الجبهة الوطنية
جاهدت في ائتلاف سنة ١٩٣٥، كما جاهدت من قبلُ في ائتلاف سنة ١٩٢٥، وقد خرجت من كلا المسعيين بصفقة المغبون …
كانت البلاد سنة ١٩٣٥ في حاجة ماسة إلى توحيد الصفوف؛ فالدستور معطل، والإنجليز يتدخلون في شئون البلاد ويحُولون دون تحقيق أهدافها، والوزارة (وزارة محمد توفيق نسيم باشا) تُقِر التدخل البريطاني في أهم الشئون العامة، والأحزاب السياسية متنابذة متخاذلة.
أُلغي دستور صدقي باشا في نوفمبر سنة ١٩٣٤، ولكن لم يعُد دستور سنة ١٩٢٣، وبقيت البلاد من غير دستور زهاء عام، وصرحت الحكومة البريطانية على لسان المستر هور وزير خارجيتها في ٩ نوفمبر سنة ١٩٣٥ بأنها عندما استشيرت من الحكومة المصرية نصحت بألَّا يعاد دستور سنة ١٩٢٣ ولا دستور سنة ١٩٣٠.
كان لهذا التصريح أثر أليم في النفوس، وقامت المظاهرات الدامية احتجاجًا عليه، واتجهت الأفكار إلى ضرورة توحيد الصفوف لمواجهة التدخل البريطاني.
كان الحزب الوطني من أول الساعين في توحيد الصفوف وتأليف «الجبهة الوطنية».
وقد فكرت مع حافظ رمضان بك «باشا» رئيس الحزب في أن نخطو خطوة إيجابية لائتلاف الأحزاب، بأن نقابل زعماءها شخصيًّا وندعوهم إلى أن يجتمعوا معًا.
فذهبنا نحن الاثنين معًا لمقابلة مصطفى النحاس باشا بداره بمصر الجديدة لنناشده أن يقبل الائتلاف كما قبِله سعد سنة ١٩٢٥.
(١) النحاس يرفض الائتلاف
نداء إلى الأمة
«سعينا ولا نزال نسعى إلى توحيد الكلمة وضم الصفوف وائتلاف الأحزاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وغايتنا أن تتحد الجبهة القومية وتتغلب الأمة على العدوان المستمر على حقوق مصر. ولئن اعترضتنا في الطريق عقبات فإن ذلك لا يثنينا عن متابعة السعي فيما نحن بسبيله؛ فإن المهمة التي نسعى لها مهمة دقيقة تحتاج إلى مواصلة الجهود في غير ملل ولا هوادة.
ويقيننا أن كل ما يُبذل لها من سعي وما تحتاج إليه من وقت ليس عبثًا ضائعًا؛ فإن اتحاد الجبهة هو الأداة الأولى للكفاح الوطني وبخاصة في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد الآن، وليس السبيل إلى نجاح هذه المهمة التراشق بالسهام واستثارة الضغائن والأحقاد بل نحن أحوج ما نكون إلى ضبط النفس لكي نستخلص الوحدة القومية من بين الأشواك والعقبات التي تكتنفها؛ من أجل ذلك جئنا نناشد الأحزاب أن تتجاوز عما يستثير غضبها من قوارص الكلم وأن تقابل ذلك بالحلم وسعة الصدر، لا سيما وأن الفوارق بين الأحزاب لا يقام لها وزن بجانب الغاية التي نسعى إليها. ونهيب بالأمة أن تعاوننا في تحقيق هذه المهمة، وأن تشترك عمليًّا في نجاحها بأن تتضافر طوائفها وجماعاتها ونقاباتها وأفرادها على اختلاف مراكزهم ومشاربهم للإعراب عن إرادتهم في توحيد جبهة الجهاد.
ولا ريب عندنا أنه إذا أجمعت الأمة كلمتها وأظهرت إرادتها واضحة جلية في ضرورة توحيد الصفوف؛ فإن الأحزاب على الرغم من مظاهر الخلاف بينها تقدِّر روعة هذه الإرادة وتنزل على رغبة الأمة التي تنطق باسمها وتستمد منها سلطانها.
هذا هو واجب كل وطني صادق، وتلك سبيلنا دعَونا وندعو إليها.
فليؤدِّ كلٌّ منا واجبه، وليوجه جهوده إلى تلك الغاية، والله ولي التوفيق.»
(٢) النحاس يعود فيقبل الائتلاف
استمرت مساعي الطوائف والشخصيات البارزة لتوحيد الصفوف، إلى أن كان يوم ٩ ديسمبر فكلمني بالتليفون الأستاذ مكرم عبيد «باشا» سكرتير الوفد المصري وصاحب الكلمة النافذة فيه وقتئذٍ، كما كلم حافظ رمضان باشا، وقال لي: أبشِّركم بأن فكرة ائتلاف الأحزاب قد لقيت أخيرًا النجاح، وأنتما مدعوان باكر لحضور اجتماع زعماء الأحزاب بدار دولة مصطفى النحاس باشا بمصر الجديدة لتأليف الجبهة الوطنية الممثلة للأحزاب، فاغتبطت لهذه البشرى، وأمَّلت من وراء هذا الاجتماع خيرًا كبيرًا.
تألفت الجبهة الوطنية في ديسمبر سنة ١٩٣٥ من الوفد المصري، والحزب الوطني، وحزب الأحرار الدستوريين، وحزب الشعب، وحزب الاتحاد، أي جميع الأحزاب القائمة في ذلك الحين، ومن المستقلين. وقد قوبل تأليفها بابتهاج عظيم من الأمة.
وأخذت تُوالي اجتماعاتها في شهر ديسمبر ويناير بدار النحاس باشا بمصر الجديدة، وكان ممثلو الأحزاب في هذه الاجتماعات هم: مصطفى النحاس، أحمد ماهر، مكرم عبيد عن الوفد المصري، حافظ رمضان وأنا عن الحزب الوطني، محمد محمود عن حزب الأحرار الدستوريين، إسماعيل صدقي عن حزب الشعب، حلمي عيسى عن حزب الاتحاد، ثم حمد الباسل، علي الشمسي، حافظ عفيفي، عبد الفتاح يحيى عن المستقلين.
ويلاحظ أن الحزب الوطني مُيز عن الأحزاب الأخرى «عدا الوفد» فقد كان له ممثلان في الجبهة، في حين أن لكل حزب آخر ممثلًا واحدًا، وكان هذا التمييز تقديرًا لحُسن بلائه في سبيل الائتلاف وجهاده الماضي الطويل.
تألفت الجبهة الوطنية على أساس إعادة دستور سنة ١٩٢٣، ثم على أساسٍ آخر انفصل فيه الحزب الوطني عن الأحزاب الأخرى مع بقائه في الجبهة ركنًا من أركان الائتلاف؛ وهو العمل على عقد معاهدة بين مصر وإنجلترا طبقًا لنصوص المشروع الذي انتهت إليه مفاوضات النحاس-هندرسن في ربيع سنة ١٩٣٠.
واختيرت لجنة تحرير لوضع صيغة الكتاب الذي اتفقت الجبهة على رفعه إلى الملك فؤاد بإعادة دستور سنة ١٩٢٣. وقد اجتمعت هذه اللجنة يوم الأربعاء ١١ ديسمبر سنة ١٩٣٥ بنادي المحامين (بشارع فؤاد وقتئذٍ). وكانت مؤلَّفة كما يأتي: مكرم عبيد عن الوفد، وأنا عن الحزب الوطني، ومحمد حسين هيكل عن حزب الأحرار الدستوريين، وأحمد كامل عن حزب الشعب، وحلمي عيسى عن حزب الاتحاد.
ولما فرغت اللجنة من تحرير الكتاب عقدت اجتماعًا آخر لوضع صيغة الكتاب المزمع رفعه إلى السير مايلز لامبسون (لورد كيلرن) المندوب السامي البريطاني للمفاوضة في عقد المعاهدة، وقد انفصلت عنها في هذا الاجتماع ولم أشترك فيه تنفيذًا لِما اتفقنا عليه في الحزب الوطني من عدم الاشتراك في خطاب الجبهة الخاص بالمفاوضة.
وفي يوم ١٢ ديسمبر وقَّع رؤساء الأحزاب والمستقلون على كتاب الجبهة إلى الملك ورُفع إليه وتسلَّمه علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذٍ، وفي ذات اليوم صدر المرسوم الملكي بعودة دستور سنة ١٩٢٣، وجرت الانتخابات العامة لمجلسَي النواب والشيوخ في مايو سنة ١٩٣٦.
(٣) إقصائي عن الحياة البرلمانية مرة أخرى
أشرت في مقدمة هذه النبذة إلى أني خرجت من مسعاي في ائتلاف سنة ١٩٣٥ كما خرجت من ائتلاف سنة ١٩٢٥، بصفقة المغبون، وهاك تفصيل ما حدث لي سنة ١٩٣٥:
لما جاء توزيع المقاعد البرلمانية، وكانت كثيرة لأنها شملت مجلس النواب ومجلس الشيوخ كله من منتخَبين ومعيَّنين، كنت العضو الوحيد في الجبهة الوطنية الذي لم ينل مقعدًا لا في مجلس النواب ولا في مجلس الشيوخ! ولم يتركوا لي دائرة أو مقعدًا في كليهما، في حين أن الوفد جامل الأحزاب الأخرى المؤيدة للمفاوضة والمعاهدة في التعيينات لمجلس الشيوخ فخص كل حزب منها بأربعة مقاعد من مقاعد الشيوخ المعيَّنين (وكانت كلها شاغرة)، أما الحزب الوطني فإنه لم يتفضل عليه إلا بمقعد واحد ناله طبعًا رئيس الحزب، وبذلك أُقصيت من الميدان حين جاء توزيع المقاعد، تمامًا مثل ما حدث لي سنة ١٩٢٦، والتاريخ يعيد نفسه!
وكان غرض الوفد من السخاء على الأحزاب الأخرى (على خلاف عادته) بهذه الأربعة المقاعد لكل منها، أن يضمن موافقتها له على إبرام المعاهدة التي كانت المفاوضات جارية بشأنها وعدم معارضتها في البرلمان؛ لأن الحكومة البريطانية كانت تشترط لعقد المعاهدة أن تتفق عليها الأحزاب كلها (ماعدا الحزب الوطني طبعًا)، ولعل هذا هو ما جعل الوفد يقصيني عن البرلمان سنة ١٩٣٦ كما أقصاني عنه سنة ١٩٢٦.
هذا، ولمناسبة خروجي بصفقة المغبون من مسعاي في ائتلاف سنة ١٩٢٥ وائتلاف سنة ١٩٣٥، يحق لي أن أقول إني مغبون في قومي، هذا على الأقل شعوري سنة ١٩٣٦.
