التابوت

أخيرًا زرتَ المتحف يا عبد الموجود، زيارة كان نفسك فيها من زمان. آخ يا دماغي! لا بد أن عندك حُمَّى. رأسُك ساخن، مفاصلُكَ ترتعش، والنبضُ أيضًا سريع، من أربعين سنة وأنت تحلم بهذه الزيارة، هل تَذكُرُ يوم ذهبت لأول مرة في رحلة مع المدرسة؟ كنت أيامها بالبنطلون القصير يا عبد الموجود، والمدرِّسُ أيضًا كان قصيرًا، ومن الذي لا يبدو قصيرًا أمام تمثال رمسيس؟ والأسماء الكثيرة ما زلتَ تذكرُها، ولكن في أي دولة هي؟ دماغي سينفجر، أين الثلج الذي وضعتْه زوجتُكَ إلى جانبك؟ على الكرسي أم على المكتب؟ آخ! بل هو على رأسك، ومع ذلك فأين ذهب؟ لا بد أنه الآن يغلي، يا لطيف! خوفو وخفرع وأحمس الشجاع وأخناتون النحيف المسلول، لكنَّ الأيام تمر، والسنين تمر، والأتوبيس يمرُّ كلَّ يوم على المتحف، ولكنك لا تنزل منه، لا تنزل منه يا عبد الموجود، المتاحف خُلقت للسواح، وزوجتُكَ عندها شغل في المطبخ، والأولاد يلزم لهم ملابس للشتاء، والدوسيهات لا بد أن تُراجعَها بالليل، وعيشة الدنيا تعب، عيشة الدنيا تعب يا عبد الموجود.

اليوم هو الجمعة؛ لأنك خرجتَ من المتحف على الصلاة، القاعة كانت مزدحمة يا عبد الموجود، ودفعت فيها خمسة وعشرين قرشًا، والسواح كانوا في كل مكان، حمر وبيض وعيونهم خضر وشعرهم أشقر وطويل، والصناديق الزجاجية كانت مرصوصة إلى جانب بعضها، عشرة عشرين ثلاثين؛ شُبَّان وعجائز ونساء، وأحمس شعره ما زال هناك. الغريبة أن شعره أصفر، أصفر مثل شعر الإنجليز، والجلد ما زال على حاله، وحتى الأسنان، والشابة التي على اليمين فيها ملامح من زوجتك؛ وجهُها عريض، عظم خديها بارز، بشرتها سمراء، الابتسامة لا تزال على شفتَيها، لا بد أن دمها كان خفيفًا، والصلاة وجبت يا عبد الموجود، والجامع كان على آخره، وفرشت الجرنال على الرصيف. آخ يا دماغي! الشمس كانت تلسع، الشمس هي السبب، وأحمس أسنانه لا زالت تلمع، والبنت السمراء لا زالت تبتسم من ثلاثة آلاف سنة، أو أربعة آلاف، أو حتى خمسة، من يدري يا عبد الموجود؟ ويحنطونك في صندوق من زجاج، والسواح تتفرج عليك، ويعرفون أنكَ كنت موظفًا في الأرشيف، أربعين سنة، أربعين سنة يا عبد الموجود!

اليوم إجازة، أول إجازة بحق وحقيق، استرحْ لك يومًا يا عبد الموجود، يومًا من نفسك! أربعين سنة وأنت تعمل مثل الحمار، أربعين سنة وأنت تصحو من النوم، وتجري على الديوان، وتجلس على المكتب، وتفحص البوستة، وتسرك الجوابات، وتفرز الصادر من الوارد. أربعين سنة وأنت تشرب الشاي وتأكل الفول، وتقرأ الجرنال، وتقف زِنهَار أمام الرئيس والمدير، أربعين سنة وأصبحت على المعاش يا عبد الموجود، الشمس كانت نارًا، وقاعة المومياء ملآنة بالتوابيت والسواح، شَعرُهم أشقر وعيونهم خضراء، شباب وصحة وملك صحيح، وأحمس راقد على ظهره، والبنت السمراء أم شعر أسمر تبتسم، وتحُتمس وجهُه متآكل، ومكانك معهم يا عبد الموجود، مكانك معهم في الصندوق أو في التابوت.

