كيف أرَّخت الحركة القومية؟
أحببت التاريخ منذ صباي، وكنت ولا أزال أراه مدرسةً لتقويم أخلاق الشعب والنهوض بتربيته السياسية والقومية، وزاد تعلُّقي به أني رأيت فيه على ضوء التجارب وسيلةً ناجعة لتثقيف العقول ورفع مستوى الوطنية والوعي القومي في النفوس؛ فلقد تكشَّفت لي مع الزمن نقائص كثيرة في مجتمعنا وفي أخلاقنا وثقافتنا. لمحت على تعاقب الحوادث ضعفًا في مستوانا الوطني، ونقصًا في وعينا القومي، فكرت في الوسائل لعلاج هذا الضعف وتدارك هذا النقص، فوجدت أن التاريخ وسيلة تلجأ إليها أرقى الأمم لتربية الأخلاق وتثقيف العقول وغرس روح الوطنية في النفوس. ومن هنا جاء تعلقي بالتاريخ، أردت أن أجعل منه مدرسة للنهوض بالمجتمع، وجدت أن عقول الشباب والشيوخ لا تتلقى الدعوة الصالحة بحُسن القول ولا تتعرف الحقائق إلا إذا تقدم الوعي القومي وعرف المواطنون أحوال بلادهم على حقيقتها وكيف تطورت في مختلف مراحلها، فعلى ضوء التاريخ يكونون أكثر صلاحية لقبول الأفكار السليمة وفهم الحقائق في الشئون العامة. وإذا كان القصص وسيلة من وسائل نشر المبادئ الصالحة والأفكار السامية والعواطف النبيلة، فأجدر بالتاريخ وهو قصة واقعية أن يكون وسيلة للنهوض بالعقول والأفكار، ونضج القرائح، والسمو بأخلاق الجيل، وتوجيه المواطنين إلى المُثل العليا في الحياة القومية.
عُنيت من التاريخ أكثر ما عُنيت بتاريخنا القومي، وأقصد به تاريخ مصر كوطن، وتاريخها كأمة لها أهداف عليا تنشدها، فهو يتناول تاريخها السياسي، وتاريخها الحربي، وتاريخها الاقتصادي، وتاريخها الاجتماعي والثقافي. وأيقنت أن من واجبنا أن نعلِّم الشعب بمختلف طبقاته تاريخ بلاده في هذه النواحي، وأن نبدأ بتعليم أنفسنا؛ أي بتعليم الطبقة المثقفة والممتازة تاريخنا القومي، لأني أرى مع الأسف أن هذه الطبقة حتى التي بيدها مصاير البلاد لا يعرف كثير من أفرادها من هذا التاريخ إلا قشورًا سطحية لا تصل إلى اللباب، وهذا النقص هو من أسباب تبلبل الأفكار وارتجال الآراء وتأخر الوعي القومي عندنا. فعلينا أن نعلِّم الشعب تاريخ بلاده، وبذلك يقدرها حق قدرها ويزداد تعلقًا بها ويفهمها حق الفهم في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ولَعَمْرِي ليس الحاضر في الغالب إلا استمرارًا للماضي ونتيجة مرتبطة بمقدماتها، وكذلك شان المستقبل فهو وثيق الصلة بالحاضر والماضي. حقًّا قد يكون الحاضر خروجًا على الماضي وإصلاحًا له وأحيانًا يكون انقلابًا عليه، ولكن لا بد من فهم هذا الماضي لكي نتعرف نقائصه فنخرج عليها ونفتتح عهدًا جديدًا من النهضة والإصلاح، وهذا وذاك لا يكون إلا إذا عرفنا تاريخ بلادنا ومبلغ صلته بحاضرها ومستقبلها. ولا غرو فالشعب كائن حيٌّ، يتطور وينمو ويتسلسل في حياة أجياله، والأجيال في حياة الأمم كمراحل العمر في حياة الإنسان، مع هذا الفارق بينهما، وهو أن الإنسان مصيره إلى زوال، أما الأمم الجديرة بهذا الاسم فباقية خالدة لا تزول، تتجدد على الدوام في حياة أجيالها المتعاقبة.
فعلينا نحن الذين أوتينا شيئًا من العلم والمعرفة أن نعلِّم الشعب تاريخه لننشئ فيه وعيًا قوميًّا، ونغرس فيه روح الوطنية؛ لأن الشعب كلما ازداد معرفةً بتاريخ بلاده ازداد حبًّا لها، وإذا أحبها أخلص لها، وإذا أخلص المواطنون لبلادهم بذلوا كل ما في مقدورهم لإسعادها ورفعة شأنها، وهذا هو معنى الوطنية، ومن هنا قالوا إن التاريخ مدرسة للوطنية.
كل هذه الخواطر والمعاني كانت تتردد في نفسي وتحفزني إلى أن أؤرخ لهذا الشعب في عصره الحديث، ولم يكن لديَّ بادئ الأمر برنامج واسع شامل لهذا التاريخ، بل أردت أن أتخير بعض مراحله فأؤرخها دون أن أتقيد بسلسلة متماسكة الحلقات تضم هذه المراحل.
فكرت منذ عدة سنين سبقت سنة ١٩٢٦ في أن أضع تاريخًا للزعيم مصطفى كامل، باعتبار أنه باعث الحركة الوطنية الحديثة، ولكني رأيت أن تاريخ مصطفى كامل يستتبع الكلام في مبدأ ظهور الحركة القومية والتطورات التي تعاقبت عليها، فأخذت أدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية. رجعت إلى الثورة العرابية، فإذا بها ترجع أسبابها ومقدماتها إلى الحركة الفكرية والسياسية التي ظهرت في عهد إسماعيل، وهذه الحركة الأخيرة لم تظهر فجأةً ولم تكن الأولى في تاريخ مصر القومي الحديث، بل هي تطور جديد للروح القومية التي بدأت تظهر في البلاد منذ أواخر القرن الثامن عشر، فإلى هذا العهد يجب أن نرجع بمبدأ الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، وانتهيت إلى أن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر. ومن ثم تطورت الفكرة عندي من تأريخ مصطفى كامل إلى تأريخ أدوار الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، فترامت شُقَّة البحث، وتشعبت مسالك الدرس، واستشعرت ضخامة العمل إذا أردت أن أتمه على الوجه الذي أبتغيه، فأرجأته سنة بعد أخرى.
وفي سنة ١٩١٤ بدأت أدوِّن مذكرات عن حوادث مصر المعاصرة تكون مادة لي عندما أؤرخ الحركة القومية، وقد ضُبطت هذه المذكرات قُبيل اعتقالي في أغسطس سنة ١٩١٥، ثم أعيدت إليَّ بعد الإفراج عني سنة ١٩١٦، وشغلتني الحوادث بعد ذلك عن تنفيذ فكرتي، على أني لم أدَع التهيؤ لها واستكمال عناصرها ومراجعها وأصولها.
وفي سنة ١٩٢٢ أخرجت كتاب «الجمعيات الوطنية» كمقدمة لدراسة الحركة القومية، ومرت الأيام والسنون والمشروع لا يزال في حيز التحضير والتفكير، أتهيب تنفيذه خشية عدم إمكاني إخراج حلقاته كلها حلقة بعد أخرى، وأخذت أؤجل وأسوف، إلى أن أُبعدت عن الحياة البرلمانية سنة ١٩٢٦ وانقطعت صلتي بها وأصبحت «عاطلًا» من العمل الذي أعددت نفسي له منذ صباي.