حُرمت طيلة حياتي من معاونة الغير لي؛ لم أجد معاونة لي في أعمالي ومشروعاتي ومنهجي في الحياة، لا من المجتمع، ولا من الحكومات، ولا من الهيئات، ولا من الأفراد (إلا قليلًا منهم). كل كفاحي أو معظمه كان يسير بلا سند إلا من معونة الله، لم أنل من المجتمع ولا من الحكومات أي علامة تقدير لأعمالي، لا أقول هذا طعنًا في المجتمع، بل تقريرًا للواقع، وتحدثًا بنعمة الله، نعمة الصبر. ويلزمني أن أعترف بأنني، إلى جانب حرماني من التقدير، واجهت عقبات وتنكرًا وجحودًا من هنا ومن هناك. وعلامَ كل هذا؟ لا أدري. إذا كنت على حق يتنكر له الناس، أم على باطل يتولى الناس تقويمه. على كل حال إن اعتقادي أنني على حق وأنني كنت مغبونًا في قومي. قد أكون مخطئًا في اعتقادي، ولكنهم يقولون: لكل مجتهد نصيب، إن أخطأ فله أجر وإذا أصاب فله أجران.
أستطيع أن أقول إني دائن للناس لا مدين لهم، أنا لا أحاسب المجتمع على ذلك، بل إني لمغتبط أن ينتهي بي المطاف أن أكون دائنًا لا مدينًا. أليس من قواعد المثالية أن يضحِّي الإنسان للمجتمع؟ فها أنا ذا أؤدي ضريبة التضحية على أوسع نطاق، فلماذا أغضب ولماذا أحنق؟! وفي الواقع إن الأمم لا تنهض إلا بمن يضحُّون من أجلها، ولكن لا ريب أيضًا أن الأمة التي تبخس المواطنين والمجاهدين أقدارهم تخذل في نفوس الناس روح الإخلاص في خدمتها؛ لأن الناس ليسوا في الغالب ملائكة يحتملون هذه المعاملة، ولعل هذا الخذلان من أهم أسباب تأخر الأمم الشرقية.
(٤) معارضتي لمعاهدة سنة ١٩٣٦
أحاط الوفد معاهدة ٢٦ أغسطس سنة ١٩٣٦ بدعاية واسعة النطاق، صاخبة الأساليب، فأكثر من رسائل التأييد والتحبيذ لها، وأقام الحفلات والمظاهرات ابتهاجًا بها وعدَّها فتحًا مبينًا، وقال عنها النحاس قولته المشهورة التي اتُّخذت حجة على مصر في مجلس الأمن سنة ١٩٤٧ وهي أنها «وثيقة الشرف والاستقلال»، واستُقبل عند عودته من لندن استقبال الغزاة الفاتحين! فكان هذا الاستقبال وسيلة من وسائل التضليل والدعاية للمعاهدة التي أقرت الاحتلال الأجنبي في البلاد وأقرت فصل السودان عمليًّا عن مصر.
كانت مهمة المعارضة بالنسبة لهذه المعاهدة مهمة شاقة شائكة؛ إذ كيف يُسمع للمعارضين صوت في هذا الجو الصاخب المملوء بدعايات المغالطة والتمويه وبمظاهر الطبل والزمر؟
على أنني بعد أن قرأت نصوص المعاهدة ودرستها وفهمتها على وجهها الصحيح، وجدت أنه لا يجوز السكوت على تضليل الأمة إلى هذا الحد، وأن علينا أن نجهر برأينا في حقيقة المعاهدة سواءً أسُمع أم لم يُسمع، ولئن لم يُسمع في حينه فلا بد أن يأتي يوم تظهر فيه حقيقته ووجاهته.
فبادرت بوضع بحث مفصَّل في مساوئ المعاهدة وإظهارها على حقيقتها، وجعلت عنوان البحث «استقلال أم حماية» وعرضته على المرحوم أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام لينشره في الأهرام، وكتبت له جوابًا خاصًّا بأن من حقنا على الأهرام أن تنشر رأينا كمعارضين إلى جانب رأي المروجين والمحبذين. فلم يتردد رحمه الله في الاستجابة إلى طلبي، ونشر رسالتي كاملة في عدد ٢٦ سبتمبر سنة ١٩٣٦، وقد استغرقت أكثر من صحيفتين كاملتين من الأهرام، فكانت أول صوت للمعارضة ارتفع بالطعن في المعاهدة بعد توقيعها. وقد بدأتها بقولي: «الآن وقد نُشرت نصوص المعاهدة وانقضت فترة كافية لمن أرادوا الابتهاج بها، يجب على الأمة أن تبحثها وتفهمها على حقيقتها؛ لأنها لا ترتبط بحقوق الأفراد وحدهم، بل تتعلق بحقوق الوطن في حاضره ومستقبله، ولا تقتصر نتائجها على الجيل الحاضر فحسب بل تتعدى إلى الأجيال المقبلة. وإذا كانت عقود التصرفات بين الأفراد كالبيع والإيجار والرهن وما إلى ذلك لا يبرمها أصحاب الشأن فيها إلا بعد بحثها وتمحيصها وإنعام النظر في شروطها ومحتوياتها، فأجدر بالعقود التي يرتبط بها مصير أمة أن تكون موضع الدرس والعناية من طبقات الأمة كافة حتى يتبين أي مصير هي قادمة عليه إذا هي قبلت المعاهدة.»
وقد كان لنشر رسالتي في الأهرام صدًى بعيد في الرأي العام، وانبرى مروِّجو المعاهدة ومؤيدوها للرد عليها في الأهرام وغير الأهرام، ولكن لا أظن أنهم استطاعوا أن يزيلوا تأثير ما احتوت عليه من الحجج والأدلة المنطقية القوية، وقد لاقت الرسالة اهتمامًا كبيرًا حتى اضطررت إلى طبعها على حدةٍ بعد نشرها بالأهرام، وأعدت طبعها مرتين؛ أي إني طبعتها ثلاث مرات عدا نشرها في الأهرام، وكنت أوزعها مجانًا لمن يطلبها، وقد وقَّعتها بصفتي سكرتيرًا للحزب الوطني، فكانت معبِّرة عن رأي الحزب في رفض المعاهدة، وأعلن رئيس الحزب وأعضاؤه البارزون بحوثهم وآراءهم وكلها متفقة على رفض المعاهدة.
(٥) عودتي إلى الحياة البرلمانية (١٩٣٩–١٩٥١)
إن القدَر وحده هو الذي أعادني إلى الحياة البرلمانية سنة ١٩٣٩ بعد أن أقصتني عنها الحزبية الوفدية نيفًا وثلاث عشرة سنة.
ولكن أعيان المنطقة وقفوا بجانبي موقفًا مشرِّفًا كان له أثره في نجاحي بالتزكية، ذلك أنهم صارحوا عبد الجليل أبو سمرة باشا بأنهم مع صداقتهم له ولعائلة أبو سعدة «عائلة المرشح الدستوري» وعائلة أبو سمرة فإنهم لا يمكن أن يؤْثروا مرشح الأحرار الدستوريين عليَّ ولا بد أنهم سيكونون في صفي إذا حصلت المزاحمة بيننا. فاستجاب عبد الجليل باشا إلى ندائهم، وارتضى أن يُقنع قريبه بتنازله عن التقدم للترشيح، ولم يرضَ هذا الموقف زعماء الحزب في مصر ولاموا عبد الجليل باشا على تسببه في خسارة الدائرة وتضييعها على حزبهم. فاعتذر بأن أقرباءه وأصدقاءه في المنطقة أصروا على خذلان مرشحهم إذا هو تقدَّم ضدي. فسكتوا على مضض؛ ومن ثَمَّ لم يتقدم ضدي أي مرشح آخر وانتهت العشرة الأيام المحددة للترشيح بسلام. وبذلك صرت عضوًا في مجلس الشيوخ منذ الساعة الخامسة من مساء يوم الأحد ٢٢ أكتوبر سنة ١٩٣٩.
ومن الحق في هذا المقام أن أنوِّه بفضل علي ماهر باشا في نجاحي؛ فإنه رحَّب بترشيحي ترحيبًا حارًّا، وكان وقتئذٍ رئيسًا للوزارة، فكان لترحيبه صداه في رجال الإدارة، كما كان له أثره في تسهيل انسحاب مزاحمي الدستوري؛ إذ قطع الأمل من مساعدة الإدارة له.
عدت إذن إلى الحياة البرلمانية وانتظمت في صفوف المعارضين، وكان الوفد يومئذٍ في المعارضة يشغل مقاعدها في مجلس الشيوخ، وكان له عدد وافر فيها، بخلاف مجلس النواب، وقد تضامنت معهم (عن عقيدة) في المعارضة. وفي خطبتي الأولى التي ألقيتها في المجلس بجلسة ١١ ديسمبر سنة ١٩٣٩ لمناسبة الرد على خطاب العرش نوَّهت إلى أنهم فيما مضى (سنة ١٩٢٤) كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى مواقفنا كمعارضين، وها قد دارت الأيام فجمعتنا صفوف المعارضة، وكانت خُطبتي تحمل في طياتها معنى عتابهم على محاربتهم لي في الماضي، قلت في هذا الصدد ما يأتي: «زملائي الأعزاء! أرجو أن تسمحوا لي وأنا أقف بينكم لأول مرة أن أرجع قليلًا إلى ذكريات الماضي. لقد كنت عضوًا في مجلس النواب الأول سنة ١٩٢٤، ووقفت مثل هذا الموقف مبديًا آرائي وملاحظاتي على خطاب العرش، وقد ألقاه وقتئذٍ المغفور له سعد زغلول باشا، وكانت الحياة البرلمانية في مستهلِّ عهدها، وتقاليدها جديدة علينا، ففكرت مليًّا مع طائفة عزيزة من النواب في أي خطة نسلكها في البرلمان. فاتفقنا على أن تكون خطتنا هي الدفاع عن المبادئ التي نؤمن بها والتي صارت جزءًا من حياتنا السياسية، وأن نؤيد الوزارة في كل ما يتفق وهذه المبادئ وفي كل ما تعمل لصالح البلاد، وأن ننقدها بالرفق واللين فيما نعتقد أنها أخطأت فيه. وقد اصطلح الناس على تسمية هذه الخطة بالمعارضة، فرضينا بهذه التسمية؛ إذ جعلناها خالصة لوجه الله والوطن، ودار الجدل الطويل وقتئذٍ على المعارضة في ذاتها: هل هي لازمة أم غير لازمة، نافعة أم ضارة؟ ثم جاءت انتخابات سنة ١٩٢٥ لمجلس النواب الثاني، فانتُخبت فيه ولكن لم يطُل عهده كما تعلمون، ثم انقطعت صلتي بالحياة البرلمانية من الناحية الرسمية مع استمرارها من الناحية الروحية والفكرية، إلى أن انتُخبت في أكتوبر الماضي عضوًا بمجلسكم الموقر. فلما زرت معاهد البرلمان لأرى مدى التغييرات التي طرأت عليها في خلال هذه السنين رأيت الأوضاع هي هي، غير أني لاحظت أن قاعة فخمة قد أُعدت للمعارضة في مجلس النواب، وقاعة فخمة أخرى قد أُعدت للمعارضة في مجلس الشيوخ، وهذا هو الشيء الجديد. وهكذا بعد أن كانت فكرة المعارضة موضع القيل والقال، والجدل والحوار، صارت نظامًا مستقرًّا معترفًا به من الجميع، وقد زادني هذا التطور اعتقادًا بأننا كنا على حق سنة ١٩٢٤ وسنة ١٩٢٥، وأن المعارضة ما دامت تنشد الحق والمصلحة الوطنية هي ركن من أركان الحياة النيابية، وهي خير معوان للحكومة فيما تضطلع به من الأعباء الجسام.»
