ابن السلطان
رأيتُه لأول مرة في دكان أبي.
كنتُ في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري، أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل يَعرفُ الطريقَ أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.
كنتُ أقرأ درسًا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية. وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضج بالعَرَق، ورأسي مثل قِدرة الفول تغلي وتفور، أغلقت الكتاب وأخذت أفكِّر فيما قرأت، هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشدَّ مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنتُ أن الكتاب لا ريبَ مخطئ، وأن خط الاستواء يمرُّ من بلدنا بغير شك، وأقبلتُ على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخطِّ الملتهب فلم أرَ أمامي غيرَ سوق القرية يحوطه سورٌ خشبي مهدَّم في أكثر أجزائه، وترقُد فيه قُطعانٌ من الخرفان والجاموس والحمير، وأحسستُ بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القُطعان التي لا تعرف شيئًا عن خط الاستواء.
كان ذلك في يوم السوق، وكان دكَّان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكُفور المجاورة فيطلبون طبقًا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنتُ أعجبُ لأنَّ أبي يعرفُهم جميعًا، وأعجب أكثر من ذلك؛ لأنه يُحبُّهم جميعًا. فلا يكادُ أحدُهم يدخل الدكان مُجهَدًا من عناء السكَّة الطويلة حتى يستقبلَه مرحِّبًا، مناديًا باسمه، سائلًا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف مَن طلَّق منهم زوجتَه، ومن مات ابنُه، أو فطست بهيمتُه، أو سرق أولادُ الحرام جرنَه، كلٌّ منهم يجدُ الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرًا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة تأكل وتنكر، الأمر أمرُه؛ لهذا كان أبي تاجرًا ناجحًا، وكل من يحاول أن يفتحَ مطعمًا إلى جوارنا تكسد تجارتُه، ويعزِّل بعد أيام.
كنتُ في ذلك اليوم مسترخيًا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يَعُدْ يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تمامًا.
وكنت أتابع وجوهَ الزبائن يدخلون ويخرجون من دُكَّانِنا دون أن أجدَ بينها ما يُلفِتُ النظرَ — فقد كانوا جميعًا كأنهم أولادُ أبٍ واحد — حينما وجدت رجلًا يقف أمامي ويُحملِقُ في وجهي، الحقيقة أنني خِفْتُ منه في أول الأمر، وأيقنتُ أنه لا يمكن إلا أن يكونَ مجذوبًا أو وليًّا من أولياء الله؛ كانت شفتاه الدقيقتان المجروحتان في أكثر من موضع ترتعشان بصوت خفيض، وكان وجهُه شاحبًا، وصدغاه غائرتين، وعظامُ خدَّيه بارزة، وعيناه المفتوحتان كعينَي ذئبٍ جائع تُقاوِمان جَفنَين يريدان أن ينطبقا عليهما، وكان العَرَقُ ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرِّجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جُرحٍ قديم. الحقُّ أنني استغرقتُ في النظر إليه فلم أتبيَّنْ كلامَه، ولو أنني سمعتُه حينئذ لقلتُ له: لا تتكلَّم، انظر حتى أشبعَ منك! وانتبهتُ على صياح الزبائن من الداخل وعلى اثنين منهم يندفعانِ إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجلَ وأحدُهما يصرخ مهللًا: شوفوا يا جماعة ابنَ السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنتَ تائهًا يا عم؟ ويجئ رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلَّبها من ظهرها لبطنها. ويضحك الجميع، ويُقبِلون على الضيف وهم يضحكون ويُثرثرون ويأكلون، وكان أبي أكثرَهم بشاشةً في وجهه؛ لأنه اعتبره ضيفه هو؛ ترك مكانه وأقبل عليه يربتُ على كتفه ويتحسس عظم ظهره: والله زمان، هكذا تنسى الأحباب والأصحاب! وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة! وحشتني قوي.