فماذا تُراني أفعل؟ أأسترسل للهموم وخيبة الأمل؟ أم أغيِّر مسلكي في الحياة وأفهمها على حقيقتها كما يقولون؟ أم أنصرف عن خدمة الشعب ما دام قد خذلني وصارحني بأنه لا يريدني معبِّرًا عن آماله مدافعًا عن حقوقه وأهدافه؟
كل هذه التخيلات لم تقبلها نفسي؛ إذ ما ذنب الشعب؟ أليس هو مسوقًا بقادته وزعمائه وكُبَرائه وذوي النفوذ فيه، متأثرًا ببعض الحوادث التي تنتابه دون أن تكون له إرادة في وقوعها؟ وكثير منها قد تضل في غمراتها العقول والأفهام؟
كان لا بد لي من عملٍ يشغلني ويستأثر بذهني فلا يدَع لي مجالًا للتفكير في سواه، وبذلك تتضاءل في نفسي صور الحوادث التي همتني وآلمتني ولا يبقى في ذهني مجال للبحث في تغيير مسلكي في الحياة ونظراتي إليها. فاعتزمت أن أنقطع إلى جانب عملي في المحاماة لتنفيذ الفكرة التي كانت تعاودني من سنة إلى أخرى، وهي تأريخ الحركة القومية لمصر الحديثة، وقد اقتضى مني هذا العمل أن أتفرغ له تفرغًا شاملًا لأن تأريخ هذه الحركة — منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم — أمر يكتنفه كثير من الصعوبات وخاصةً لمن يريد أن يتفهم الحوادث ويتحرى الحقائق فيما يكتب ويدوِّن.
وإذ رجعت بالدور الأول من أدوار الحركة القومية إلى المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر، فقد اقتضاني هذا الوضع أن أتعمق في دراسة حالة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل هذه الحملة وفي أثنائها، وأن أجعل الكتاب شاملًا لتاريخ مصر القومي الحديث منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم، مبحوثًا ومعروضًا على ضوء الحركة القومية؛ لأن عقيدتي أن التاريخ الحقيقي للأمم هو تاريخ نهضاتها القومية فهي أساس وجودها ومبعث تطورها. وازددت اعتقادًا مع الأيام والأعوام بالتلازم التام بين تاريخ الأمة وتاريخ نهضتها، ومن هذا التلازم يتألف التاريخ القومي، والنهضة القومية هي معالم لهذا التاريخ وينبوعه الفياض، وما التاريخ القومي إلا كالمرآة تنطبع عليها صور النهضة وأطوارها، وحوادثها وأبطالها، وتقدُّمها وتراجعها، وأفراحها وأحزانها، وآمالها وآلامها.
وقد تشعبت أمامي المراجع التي تبلغ مئات الكُتب والمؤلفات والتقارير والمذكرات وما إلى ذلك في كل مرحلة، بل في كل موضع من مواضع البحث، وكان لا بد لي أن أدرسها كلها، وهذا يقتضي فوق الجهد والعناء صبرًا وجلَدًا، على أني أحمد الله على أن وفقني إلى كليهما.
(١) ظهور الجزء الأول (١٩٢٩)
ظهر الجزء الأول من هذا التاريخ في أول يناير سنة ١٩٢٩؛ أي إنني سلخت نحو ثلاث سنوات في إخراجه منذ شرعت في تنفيذ الفكرة، وعدة سنوات سابقة منذ خالجتني كأملٍ أبتغي تحقيقه.
بدأت في طبع هذا الجزء يوم ١٠ يونيو سنة ١٩٢٨ في مطبعة النهضة لصاحبها المرحوم محمود أفندي حمادة بشارع عبد العزيز، وكان رجلًا أمينًا مستقيمًا، وكنت أعرفه منذ كان رئيسًا لمطبعة جريدة «الأخبار» في عهد أخي المرحوم أمين بك، وأنجز طبعه وتغليفه (تجليده) في أواخر ديسمبر سنة ١٩٢٨.
يشتمل هذا الجزء على دراسة نظام الحكم في عهد المماليك، والحالة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد قبل مجيء الحملة الفرنسية، ثم أسباب هذه الحملة ومقدماتها ووقائعها وأحداثها الأولى، ووقائع المقاومة الأهلية التي اعترضتها في مختلف أنحاء البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، ونُظم الحكم التي أسَّسها نابليون وأثرها في تطور الحوادث، وتاريخ مصر القومي في هذا العهد.
(٢) الجزء الثاني
وفي أواخر ديسمبر سنة ١٩٢٩ أخرجت الجزء الثاني، مشتملًا على تاريخ مصر القومي من إعادة الديوان في عهد نابليون إلى جلاء الفرنسيين عن البلاد، ومن جلاء الفرنسيين إلى ارتقاء محمد علي الكبير أريكة مصر يوم ١٣ مايو سن ١٨٠٥، وجعلت ولايته الحكم ثمرة من ثمرات الحركة القومية، وأوضحت على ضوء الوقائع أن العامل القومي الذي بدأ يظهر على مسرح الحوادث السياسية خلال الحملة الفرنسية ظل محتفظًا بقوته بعد جلاء الفرنسيين، فلم يستطع التُّرك ولا المماليك ولا الإنجليز أن يهزموه أو يقهروه أو يبعدوه عن الميدان، وكان من نتائجه بعد انتهاء الحملة الفرنسية ثورة الشعب على حكم المماليك، ثم على الوالي التركي، ثم المناداة بمحمد علي واليًا مختارًا على مصر؛ فمصر هي التي خلقت محمد علي، وفي ذلك قلت عن يوم ١٣ مايو سنة ١٨٠٥: «هذا هو اليوم المشهود الذي تولى فيه محمد علي باشا حكم مصر بإرادة الشعب، وهو من الأيام التاريخية المعدودة في تاريخ الحركة القومية؛ ففيه تم انقلاب عظيم في نظام الحكم، فيه وضعت مصر لنفسها أساس حريتها واستقلالها، فيه أعلنت عن حقها في تقرير مصيرها، فيه تجلت سلطة الأمة ممثلة في أشخاص زعمائها وذوي الرأي فيها، تجلت سلطة الأمة في خلع الوالي الذي لم ترتضِ حكمه وإسناد ولاية الأمر إلى من انتخبه زعماء الشعب ووكلاؤه. وتلك أول مرة في تاريخ مصر الحديث يُعزل الوالي ويُختار بدله بقوة الشعب وإرادته؛ فقد كان الولاة يُعزلون بقوة الجند وإرادة رؤسائهم من المماليك، لكن هذه المرة كان الانقلاب شعبيًّا فوقع بإرادة الشعب وبقوة الشعب، ثم انتخاب محمد علي للولاية على الرغم من صدور الفرمان السلطاني بإسناد ولاية «جدة» إليه. وكان معروفًا أن الحكومة التركية تؤيد خورشد باشا وتناصره في موقفه، فخلع خورشد وانتخاب محمد علي واليًا على مصر فيه معنى الاستقلال عن الحكومة التركية ومقاومة تدخُّلها في حكم مصر. ويمتاز هذا الانقلاب بأنه لم يكن مقصورًا على مجرد انتخاب وكلاء الشعب لولي الأمر، بل كان مقرونًا باشتراطهم أن يرجع إليهم في شئون الدولة، فوضعوا بذلك قاعدة الحكم الدستوري في البلاد. وثمة ميزة أخرى أكسبت ذلك الانقلاب بهاءً وجلالًا، ذلك أنه تم في دار المحكمة، في ساحة القضاء، فاتخذ معنى الاحتكام إلى العدالة والتمسك بالحق، وهي فكرة جليلة امتازت بها الثورة المصرية، ولا نظن ثورة أخرى غربية أو شرقية تسامت إلى هذا المعنى البديع. فالثورة إذا كان قوامها المطالبة بالحق والاحتكام إلى العدل، كان أساسها الحق ومن ورائه قوة الشعب تسنده وتؤيده، وما أحوج الثورات والحركات القومية إلى أن تحافظ في كل أدوارها على معاني الحق والعدل والنزاهة؛ فإنها بذلك تسلم من الانحدار في مهاوي الرذيلة والفساد والفوضى والطغيان.»