ثم حملت على معاهدة سنة ١٩٣٦ وذكرت إهدارها للجلاء وإقرارها الوضع الباطل في السودان، وقلت فيما قلت: «أنا لست فيما أقول نظريًّا، بل إني أستلهم آرائي من المشاهدات الدولية التي نراها كل يوم؛ فالذي نشاهده أن معاهدات التحالف أو الصداقة أو مواثيق الضمان بين إنجلترا وغيرنا من الدول التي تربطها بها المصالح المشتركة قائمة على أساس عدم وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في تلك البلاد، فتطبيق هذه القاعدة يقتضي أن يكون الجلاء هو أساس التحالف والتعاون بيننا وبين بريطانيا. لقد تعاهدت بريطانيا مع تركيا كما تعهدت لليونان ورومانيا وغيرها بمساعدتها في رد أي اعتداء عليها، ومع ذلك لم يكن في أي عهد لها مع هذه الدول وجود قوات حربية بريطانية مستديمة في أراضيها، وغير خافٍ أن اليونان ليست أكثر منا قوة ولا أعز نفرًا ولا هي أقل استهدافًا لخطر الغزو الخارجي، ومع ذلك لم يقُل أحد أن درء هذا الخطر يكون بوجود قوات مستديمة لبريطانيا فيها، ولا يمكننا ونحن من المؤمنين بمبدأ الجلاء أن نقر الوضع الحالي للتحالف، وكذلك لا نقر الوضع الحالي للسودان كما هو وارد في المعاهدة. إن الأساس الصحيح للتعاون بين الدول التي تحترم استقلالها هو ما صرَّح به المستر تشمبرلين في مجلس العموم البريطاني يوم ١٢ أبريل الماضي (١٩٣٩) إذ قال إن كل عمل يهدد استقلال اليونان ورومانيا وترى اليونان أو رومانيا أن مصلحتها الحيوية تقضي عليها بمقاومته بقواها الوطنية هو عمل يُلزم الحكومة البريطانية بأن تقدِّم في الحال المساعدة للحكومة اليونانية أو الحكومة الرومانية، هذا الأساس هو الذي نريده ونبغيه.»
ثم تكلمت من الناحية الداخلية على «وجوب تقوية الجيش وربط النهضة الحربية بالنهضة الاقتصادية، وأن من أولى مظاهر هذا الارتباط أن يستوفي الجيش جميع حاجاته من ملبس ومأكل وأسلحة ومدافع ومهمات وذخائر من موارد البلاد، وبذلك يتم للجيش الطابع القومي طابع الاستقلال والكرامة، وتنشأ في البلاد صناعات حربية وغير حربية تتسع بها آفاق النهضة الاقتصادية وتجد الأيدي العاملة والرءوس المدبرة مجالًا جديدًا للعمل والإنتاج، وبهذه الوسيلة تكون ملايين الجنيهات التي يقتضيها الدفاع الوطني بمثابة رءوس أموال تُستثمر في البلاد وتزيد من رخائها وثروتها، ولا تكون نفقات الدفاع وتكاليفه عبئًا على الميزانية وعلى البلاد كما يتوهم البعض، بل تكون سببًا لتقدُّمها الصناعي والعمراني، أو بعبارة أخرى يجب أن يتم الانسجام بين الدفاع الوطني والاقتصاد القومي. وإني لأرجو أن تُعنى الوزارة بهذه الناحية كل العناية، وإذا كانت مصر في عهد محمد علي قد كفلت بمواردها ومصانعها حاجات الجيش بأكملها فأولى بها وقد خطت في ميادين العلم والتقدم هذه الخطوات الواسعة أن تكفل حاجات جيشها الحديث بنفس هذه الطريقة.»
ثم تحدثت عن التعاون حديثًا طويلًا ودعوت الوزارة إلى العناية به.
وإذ كان كلامي عن معاهدة سنة ١٩٣٦ طعنًا في مشروعيتها وصحتها؛ فقد انبرى لي أحد الشيوخ الوفديين في الجلسة مدافعًا عنها وقال: «إنه لا يصح أن نتجاهل الحقائق، ويكفي (في نظره) أن يعترف الأجنبي في المعاهدة بأن احتلاله انتهى وأنه بعد عشرين سنة نقوي فيها جيشنا ونستطيع بعدها أن نحافظ على قناة السويس التي هي مهمة لنا ومهمة له (كذا) يكفي أن يخرج حينئذٍ من البلاد بلا رجعة. وإذا قال هذا الأجنبي ساعتئذٍ (أي سنة ١٩٥٦) لا، أمكننا أن نحتكم في هذا الأمر إلى عصبة الأمم. وكلام حضرة الزميل المحترم (مشيرًا إليَّ) رجوع إلى الماضي واعتراض على معاهدة نظَرتها الأحزاب كلها في جبهة متحدة؛ ومن أجل هذا سُميت وثيقة الشرف والاستقلال، ولم يكن في الإمكان الحصول على أفضل مما حصلنا، ومع هذا فيمكن أن نحصل على خير من هذا بفضل جهود المصريين وما يعملونه في تأييد الحليفة وفي العمل المُجدي المشترك معها وهو الانتصار للديمقراطية.»
وكان كلام حضرة الزميل الوفدي انتصارًا لإنجلترا وإبرازًا للتمسك بالمعاهدة دون أي مقتضٍ.
(٦) معاهدة سنة ١٩٣٦ ومناداتي ببطلانها في البرلمان
كان حديثي عن معاهدة سنة ١٩٣٦ في مجلس الشيوخ أول حملة برلمانية على مشروعية المعاهدة بعد إبرامها، حقًّا إنها كانت موضع الطعن والحملات عليها من المعارضين أثناء عرضها على البرلمان، ولكن بعد أن قرر البرلمان قبولها هدأت الحملة عليها مؤقتًا بوصف أنها صارت قانونًا من قوانين الدولة.
وقد تابعت الحملة على المعاهدة في مختلف المناسبات.
ففي جلسة ١٢ يونيو سنة ١٩٤٠ في عهد وزارة علي باشا ماهر تَناقش المجلس في موقف مصر بعد دخول إيطاليا الحرب، واستمع في جلسة سرية إلى بيان رئيس الوزراء ومناقشات الأعضاء، وأصدر بجلسة علنية القرار الآتي:
«بعد سماع البيان الذي ألقاه حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، يقرر المجلس تأييده لهذا البيان كما يؤيد استمرار الحكومة في تقديم أكبر معونة ممكنة للحليفة في دفاعها عن الحق والحرية في حدود معاهدة الصداقة والتحالف.»
فاعترضتُ على الشطر الأخير من القرار، وأثبتُّ اعتراضي عليه بالجلسة، وأعلنت عدم موافقتي عليه.
ولما استقالت وزارة علي باشا ماهر في يونيو سنة ١٩٤٠ على أثر التدخل البريطاني وتألفت وزارة حسن صبري باشا نوقش بيانها الوزاري بجلسة ٤ يوليو سنة ١٩٤٠، ووقفت منها موقف المعارضة، وبنيت معارضتي على أنها جاءت في أعقاب تدخُّل أجنبي اضطر الوزارة السابقة «وزارة علي ماهر» إلى الاستقالة وأنها أعلنت في بيانها أن علاقة مصر ببريطانيا سيكون أساسها تنفيذ معاهدة سنة ١٩٣٦ بروحها ونصها، وقلت في هذه الجلسة: «إن تأييد الوزارات أو عدم تأييدها يرجع إلى أمرين: أولهما الملابسات والظروف التي تألفت فيها الوزارة، وثانيهما مناهجها ومبادئها.»
وبعد أن شرحت كيف أن استقالة الوزارة السابقة كانت نتيجة تدخُّل أجنبي، عرَّجت على الأمر الثاني وقلت: «ومن ناحية أخرى فأنا لا أؤيد الوزارة لأنها تقوم على أساس يخالف مبدئي بصفتي عضوًا في الحزب الوطني، ولا شك أن حضراتكم تعلمون رأينا في معاهدة التحالف التي أُبرمت سنة ١٩٣٦، وتعلمون وجهة نظرنا في العلاقات التي يجب أن تكون بين مصر وبريطانيا العظمى؛ فالعلاقة التي يجب أن تكون بين البلدين يجب أن يكون أساسها الجلاء الذي طالما دعونا وما زلنا ندعو إليه وننادي به طوال السنين؛ ولذلك لا يمكن ونحن دعاة هذا المبدأ القويم أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس.»
وهنا أراد رئيس الجلسة (سليمان باشا السيد سليمان وكيل المجلس) ألَّا أسترسل في هذا الحديث قائلًا: «أرجو حضرة الشيخ المحترم ألا يخرج عن الموضوع وأن يُقصر كلامه على بيان الوزارة.»
فقلت: «إني أتكلم في بيان الوزارة الذي جاء فيه أن علاقتنا وبريطانيا العظمى سيكون أساسها تنفيذ معاهدة التحالف والصداقة بروحها ونصها، وهذا الأساس لا نُقرُّه بحال.»
وعندئذٍ تدخَّل حسن صبري باشا رئيس الوزارة قائلًا: «لقد أقسم حضرة الشيخ المحترم على احترام قوانين البلاد، ومعاهدة الصداقة صدر بها قانون يجب احترامه.»
فأجبته: «أنا لا أزال متمسكًا برأيي. ولقد كنت دائمًا ممن عارضوا معاهدة الصداقة والتحالف، والأحزاب والجماعات تطالِب الآن (١٩٤٠) بالجلاء وهو الرأي الذي طالما نادى به الحزب الوطني من قديم وحققت الأيام صحته. فلا يليق بنا في الوقت الذي اتفقت فيه الأحزاب والجماعات على صحة هذا المبدأ وقامت تطالب بالجلاء، أن نتخلى عنه، ولا يتفق مع مبادئ الحزب الوطني أن نؤيد وزارة تقوم على غير هذا الأساس.»
ثم عاد رئيس الوزارة يجابهني باليمين التي أقسمتها قائلًا: وماذا يقول حضرة الشيخ المحترم في اليمين التي أقسمها على احترام قوانين البلاد؟
وهنا تدخَّل المرحوم الأستاذ يوسف الجندي (وكان بيني وبينه ودٌّ متبادل) ورد على اعتراض رئيس الوزارة قائلًا: «إن القسَم على احترام قوانين البلاد لا يمنع أي عضو من انتقاد قانون ما أو طلب تعديله.» وقلت معقبًا: «نعم، ولي أن أعترض على أي قانون وأطلب تعديله أو إلغاءه.» ثم قلت مخاطبًا الأعضاء: «إخواني الأعزاء! إن المبادئ التي يدين بها الحزب الوطني والتي أثبتت الأيام صحتها هي ذلك التراث الوطني المقدَّس الذي تلقيناه عن أسلافنا العظام، فلا يجوز لنا أن نتنازل عنها أو نتراخى في التمسك بها.» وانتهت المناقشة عند هذا الحد.
ولما تناقش المجلس بجلسة ٣١ ديسمبر سنة ١٩٤٠ في خطاب العرش على عهد وزارة حسين سري باشا لم أقرَّ مشروع لجنة الرد على الخطاب، وقد حصلت المناقشة في جلسة سرية وأبديت وجهة نظري في بطلان المعاهدة، وعندما عُرض مشروع اللجنة لأخذ الرأي عنه بالجلسة العلنية لم أوافق عليه، وقلت ما نصه: «للأسباب التي أبديتها في الجلسة السرية لا أوافق على مشروع الرد المقدَّم من اللجنة.»
