها فهم لقمان وصورة يوسف
وأنغام داود وعفة مريمِ
ولي حزن يعقوب ووحشة يونس
وأسقام أيوب وحسرة آدمِ
ردينية الأعطاف صبحية الطلا
ومِسكية الأرادن ذات تبسم
أغار على أعطافها من ثيابها
إذا لبستها فوق جسم مُنعمِ
وأحسد كاسات تُقبلن ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم بالفمِ
أغار عليها من أبيها وأمها
ومني ومن عيني ولفظي ومعصمي
ويك يا همت، الرزيئة طمت، وباح اللسان، ببشر
الجَنان
باح اللسان بسر كنت أكتمه
عني ومن أين للعشاق أسرار
وجدٌ وبُعدٌ وأسقام منوعة
ومدمع فوق صحن الخد مدرار
هل فوق هذا لأرباب الغرام إذا
راموا التستر إشهار وإظهار
محمود
:
دلائل العشق لا تخفى على أحدٍ
كحامل المسك لا يخلو من العبق
همت
(لنفسه)
:
ولكن يلزم أن أتستر عن هذا الإنسان، وأظهر له الانقباض،
وأسأله من أين يعرف زهر الرياض، ومن أين يا هذا تعرف زهر
الرياض؟
وزير
:
الزم الأدب والانخفاض؛ لأنك يا مُهان في حضرة
السلطان.
همت
:
الأمان يا ملك الرقاب.
ملك
:
لا تجزع يا مُصاب، ثب إلى عقلك، واكشف لنا عن جلك
وقلك.
همت
:
كيف وأنا مُستهام صبٌّ، وعقلي أحير من ضبٍّ، وفكري درَّه
غاض، من إعراض زهر الرياض؟ إذا أخبرته بقصتي، وسبب غُصتي،
أنا أنجو من العطب، وأفوز بحسن المنقلب، إذا أخبرته بالتي
أسرتني بأجفانها، وأخضعتني بعزة سلطانها، وهي ابنة ملك
فخيم، وهو ملك عظيم، فربما تلزمه الغيرة الملوكية، أن
يذيقني طعم المنية، فما أصنع لأحصل على الانفلات؟ نجِّني
يا بديع السموات، قاتل الله اللسان، فإنه يوقع في الخسران،
لو صنت لساني، لما ارتاع جَناني.
احفظ لسانك أن تقول فتُبتلى
إن البلاء موكل بالنطق
ملك
:
قد نمَّ عليك عنوان طِرسك، وما أجريته في همسك، إنك خلاب
نهم، وجواب ملتهم.
همت
:
لا، وحياتك يا عزيز الجناب، ما أنا خلاب ولا جواب، غير
أني جزعت من الرزيئة القاضية، إذا بُحت بما خامر قلبي
وأوقعه في داهية، فألتمِسُ أولًا إعطائي الأمان، وأنشر بعد
ما طواه الجنان.
ملك
:
عليك الأمان، ولك الامتياح، بعد نشر سرك أيها
السَّوَّاح.
همت
:
الآن أمنت من العطب، واستبشرت بحسن المنقلب، عبدك يا
معدن الإسداء، مسقط رأسي صنعاء، فاستفزني يوم مرح الراحة،
إلى الدروشة والسياحة، وقصدت في بعض الأحايين بلدًا من
بلاد الصين، وهي مدينة الملك حسَّان، صاحب الشوكة
والسلطان، فدخلتها في يوم زينة وحبور، وفرح وسرور، فوافق
دخولي مرور موكب منتظم، وقد أخذ الزحام بالكظم، وفي مقدمته
هودج ابنة الملك زهر الرياض، التي ما وُجد ولا يُوجد مثلها
في البهجة والإيماض، فحين نظرتها أخذت لُبي، واستولت على
قلبي، وصرت بعشقها ولهان، لا أستطيع الصبر والكتمان، إلى
أن شاع أمري واشتهر، وبلغ الملك حسَّان الخبر، فغضب الغضب
الشديد، وأمر بقتلي أيها الفريد، وبعناية الواحد الجبار،
نجوت بشفاعة وزيره من الدمار، وطردوني بشرط ألا أعود، ولا
أذكر اسمها ما دمت في الوجود، فصرت ذليلًا حقيرًا، أُكابد
من الذل عذاب السعير، إلى أن دخلت هذا البلد في هذا
النهار، فسمعت بالحمَّام الذي أعددتموه للأغراب والسفار،
فدخلت لأغتسل من زُهُومة الاغتراب، فرأيت صورة زهر الرياض
على الباب، فصرعني الوجد والغرام، وهذه قصتي
والسلام.