(٣) عصر محمد علي
أصدرت هذا الكتاب في ديسمبر سنة ١٩٣٠، وهو الحلقة الثالثة من هذه المجموعة، وقد اقتضى مني جهدًا أكبر من الجهد الذي بذلته في إخراج الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية، لأهمية العصر الذي تولى فيه محمد علي الكبير حكم مصر، وطول مدته، وعِظم وقائعه ومنشآته، ونتائجه وآثاره الضخمة في حياة مصر السياسية والقومية. وكانت المراجع فيه أوسع مدًى وأكثر عددًا من مراجع الحملة الفرنسية، يضاف إليها الدوريات والوثائق التي لا بد من الرجوع إليها. وقد جعلت عصر محمد علي دورًا من أدوار الحركة القومية؛ إذ إن الحركة القومية كما عنيتها وجعلتها أساس البحث والتدوين هي «الجهود التي بذلتها الأمة في سبيل تحرير مصر من النير الأجنبي وفك قيود الاستبداد عنها وتقرير حقوق الشعب السياسية، هي التضحيات التي قدمتها والآلام التي احتملتها في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة.» وقلت تعقيبًا على هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب: «على هذا الاعتبار يجب أن نعدَّ عصر محمد علي صحيفة مجيدة من صحائف الحركة القومية، ففيه نشأت الدولة المصرية الحديثة، وفيه تحقق الاستقلال القومي وشُيدت الدعائم الكفيلة بالقيام به، فيه تأسس الجيش المصري والأسطول المصري والثقافة المصرية، وفيه وُضعت أُسس النهضة العلمية والاقتصادية في البلاد؛ فهو عصر استقلال وحضارة وعمران.»
وقد أبرزت فضل الشعب وفضل محمد علي معًا في تحقيق استقلال مصر ونهوضها في مختلف النواحي، وعُنيت بتمجيد روح البذل والتضحية في الجيل الذي عاش في عصره، وقلت في هذا الصدد: «إن استقلال مصر كان ثمرة الحروب التي خاضت غمارها في عصر محمد علي، تلك الحروب التي بذلت فيها الأمة أرواح عشرات الآلاف من زهرة أبنائها، من أولئك الأبطال المجهولين الذين جاهدوا واستُشهدوا في ميادين القتال وسقوا أديم الأرض بدمائهم في ربوع مصر والسودان، وفي صحاري جزيرة العرب، وجبال كريت والمورة، وبطاح سورية والأناضول، وفي قاع اليم بمياه اليونان، أو على سواحل مصر والشام. فلا جَرم أن كان الجيل الذي عاش في عصر محمد علي هو أكثر الأجيال عملًا وتضحية في سبيل تكوين مصر المستقلة؛ فعلى أكتافه وبجهوده وضحاياه قام صرح الاستقلال عاليَ الذُّرى، وهو الذي نهض بالأعمال الأولى لحضارة مصر وعمرانها، فشق الترع، وأقام القناطر والجسور، وشاد المدارس والمعاهد، وبنى العمائر والدواوين والقصور، وأنشأ الموانئ ودور الصناعة (الترسانات)، واستحدث المعامل، وشيد القلاع والاستحكامات، وبذل في سبيل تلك المنشآت راحته وحياته. ويكفيه فضلًا في ميدان التضحية أنه أنشأها وبناها عاملًا على السخرة دون أن ينال على جهوده أجرًا ولا جزاءً ولا شُكورًا، وأن عشرات الآلاف من بنيه قد ماتوا تحت أعباء المجهودات المضنية التي احتملوها في سبيل إتمام تلك الأعمال المجيدة. فإذا قارنت بين جهود ذلك الجيل وتضحياته وما بذلته الأجيال المتعاقبة من بعده إلى اليوم، حكمت من غير تردد أنه أكثر الأجيال بذلًا ومساهمةً في أعباء الجهاد القومي وأكثرها تضحيةً بالنفس والروح والمال في سبيل استقلال مصر وعمرانها، فهو جدير بأن تنحني الأجيال المصرية احترامًا لذكراه، وتقديرًا لفضله؛ لأنه عمل لها جميعًا، وبذل راحته ودمه وحياته، واحتمل ما احتمل من جهد وحرمان ليعبِّد لها الطريق كي تجني ثمار جهوده وتضحياته وآلامه. والحقيقة البارزة التي تخلُص لك من إنعام النظر في تاريخه أن عبقرية محمد علي يرجع إليها الفضل الكبير في تنظيم ذلك الجهاد واستثماره وتوجيهه إلى خير مصر وعظمتها، كما أن مواهب الأمة المصرية وحُسن استعدادها للتقدم وماضيها في الحياة القومية، كل أولئك كان مادة الاستجابة لدعوة محمد علي، ومن جميعها تكوَّن الفلك النوراني لتلك النهضة التي سطعت شمسها في عصره. فلو أنه تولى الحكم في بلد آخر من بلدان السلطنة العثمانية وقتئذٍ لدُفنت فيه عبقريته، ولمَا استطاع أن يشيد ذلك الملك الضخم، ولا أن ينهض بتلك المشروعات والأعمال الجليلة، ولكانت نهايته لا تختلف كثيرًا عن خاتمة الباشوات الذين شقُّوا عصا الطاعة على السلطنة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر وخلال التاسع عشر. ولكن تأييد الشعب له ومناصرته إياه عند اشتداد الأزمات، كان لها الفضل الأكبر في ثبات ملكه وتغلُّبه على الدسائس والعقبات التي اعترضته في طريقه. وحسبُك تبيانًا لهذه الحقيقة أن تُلقي نظرة على مباحث هذا الجزء (الكتاب) وأن ترجع إلى الفصول التي أفردناها للكلام عن الجيش والأسطول وأعمال العمران، تجد أن على سواعد المصريين قد قام ذلك الملك العريض وتمَّت تلك المنشآت العظيمة، وأن محمد علي لم يستطع إنشاء الجيش النظامي من العناصر غير المصرية التي كانت تتألف منها القوة الحربية في أوائل حكمه لِما فُطرت عليه من التمرد والفوضى، ولم يوفق إلى تأسيس ذلك الجيش الذي تفخر به مصر في تاريخها الحديث إلا بعد أن ألَّفه من صميم المصريين.»
(٤) عصر إسماعيل
في ديسمبر سنة ١٩٣٢ أخرجت كتاب «عصر إسماعيل» ويشتمل على تاريخ مصر القومي في عهد خلفاء محمد علي، وهو في جزأين، يحتوي الأول على عهد عباس وسعيد وأوائل عهد إسماعيل، ويتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل، وقد أسميت الكتاب «عصر إسماعيل» تغليبًا للجزء الأهم في هذه الفترة من تاريخ مصر الحديث.
بدأت بهذا الكتاب أدخل في العصر الذي يشعر فيه من كان في موقفي بشيء من الحرج في الكتابة عنه؛ فقد وضعته وأخرجته في الوقت الذي كان المغفور له الملك فؤاد نجل إسماعيل في أوج مجده وسلطانه، وكنت أعلم مبلغ اهتمامه بتمجيد تاريخ والده والتعظيم من شأنه. وبتوجيهه ومساعداته السخية صدرت عدة مؤلفات ترمي كلها إلى إبراز الجوانب الحسنة من شخصية الخديو إسماعيل، وأنا أعرف هذه الجوانب الحسنة، وقد ذكرتها بإسهاب في كتابي عنه، ولكني أيضًا أعرف أن لإسماعيل جوانب سيئة كان لها أثرها الضار في حياة مصر السياسية والاقتصادية، ولا بد من تدوينها. وبعد أن فكرت في ذلك مليًّا وجدتني مدفوعًا من تلقاء نفسي إلى أن واجبي كمؤرخ للحركة القومية يقتضي مني أن أدون الحقائق كلها عن الخديو إسماعيل وأذكر ما له وما عليه، وهذا في الواقع هو منهجي في التراجم والشخصيات، وأنا بطبعي ميال إلى الاعتدال، ولا أحب التشنيع في ذكر السيئات، ولكن لا يصح أن أغفلها أو أتجاوز عنها، لأني أنشد الحق والإنصاف فيما أقول وأكتب، وأود ألَّا أظلم أحدًا، ولا أرضى لنفسي أيضًا أن أحابي أحدًا بغير الحق. وقد وضعت لنفسي هذه القاعدة في سلسلة هذه المجموعة، واتَّبعتها قدر ما استطعت في كل حلقة من حلقاتها، وعلى هذا الأساس وضعت كتاب عصر إسماعيل.