وخلاصة هذه الأسباب (وهي مدونة تفصيلًا في محضر الجلسة السرية) أن خطاب العرش ومشروع الرد عليه كما وضعته اللجنة يحتويان على إقرار الأساس (أساس المعاهدة) الذي يتنافى مع الاستقلال؛ ومن ثَم لا أوافق على الخطاب ولا مشروع الرد عليه، وقلت في تأييد وجهة نظري:
«لقد اعترضنا كثيرًا على أساس التحالف بين مصر وبريطانيا كما ورد في معاهدة سنة ١٩٣٦ فكانوا يقولون عنا أننا متطرفون أو متطيرون، وها هي الحوادث تنطق بأننا كنا معتدلين فيما قلناه وتوقعناه، ولا أدري ما هي مصلحة البلاد في كتمان الحقائق عنها أو تصوير الأمور على غير حقيقتها. إن الوضع الصحيح للتحالف أو التعاون هو ما نراه بين بريطانيا واليونان؛ نريد أن يعاملونا كما عاملوا اليونان قديمًا وحديثًا؛ لقد ساعدوها على استرداد استقلالها منذ نيف ومائة عام وتركوها طول هذه المدة مستقلة استقلالًا صحيحًا، تركوها تعتمد على نفسها وتؤلِّف جيشها وأسطولها، تركوها تقوى وتنمو وتنهض، وساعدوها على توسيع أملاكها، وكانوا كلما تعرَّض استقلالها للخطر هبُّوا لنجدتها وحاربوا من أجلها. ومع ذلك لم يكن من شروط التحالف أو التعاون بينهما قديمًا أو حديثًا أن يكون لإنجلترا في أي جزء من أراضي اليونان قوات حربية مستديمة في حالتَي الحرب والسلم كما هو الحال عندنا، ولا أن تقتسم وإياها السيادة وتستأثر بالحكم في أي جزء من بلادها كما هو الحال في السودان؛ فهذا النوع من التحالف أو التعاون، هذا النوع السليم الصحيح، هو الذي أنتج دولة قوية هبَّت للدفاع عن الذِّمار ضد الغزو الإيطالي لأنها تعتقد حقًّا أنها تدافع عن الاستقلال لا عن الاحتلال.
أنا لا أتصور استقلالًا بغير الجلاء، ولا أتصور احتلالًا مهما كان شكله بغير تبعية، ولا أتصور تحالفًا بين دولتين مستقلتين يقوم على غير أساس الجلاء، إلا إذا تنازلت إحداهما عن الجلاء أو عن جوهر الاستقلال، هذه هي الحقائق، هذه هي المسميات، أما الأسماء فما أكثرها إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا.»
وعندما نظر المجلس بجلسة ١٧ فبراير سنة ١٩٤١ (في عهد وزارة حسين سرِّي باشا أيضًا) استجواب حافظ رمضان باشا في الاعتراض على تصريح المستر تشرشل الذي ألقاه في ديسمبر سنة ١٩٣٩ وأخذ فيه على إيطاليا أنها هاجمت مصر وهي «تحت الحماية البريطانية»، قلت في هذا الاستجواب:
«يهمني أن أبيِّن لحضراتكم وجهة نظر الحزب الوطني في هذا الموضوع، ولا أريد أن أكرر ما قلت في الجلسة السرية التي عُقدت في الشهر الماضي، بل أقرر أني اعترضت بكل قواي على تصريح المستر تشرشل، والذي أريد أن أقرِّره الآن أن اعتراضي على هذا التصريح ينطوي أيضًا على اعتراضي على المعاهدة. واسمحوا لي أن أبيِّن أن وجهة نظر الحزب الوطني لا تقرُّ المعاهدة لأنها تتنافى مع الجلاء وهو من المبادئ الأساسية للحزب الوطني، كما تتنافى مع ارتباط السودان بمصر ارتباطًا لا يقبل التجزئة؛ لهذا نحن نعترض على التصريح وعلى التفسير الذي لابسه، وقد رفضنا المعاهدة وتنفيذها، وقد كان موقف الحزب الوطني موقف المعارضة من كل الوزارات التي قامت على تنفيذ المعاهدة.»
وبجلسة ٣ يونيو سنة ١٩٤٢ التي نوقش فيها خطاب العرش على عهد وزارة النحاس حدثت مناقشة طويلة بيني وبين رئيس المجلس (علي زكي العرابي باشا) ووزير العدل (صبري أبو علم باشا) في شأن المعاهدة ومشروعيتها.
فقد قلت ردًّا على خطاب العرش:
«إن خطاب العرش قد أغفل، وبعبارةٍ أصح: أهدر، نقطتين جوهريتين فيما يتعلق بالسياسة العامة للدولة؛ الأولى خاصة بالجلاء، والثانية خاصة بالسودان. وإني ألاحظ دائمًا على خُطب العرش ظاهرة تستوقف النظر، هي أن كل خطاب عرش لا يخلو من التنويه بأن الوضع الحالي للبلاد والذي يجب أن تقوم عليه كل حكومة هو معاهدة التحالف والصداقة المبرمة سنة ١٩٣٦، مع أن لنا مندوحة في أن نتجاوز عن هذه النقطة لأنها ليست نقطة جوهرية في خطاب العرش ولا ضرورة لذكرها. وأول ما أعترض عليه أن خطاب العرش ذكر هذا الوضع وأنا موقن أنه ينقضُ ركنًا جوهريًّا من أركان الاستقلال والسيادة العامة، وهو الركن الخاص بالجلاء، لا أقول هذا لمجرد الكلام في النظريات بل أذكره على أنه حقائق ثابتة يجب أن توضع موضع الاعتبار. لأننا إذا قارنَّا بين هذا الوضع الذي في مصر ووضع التحالف القائم بين بريطانيا العظمى وحلفائها مثل أمريكا وتركيا واليونان وغيرهم؛ فإننا لا نجد في أي معاهدة من هذه المعاهدات نصًّا يبيح لها استدامة بقاء قواتها الحربية في بلاد حليفتها في أيام السلم وأيام الحرب كما هو الحال في مصر.»
وهنا قاطعني رئيس المجلس (علي زكي العرابي باشا) قائلًا: «هل يعترض حضرة الزميل المحترم على المعاهدة؟»
فأجبت قائلًا: «لي هذا الحق، وأريد أن أنتقد السياسة العامة للحكومة، وإذا قيل لي بأن هذا يتعارض مع كونها أُقرت بقانون فإني لا أوافقكم على اعتبارها قانونًا، ومع ذلك فإن كل القوانين عرضة للمناقشة فيها في البرلمان تمهيدًا لتعديلها أو إلغائها.»
فاعترض عليَّ أيضًا صبري أبو علم باشا قائلًا: إننا الآن في صدد مناقشة خطاب العرش لا في صدد الكلام عن المعاهدة.
فقلت: «إن موضوع كلامي في خطاب العرش ينصبُّ على الجلاء والسودان، وأرجو أن تتركوني أتكلم لأني تكلمت في عهود سابقة عن هذا الموضوع ولم يعترض عليَّ أحد، فلا يصح أن يضيق صدركم الآن بما لم يضِق به صدر تلك العهود.»
واستمرت المناقشة من الجانبين سجالًا إلى أن قلت: «إن الركن الثاني هو مسألة السودان، وهذه مسألة ليست بالهينة؛ لأن السودان هو نصف المملكة المصرية، ورضاؤنا عن الوضع الحالي للسودان يُعتبر منا إقرارًا لسيطرة دولة أخرى على هذا النصف من المملكة وهو كما قلت مكمل لها.»
فقال رئيس المجلس مرة ثانية: «هل حضرة الزميل المحترم يعترض على المعاهدة ويرغب في تعديلها؟»
فقلت: «أظن أن حضراتكم تعلمون رأيي في المعاهدة؛ فأنا لم أقبلها ولم أقرَّها، فلا تحاجُّوني بالمعاهدة.»
وقال صبري أبو علم: «إذا كان حضرة الزميل المحترم يريد أن يتكلم عن المعاهدة فالطريق الذي يجب أن يسلكه هو أن يقدِّم اقتراحًا بما يريده، لأننا لو أبحنا المناقشة في المعاهدة في كل مناسبة لمَا انتهينا من ذلك.»
فانبرى بهي الدين بركات باشا يدفع عني هذه المقاطعات وقال: إن «لكل نائب ولكل شيخ الحق كل الحق عند مناقشة خطاب العرش أن يُدلِي بما يعنُّ له من الآراء وأن يناقش كل مسألة يريد أن يعرض لها، وأنا وإن كنت لا أوافق حضرة الزميل المحترم على بعض آرائه لكني أرى أن من حقه المطلق أن يعارض أية سياسة سواءً أكانت متعلقة بالمعاهدة أم غير متعلقة بها.» إلى أن قال: «أقول إنه لا حرج عليه في ذلك مطلقًا، ويجب أن نصغي إليه ولا نقاطعه لأن لكل أقلية حقوقًا يجب أن تُحترم. إن النظام البرلماني لم يوجد إلا لكي يُفسح المجال للأقليات ليكون لها صوت محترم يُسمع؛ لأن هذا هو أبرز فارق بين الحكم الدكتاتوري والحكم الديمقراطي. أما القول بتقديس معاهدة أو تقديس رأي سياسي معيَّن أيًّا كان فهذا ليس من النظم البرلمانية أو الديمقراطية في شيء ويجب أن يُستبعد من الأذهان.»
وهنا عاد رئيس المجلس إلى الاعتراض قائلًا: «إن المسألة ليست مسألة الكلام عن الأقلية أو الأغلبية، ولكن نحن في صدد مناقشة رأي في ذاته، وقد طلبت من حضرة الزميل المحترم أن يحدد رأيه: هل يريد الاعتراض على المعاهدة أو على تنفيذها، أو هل له رغبة في تعديلها؟ طلبت منه أن يحدد أقواله بالدقة حتى يتيسر لنا متابعة آرائه.»
فقلت: «أنا أعترض على المعاهدة.»
وهنا قال صبري أبو علم: «اعترضت ولا أزال أعترض على أن تدور المناقشة على أساس تجاهل معاهدة عقدناها وأقرها البرلمان لأنها تتضمن سياسة ارتبط بها شرف مصر (تأمَّل!) أمَّا أن تتخذ من خطاب العرش وسيلة للطعن على معاهدة أقررناها ومتوَّجة بإمضاء جلالة الملك فهذا الوضع لا يمكن أن تقرَّه الحكومة، أما الاقتراح بالتعديل أو الإلغاء فبابه مفتوح.»
وانتهيت من كلامي إلى أني لا أقرُّ خطاب العرش ولا مشروع الرد عليه.
وكان موقف حكومة الوفد في هذه المناقشة موقف تأييد ودفاع وتدعيم للمعاهدة التي أهدرت الجلاء ووحدة وادي النيل.