عندما تدخل في الصباح إلى الديوان سيكونون جميعًا في استقبالك؛ السُّعاة واقفون على الجانبين، حللهم زرقاء، وجوههم المصفرة تبتسم، يقفون على الجانبين ليُحيُّوك، أيديهم الخشنة تريد أن تمتدَّ لتصافحَك، وفي أعلى السلم ستلمح رئيس القلم ومدير الإدارة والمدير العام، نعم إنهم ينتظرونك، ابتسامتهم العريضة ستُخجل تواضعَك، ولكن حاول ألا تتعثرَ في الطريق، لماذا الخجل يا عبد الموجود؟ أَلأنك تلبس حُلَّتك السوداء؟ ولكنهم رأوها عليك من قبل. ألأنك تلبس قميصًا جديدًا ياقته منشاة؟ ولكنه يبدو كذلك فحسب، أم لأنك تلبس حِذاءً شديدَ اللمعان؟

سيسلمون عليك، سيرحبون بك (حاذر فربما أخذوك بالأحضان!) سيقولون لك: كل شيء جاهز وعلى ما يُرام؛ الأوراق منتهية، والمعاش ستقبضه بالكمال والتمام، ولكن قبل الإمضاء تعال لنحتفل بك. لا تحاول أن تعتذر؛ فكل شيء جاهز كما قالوا، والشمس لا تلسع رأسك، ومكانك محفوظ في قاعة المُومياء.

الموكب سيتحرك يا عبد الموجود، أنت في الوسط، المدير في المقدمة، السُّعاة على الجانبين، وكل شيء على ما يرام، وعندما تدخل إلى حجرة المدير — يا لها من حجرة فخمة مزدانة بالستائر المخملية والسجاد وصور المديرين السابقين وأواني الزهور والريحان! — ستجد أن مكانك أيضًا هناك، افتح عينيك، فكل شيء معدٌّ من أجلك، افتح أذنيك، فالخُطب التي ستتلَى عليك طويلة وفصيحة. ابلع ريقَك؛ فالمائدة مرصوصة بألوان الطعام، سوف يجلس الجميع، كلٌّ في مكانه، وسيقف السعاة على أهبة الاستعداد، وعندما يقف المدير، سيسود الصمت، وعندها يتكلم فيقول المدير:

أنا المدير العام،
المسئول عن هذه المصلحة ومن فيها،
في كل يوم أُراجع كشوف الغياب،
ألاحظ أن يكون كل شيء في مكانه،
أن يكون كل موظف على مكتبه،
أن تشرق الشمس في موعدها؛
لأنني أقدس النظام.
واليوم جئتُ بنفسي لأحتفل بك،
أنا الذي كنتُ موظفًا مثلَك،
ثم صَعِدتُ بهمَّتي ونشاطي
من الوحل حتى لمستُ النجوم،
حتى أصبحتُ المدير العام.

ويصمت المدير ليلتقطَ أنفاسَه، وعندها يتكلم الموظفون فيقولون:

المجدُ لك،
يا أيها المدير العام،
يا من تسمح لقلوبنا أن تدقَّ بانتظام،
وتراجع كشوف غيابنا على مرِّ الأيام،
وتأذن لنا — وما أكرمَك! —
بأن نقبضَ مرتباتِنا في أول كل شهر.
ها نحن قد جئنا؛
اثنان وسبعون موظفًا،
اثنان وسبعون بالكمال والتمام.
يا زميلَنا العزيز،
أتينا لنحتفلَ بك،
أتينا لنودِّعَك إلى المعاش،
هل علمتَ ماذا أعددنا لك؟
هل سمعتَ عن المفاجأة؟

ويسكتُ الموظفون؛ لأنهم لا يملكون أن يُذيعوا السرَّ الرهيب، وعندما يتحرك المديرُ إلى آخر القاعة التي تُضيئها مصابيحُ النيون، ويمدُّ يدَه ليرفع الستار عن الصندوق الجميل، إنه راقد هناك، كأنما وجد من الأزل، كأنه جسدُ امرأةٍ بيضاء مصنوع من الفضة، غامض وساحر ومخيف، سيلمسه المدير العام بكفِّه، سيطوف حوله الموظفون، سيدعونك لكي تتفرجَ عليه، وسوف يتكلم المدير ويقول:

هذا الصندوق الفخم الجميل،
لن يليقَ لغيرِك،
لن يناسبَ إلا جسدَك،
لن يملأَه أحدٌ — حين يتمدَّدُ فيه — سواك،
وحين تنزلُ فيه لتستريح،
لا، ليس الآن، ليس الآن،
بل بعد أن تأكل وتتنفَّس وتحمد الله
سنهرع إليك، سنُغلق الصندوق،
لن ندقَّه من الخارج بالمسامير.
لا تَخَف. ولن نغلقَ عليك الغطاء،
لن نُلقيَ به في النيل؛
لأنك كنتَ دائمًا في التابوت،
تحمله أينما ذهبت؛
حين تلبس البذلة الكاملة،
وحين تسير بالقميص والبنطلون،
حين تجلس على القهوة، وحين تتمشَّى على شاطئ النيل،
حيث تقف أمام دكَّان البقَّال ودكان السجائر،
وحين تتزاحم في الشارع والترام والطابور،
حين تحلم بالسفر إلى بلاد بعيدة،
أو بحساب في البنك وثلاجة بدون تقسيط،
وعندما نُلقي بك — لا في الماء كما أكدتُ لك،
فجدرانُ التابوت تُحيط بعظمك ولحمك من كل مكان —
إلى زحام الشارع المجنون،
لن تنزعَ إيزيس غدائرَها، لن ترتديَ ثياب الحِداد.