(٥) الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي
أخرجت كتاب «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» في فبراير سنة ١٩٣٧، وقد أخذ مني جهدًا كبيرًا في تأليفه؛ إذ لم يكن قد صدر من قبلُ كتاب مجتمع عن هذه الثورة، والحديث عنها مبعثر في شتى المراجع والمجاميع والمذكرات، والآراء عنها متباينة متضاربة، وأشرت إلى هذا التضارب في مقدمة الكتاب. وقد قضيت نحو أربع سنوات في تأليفه، واقتضاني التحري عن حقائقه أن أرجع إلى المذكرات المخطوطة لعرابي باشا وكانت محفوظة في دار الكتب، وإلى كل ما كتبه أو قاله زملاؤه ومعاصروه ممن اشتركوا في الثورة أو ساهموا فيها أو أدركوا عصرها، كمحمود باشا فهمي في كتابه «البحر الزاخر»، ومذكرات الشيخ محمد عبده، وما كتبه المستر بلنت، ورجعت أيضًا إلى مضابط مجلس النواب في الوقائع الرسمية وفي أصولها المحفوظة في مكتبة البرلمان، وإلى جميع الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ذلك الحين، ومحاضر التحقيق، ومحاضر محاكمة العرابيين وفيها كثير من أقوالهم التي تُلقي ضوءًا على حوادث ذلك العصر، هذا عدا المراجع الفرنسية والإنجليزية من مؤلفات وصحف ومجلات مصورة وغير مصورة، مما كان يصدر في عهد الثورة. وجملة القول أني عانيت من الجهد في إخراج هذا الكتاب أكثر مما عانيت في الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية وعصر محمد علي؛ إذ كان الموضوع في كلٍّ منها متشعبًا، والطريق فيها غير سهل ولا معبَّد.
(٦) مصر والسودان
في يونيو سنة ١٩٤٢ في إبان الحرب العالمية الأخيرة نشرت كتاب «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال»، أرَّخت فيه العشر السنوات الأولى للاحتلال، وهي الفترة التي رسخت فيها أقدام الإنجليز في البلاد وخيَّم اليأس على نفوس الأمة بعد هزيمة الثورة العرابية، وقد أسميتها فترة الانحلال الوطني الذي أعقب الاحتلال، وكان لا بد أن أؤرخ هذه الفترة قبل فترة البعث التي جاءت على يد مصطفى كامل.
وهذا الكتاب وإن كان يسبق من جهة التحديد الزمني كتاب «مصطفى كامل» وكتاب «محمد فريد» لكني أخرجته بعد هذين الكتابين؛ إذ رأيتني قد أبطأت في إخراجهما لاشتغالي بالحلقات الأولى من تاريخ الحركة القومية، فآثرت أن أؤجل إصدار كتاب مصر والسودان حتى أنتهي من إخراجهما.
(٧) مصطفى كامل
ظهر هذا الكتاب في يناير سنة ١٩٣٩، وهو إلى جانب تاريخ الزعيم يشتمل على تاريخ مصر القومي من سنة ١٨٩٢ إلى سنة ١٩٠٨. وقد حرصت على أن يكون حلقة من سلسلة التاريخ القومي فلم أكتبه كما يكتب التلميذ عن أستاذه فحسب، بل سلكت في وضعه المنهج العلمي في كتابة التاريخ، وهو المنهج الذي اتبعته في حلقات هذه المجموعة، وخصصت فيه عدة فصول عن حوادث مصر السياسية في تلك الحقبة من الزمن، بحيث يرجع إليه كل من يريد أن يقف على تاريخها بصرف النظر عن ميوله السياسية. وأحسبني قد أصبت في اتباع هذا المنهج في كُتبي؛ فإني لم أجعل منها دعاية سياسية أو حزبية، بل قصدت أن تكون مرجعًا لمن يريد أن يعرف تاريخ مصر المعاصر. على أن الروح الوطنية، لا الروح الحزبية، تتمشى في فصول الكتاب وفي غيره من الحلقات، وهذه الروح قد استلهمتها من دراسة التاريخ، وأعتقد أن هذا هو واجب المؤرخ في كل أمة؛ فالتاريخ ليس مجرد سرد للوقائع وتدوين لحوادث السنين سنة فسنة، ولو هو اقتصر على ذلك لكان علمًا جامدًا لا أثر له في توسيع الأفق الذهني وارتقاء المدارك واستنارة البصائر، بل التاريخ هو إبراز وتصوير لتطور ذلك الكائن الحي ألا وهو الشعب واطراد نموه وتقدُّمه على تعاقب السنين والأجيال؛ فالشعب الذي يريد الحياة يجب أن يعرف ماضيه معرفة تامة لكي يفهم حاضره على ضوء هذا الماضي، ويستنير بعظاته ودروسه، ويعرف أمجاده فيحافظ عليها ويرعاها، ويعرف أيضًا أخطاءه وعيوبه وعثراته فيتجنبها ويتلافاها. وقد اغتبطت كثيرًا لإظهار كتاب «مصطفى كامل»؛ إذ أتيح لي أن أطالع الجيل بتاريخ حقبة هامة من البعث القومي الذي ظهر كردِّ فعل للاحتلال الأجنبي.
(٨) محمد فريد
وفي يوليو سنة ١٩٤١ ظهر كتابي عن «محمد فريد»، ويشتمل على تاريخ الزعيم الشهيد، ثم تاريخ مصر القومي من سنة ١٩٠٨ إلى سنة ١٩١٩، وقد أبرزت النواحي الوطنية والاقتصادية والاجتماعية في حياة الزعيم وتضحياته في سبيل بلاده، مع تاريخ الحوادث والأحداث التي تعاقبت على مصر في عهده. فجاء الكتاب نموذجًا للمجاهدين المخلصين الذين تنهض بهم البلاد حقًّا، وسجلًّا شاملًا لتاريخ مصر في تلك السنين.
إن فريدًا لم يُعرف فضله حق المعرفة في تاريخ الجهاد القومي، فهو كما قلت في عنوان الكتاب «رمز الإخلاص والتضحية»، ولكن فضله قد غُمر في زحمة التقلبات التي طرأت على الحركة القومية، ولعلِّي بإخراج هذا الكتاب قد أبرزت بعض هذا الفضل حتى لا تضيع الصورة الرائعة الخالدة لجهاد فريد وإخلاصه وتضحياته.
(٩) ثورة سنة ١٩١٩
وفي أبريل سنة ١٩٤٦ ظهر كتاب «ثورة سنة ١٩١٩» في جزأين، وهو من أهم حلقات هذه المجموعة، وقد قضيت نحو خمس سنوات في تأليفه وإخراجه، وبذلت في ذلك جهدًا كبيرًا. وكان ظني أنني، وقد عاصرت الثورة وساهمت فيها، لا أجد من العناء ما بذلته عن العهود التي لم أدركها، ولكني على العكس وجدت نفس الصعوبات التي واجهتها في الحلقات الأخرى.
لقد درست الثورة أولًا من ناحية أسبابها ومقدماتها، فرجعت بها إلى عدة سنين سبقت نشوبها، وأرجعتها إلى أسباب وعوامل عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية، بعضها قريب وبعضها بعيد، فاقتضاني ذلك أن أدرس من جديد حالة البلاد من هذه النواحي، ودونت نتائج دراستي في الفصلين الأول والثاني من الجزء الأول من تاريخ الثورة.