وبجلسة ٨ ديسمبر سنة ١٩٤٢ لمناسبة الرد على خطاب العرش أيضًا في عهد الوزارة الوفدية، قلت في الرد على هذا الخطاب: «أنتقل الآن إلى القسم الخارجي من خطاب العرش، إن نقطة الارتكاز فيه هي معاهدة سنة ١٩٣٦، وحضراتكم تعلمون وجهة نظرنا فيها، وهي أننا لم نقبلها ولم نقرَّها لأنها تتعارض مع الجلاء الذي هو أساس مبادئنا، وتتعارض مع ارتباط السودان بمصر، فتعارضها مع هذين المبدأين الأساسيين جعلنا نقف منها هذا الموقف، والجلاء في نظرنا مرادف للاستقلال، وأرجو ألا يتطرق إلى بعض الأذهان أنني إذ أتكلم في هذه النقطة أنشد الخيال؛ لا يا حضرات الزملاء! أنا أتكلم عن عقيدة وعن حقيقة ثابتة، وأضيف إلى ذلك أنكم أدرى بأن التطورات الدولية التي ستعقب هذه الحرب ستكون فيما أعتقد محققة لهذه المبادئ، كمبدأ الجلاء ووحدة وادي النيل السياسية والتاريخية والجغرافية. ولا أُخفي على حضراتكم أن من ضمن أسباب الحروب التي تشكو منها الإنسانية نزعة الاستعمار، نزعة تغلُّب القوي على الضعيف، وهذه النزعة بدأ يظهر لها خصوم أقوياء في صفوف الديمقراطية، وهم يعتقدون بحق أن سلام العالم وراحته وطمأنينته لا تتحقق إلا بالعدول عن هذه النزعة؛ لأن ما كان يصلح في القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يعُد يصلح مطلقًا لهذا العصر، بل إن هذه النزعة كانت سببًا في تقلقل السلام في العالم؛ فما علينا إلا أن نتمسك بمبدأ الجلاء ووحدة وادي النيل، وسيأتي اليوم الذي يتحقق فيه هذا المبدأ.»
وقلت يوم ٢٩ ديسمبر سنة ١٩٤٣ في جلسة الرد على خطاب العرش أيضًا: «لقد استوقف نظري في خطاب العرش ما جاء في ختامه من أن مصر أو الشعب المصري يحرص كل الحرص على أن يتمتع باستقلاله تامًّا كاملًا لا تشوبه أية شائبة. وقد تساءلت عندما سمعت هذه الفقرة وتلوتها مرة أخرى في خطاب العرش: كيف يمكن أن يتحقق الاستقلال تامًّا لا تشوبه أية شائبة بدون الجلاء؟ إن الاستقلال الصحيح لا يتحقق ولا يكون تامًّا كاملًا لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء.
يا حضرات الزملاء الأعزاء! لقد دافعت غير مرة عن قضية الجلاء من فوق هذا المنبر، وأراني أشعر كل يوم أنا وزملائي أننا إنما ندافع عن قضية عادلة حقة، قضية هي لب الاستقلال وجوهره، ولا يمكن مطلقًا أن بلدًا من البلدان يتمتع باستقلاله تامًّا كاملًا لا تشوبه أية شائبة إلا إذا تحقق الجلاء فعلًا. ولا تظنوا أيها السادة أن مثل هذه الدعوة والمجاهرة بها تسيء إلى الصداقة بين مصر وبريطانيا؛ فإن الصداقة الحقيقية هي التي تُبنى على الاحترام المتبادل للحقوق بين الأمم، وهذا هو الأساس الصحيح للصداقة بين الأمم، هذا هو الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه نظام العالم الجديد.
وفي الواقع، أيها السادة، إذا لم يكن قد حان وقت الجلاء منذ زمن وإذا لم يحِن وقت الجلاء عندما يتقرر مصير الشعوب فمتى يحين؟
إذا رجعنا إلى كتاب المستر جلادستون الذي أرسله إلى المرحوم مصطفى كامل باشا سنة ١٨٩٦ فإننا نراه يقول فيه إن زمن الجلاء قد حان منذ سنين، فإذا كان هذا التصريح قد صدر سنة ١٨٩٦ من المستر جلادستون وهو رئيس الوزارة البريطانية الذي وقع في عهده الاحتلال سنة ١٨٨٢، وشيخ الأحرار في إنجلترا، فقوله هذا له وزنه وله قيمته. أما نحن أيها السادة فنعتبر أن زمن الجلاء قد حان منذ سنة ١٨٨٢، أي من السنة التي وقع فيها الاحتلال؛ لأنه وقع بغير مبرر وبغير سبب.»
إلى أن قلت: «هناك عنصر آخر يؤيد هذه القضية، وهو أن تطور الأفكار العالمية واتجاه الشعوب إلى المُثل العليا في خلال هذه الحرب يعتبر وجود قوات حربية أجنبية بصفة مستمرة في أي بلد من البلاد لا يتفق مع استقلال هذا البلد وكرامته القومية، فهذا الاتجاه الجديد يؤيد قضية الجلاء ويجعلها قضية ناجحة.
ومهما قيل، أيها الزملاء الأعزاء، بالنسبة لمصر من أن وجود القوات البريطانية الحربية إنما يُقصد به الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، فلا أظن مطلقًا أن الأوضاع الصحيحة والمنطق السليم يتفقان مع هذا التعليل، كما أعتقد أنه لم يعُد يتفق مع التطور العالمي الذي أشرت إليه، والذي لا يسمح مطلقًا بأن تكون العلاقة مع الشعوب مبنية على وجود قوات حربية أجنبية في البلد المستقل؛ خصوصًا أن بريطانيا العظمى قد ارتضت في معاهدة الآستانة سنة ١٨٨٨، وفي معاهدة لوزان سنة ١٩٢٣، الوضع السليم لضمان حرية الملاحة في قنال السويس بما لا يتفق مع وجود قوات أجنبية لضمان هذه الحرية؛ ذلك لأن معاهدة سنة ١٨٨٨ وهي معاهدة الآستانة التي اشتركت في التوقيع عليها بريطانيا العظمى قررت أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وقررت أن الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس يجب أن يوكل أمره إلى مصر وإلى القوات المصرية، وكان لها — كما نُص في المعاهدة — أن تستعين عند اللزوم إذا لم تكن قواتها كافية للدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس، كان لها أن تستعين بقوات تركية. فلما جاءت معاهدة لوزان التي أُبرمت في يوليو سنة ١٩٢٣ بين تركيا وبين بريطانيا العظمى وحلفائها، أقرت الأحكام الواردة في معاهدة سنة ١٨٨٨ مع تنازل تركيا عن كل حق لها في مصر والسودان، نُص على هذا صراحةً في معاهدة لوزان، ومعنى ذلك انفراد مصر بالدفاع عن حرية الملاحة في القنال. إذن فالوضع الصحيح الذي ارتضته بريطانيا هو أن قنال السويس يجب أن يكون على الحياد، وحياد قنال السويس يقتضي حياد الأرض التي يمر بها، وأن حياد قنال السويس يجب أن يكون في كفالة مصر وحدها؛ لأنه بتنازل تركيا عن كل حق لها بمصر والسودان أصبحت مصر منفردة بمعاهدة دولية بضمان حرية الملاحة في القنال. وهذا هو الوضع السليم الذي يجب أن نطالب به، فإذا ما بقيت جنود أجنبية بحجة الدفاع عن حرية الملاحة في قنال السويس فلا يكون الغرض الحقيقي منها هو هذا، وإنما يكون لها غرض آخر لا يتفق مع أبسط قواعد الاستقلال ولا مع كرامة البلاد.
وهنا اعترضني أحد الشيوخ الوفديين قائلًا: وهل يمكن المطالبة بالجلاء الآن؟
فأجبته بكل بساطة: «إننا نطالب به منذ سنة ١٨٨٢!»
ثم قلت: «والآن أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول بهذه المناسبة إن هذا المطلب تقاربت الأحزاب على المناداة به، أما نحن — المعارضين القدماء — فنعتبر الجلاء مبدأً لا مطلبًا فحسب، ونعتبره عقيدة لا وسيلة للمعارضة فحسب، هو وسيلة للمعارضة ولكنه إلى جانب ذلك عقيدة، وهو مبدأ؛ ولذلك فإننا لا نقبل المعاهدة بدونه.»
وهنا اعترضني محمد صبري أبو علم باشا (وزير العدل) قائلًا: «هذا إذا كانت المعاهدة لا تزال معروضة.»
فقلت: «سواءً أكانت معروضة أم غير معروضة فإنا لا نقبل المعاهدة بدونه.»
وبجلسة ٢٣ ديسمبر سنة ١٩٤٦ أعلنت أن معاهدة سنة ١٩٣٦ باطلة وكذلك اتفاق سنة ١٨٩٩.
وقلت بجلسة ١٣ يناير سنة ١٩٤٧ لمناسبة تصرفات الحاكم العام للسودان (الجنرال هدلستون): «قد يقال إن اتفاقية السودان سنة ١٨٩٩ قد صُححت بمعاهدة سنة ١٩٣٦، وأنا أقول إنها لم تُصحَّح أبدًا وما زال البطلان لاحقًا بها، كما أنه لا يزال لاحقًا بمعاهدة سنة ١٩٣٦ لأن هذه المعاهدة تتعارض مع الأوضاع الدولية القديمة والحديثة التي لا تسوِّغ مطلقًا الضغط على شعب من الشعوب لأنه أعزل من السلاح وإكراهه على توقيع اتفاقية أو معاهدة ضده. وهذه الأوضاع التي أشرت إليها ما زالت قائمة، ومن مقتضاها أنه لا يجوز لدولة أن تنتهز وجود جيوشها في أرض دولة أخرى وتنتزع منها معاهدة أو اتفاقية. أتريدون يا حضرات الزملاء دليلًا على الإكراه الواقع على مصر عندما أبرمت معاهدة سنة ١٩٣٦؟ أولًا كان الاحتلال قائمًا في هذه الفترة، وما زال قائمًا مع الأسف، ولا شك أن الاحتلال يُفسد الرضا والتعاقد، وقد أبرز هذا الإكراه بطريقة لبقة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا حينما كان يتفاوض مع السير تشمبرلن وزير خارجية إنجلترا سنة ١٩٢٧ وكان الحديث سجالًا بينهما في أنه يجب أن تقبل مصر مشروع المعاهدة، فماذا قال تشمبرلن للمغفور له ثروت باشا؟ لقد ورد هذا في الكتاب الأخضر الذي نشره ثروت باشا في أعقاب سنة ١٩٢٧، قال السير أوستن تشمبرلن للمرحوم ثروت باشا ما يأتي: إن لب المسألة في الوقت الحاضر هو ما إذا كان الشعب المصري والحكومة المصرية على استعداد للاعتراف بالظروف الخاصة التي وُجدت فيها كلٌّ من مصر وإنجلترا تلقاء الأخرى وما إذا كنا نرغب في التعاون الودِّي مع الحكومة البريطانية لضمان الدفاع عن مصالحنا المشتركة؛ فإن كان الجواب سلبًا ظلت العلاقات بين مصر وإنجلترا تحت رحمة أدنى حادث يطرأ وتعرضت تلك العلاقات إلى أزمات قد تضطر بريطانيا العظمى إلى تسويتها بالقوة.