ولبث الرجل جامدًا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى، ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقيَ لينامَ كالميت، ونظر أبي إليه، وفحصه بعينَيه فترة قبل أن يقول: ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم! وتدخَّل رجلٌ يمزج الحنانَ والشوق في صوته: ابن السلطان دائمًا مسافر، من أين جئتَ الآن؟
فقال الرجل بدون أن تَطرِفَ عيناه: من الشرق، فعاد يسأله وكيف أحوال الرعيَّة؟
ولكنه لم يُجِب، بل التفتَ إلى أبي قائلًا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرُكَ يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ودَّ لو لم يسمعْه أحد: ميِّت من الجوع. ويبدو أن هذه الكلمة قد لمستْ قلْبَ أبي فأسرع إلى الأطباق يعدُّها، وفي لحظة كان الطعام أمام الزَّبون الجديد الذي أقبل عليه بنفْس مفتوحة. ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدًا بعد الآخر إلى السوق أو البلد أو القهوة المجاورة.
لم يُتَحْ لي في ذلك اليوم أن أتحدَّثَ معه، ولكنني اعتدْتُ بعد ذلك أن أراه في دكان أبي، فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يَخصُّه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد — وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملًا تجاريًّا ناجحًا — وكان وجودُه يُشيع في المكان جوًّا من الأُلفة والبَهجة والمَرَح، ولكنه كان في كل يوم يبدو في زيٍّ جديد — مرة يَلبَس عمامة كبيرة، ويتدثَّر بعباءة فضفاضة كالمغاربة. وحينًا نراه وعلى ظهره قِربةٌ كبيرة يَمرُّ بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمتُ أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتَبِعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشقُّ طرقات البلد، ويملأ جوَّها بدقَّات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
وكان يمكن أن يَظلَّ «الشيخ سيد» مغمورًا خاملَ الذكر لولا أنه جرَّ على نفسه المتاعب، مَن كان يُصدِّقُ أن سيرتَه يمكن أن تتجاوزَ الفلاحين، وعمَّال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفالَ المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟! لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنَى هذا على نفْسه، فلولا طيشُه وسوءُ تدبيرِه لما وضع رِجلَه في النقطة، لقد أتعب الرجال الثلاثةَ «الذين ندبتْهم النقطةُ من المديرية رأسًا» في تقصِّي أحوالِه، ودوَّخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع.
فقد دأب على السير بين الفلاحين والتجَّار الوافدين على القرية في أيام السوق، والهتاف بصوت عالٍ «يحيا العدل»، وبالطبع لم يكن أحدٌ ينتبهُ إليه، أو يسألُه عن معنى ما يقول؛ فقد اشتهر عنه أنه قد صار من أحباب الله، ولو أنه اقتصر على هذا الهتاف وحدَه ما كان في الأمر ما يدعو إلى القلق؛ فلقد ضبطوه في بعض الأحيان وهو يهتف «يسقط الظلم».
ويومًا علمتُ أنه قد مَثُلَ أمام ضابط النقطة، وكان كعادته حافي القدمين، مهلهلَ الثياب، منفوش الشعر، طويل اللحية. قال له الضابط وهو يتفرس في وجهه: اسمك؟
– ابن السلطان.
– ماذا؟
فمال أحدُ المخبرين على أذنه وهمَس فيها شيئًا، وعاد ضابط النقطة يسأله: وأبوك، أين هو؟
فأجاب «الشيخ سيد» دون تردد: في الشرق.
– في الهند مثلًا؟
فهتف «الشيخ سيد»: لا، في الصين.
ولم يستطعِ الضابطُ أن يكتمَ ضحكَه، فأقبل عليه وقد زاد اهتمامُه بأمره.
– عال، عال، وأين تقع الصين؟
فمدَّ «الشيخ سيد» ذراعَه وأشار ناحية الشرق، من هنا.
وسأل الضابط بعد أن نهض من مكتبه، وأقبل نحوه يَربِتُ على كتفه كأنه يفحص حيوانًا أليفًا: وماذا يفعل هناك؟
فأجاب «الشيخ سيد» في حماس: يحارب الكفرة.
فرفع الضابط حاجبَيه من الدهشة وعاد يسأل: ومَن هم؟ الصينين؟
فصاح «الشيخ سيد»، وهو يعجب من جهله: لا، العسكر واليهود.