وبحثت أيضًا في توقيت الثورة متى ابتدأت ومتى انتهت، أما بدايتها فمعروفة؛ فقد شبت في مارس سنة ١٩١٩ على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، ولكن متى وفي أي سنة كانت نهايتها؟ هنا بحثت طويلًا لكي أضع حدًّا بين تاريخ الثورة وتاريخ في أعقاب الثورة، فانتهى بي البحث إلى أنها بدأت في مارس سنة ١٩١٩ واستمرت حوادثها إلى شهر أغسطس، وتجددت في أكتوبر ونوفمبر من تلك السنة. أما وقائعها السياسية فلم تنقطع واستمرت متتابعة إلى شهر أبريل سنة ١٩٢١؛ أي إنها مكثت مشبوبة الأوار نيفًا وسنتين، هذا في وجهة نظري هو عمر الثورة، ثم أعقبها انقسام داخلي يختلف وإياها في الحوادث والروح والاتجاهات. وقد ضننت بتاريخ الثورة المجيد أن أدمج فيه هذا الانقسام؛ إذ رأيت من الإنصاف لها أن لا يشمله تاريخها، وجعلته فصلًا من كتاب «في أعقاب الثورة المصرية».
درست وقائع الثورة وحوادثها من مارس سنة ١٩١٩ إلى أبريل سنة ١٩٢١، وبالرغم من أن صورها عالقة في ذهني؛ فإن بعض هذه الحوادث استلزم البحث والتمحيص لمعرفة تاريخ وقوعه على وجه التحقيق. وكانت المراجع قليلة نادرة لأن الصحف التي كانت تظهر في أيام الثورة كانت لا تنشر إلا ما تأذن الرقابة بنشره، وكانت الرقابة تحذف أهم حوادث الثورة، والمذكرات التي كنت أدونها في حينها كانت مقتضبة؛ إذ كان الظن أن تكون عرضة في كل وقت لضبطها ومصادرتها فعلامَ الجهد في التدوين والإسهاب.
وكان مما عُنيت به واقتضى مني عناءً كبيرًا تسجيل تضحيات الشعب وجهاده، وقد استنفدت الناحية الشعبية معظم صحائف الكتاب، وهي الناحية التي هداني البحث منذ اللحظة الأولى إلى أنها عماد الحركة القومية، وهذا ما حدا بي إلى البحث والتنقيب عن أشخاص شهداء الثورة لكي أسجِّل أسماءهم، وهم في الغالب شهداء مجهولون، معظمهم من بيئات مجهولة، ومن غير البيئات التي تنازعت فيما بعد مجد الثورة وثمرتها. ومن ثم قضيت زمنًا طويلًا في البحث عنهم، ولم يكن من الميسور أن أتعرَّف أسماءهم وتواريخ استشهادهم لأن الصحف لم تكن تنشر أسماءهم، فرجعت إلى ذويهم وأقاربهم وإلى دفاتر الوفيات في مختلف الجهات، ومن حُسن الحظ أن نسخًا منها كانت محفوظة في دار المحفوظات بالقلعة فرجعت إليها، ومع ذلك فقد وجدت صعوبة كبيرة في إحصائهم؛ إذ لا يُذكر في دفاتر الوفيات أن فلانًا استُشهد في الثورة، ولكن ملابسات الوفاة مضافًا إليها معلوماتي الخاصة كانت تُعينني على معرفة أسماء أولئك الشهداء.
وثمت صعوبة أخرى، وهي معرفة أسماء المحكوم عليهم في محاكمات الثورة. لقد رأيت ضرورة التحدث عن هذه المحاكمات، وكانت تُجرى أمام المحاكم العسكرية البريطانية، ولم تكن الصحف تنشر عنها إلا النزر اليسير، وكنت أعرف معظمها، ولكن لم أكن أعرف أسماء المتهمين والمحكوم عليهم فيها، فأخذت أتقصَّى أسماءهم من بعض زملائهم أو ذوي قُرباهم، وراسلت الكثيرين منهم، فأمدني البعض بما لديهم من المعلومات واعتذر البعض الآخر لقِدم عهدها ونسيان أسماء المتهمين فيها، وما أكثر ما تُنسى الحوادث وتُنسى الأشخاص في بلادنا! وأردت أن ألجأ إلى دفاتر مصلحة السجون؛ فإنها ولا شك تحوي أسماء المحكوم عليهم في كل عام، ونوع الأحكام، والمدة التي قضاها كل محكوم عليه في السجن، وأسماء من نُفذت فيهم أحكام الإعدام، وبعد أن رخَّصت لي المصلحة بالاطلاع على هذه الدفاتر — لأنها موجودة فعلًا في محفوظاتها — عادت وتمحلت الأعذار في رفض إطلاعي عليها، وكان مما اعتذرت به أن هذه مسألة قانونية يجب استفتاء أقسام القضايا بما يُتبع في شأنها. ولم تُصدر أقسام القضايا وقتئذٍ فتوى بالترخيص لي بالاطلاع على هذه الدفاتر بعد أن علمت غرضي من الاطلاع بحجة أني لا أُعَد من أصحاب الشأن أو ذوي المصلحة في الاطلاع عليها، فكأن وضع تاريخ قومي للبلاد مهمة غير مرغوب فيها، وقد فهمت أنَّ نُكول المصلحة عن اطلاعي على هذه الدفاتر يرجع إلى أنها أرادت مجاملة الإنجليز في عدم تيسير مهمتي في التعرف على أسماء من حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام معظمها لا يقرُّه عدل ولا إنصاف. وقد عانيت جهدًا كبيرًا في تقصِّي هذه الأحكام، وعاونني في ذلك بعض كرام المحامين الذين ترافعوا فيها، وأطلعوني على معلوماتهم عنها وأسماء المحكوم عليهم في معظمها، ودونت المحاكمات والأحكام وأسماء المحكوم عليهم في كافة القضايا العسكرية الهامة.
(١٠) في أعقاب الثورة المصرية
ثم جاء دور «في أعقاب الثورة المصرية»، وقد أخرجت الجزء الأول من هذا الكتاب في يوليو سنة ١٩٤٧، والثاني في نوفمبر سنة ١٩٤٩، والثالث في أكتوبر سنة ١٩٥١. والأول يشتمل على تاريخ مصر القومي من أبريل سنة ١٩٢١؛ أي من نهاية الثورة إلى أغسطس سنة ١٩٢٧ تاريخ وفاة الزعيم سعد زغلول، ويشتمل الثاني على تسلسل الحوادث من وفاة سعد إلى وفاة الملك فؤاد في أبريل سنة ١٩٣٦، والثالث من ارتقاء جلالة الملك فاروق عرش مصر إلى سنة ١٩٥١.