وهذا معناه أنه إذا لم تقبل مصر المعاهدة المعروضة عليها فستكون علاقة إنجلترا معها عرضة لأزمات تضطر إنجلترا إلى أن تتدخل لتسويتها بالقوة، أليس في هذا معنى الإكراه والغصب الذي تواجهنا به إنجلترا لكي تضطر حكومة مصر إلى قبول المعاهدة المفروضة؟ أقول هذا حجة لمن قبِل المعاهدة في سنة ١٩٣٦ للتحلل منها، وقد كنت وما زلت معارضًا لها. من الذي يلومنا أو يحتج علينا بهذه المعاهدة ومقدماتها ترجع إلى سنة ١٨٨٢ وكل الدلائل تدل على أنها أُخذت من الحكومة المصرية بطريق الضغط والإكراه؛ فهي إذن باطلة ولا نُلزم بها أصلًا.»
وقلت بجلسة ١٢ فبراير سنة ١٩٤٧: «لقد قال الإنجليز إن كل اتفاق يُعقد في ظل الاحتلال باطل، ولقد كان الاحتلال موجودًا، والاحتلال هو رمز الإكراه، وقبول مصر هذه المعاهدة في ظل الاحتلال يُعتبر إكراهًا وهو لا يُلزم مصر بشيء.»
زملائي في المناداة ببطلان المعاهدة
كنا نحن ممثلي الحزب الوطني في البرلمان لا نفتأ ننادي في مختلف العهود والدورات ببطلان معاهدة سنة ١٩٣٦؛ إذ هي وليد الغصب والإكراه، نادى بذلك في مجلس الشيوخ حافظ رمضان باشا وأنا، كما نادى به في مجلس النواب محمد محمود جلال بك وفكري أباظة باشا وعبد العزيز الصوفاني بك. كان هذا النداء الذي تكرر منا عامًا بعد عام دعوة خالصة للانتقاض على المعاهدة والتحلل منها، والحمد لله أن جعل الأمة مع الزمن تتقبل هذه الدعوة بقبول حسن وتتخذ من هذا البطلان شعارًا لها في جهادها لتحقيق أهدافها.
(٧) التعاون والحركة التعاونية
اعتنقت التعاون منذ سنة ١٩٠٨، وساهمت في الحركة التعاونية بإرشاد المرحوم عمر بك لطفي مؤسس التعاون في مصر وتوجيه المرحوم محمد بك فريد الذي وجَّه الحركة الوطنية إلى الإنشاء والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي إلى جانب الجهاد السياسي، ومن يومئذٍ لم تنقطع جهودي في خدمة النهضة التعاونية.
بدأ التعاون شعبيًّا سنة ١٩٠٩.
وفي سنة ١٩٢٣ أصدرت الحكومة قانونًا للتعاون وأُنشئ في تلك السنة قسم التعاون بوزارة الزراعة (مصلحة التعاون الآن وتتبع وزارة الشئون الاجتماعية)، ولكن هذا القانون جعل النظام التعاوني حكوميًّا بحتًا، وهو ما لا يتفق والروح التعاونية؛ إذ هي في أصلها روح شعبية، ويجب أن تبقى كذلك، هذا إلى أن هذا القانون كان مقصورًا على التعاون الزراعي.
التعاون في مجلس النواب سنة ١٩٢٤
انتهزت فرصة دخولي مجلس النواب سنة ١٩٢٤ فأديت تحت قبته ما استطعت من خدمات للتعاون.
لجنة التعاون والشئون الاجتماعية
وبعد مناقشة وجيزة وافقت أغلبية المجلس عليه، وتم تأليف اللجنة بجلسة ٧ أبريل سنة ١٩٢٤.
أخذت لجنة التعاون تؤدي مهمتها في جد ومثابرة، فعقدت إحدى عشرة جلسة في بحث القانون القديم للتعاون (رقم ٢٧ لسنة ١٩٢٣) الذي أحيل على البرلمان ضمن القوانين التي صدرت قبل انعقاده، وقد قررت اللجنة التعديلات التي رأتها كفيلة بإصلاح هذا القانون وسد ما فيه من النقص، وأتمت وضع مشروع قانون متضمنًا هذه التعديلات، وقررت أيضًا وجوب تخصيص مبلغ ربع مليون جنيه من ميزانية سنة ١٩٢٤ لإقراضها بدون فائدة لشركات التعاون الزراعية المؤلفة وفقًا لأحكام القانون الجديد. وانتخبتني مقررًا لهذا القانون، فأرسلت في ٢٠ مايو سنة ١٩٢٤ خطابًا باسم اللجنة إلى رئيس مجلس النواب (أحمد مظلوم باشا) أرفقت به مشروع القانون، ورجوت منه في الخطاب «أن يعرض المشروع على المجلس في جلسة قريبة حتى يتم في هذا الدور الحالي (دور سنة ١٩٢٤) تقرير مشروع قانون التعاون الزراعي الذي تنتظره البلاد منذ سنوات عديدة والذي يؤمل أن ينهض بالحالة الاقتصادية وتنال البلاد الفوائد المرجوة منه.»
وذكرت في الخطاب أن اللجنة قررت تخصيص سلفة ربع مليون جنيه من ميزانية سنة ١٩٢٤ لإقراضها لشركات التعاون الزراعية «ولما كانت الميزانية ستُعرض قريبًا على المجلس لبحثها وتقريرها فاللجنة تأمل أن تعرضوا معاليكم على هيئة المجلس تقرير هذه السلفة لتخصيصها لشركات التعاون الزراعية التي أُلِّفت أو التي تؤلف طبقًا لأحكام هذا القانون، هذا ما قررته اللجنة أرفعه لمعاليكم لعرضه مع مشروع القانون على هيئة المجلس لنظرهما بصفة مستعجلة قبل نظر الميزانية ليقرر ما يراه.»
كتبت «الأهرام» بعددها الصادر في ٢٥ مايو سنة ١٩٢٤ تحت عنوان: «شركات التعاون الزراعية في مجلس النواب» مقالة لخصت فيها مشروع القانون وقالت: «ويُنتظر أن يُعرض على مجلس النواب في اجتماعه اليوم ٢٥ مايو سنة ١٩٢٤ ليقرر رأيه فيه.»
ولكن المجلس قَبِل اقتراح حسين بك هلال أحد النواب الوفديين تأجيل النظر في المشروع حتى تفرُغ اللجنة المالية من درس الميزانية، وقد عارضت في هذا التأجيل ولكن ذهبت معارضتي سدًى، وأدركت من هذا التأجيل أنه قد يؤدي إلى تعطيل نظر المشروع وتعطيل تقرير السلفة التعاونية إلى دور مقبل. فاقترحت بجلسة ٣١ مايو سنة ١٩٢٤ ألَّا يُفض الدور الحالي (دور سنة ١٩٢٤) قبل النظر في المشروع، فقبِل المجلس اقتراحي في تلك الجلسة وأصدر القرار الآتي: «يقرر المجلس نهاية الدور الحالي من انعقاده بمجرد الانتهاء من نظر الميزانية وقانون شركات التعاون الزراعية وما يقرر له المجلس صفة الاستعجال من القوانين الأخرى.»
ولكن المجلس عدَل عن هذا القرار بجلسة أول يونيو وقرر «أن يُترك أمر فض المجلس لِما تقتضيه ظروف العمل وحكمة جلالة الملك.»
وبجلسة ١١ يونيو سنة ١٩٢٤ اقترحت أن يقرر المجلس فتح اعتماد من المال الاحتياطي بربع مليون جنيه لتسليف شركات التعاون الزراعية في خلال السنة المالية الحالية ١٩٢٤-١٩٢٥، فعارض وزير المالية (محمد توفيق نسيم باشا) في هذا الاقتراح، وقرر المجلس إرجاء النظر فيه إلى وقت نظر قانون شركات التعاون.
ولما عُرض القانون على المجلس بجلسة ٨ يونيو سنة ١٩٢٤ طلب رئيس الوزارة (سعد زغلول باشا) تأجيل النظر فيه إلى دور الانعقاد المقبل بحجة أن الحكومة غير مستعدة للمناقشة فيه في تلك الجلسة لغياب وزير الزراعة (فتح الله بركات باشا) ولأن وكيل الوزارة عُزل، فعارضت في التأجيل وقلت: «إن هذا القانون من اختصاص قسم التعاون، ولهذا القسم مدير ومفتش، فيستطيع أحدهما أن يمدَّنا بما نحتاجه من المعلومات، ومن مصلحة البلاد القصوى تقرير هذا القانون في هذا الدور.» فعقَّب سعد باشا على معارضتي بقوله: «كنا نود أن يُنظر هذا القانون في الدور الحالي ولكن لا يوجد في قسم التعاون الموظف الكبير الذي يعنيه الدستور لأجل أن يمثِّل الوزارة أمام المجلس؛ لأن الدستور يقضي بألَّا يمثِّل الوزارات أمام المجلس إلا كبار الموظفين.» فوافق المجلس على تأجيل النظر في القانون إلى الدور المقبل …
ومعلوم أن مجلس النواب قد حُل في أوائل الدور المقبل (ديسمبر سنة ١٩٢٤) فلم يُنظر القانون ولا تقررت السلفة، ثم حُل المجلس الجديد ثانيةً في مارس سنة ١٩٢٥ وعُطلت الحياة النيابية.
وفي سنة ١٩٢٧ أقر البرلمان قانون التعاون رقم ٢٢ لتلك السنة، وقد أخذ بمعظم التعديلات التي عرضناها على مجلس النواب سنة ١٩٢٤، وهو قانون صالح في مجموعه؛ إذ جعل التعاون شعبيًّا وحكوميًّا معًا؛ ومن ثَمَّ أخذت الجهود تتضافر لإقامة صرح التعاون في الريف والحضر.
وبجلسة ٢١ يونيو سنة ١٩٢٤، لمناسبة نظر الميزانية اقترحت إرسال بعثة إلى الخارج لدرس نظام التعاون بإيطاليا وبلجيكا وهولاندا وإيرلندا، فوافق نائب وزير الزراعة على هذا الاقتراح وتم تنفيذه.
لجنة سنة ١٩٣٩
في سبتمبر سنة ١٩٣٩ على عهد وزارة علي باشا ماهر ألَّفت وزارة الشئون الاجتماعية لجنةً من بعض المعنيين بالحركة التعاونية وهم: الدكتور إبراهيم رشاد بك «باشا» مدير مصلحة التعاون، وأنا، ومحمد ذو الفقار بك، والدكتور أحمد حسين بك «باشا» وكيل مصلحة التعاون وقتئذٍ، والدكتور يحيى أحمد الدرديري، لبحث كافة الوسائل التي تؤدي إلى النهوض بالحركة التعاونية.
فبحثنا مليًّا على ضوء التجارب الماضية في خير الوسائل العملية لتحقيق هذا الغرض، ورأينا أنه يجب علاج هذه الحالة من نواحٍ ثلاث: (١) تمويل الجمعيات التعاونية. (٢) الإشراف عليها. (٣) تعديل قانون التعاون.
والحلول التي عرضناها من جهة التمويل هي إما إنشاء بنك تعاوني مستقل أو تحويل بنك التسليف الزراعي إلى بنك تعاوني.