وعندها يردُّ عليه رئيسُ القلم، فيقول:

يا أيها الموظف المحال إلى المعاش،
إيزيس الرحيمة لن تبكي عليك،
لن تهيمَ في شوارع المدينة بحثًا عنك،
لن تسألَ الرجالَ ولا الملَّاحين والأطفال،
لن تُلقيَ بكَ الأمواجُ على شاطئ بعيد،
ولن تلتفَّ حولَكَ جذوعُ شجرة،
وعندما يكتشفونك،
لن تبكيَ عليك عين،
ولن تَرتميَ أمٌّ على التابوت،
أو تُلقيَ بنفسِها على جُثَّتِك،
أو تضعَ محياها على محياك،
لا، ولن تقبلَكَ ولن تجهشَ بالبكاء.

وحين يسكت يتقدَّمُ الموظفون فيلتفُّون حولك، يطوقونك بأجسادهم وأيديهم ورائحة العرق التي تفوح منهم، يودُّون لو يحملونك فوق رءوسهم كما يحملون خشبة النعش، ويقولون:

(جوقة الموظفين)

إيزيس لن تكون هناك،
لن تفتحَ الصندوقَ العجيب،
ولن تضعَ محياها على محياك.
إيزيس لن تكونَ هناك،
لن تُقبِّلَك، ولن تجهشَ بالبكاء؛
لأن أشلاءَك الأربعة عشر،
لم تجمعْها يدُ إنسان،
لم تجمعْها يدُ إنسان.

ويتقدَّم المدير العام، الذي كان يقف من البداية إلى جانبك ويضع يدَه على كتفِكَ ليرويَ تاريخ حياتك، فيقول:

ساعةَ وُلدْتَ دَوَى صوتٌ يقول:
ها هو المسكين يخرج إلى النور،
لم تجدِ الولادةُ اللِّفافةَ المناسبة،
فدثرتْكَ في الأكفان،
دثرتْكَ في الأكفان،
وعندما جلستَ على الكرسي أمام المكتب،
ورسموكَ بالعين والصولجان،
عندما جلست عليه في عزِّ الشباب،
انخسف القمر، ونسيك الله،
تعلمْتَ كيف تضغط على الجرس، وتطلب الشاي،
وكيف تخفض رأسَك،
وتقول: الحمد لله.
غرقتَ في الملفات والدوسيهات،
تعثرْتَ في اللوائح والقوانين.
كنتَ صاحبَ الجلالة أوزيريس العظيم،
تزرع الحَب، تخصب الأرض،
تعلم، بغير سلاح،
تهذب، بغير تخويف،
تسحر، بغير غناء.
الآن ماذا جرى لك؟

فيجيب الموظفون كأنهم صوتٌ واحد:

تعثَّرتْ في اللوائح والقوانين،
تعثَّرتْ في اللوائح والقوانين،
من البيت إلى المكتب،
ومن المكتب إلى البيت،
يا قطرة عرَق في زحام الأوتوبيس،
يا حرفًا مهملًا في ملف كبير،
يا أيها الزوج الشهم، والأب الكريم، والحاكم العادل،
يا أول من علَّم الإنسان،
يا رسولَ الحُبِّ والسلام على الأرض،
من الذي يجمع رُفاتَكَ المبعثرة؟!
ومن الذي يحييك من جديد؟!

ويتقدم السُّعاةُ — الذين يبدو أنهم خجلوا من صمتهم طوال هذا الوقت، فيقولون:

عبد الموجود!
نحن السُّعاة المخلصون،
أيدينا الخشنة طالما حملت لك الشاي الثقيل،
طالما أحضرتِ القهوة للضيوف والأحباب.
في كل يوم نقف عندما تمرُّ أمامنا،
نسألُك عن الصحة والمزاج،
ننظف الملفات وننفض التراب،
نسبُّ الدنيا، ونلعن الغلاء،
نقول على الرغم من كل شيء: الحمد لله.
ونرضى بالبقشيش القليل،
نرضي بالبقشيش القليل.