لم أجد من العناء في استقراء حوادث هذه الحقبة من الزمن ما عانيته في الحلقات السابقة؛ لأن صورها ووقائعها ماثلة أمام عيني، عالقة بذهني، ولم أكن في حاجة إلى مراجع فيها؛ فإن أهم مرجع هو ما وعته ذاكرتي عنها، وكانت وثائقها حاضرة بين يدي؛ إذ كنت أجمعها في حينها. ولكن العناء الذي صادفته في هذا الكتاب كان عناءً معنويًّا؛ فإن الكتابة فيه تمس أشخاصًا تربطني ببعضهم صلات الود والصداقة وأكنَّ لهم في نفسي شعور التقدير والرعاية، فكيف يمكنني أن أكتب عنهم غير ما يودون؟ لقد عبَّرت عن هذا الحرج في مقدمة الجزء الأول ثم الجزء الثاني من هذا الكتاب، وتساءلت: هل عليَّ أن أضحي بهذه الاعتبارات عندما أكتب عن أشياء تمس أولئك الأشخاص؟ وقلت إن هذا ولا ريب هو واجب المؤرخ، ولكن في الدنيا شيء اسمه المجاملة ومراعاة الظروف. لقد تدبرت في هذا الحرج كثيرًا، وانتهى بي البحث والتفكير إلى أنه لا يجوز لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يُدخل عنصر المجاملة فيما يكتب، وكل ما يملك إذا أراد أن يجامل أن يدع «الفترة المحرجة» ويرجئ تأريخها إلى حين، ثم تساءلت: إلى أي أجل يرجئها؟ ولماذا يرجئها؟ وإذا كان في مقدوره أن يؤرخها كما أرخ المراحل التي سبقتها، ففيمَ إذن يتنحى عن تأريخها؟ لقد فكرت في هذا الأمر مليًّا، ولم أكتم عن نفسي دقة الموقف وما يلابسه من حرج، وانتهيت إلى أنه ليس من حقي أن أقف بالكتابة في تاريخنا القومي عند حد قديم أو حديث، وما دمت قد حمَّلت نفسي مهمة وضع هذا التاريخ فعليَّ أن أؤدي الرسالة كاملة قدر ما وسعني الجهد، ووصفتُ المؤرخ بأنه يشبه في طبيعة رسالته أن يكون قاضيًا يفصل في القضايا التاريخية التي يعرض لها وعليه أن يقتبس من القاضي روح العدل الذي يستلهمه في قضائه، فكما أن واجب القاضي ألَّا يجامل في الحق أحدًا ولو كان أقرب الناس إليه، ولا يتحامل على أحد، ولو كان أبغضهم إلى نفسه، فعلى من يتصدى لكتابة التاريخ أن يتحرى الحق والإنصاف ويتجنب المجاملة والمحاباة في ما هو بسبيله، هذا ما اتجه إليه قصدي وانعقدت عليه نيتي، و«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى.»
(١١) كيف قوبلت كتبي؟
إني أعترف بأن كُتبي لم تقابَل في السنين الأولى مقابلة حسنة، ولولا ما وهبني الله من الصبر والاحتمال لوقفت عند الجزء الأول أو الثاني، أو على الأكثر عند كتاب «عصر محمد علي» الذي كان في طبعته الأولى الجزء الثالث من تاريخ الحركة القومية.
فبالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها في تأريخ الحركة القومية، وما شهد به أهل الذكر من أن هذه الكتب جمعت بين المنهج العلمي البحت والروح الوطنية، وبالرغم من حرصي الشديد على استقراء الحقائق التاريخية الثابتة مهما كلفني ذلك من عناء حتى صارت هذه المجموعة — والحمد لله — مرجعًا معتمدًا، بالرغم من كل ذلك فإن هذه الكتب لم تلقَ الإقبال، ولا أقول الرواج، الذي كنت أنتظره.
إن إقبال المثقفين في بلادنا على القراءة ضعيف جدًّا، هذه حقيقة يلزمنا أن نعترف بها، وهو أقل من إقبال المثقفين في البلاد الأخرى التي في مستواها الثقافي، بل إني أستطيع القول بأن سكان الجنوب من هذا الوادي — وأقصد إخواننا السودانيين — أكثر منا إقبالًا على القراءة والمطالعة إذا تعلَّموا وأخذوا بنصيب ولو قليل من الثقافة. وقد حدثني غير واحد من الأصدقاء وغير الأصدقاء أن إقبال المثقفين وأنصاف المثقفين في السودان على قراءة كُتبي أكثر منه في مصر، واهتمامهم باستيعاب محتوياتها أكثر من استيعاب إخوانهم في مصر، وهم — جزاهم الله خيرًا — يتحدثون عن كتبي بأكثر مما يتحدث عنها سكان الشمال، وألمح من أحاديثهم أنهم قرءوها واستوعبوا ما تحتويه، بخلاف ما رأيت من المثقفين المصريين.
وأذكر على سبيل المثال أني سمعت من بعض مثقفينا أسئلة تثير الدهشة حقًّا، سألني بعضهم: هل أرَّخت شيئًا بعد عصر محمد علي؟ مع أني كنت قد وصلت إلى ثورة سنة ١٩١٩، وسألني البعض الآخر: سمعت أنك قد وضعت كتابًا في تاريخ مصر، فهل هو جزء واحد أم جزآن؟ مع أني كنت قد أخرجت اثني عشر جزءًا منه، وفهمت من سؤاله أنه لم يقرأ جزءًا واحدًا منها، وكثيرًا ما يسألونني من قبيل المجاملة: هل تُباع كُتبك؟ وأين؟ وما ثمنها؟ وهذا بالطبع سؤال من لم يقرأ شيئًا منها أو من يريد أن يقرأها مجانًا …
وسألني بعضهم: هل أرَّخت عصر إسماعيل؟ وما اسم الكتاب الذي أرَّخته فيه وأين أجده؟ فأجبته على سؤاله، وبعد عام سألني نفس السؤال فأجبته بنفس الجواب، ثم دفعني حب الاستطلاع أن أسأله بدوري عن سبب اهتمامه بهذا الكتاب بالذات حتى يسألني عنه مرة في كل عام، فأجابني أنه يبحث عن تاريخ والده — أو جده لست أدري — في هذا الكتاب، فدُهشت لهذا الجواب؛ إذ كنت أتوقع منه أنه يريد أن يطَّلع على تاريخ مصر في عصر إسماعيل لا أن يكون قصارى اهتمامه أن يعرف تاريخ والده، وجملة القول أني وجدت عدم اكتراث بالقراءة وتوسيع الأفق الذهني بين أغلبية المثقفين عندنا.
لست أدري ما هو السبب في ذلك كله، ولكن هذه مشاهدات وحقائق لا بد لي من الإفضاء بها لأنها حالة نفسية يحسُن بنا أن نجد لها علاجًا.
وقد كنت أسائل نفسي أمام الكساد الذي قوبلت به الحلقات الأولى من المجموعة واستمراره سنوات طويلة، كنت أتساءل: ألا تساوي هذه الكتب بعض القصص والروايات التي يُقبل عليها الجمهور في بلادنا؟ أوَليس التاريخ رواية واقعية مشوقة لمن يريد أن يعرف قصة بلاده ووطنه؟ ألا يستوجب حب هذا الوطن أن يعرف المواطنون قصته ومراحل حياته البعيدة والقريبة؟ إن من يحب إنسانًا، سواءً كان هذا الحب عائليًّا أو غراميًّا، يود أن يتعرف أخباره وأحواله وماضيه وحاضره، فهلَّا يستحق الوطن مثل هذا الشعور؟
أدع هذا جانبًا، وأتحدث عما قوبلت به كُتبي في السنوات الأولى من إخراجها.
ظهر الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية في يناير سنة ١٩٢٩، فاستقبلته الصحف استقبالًا طيبًا، وكتب عنه بعضها مقالات قيِّمة، واكتفى بعضها بكتابات عابرة بمثابة «تسديد للخانات». وكان طبعه قد كلَّفني مبلغًا لا يستهان به، أنفقته من إيرادي من المحاماة. وكانت طريقتي في توزيع كتبي الأولى أن أختزن عندي ما أطبع من كل كتاب، وتطلب مني المكاتب الكميات التي تريدها لتبيعها للجمهور وتدفع لي ثمن هذه الكميات مقدمًا بعد خصم ٢٥٪ من ثمنها، وبعض المكاتب كان لا يدفع الثمن مقدمًا بل يؤجله حتى يتم توزيع الكتب. وقد لاحظت أن طلبات المكاتب قليلة، والكميات التي تطلبها ضئيلة، والوارد منها من الثمن هزيل، وكان يُدفع على مرات متقطعة بحيث لا يحس الإنسان بقيمتها — على تفاهتها.