– وهل هو هناك من زمان؟
– من ألف سنة.
وضع الضابط يدَه على فمه، ثم وضعها على بطنه، وقال بعد لحظة: يا سلام! لا بد أنه أفناهم عن آخرهم، ومتى يعود؟
فبرقت عينا «الشيخ سيد»: هل تشك في عودته؟ إنه سيعود حتمًا، سيعود ليمحق الكفرة، سيعود راكبًا.
فقاطعه الضابط: حمارًا؟!
فاستنكر «الشيخ سيد» ما يُبديه محدِّثُه من الامتهان لمقام السلطان، وصاح غاضبًا: ما هذا؟! هل يعقل أن يركبَ السلطانُ حمارًا؟! إنه يركب فرسًا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض على رأسه.
ولم يشكَّ الضابطُ في أنه قد بدأ يَهذي، وأراد أن يسألَه سؤالًا أخيرًا: وهل السلطان هو أبوك حقًّا؟
فهاج «الشيخ سيد»، وتَهدَّج صوتُه وهو يَصيح: إنه أبي وأبُ جميعِ الناس، يُحبُّهم ويحبُّونَه، وحين يرونه قادمًا على ظهر فرسه الأبيض الأصيل يَجْرون نحوه، من البيوت والحقول والأسواق، سيُقبِّلون قدميه ويقولون له: شرَّفت بلدنا يا مولانا السلطان.
وانفجر «الشيخ سيد» باكيًا. كان في بكائه شيءٌ أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام فوقف على الطريق يسأل كلَّ عابرِ سبيل: هل رأيتَ أبي؟
فلما لم يجدْ أحدًا يعرفه بكَى وصرخ، لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس مَن يجهله.
•••
لم يبقَ في القرية مَن لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد». وعرَف الناس أن الإنسان يمكن أن يُصبحَ مشهورًا إذا ما سمعتْ به السلطاتُ الرسمية.
وهكذا بدءوا يهتمُّون بشأنه، وتوالت العطايا عليه. وعطف بعضُهم عليه فأعطاه حذاء. وتصدَّق تاجرُ أقمشةٍ فوهبه ثوبًا من الدمور المعتبر قائلًا له: خذ يا عم، ينفع جلبابًا وكفنًا. والحقيقة أنه لم يعرف كيف يُفصِّلُه؛ فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلًا عجوزًا بخيلًا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدقَ عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوبُ قماشًا يحمله على كتفه، إلى أن جاء يومٌ لم يره أحدٌ معه ولم نعرفْ إن كان قد سُرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص. وبمرور الأيام نفض الناسُ أيديَهم منه، ولم يعدْ أحد يهتمُّ بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفَّف من عنايته به، إلى أن جاء يومٌ افتقدتُه فيه فلم أجدْه، وسمعتُ أنه يتجوَّل بين العِزب المجاورة، وأن حظَّه هناك لم يكن أفضل من حظِّه عندنا.
وذات يوم كنتُ أجلس في الدكان وحدي؛ فقد لزم أبي الفراش، واضطررتُ أن أتغيبَ عن المدرسة، وأن أباشرَ حركة الدكان بنفسي. الحقُّ أنني كنتُ أخشى أن يأتيَ عليَّ يومُ السوق وأنا وحدي؛ إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولستُ أدري ما الذي ذكَّرني بالشيخ سيد، فقد شعرتُ في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيتُ أن أراه إلى جانبي.
لذلك لم أفرح كفرحتى حين رأيتُه ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمودٌ من الدخان يطول ويقصر، كانت له مِشية تميِّزه عمن سواه، ولكنني دهشتُ قليلًا حين وجدتُه يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكَّأُ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.
أقبلتُ عليه مرحِّبًا، ولو أطعتُ نفسي لعانقتُه: ما هذا؟ كفى الله الشر.
فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله جاءت سليمة. قلتُ محاولًا أن أكتمَ فرحتي به: سمعتُ أن قُطَّاعَ الطريق هجموا عليك. فضحك من قلبه وتلفَّتَ ينظر في الدكان.