وترد جوقة الموظفين:

إيزيس!
أيتها الزوجة المخلصة،
أيتها الأم الرءوم،
لماذا نسيتِ زوجَكِ؟
لماذا نسيتِ ابنَكِ؟

المأدُبَة التي أقيمتْ لكَ تليق بالمعاش حقًّا، ها أنت ذا يا عبد الموجود تتصدرُها، والسُّعاةُ يقدِّمون إليك طبقًا بعد طبق، اللحوم النادرة والفواكه المنتقاة تملأ رائحتُها أنفَك، وتنفذ إلى صدرِك، أكواب الشاي الأسود، وأطباق الشطائر والحلوى لا تفرغُ أبدًا، الحفل حفلُ وداعٍ لكنه طيب وبهيج، وعندما تفرغ أكواب الشاي الأسود الثقيل سيهبُّ «ست» واقفًا، ويصيح بأعلى صوته الخشن البغيض: فلتشربوا أيها الصحاب، وأنتم أيضًا أيها السعاة، لا تنسوا أنفسكم! اشربوا نخب صاحب الجلالة أوزوريس العظيم، ملك مصر الخالدة، ثم يشرب ويشرب إلى أن يخبطَ على المائدة مرات وينبه الجميع إلى خطبته القادمة، ها هو ذا يقف منتصبًا، قويًّا، فارع الطول، نظَّارته السميكة على عينيه، شعرُه ملأه الشيب، وجهُه أقبحُ وجهٍ شاهده حُرَّاسُ طيبة ذات الأبواب المائة طول حياتهم، رأسه الضخم مستقرٌّ على عنق قصيرة مكتنزة كعنق الثور، حاجباه كثيفان أسودان كزوج من الخنافس، وعندما يتكلم، ينفث الدخان من سيجاره الكالح الغليظ، ويتحسَّسُ كرشَه الضخم عند كل كلمة:

قديمًا يا أيها الإخوان،
وقبل أن أُصابَ بالسكر والكبد وضغط الدم،
كنت أصيد ليلًا في ضوء القمر،
عندما عثرتُ عليك يا عبد الموجود،
تعرفْتُ على جُثَّتِكَ
— لم أكن قد لبستُ نظارةً بعدُ —
مزقتها أربع عشرة قطعة،
بعثرتها في كل مكان.
إيزيس غرقت في دموعها،
إيزيس أصبحت عمياء ولن تبحثَ عنك،
وعندما يكبر حورس،
لن يمتطيَ ظهرَ الحصان، ولن يُعدَّ القوس،
لن يحاولَ الانتقام لأبيه؛
إذ كيف يستطيع وكل شيء ينتقم الآن منه؟!
بل سيجلس هو أيضًا على مكتب،
ويصبح حرفًا مهملًا في ملف الخدمة،
وقطرة عرَق في زحام الترام،
وعندما يكبر في السن ويلبس نظارة سميكة،
سيُحال إلى المعاش، سيُحال إلى المعاش،
وحين يموت، لن يُدفنَ في معبد ولا ضريح،
لن تحطَّ الطيرُ عليه، ولن يدنوَ السمكُ منه.

ويجيب الموظفون قائلين:

لن يحطَّ الطيرُ عليه،
ولن يدنوَ السمكُ منه،
ولن يسمعَ صوت إيزيس تنادي:
عُدْ إلى بيتِك، عد إلى بيتِك، يا من تسكن الشمس،
عُدْ إلى بيتك؛ فقد طالتْ غيبتُك،
تعال وزُرْ حبيبتَك، زُرْ أختَكَ التي تُحبُّك،
عُدْ إلى بيتك، يا أخي وحبيبي،
ألا تسمعُ إذَنْ صوتي؟

لكن لن تستطيعَ أن تعودَ يا عبد الموجود، لن تستطيعَ أن تعود. فقد أخذوك من يدِكَ من مئات السنين، وقادوك إلى المملكة السفلى؛ مملكة الموت والظلال، المملكة التي كُتب على بابها: يا أيها الداخل من هذا الباب، ودِّعْ كلَّ أمل، هل تقول إنهم يحتفلون بك؟ نعم، ولك الحق. يحتفلون بوضعك في التابوت، والتابوت غامض وساحر وجميل، مرصَّع بالأحجار النفيسة، برَّاق من المعدن الخالص، رُسمت عليه زهرة لوتس وحيدة، وحُشيت جوانبُه بالملفات والدوسيهات والتقارير، ومن يدري؟ فبعد أن تدخلَ فيه، وتتمدَّد، وتتثاءب، وتشربَ شايك الأسود الأخير، وبعد أن يأخذوا إمضاءَك على ورقة المعاش، ربما تذكَّروا فرسموا وجهَكَ الأسمر النحيل على غطائه، ولم ينسوا أن يضعوا على شفتيك ابتسامةً راضية، وفوق عينيك نظارة سميكة، وعلى رأسك تاج الوجهين.

١٩٦٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