قدَّمنا تقرير اللجنة بهذه المقترحات إلى الوزارة في أكتوبر سنة ١٩٣٩، وقد نوهت إلى هذا التقرير ومقترحاته في كلمتي بمجلس الشيوخ بجلسة ١١ ديسمبر سنة ١٩٣٩ وأهبت بالحكومة أن تعمل بمحتوياته، وأظن أن هذا التقرير صار مع الزمن موضع التنفيذ تدريجًا، مما كان له أثره في اطراد النهضة التعاونية.
وبجلسة ٢٠ مايو سنة ١٩٤١ بمجلس الشيوخ لمناسبة المناقشة في ميزانية الدولة تحدثت عن نصيب التعاون في الميزانية المعروضة على المجلس والميزانية السابقة، وأخذت على وزارة الشئون الاجتماعية عدم عنايتها بالتعاون خلال عامين تقريبًا منذ إنشائها، وقلت إن كل ما عملته أنها ألَّفت في سبتمبر سنة ١٩٣٩ تلك اللجنة التي كنت عضوًا فيها وطلبت تنفيذ مقترحاتها.
وقد قابل المجلس هذه الملاحظات بتصفيق الاستحسان واغتبط لها التعاونيون، وإني أستسمح القارئ أن أُورِد هنا ما قاله الدكتور إبراهيم رشاد بك مدير مصلحة التعاون وقتئذٍ في «مجلة التعاون» التي كانت تُصدِرها المصلحة — عدد يوليو سنة ١٩٤١ — تحت عنوان: «الحركة التعاونية في مجلس الشيوخ»، قال:
هكذا ظل هذا الوطني الكبير والمحامي الشهير والشيخ المحترم، زهاء ثلاثة وثلاثين عامًا وهو ملازم للحركة التعاونية المصرية، متصل بها أوثق اتصال، مجاهد في سبيلها جهاد الأبطال، أفلا يدل ذلك على إيمان ثابت بالتعاون ونفعه لمصر بل ضرورته لها؟ لقد ظهرت في خلال تلك الحقبة من الزمن نظريات اجتماعية شتى في نواحي العالم، وجُربت مشروعات ووسائل لا عداد لها لإصلاح أحوال الطبقات، واطلع الأستاذ الرافعي على ذلك كله وهو العالِم المؤرخ ولكنه مع هذا لا يزال على إيمانه بفضل التعاون على كل نظام إصلاحي آخر.
وإذا كان في هذا الثبات شهادة للتعاون؛ فإن فيه أيضًا شهادة لذلك الرجل الثابت على مبدئه التعاوني ودلالة على متانة خُلقه وشدة وفائه، وقد يتعدد الأصدقاء ويتفاوتون مودةً وإخلاصًا، ولكن أفضلهم وأبقاهم هو الصديق القديم، فهنيئًا للتعاون هذا الصديق.» ثم أوردت المجلة نص كلمتي بالمجلس، وعلقت عليها بقولها: «هذا ما قاله الأستاذ الكبير الرافعي بك في التعاون وضرورة العناية به، وإنا لنرجو أن يكون لكلامه صدًى تُردده الأرجاء حتى تحظى الحركة التعاونية بالرعاية الواجبة لها والتي لا يمكنها من دونها أن تنهض وتؤتي ثمارها اليانعة، وقليلٌ بعد ذلك أن نوجِّه عبارات الشكر إلى صديقنا بل صديق التعاون الوفي، ولكنه شكر تاريخ الحركة التعاونية في هذه البلاد الذي سوف يسجَّل له بأحرف من نور.»
ولمناسبة الرد على خطاب العرش سنة ١٩٤٢ عرَّجت في كلمتي التي ألقيتها بجلسة ٩ ديسمبر من تلك السنة على التعاون وقلت: «أظن أن حضراتكم سمعتم مني غير مرة كلامًا عن مسألة التعاون ربما إلى درجة الإملال، لقد تكلمت عن التعاون وتأييد النهضة التعاونية، وكلامي المتكرر في هذا الموضوع لم يكن بدون مقتضٍ؛ فالظروف أثبتت أن التعاون من أهم الأسلحة لمكافحة الغلاء وسهولة التوزيع؛ ولذلك رأينا، والحمد لله، نهضةً طيبة في إنشاء الجمعيات التعاونية، ونهضةً من الوزارة بمعاضدة هذه الجمعيات. ولكن الذي أرجوه بإلحاح من الحكومة أن تُعنى عناية خاصة بالرقابة على هذه الجمعيات على أحسن وجه؛ فإن إهمال الرقابة يؤدي إلى تدهور الجمعيات بمرور الزمن، والرقابة تكون بزيادة عدد الموظفين المراجعين لحساباتها والمفتشين على أعمالها، يجب أن تقوى «مصلحة التعاون» التي تقوم بهذه الرقابة، ويجب على وزارة التموين أن تمد الجمعيات التعاونية بطلباتها في كل شيء لأن إمداد هذه الجمعيات بكل طلباتها من جميع المواد يساعدها على نمو أعمالها ويزيد الجمهور إقبالًا عليها، لأني أخشى إذا ما تراجعنا في إمدادها وتراخينا في إجابة طلباتها أن يحدث رد فعل سيئ الأثر ويؤدي إلى تعثُّر الحركة التعاونية لا سمح الله.»
أول مؤتمر للتعاون (٥ يونيو سنة ١٩٤٣)
في سنة ١٩٤٣ أعدت مصلحة التعاون مؤتمرًا عامًّا للتعاون، واختارت لإقامته مدينة المنصورة باعتبارها عاصمة الدقهلية التي تُعد من أُولى المديريات في الإقبال على الحركة التعاونية، وقد ساهمت في هذا المؤتمر لأنه من الوسائل العملية الفعالة في النهوض بالتعاون والدعاية له وترغيب الناس فيه.
رأسَ المؤتمر فؤاد سراج الدين وزير الشئون الاجتماعية وقتئذٍ ودعاني إلى حضور المؤتمر فلبَّيت الدعوة لأنها قامت على أساس النهوض بنظام ساهمت فيه منذ الساعة الأولى، وحضر المؤتمر أيضًا وزير آخر من وزراء الوفد وهو المرحوم الدكتور عبد الواحد الوكيل بك وزير الصحة.
أقيم المؤتمر في سينما «ركس» بالمنصورة بالسكة الجديدة، وكان المكان غاصًّا بالمدعوين من كبار الأعيان والموظفين والمثقفين من مختلف الطوائف. وكان من خطبائه مدير الدقهلية وقتئذٍ محمود حسيب بك، وقد أشار في خطبته إلى من خدموا التعاون في مصر، وذكرني منهم، فما إن سمع الجمهور اسمي حتى ضج المكان بالتصفيق الحاد المتكرر حتى اضطررت أن أقف وأشكرهم مبتسمًا، فزاد التصفيق حدة وتكرارًا، فاغتبطت في خاصة نفسي لهذه الظاهرة المفاجئة، وعلمت أن منزلتي في النفوس أكبر مما ظننت، وأنه لا يجوز للمجاهد أن ييأس من أن هذه الأمة تقدِّر يومًا عمله وجهاده.
قانون التعاون سنة ١٩٤٤
وقد أدت بحوث مختلف اللجان إلى وضع قانون جديد للتعاون وهو القانون رقم ٥٨ لسنة ١٩٤٤، وكنت مقررًا لهذا القانون عند نظره في مجلس الشيوخ، وقد دعا إلى وضعه ما ظهر من التجربة من وجوب إدخال تعديلات جوهرية على قانون سنة ١٩٢٧ تمشيًا مع التطور الحديث وتيسيرًا للجمعيات التعاونية وتنظيمًا لأعمالها وتعضيدًا لها في القيام بمهمتها، وأُدمجت هذه التعديلات في نصوص هذا القانون بحيث صار قانون سنة ١٩٤٤ هو القانون الشامل لأحكام التعاون.
(٨) اعتذاري عن الاستشارة (نوفمبر سنة ١٩٣٢)
في سنة ١٩٣٢ عندما عُيِّن مصطفى الشوربجي بك ومحمد زكي علي بك «باشا» مستشارَين بمحكمة الاستئناف، أفضى إليَّ المرحوم فؤاد بك حمدي بأن علي ماهر باشا وزير العدل وقتئذٍ يسُره أن يُعيِّنني مستشارًا، وقال لي: إذا كنت تقبل هذا المنصب فإني مبلِّغ جوابك إلى ماهر باشا، فأعربت له عن رغبتي في بقائي محاميًا ورجوته أن يُبلغ ماهر باشا شكري وتقديري لثقته فيَّ. وكان فؤاد بك يميل في خاصة نفسه إلى أن أبقى كما كنت لأنه لم يكن يريد لي أن أتخلى عن مهمتي في الكفاح الوطني، ولكنه أبلغني هذه الرغبة إبراءً لذمته ولكي يستشفَّ من جوابي إذا كنت قد تعبت أو سئمت من الكفاح فأستريح في ظل هذا المنصب القضائي، فقلت له إني على الرغم مما لقيته وألاقيه لم أتعب بعدُ ولم أسأم بعدُ. فقال لي: ولكن ألم تشهد خذلان الأمة لنا في كفاحنا على طول الخط؟ قلت: نعم، إني عالم بهذا الخذلان، وقد عانيت منه أكثر من سواي، وأنا لا ألوم من يقبل أيَّ منصب في هذه الظروف، ولكني شخصيًّا أود الاستمرار في الكفاح. وطلب مني زكي بك بحضور فؤاد بك حمدي إذا كنت أشعر يومًا ما بحاجتي إلى الراحة من عناء هذا الكفاح أن أُبلغهما رغبتي في هذا الصدد لكي يهيِّئا لي السبيل لتعييني مستشارًا دون أن يكلِّفاني أي إجراء يقتضيه هذا التعيين، فشكرتهما ووعدتهما بذلك وحفظت لهما هذا الجميل، على أني رغبت في خاصة نفسي ألَّا تُلجئني الظروف إلى طلب الراحة من هذا العناء. وكان مما قوَّى في نفسي فكرة الاعتذار عن عدم قبولي هذا المنصب القضائي الممتاز أنني كنت بسبيل تأليف الحلقات الباقية من «تاريخ الحركة القومية» ولم يكن صدر منها حتى ذلك الحين سوى الأجزاء الثلاثة الأولى، وكنت ولم أزل أرى أن القاضي يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة عملًا وتأليفًا؛ فكيف أتولى منصب القضاء وأُخرج من آنٍ لآخر مؤلَّفًا في التاريخ القومي لا بد أن يتناول حالة مصر السياسية من شتى نواحيها؟! لقد شعرت بالتعارض بين العملين؛ حقًّا إن للقاضي أن يجمع بين القضاء والتأليف، ولكن في المسائل القانونية، وإذا أراد أن يتجاوزها فليكن ذلك في المسائل العلمية أو الاجتماعية، أما السياسة فلا أرى أن يخوض القاضي غمارها بأي شكل إيجابي لأن القضاء يجب أن يكون بمنأًى عن السياسة وعواطفها وخلافاتها، ولا يمكن لمن يكتب في السياسة ألَّا تكون له ميول سياسية واضحة يحسُن بالقاضي أن يكون بعيدًا عنها؛ فاشتغالي بتأريخ الحركة القومية كان من أهم الأسباب التي صرفتني عن قبول مناصب القضاء. ومن جهة أخرى فقد كنت في ذلك العام أقوم بطبع كتابي «عصر إسماعيل»، وقد ظهر فعلًا في أواخر ديسمبر سنة ١٩٣٢، وكنت أتوقع أثناء طبعه ألَّا ينال رضاء المغفور له الملك فؤاد، فرأيت حرجًا في أن يصدر المرسوم الملكي بتعييني مستشارًا وبعد شهر أو شهرين أُخرج كتابًا فيه هذه المآخذ على والد الملك الذي يُصدر هذا التعيين، لم أرتضِ لنفسي هذا الموقف؛ إذ لم أجد فيه شيئًا من اللياقة.