– أبوكَ ليس هنا، ثم غمغم قائلًا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟
– سمعتُ أنه في هذين اليومين.
– حسن، حاولتُ أن أحضرَ الزفَّة، وأن أركبَ الفرس، ولكنهم لم يُصدقوا أنني ابنُ السلطان، ألم أقل لك إنهم كفرة؟!
جذبوني من على الفرس، ومن حُسْن حظي أن ذراعي هي التي كُسرت، لا رقبتي.
وأردتُ أن أغتنمَ هذه المصادفة التي جمعتْني به وحدَنا، فاستدرجتُه قائلًا: ألم تعرفْ ما حدث لي؟!
فأقبل عليَّ في اهتمام، وفرحتُ بالقلق البادي في عينيه، ثم قلتُ أخيرًا: رأيتُ أباك في المنام، فسألني غيرَ مصدِّق: حقًّا؟
قلتُ وأنا أصطنع لهجةَ الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذَّابًا؟ لا، لا، زعلتني منك.
فعاد يسأل في شوق طيب، وماذا كان يركب؟
فقلتُ بعد أن تركتُه معلَّقًا في لحظة انتظار: كان يركب، يا سيدي، فرسًا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.
فصاح: تمام، تمام.
– وكم كان يُشبهُك! جل سبحانه! أنفك، عينَيك، ملامح وجهك. ألم يظهرْ لك أيضًا في المنام؟!
– طبعًا، طبعًا، في المنام وفي اليقظة. وتردَّد لحظة، ثم قال: ألا يمكنُكَ أولًا أن تعطيَني لقمة، لي ثلاثة أيام لم أذقْ طعمَ الأكل، الناس أصبحوا كفرة يا ابني؛ يُغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب!
•••
وقمتُ من فوري أجهِّزُ له الطعام، وشعرتُ بيني وبين نفسي بالخجل؛ لأنني لم أبدأْه بالسؤال، وبذلتُ غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعتُ أمامه ثلاثةَ أرغفة، ثم جلستُ أُراقبه، وأحسستُ أني قد كَبِرتُ فجأة وكأنني أراقبُ ابني وهو يأكل، واستغرقتُ في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا «محمد»؛ أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود، لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعًا، سوف يأتي من هنا، «وأشار ناحية الشرق»، طبعًا أنت تعرف الشرق من الغرب، هات كوب ماء، إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيشٌ كبير من الفرسان، والغبار الذي تُثيره أرجل الخيل يحجب وجْهَ الشمس، سيهرع الناس إليه من كل مكان، يبكون عند قدميه، ويقولون أين أنتَ يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر، وستحني الأشجارُ رءوسَها لتحيَّتِه، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه، تُمأمِئُ وتعوي وتخور وتصهل، حريمُ المملكة كلهم حريمُه، لن تكون لي زوجة، هات كوب ماء؛ وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم، لن تُغلَقَ أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق، سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك. وللجائع، والعاري، والمريض. وسوف تُقبِّلُ الرعيةُ قدمَيه، وتقول له: «شرفتنا يا مولانا السلطان، نحن هنا في انتظارك، من زمان من زمان.» أكلة عظيمة، الله يعمر بيتك، لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي، الحمد لله.
•••
كنتُ قد أخذت بكلامه، فبقيتُ أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي، ومسح فمَه بكُمِّه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفعَ لي في القريب.
ووجدتني بعد لحظة أقف في الظلِّ أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحُه.
ومع أنه قد انقضتْ على ذلك عشرةُ أعوام أو يزيد، ولم أعدْ أسمع شيئًا عنه فلم أزلْ إلى اليوم، كلما رددْتُ بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنتُ أنتظر أن يظهرَ في الأفق فرسٌ أبيضُ على ظهره فارس أبيضُ في يده سيفٌ طولُه ألفُ ذراع، وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدَّم من بعيد والغبار الذي يُثيره يحجبُ وجهَ الشمس.