ملك
:
طلعٌ عُجاب، وحديث مُستطاب، قد أصاب سهمك يا وزير غرضي
المطلوب، وحصلت أيها الأمير على المرغوب.
وزير
:
الحمد لله الذي ألهمني الصواب، وأذهب عن الأمير محمود
كمد الأوصاب.
ملك
:
وكم بيننا وبين مدينة الملك حسَّان؟
همت
:
سنة كاملة يا ملك الزمان.
ملك
:
ليس على الله بعسير، فطِب قلبًا أيها الأمير.
محمود
:
قد ذهبت عني يا ملك جميع الأتراح، وحصلت بهمتك على
الانشراح.
ملك
:
أعطوا هذا الدرويش ألف دينار، جزاءً له على هذا الإخبار،
اذهب أيها الدرويش بالأمان.
همت
:
حُفظتَ يا مولاي مدى الزمان.
ملك
:
قم يا وزير وسِر إلى عند الحكيم الدهقان، واستشره بعد
التحية في إمضاء هذا الشان.
وزير
:
أمرك أيها الملك مُطاع.
ملك
:
سر ميمون الاجتماع، إن هذا الحكيم أيها الأمير، ماهر بكل
شيء وخبير، عمره مائة عام، وعنده عدة من الجن خُدَّام،
فأحببت أن تستمد برأيه الفيَّاض، قبل الحصول على زهر
الرياض.
محمود
:
رأيك أيها الملك مُصيب.
ملك
:
فعسى يرشدنا لطريق قريب به نبلغ المُنى، ونكتفي شر هذا
العنا.
محمود
:
أنا عندي يا ملك رأي سديد، أرجو مُطاوعتي عليه أيها
الفريد.
ملك
:
وما هو الرأي أيها الأمير؟
محمود
:
هو أن أقوم من الآن، وأسير مُتوكِّلًا على الرحمن، في
قضاء حاجتي أيها المُصان.
ملك
:
هذا أمر لا يكون، ولو ذقت في خدمتكَ المنون، أتكون
خلَّصتني من الملك أزدشير، وأدعكَ وحدكَ تسير؟ فانزع من
فكركَ هذا الخاطر، فأنا لا أُمكِّنك أن تُخاطر.
محمود
:
أنا ملزوم بهذه المُخاطرة، ومجبور على عدم المُسايرة؛
لأني أنا العاشق الولهان، وأنت غير مكلف بهذا
الشان.
ملك
:
أنا غير مكلف بخدمتكَ، مع أني غريق نعمتكَ؟
محمود
:
أنا لا أقبل منكَ يا ملك هذا الكلام، وها هو قد حضر
وزيركَ أيها المُصان.
ملك
:
بشِّر أيها الوزير.
وزير
:
اعلم أيها الخطير أني أخبرت الحكيم الدهقان بالقضيَّة،
وأفهمته أنها منوطة لأمره بالكليَّة، فأمر خادمه سحاب، أن
يحمل هذا الأمير المُهاب، ويُوصله إلى مدينة الملك حسَّان،
ويملكه زهر الرياض قسرًا، إذا امتنع أبوها من الإذعان، وقد
أمرني أن أسلم بالنيابة عنه عليك، بعدما أظهر مزيد اشتياقه
إليك.
ملك
:
هذا ما كان في الحساب، وأين الآن سحاب؟
وزير
:
هو يا سيدي مرصود، لأمر الأمير محمود.
محمود
:
ومن رصده لأجلي أيها المُصان؟
وزير
:
رصده الحكيم الدهقان، فقل اظهر يا سحاب، ترى العجب
العُجاب.
محمود
:
اظهر يا سحاب.
سحاب
:
لبيك يا مُهاب.
ملك
:
الآن قد بلغت أيها الأمير المُراد.
محمود
:
نعم، واكتفيت شر جميع العباد، فأُودِّعك الآن، مُتوكلًا
على الرحيم الرحمن.
ملك
:
سِر محفوظًا بعين العناية، وعليك من الله أسمى
وقاية.
محمود
:
أَسبِل عليَّ يا مستعان، ستار التوفيق والأمان.