وقد قالوا لي إن وزارة المعارف تقتني لمكتباتها في المدارس نسخًا من كل كتاب مفيد لتثقيف الطلبة وأن عليَّ أن أعرض عليها ما يظهر من كتبي، فعرضت عليها فعلًا كل ما كان يصدر منها، فكانت بعض الفحص عن كل كتاب تطلب النزر اليسير منه، وكان العدد الذي طلبته من الأجزاء الأولى لم يتجاوز ٢٤٠ نسخة من كل كتاب زادتها في الأجزاء اللاحقة إلى ٣٧٥ نسخة، وكانت تدفع ثمنها مخصومًا منه كذا في المائة مما يتم الاتفاق عليه بينها وبين المؤلف؛ وهذه كلها مظاهر لتثبيط العزائم.
ومثل هذا التثبيط لا يمكن أن يشجع على التأليف، بل فيه ما فيه من خذلان للنهضة العلمية، ولكني كما أسلفت كنت أؤدي رسالة حمَّلت نفسي إياها. فعلى الرغم من الكساد الذي صادفه الجزء الأول ثم الذي تلاه، تابعت إخراج الحلقات التالية، وكان لي من إيرادي من المحاماة ما عاونني على سد العجز في النفقات، ومعنى ذلك أنه لولا هذا المورد لانصرفت عن متابعة إخراج هذه المجموعة مع ضرورتها الثقافية والتاريخية والوطنية.
استقبلت الصحافة كل ما أخرجته من الكتب استقبالًا حسنًا، وإني معترف بفضلها عليَّ في هذه الناحية، وقد نوهت إلى هذا الفضل في مقدمة الجزء الثاني. ومن الحق أن ألاحظ أن الصحف فيما مضى كانت أكثر عناية منها الآن بالمؤلفات عامة؛ فكثيرًا ما كانت تنشر الفصول الضافية عن كتبي، وفي أغلب الأحيان كانت تنقل مقدماتها، والمقدمة كما تعلم هي خير إعلان عن الكتاب، أما الآن فالصحف تقتصر على كلمة عابرة تنشرها من قبيل «جبر الخاطر» للمؤلف الذي قد يقضي السنين في وضع كتابه، وما بهذه الطريقة يشجَّع التأليف وتشجَّع الحركة الفكرية والعلمية في البلاد.
وبالرغم من أني تابعت إصدار الأجزاء الأولى من هذه المجموعة، بحيث لم يكن ينقضي عام حتى يصدر جزء منها، ومع أن كل جزء كان يجرَّ القطار الواقف خلفه من الأجزاء السابقة، ومع حُسن استقبال الصحف لكل جزء منها؛ فإن الركود كان حليفها. لقد قيل لي إني لم أعلن عنها الإعلان الكافي، وأظن أني لو أنفقت ما أنفقت في سبيل الإعلان فإن النتيجة ما كانت تتغير كثيرًا. وأعتقد أن أهم سبب لهذا الركود هو ضعف الميل إلى القراءة المُجدية بين الطبقة المثقفة في بلادنا، وقلة اكتراثها بتعرُّف تاريخ بلادها، فربما يعرف بعضهم عن تاريخ الأمم الأخرى أكثر مما يعرفون عن تاريخ أمتهم …
انقضت السنوات والأجزاء الأولى بطيئة الحركة وإيرادها لا يغطي مصاريفها، على أني لم أُلقِ بالي كثيرًا إلى هذه الناحية لأني عددتها «تضحية» يجب أن أتحمَّلها. ألسنا نُخرج صحفًا قد لا تلقى الرواج والانتشار ومع ذلك نثابر على إخراجها مع ما يكتنفها من الخسائر حتى نعجز عن إصدارها؟ وأنا والحمد لله لم أعجز عن متابعة إصدار هذه المجموعة، فمضيت في سبيل إخراجها حلقة بعد أخرى.
ولما أخذت في تأليف كتابي عن «عصر إسماعيل» نصحني ذلك الصديق المخلص أن أسلك فيه سبيلًا جديدًا قد يكون أدعى لرواج كتبي، وقال لي يومًا: ها أنت قد أخرجت ثلاثة مجلدات في تاريخ مصر الحديث، فأرَّخت عهد الحملة الفرنسية، وما بعد الحملة، وعصر محمد علي، والآن يجيء دور خلفاء محمد علي، وستصل طبعًا إلى عصر إسماعيل، فبأي روح ستكتب عن الخديو إسماعيل بالذات؟ فقلت له: إني سأكتب عنه بنفس الروح التي استلهمتها في كتبي السابقة واللاحقة، وسأذكر ما له وما عليه. وكان يعلم آرائي عنه. فقال لي: لا تكن غبيًّا، ويلزمك أن تراعي الظروف، ولاحظ أنك ستُخرج كتابك عن إسماعيل في وقت يجلس على عرش مصر ابن إسماعيل (المغفور له الملك فؤاد)، أفلا تفهم ذلك؟ إنك تعلم أن الملك يهتم كثيرًا بإحياء تاريخ والده، ويوحي بإخراج كُتُب عنه في تمجيده، وينفق في سبيل ذلك أموالًا كثيرة؛ لأن جمع الوثائق ونقلها من مصادرها الأصلية وإخراج الكُتب، كل ذلك يحتاج إلى نفقات طائلة، ولقد أخبرتني (وحقًّا قد أخبرته بذلك) أنه أبدى نحوك شعورًا طيبًا وثناءً على مواقفك في مجلس النواب الأول، ولا شك أن وثائق السراي الملكية من أهم المراجع عن عصر إسماعيل بالذات؛ لأن جلالة الملك عُني بجمع هذه الوثائق وأمر بتنسيقها وترتيبها، فأرى أن تتصل بصديقك محمد زكي الإبراشي باشا (ناظر الخاصة الملكية، وكان بيني وبينه ود قديم متصل) لكي تراجع وثائق السراي الخاصة بعصر إسماعيل، ولكي يمدُّوك بالمعلومات التي تطلبها عن حكمه، ولا شك أنك ستجد من كل ذلك مادة غزيرة لكتابك الذي أراك تضعه الآن (١٩٣١) عن هذا العصر.
ومع أن النصيحة صادرة عن صديق أثق في إخلاصه؛ فإني لم أعمل بها؛ لأني وجدت أنني إذا أحكمت الصلة بيني وبين هذه الجهات العليا، وأكثرت من التردد على مكتبة القصر الملكي، فقد لا يكون من الذوق بعد ذلك أن أكتب عن أخطاء إسماعيل — وكان المراد تغطيتها — وقلت لصديقي إني مع تقديري لنصحه فإن دراستي الخاصة والمراجع التي طالعتها عن عصر إسماعيل كافية لأؤرخه تأريخًا واضحًا صحيحًا، أما الوثائق الجديدة فمع أهميتها لا يمكن أن تغيِّر من الخطوط الرئيسية للتاريخ، إنها ولا شك قد تفيد في معرفة بعض التفاصيل والملابسات، ولكن الحوادث في ذاتها والحقائق الجوهرية التي هي عماد التاريخ تبرز من خلال المراجع العديدة التي درستها عن هذا العصر.
وقد وجد صديقي ألَّا فائدة تُرجى من إقناعي بنصيحته، فتركني أمضي في سبيلي.
(١٢) الوزارة وكتاب عصر إسماعيل
خطاب الوزارة
«إشارة إلى خطاب عزتكم المؤرخ ٢٩ ديسمبر سنة ١٩٣٢ الذي قدَّمتم معه للوزارة كتابكم «عصر إسماعيل» في جزأين للنظر في تقريره أسوة بالأجزاء السابق تقريرها من كتابكم «تاريخ الحركة القومية»، نفيد عزتكم أن الوزارة قد فحصت عن كتاب «عصر إسماعيل» فوجدت به من المآخذ ما يحُول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة.»
التقرير
- (١)
أنه أقر مؤلِّف «تاريخ مصر المالي» على أن «إسماعيل سار سيرة بذخ وإسراف»، راجع ص٣١ جزء ثانٍ.
- (٢)
ذكر أن القروض التي اقترضها الخديو إسماعيل حتى سنة ١٨٦٦ «ضاعت فيما لا ينفع البلاد؛ لأن تغيير نظام توارث العرش مسألة شخصية لإسماعيل، وكذلك شراء أملاك أخيه وعمه، فكأن إسماعيل اقترض هذه الديون لكي تتسع أملاكه وتحقيقًا لأطماع شخصية وإرضاءً لحزازات عائلية لا شأن للبلاد فيها»، راجع ص٣٥ جزء ثانٍ.
- (٣)
ذكر المؤلف في عرض الكلام عن إسماعيل المفتش أنه «قلَّد مولاه في عيشة البذخ والإسراف والاستكثار من القصور والأملاك والجواري والحظايا.» ص٣٧ جزء ثانٍ.
- (٤)
في الكلام عن بعض حفلات الخديو إسماعيل ذكر المؤلف ما يأتي: «فكان الخديو في هذا الموقف شبيهًا ببعض الذوات والأعيان في الاستدانة للإنفاق على إقامة الحفلات والولائم والظهور بمظهر الفخفخة والبذخ.» ص٣٩ جزء ثانٍ.
- (٥)
قال المؤلف: «إن إسراف إسماعيل هو الباعث الأكبر على مأساة القروض … إن الجانب السيئ من شخصية إسماعيل هو إسرافه وإنفاقه الأموال من غير حساب أو نظر في العواقب، وهو بلا مراء مضرب الأمثال في هذا الصدد؛ فقد كان متلافًا للمال، وظهر هذا العيب في حياته العامة وحياته الخاصة، ظهر في بناء قصوره وتأثيثها وتجميلها، كما ظهر في حياته الخاصة، في حفلاته وأفراحه، ومراقصه ورحلاته وسياحاته، وأهوائه وملذاته.» راجع ص٥٣ جزء ثانٍ.
وقد انتقد معظم الصحف مسلك الوزارة حيال الكتاب، وكان أكثرها اعتدالًا في النقد صحيفة «البلاغ» فقد كتبت بعددها الصادر في ٢٤ مايو سنة ١٩٣٣ ما يأتي:
«والذي نقوله نحن هو أن وزارة المعارف تدل بذلك على رغبتها في أن تتحكم في بحوث المؤرخين بحيث إذا لم يكتبوا التاريخ على هواها أقصتهم من حظيرتها. وكتاب «عصر إسماعيل» لم يشتمل فقط على هذه المآخذ التي أخذها على إسماعيل، بل هو يشتمل على مآثر له يكفي أن يكون منها ما كتبه في فتحه السودان وفي اهتمامه بإرسال البعثات العلمية إليه؛ ليشهد كل منصف أن الأستاذ عبد الرحمن الرافعي كتب كتابه وهو منساق فيه بما يهديه البحث إلى أنه الحقيقة. والغريب في عمل وزارة المعارف هذا أنها تعلم أن في مكتبات مدارسها كتبًا تحتوي على أحكام قاسية على عهد إسماعيل — منها كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر — ومع ذلك لم تفكر في إقصائها من مكتباتها.»
وبعد انقضاء ثلاث سنوات على هذا التقرير أعادت الوزارة النظر في كتابي، وألَّفت لجنة أخرى لفحصه فنقضت تقرير اللجنة السابقة، وطلبت الوزارة مني أن أوافيها بالنزر اليسير منه على غرار الأجزاء السابقة.
(١٣) بدء الإقبال على كتبي (سنة ١٩٤٣)
في أوائل سنة ١٩٤٣ طلبت مني مكتبة «النهضة المصرية» بيانًا بعدد ما كنت اختزنته من كتبي وقتئذٍ، فلما أطلعتها على هذا البيان أعربت لي عن رغبتها في شراء هذا المخزون كله دفعة واحدة، وأن تدفع لي الثمن فورًا مخصومًا منه نسبة أكثر من النسبة التي كنت أحاسب عليها المكاتب، فرأيت العرض مغريًا حقًّا لأن حصيلة الثمن بلغت ١٤٢٨ جنيهًا صارت بعد خصم أربعين في المائة «٨٨٣ جنيهًا»، فقبلت الصفقة مغتبطًا، وأدركت في هذا اليوم أن كتبي قد لاقت شيئًا من الإقبال الذي كنت أنتظره منذ أكثر من خمس عشرة سنة.
كان ذلك في خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عزوت هذا الإقبال المفاجئ إلى المكانة التي نالتها كتبي التي أصدرتها إلى ذلك الحين عند ذوي العلم والخبرة؛ فقد كانوا يتحدثون عنها حديثًا طيبًا، وكان كل كتاب يصدر منها يبعث الحياة في الكتب السابقة، أضف إلى ذلك ثناء أساتذة التاريخ على هذه المجموعة في خلال دروسهم للطلبة فأوجد هذا الثناء دعاية طيبة لها. وهناك عامل هام له أثره في هذا الصدد، وهو تقدُّم الوعي القومي والثقافي في الجمهور، وكان نشوب الحرب العالمية الثانية قد زاد في تفتُّح الأذهان لمركز مصر وأهميتها ومصيرها في هذه الحرب الطاحنة، وبعث الروح الوطنية في النفوس، تلك الروح الملهمة لكل تقدُّم سياسي أو علمي أو أخلاقي، فازداد اهتمام الناس بمعرفة تاريخ بلادهم.
وأخذت من ذلك الحين أعيد طبع كتبي، فظهرت الطبعة الثانية من الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية سنة ١٩٤٤، والطبعة الثالثة سنة ١٩٤٨، وظهرت الطبعة الثانية من الجزء الثاني سنة ١٩٤٨ أيضًا، والطبعة الثالثة من «عصر محمد علي» سنة ١٩٤٧، والطبعة الثالثة سنة ١٩٥١، وأعدت طبع كتاب «عصر إسماعيل» و«الثورة العرابية» سنة ١٩٤٩، و«مصر والسودان» سنة ١٩٤٨، و«مصطفى كامل» سنة ١٩٤٥، ثم سنة ١٩٥٠ «الطبعة الثالثة»، وكتاب «محمد فريد» سنة ١٩٤٨.
على أنه يلزمني أن أعترف بأن التزامي الجانب القومي في كتبي قد أضر بها فيما يتعلق برواجها، وبخاصة كتاب «ثورة سنة ١٩١٩» و«في أعقاب الثورة»؛ فإن الهيئات الحكومية، ومنها وزارة المعارف، وزارة الثقافة والتعليم، قد أعرضت عن تشجيع هذه الكتب. وليس يخفى أن إقبال الهيئات الحكومية، وبخاصة وزارة الثقافة والتعليم، له دخْل كبير في رواج الكتب، بحيث أستطيع القول إن كتبي قد لقيت الإقبال ولكن لم تنل حظها من الرواج.
حقًّا إن الجانب القومي كان يجب أن يفتح أمامها آفاقًا من الرواج، ولكن ماذا تُراني أقول؟ إن الشعب الذي وضعت من أجله هذه الكتب قد ضن عليها بالرواج، وإن لم يضن عليها بالثناء والإعجاب، وإني شاكر له على كل حال. إن الناس يتحدثون عن كتبي، ويمتدحون الروح الوطنية التي أملت عليَّ هذه المجموعة، ويكتفون في الغالب بهذا التعضيد الأدبي، وما بمثل هذه المعاونة تروج الكتب وتنتشر الأفكار وتعم الثقافة.
ولكن علينا أن نبذر الغرس الصالح في حقل النهضة القومية دون أن نتأثر من بطء النتائج، ويجب أن نظل عاملين على رفع معنويات هذا الشعب، وأن نجعل هذا الهدف منهجنا في كفاحنا وتفكيرنا وأقوالنا وأفعالنا، وإذا لم يصادف نداؤنا لدى الشعب الصدى الذي نرجوه، ولم يَيْنَعْ بعدُ الزرع الذي نتعهده، فلنصبر ولا نجزع، ولنثابر ولا نتراجع، ولا نسأم من تعداد الأيام والسنين، فما قيمة الأيام والسنين في أعمار الأمم والشعوب؟!