(٩) اعتذاري عن الوزارة (نوفمبر سنة ١٩٤٠)
ألَّف حسين سرِّي باشا وزارته الأولى في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٤٠ عقب وفاة المرحوم حسن صبري باشا رئيس الوزارة السابقة، وقد ألَّفها من المستقلين والأحرار الدستوريين ووزير اتحادي، وعرض عليَّ أثناء تأليفها أن أشترك فيها كوطني، فاعتذرت وعرضت الأمر على اللجنة الإدارية للحزب الوطني فأقرَّتني على اعتذاري.
استدعاني حسين سرِّي باشا أثناء اشتغاله بتأليف الوزارة إلى دار رئاسة مجلس الوزراء، وكان معه المرحوم الدكتور علي إبراهيم باشا (وزير الصحة في هذه الوزارة) فعرض عليَّ أمر اشتراكي في هذه الوزارة، فشكرته شكرًا عميقًا على تقديره لي، وقلت له إني لا أستطيع أن أبدي رأيي النهائي إلا بعد الرجوع إلى اللجنة الإدارية للحزب. قال: ولكن الأمر مستعجل وستؤلف الوزارة الليلة. فقلت له: إن في الإمكان استدعاء أعضاء اللجنة على عجل لتجتمع اليوم وتقرِّر ما تراه. قال: إذن أرجو بعد صدور قرارها أن تبلغني بفحواه تليفونيًّا اليوم قبل الساعة السادسة مساءً. وأعطاني رقم تليفونه الخاص لأتصل به مباشرةً في دار الرئاسة، قال: وأرجو حين تعرض المسألة على اللجنة أن تعرضها بروح الاعتدال والموافقة. فوعدته وكررت له شكري. ثم اتصلت بإخواني واجتمعنا واتفقنا رأيًا على الاعتذار. ومع تقديري لحُسن ظن حسين سرِّي باشا بشخصي فإني وإخواني رأينا أنه لم يكن بدٌّ والحرب قائمة من أن يكون برنامج الوزارة هو تنفيذ معاهدة سنة ١٩٣٦ بروح الود والإخلاص، وقد رأينا في هذا البرنامج ما يتعارض مع سياسة الحزب الوطني؛ وعلى ذلك لم يكن بدٌّ من الاعتذار. وقد حافظت على موعدي مع سرِّي باشا في إبلاغه ما استقر عليه رأي اللجنة، وإذ كان الوقت قد أزف فقد اضطررت إلى أن أتصل به من مكتب أنطون بك الجميل «باشا» رئيس تحرير الأهرام، وكنت على موعد معه، وطلبت الرقم الخاص الذي أعطاه لي سرِّي باشا فردَّ عليَّ شخصيًّا، وقال لي: خير! فقلت له: أنا آسف يا دولة الرئيس أن أعتذر؛ فقد اجتمعت باللجنة واللجنة قررت الاعتذار، وإني على كل حال شاكر لدولتك حُسن ثقتكم بي، وأرجو لدولتك كمال التوفيق. فقال لي: إني كنت أود أن تكون معنا لنتعاون على خدمة البلاد. فكررت له اعتذاري وشكري، وانتهت المكالمة على ذلك. وكان أنطون بك الجميل على مكتبه يتتبَّع عباراتها، فلما انتهت قال لي: لقد علمت قبل حضورك أنك دُعيت للاشتراك في الوزارة، وكنت أود أن أهنئك بها، ولكني الآن أهنئك باعتذارك عن عدم قبولها. ثم سكت قليلًا وقال: رأيتك تعتذر ببساطة عن اشتراكك في الوزارة كما يعتذر الإنسان عن حضور حفلة شاي! وبعد أن سكت هنيهة قال مبتسمًا: وهل تظن يا عبد الرحمن بك أن الأمة تقدِّر مثل هذه المواقف؟ فأجبته على الفور: إني أشك في ذلك، ولكن هكذا أنا مرتاح ومطمئن. ثم عاد وقال: أظن أنه سيُنعَم قريبًا على الوزراء الجدد برتبة الباشوية (وقد حصل) أفلم تكن الفرصة سانحة لتنال هذه الرتبة التي تستحقها ونناديك يا عبد الرحمن باشا؟ قال ذلك متفكهًا، فقلت له: ما دمت قد اعتذرت عن الوزارة فإني أعتقد أن الوزارة أهم من الباشوية …
(١٠) إسقاطي من وكالة نقابة المحامين (ديسمبر سنة ١٩٤٠)
في ديسمبر سنة ١٩٣٩ على عهد وزارة علي ماهر باشا، صدر مرسوم بتعيين أعضاء مجلس نقابة المحامين، ومنهم الرئيس والوكيل، وكان صدور هذا المرسوم باتفاق جمهرة المحامين على اختلاف أحزابهم، وحسم خلافًا كان قائمًا بين المحامين بعضهم وبعض، وفي هذا المرسوم عُيِّن المرحوم الأستاذ محمود بسيوني نقيبًا، وعُينت أنا وكيلًا للنقابة، والأستاذ محمد توفيق خليل بك أمينًا للصندوق، والأستاذ عبد الحميد عبد الحق «باشا» سكرتيرًا، وكامل صدقي بك «باشا» وغبريال سعد بك وإدوار قصيري بك ومحمد عبد الملك حمزة بك والأساتذة محمد صبري أبو علم «باشا» وراغب إسكندر وعلي أيوب ويوسف الجندي ومحمود سليمان غنام ومحمود صبري وعبد الحميد لطفي أعضاء.
ولوحظ في هذا المرسوم أن تكون الأحزاب كلها ممثَّلةً في مجلس نقابة المحامين، وكنت بصفتي وكيلًا للنقابة أمثِّل المحامين الوطنيين، وصادف هذا التعيين ارتياح المحامين لأنه كان نموذجًا للائتلاف بين الأحزاب وتوحيد الكلمة في محيط المحاماة، وكان يمكن أن يكون مثلًا لتوحيد الصفوف وائتلاف الأحزاب في المسائل القومية عامة.
وقد عمل هذا المجلس سنة كاملة في روحٍ من الودِّ والتضامن وصفاء النفوس بين أعضائه ولم تفرِّق بينهم الحزبية في أيِّ أمرٍ من الأمور.
فلما جاء موعد الانتخابات السنوية للنقابة اجتمعت الجمعية العمومية يوم الجمعة ٢٧ ديسمبر سنة ١٩٤٠ بدار النقابة بشارع الملكة، وجلس أعضاء المجلس على منضدة في صدر المكان، وجلست أنا إلى يمين الأستاذ محمود بسيوني. وكان الاتفاق كما أبلغني أقطاب الوفد في مجلس النقابة أن يعيدوا انتخاب الأستاذ محمود بسيوني نقيبًا ويعيدوا انتخابي وكيلًا للنقابة كما كان الوضع السابق، وذهبت مطمئنًّا إلى مكان الاجتماع، وجلست مطمئنًّا أيضًا طيلة المدة التي اجتمعت فيها الجمعية العمومية، وكان المحامون الوفديون يهنئونني مقدمًا بإعادة انتخابي وكيلًا فازددت اطمئنانًا إلى وعودهم. فلما تم انتخاب النقيب وفاز الأستاذ محمود بسيوني جاء دور انتخاب الوكيل، وكنت أيضًا إلى اللحظة التي أُعطيت أوراق الانتخابات مطوية إلى سكرتير النقابة مطمئنًّا إلى إعادة انتخابي للوكالة، ولكن في أثناء فرز الأوراق لاحظت أن أصواتًا كثيرة أُعطيت للأستاذ محمد صبري أبو علم، وكان عضوًا بالمجلس، وأخذت أصواته في الازدياد حتى زادت على الأصوات التي أُعطيت لي، وعلمت بعد ظهور النتيجة أن الوفديين نقضوا عهدهم معي واتفقوا سرًّا في آخر لحظة على أن يجعلوا النقابة وفدية لحمًا ودمًا، فرشَّحوا فيما بينهم الأستاذ صبري أبو علم للوكالة، وكانت كلمة السر تتنقل بينهم من جماعة إلى جماعة بحيث لم يشعر بها أحد سواهم، ولم أشعر أنا طبعًا بالمؤامرة إلا بعد نفاذها؛ وعلى ذلك سقطت في الانتخاب لوكالة النقابة!
كان لهذا الحادث وما انطوى عليه من نقض العهد والحزبية الجامحة ضجة استياء في الأوساط المثقفة، واستاء لها على الأخصِّ الأستاذ يوسف الجندي الذي كانت تجمعني وإياه صفوف المعارضة في مجلس الشيوخ، واستنكر فعلة المحامين الوفديين معي — وكان بعيدًا عن المؤامرة — فأبدى لي أسفه الشديد على هذه الفعلة ورجا مني ألَّا يكون لها أثر في نفسي يغيِّر من موقفي في المجلس بصفتي معارضًا، فقلت له إن معارضتي ليس أساسها ارتباطي بالوفديين — وكانوا وقتئذٍ في المعارضة — بل أساسها إيماني بالمعارضة، فليطمئن من هذه الناحية.
وهكذا تعددت دلائل نقض العهد معي من الوفديين، فلم أستغرب ما فعلوه هذه المرة، ولكن الأمر الذي حز في نفسي أن يساير المحامون وهم الصفوة المختارة من الطبقة المتعلمة هذه السياسة الملتوية ويعاملوني هذه المعاملة الخالية من روح الاستقامة والتقدير والإنصاف، فهل تطغى الحزبية على هذه المعاني السامية إلى هذا الحد؟!
(١١) الخلاف في الحزب الوطني
كان اشتراك حافظ رمضان باشا في وزارة حسن صبري باشا سببًا لخلاف كبير بين أعضاء الحزب الوطني، وقد بدأ هذا الخلاف في دائرة ضيقة باشتراكه في وزارة محمد محمود باشا سنة ١٩٣٧؛ إذ كان اشتراكه بغير قرار من اللجنة الإدارية للحزب، فلما فوتح في ذلك اعتذر بأن الوقت لم يكن يتسع لعقد اللجنة قبل تأليف الوزارة فإنها أُلِّفت على عجل، وسكتت اللجنة حتى استقالت وزارة محمد محمود وألَّف وزارته الثالثة دون أن يشترك فيها حافظ رمضان باشا. فلما وقعت أزمة يونيو سنة ١٩٤٠ واستقالت وزارة علي ماهر باشا اجتمعت اللجنة الإدارية للحزب يوم ٢٤ يونيو وبحثت في الموقف وهل يشترك الحزب في الوزارة الجديدة إذا دُعي لذلك أم لا يشترك، فقررت اللجنة عدم الاشتراك فيها. ثم أُلِّفت وزارة حسن صبري باشا وفيها حافظ رمضان باشا، فوقع الانقسام في اللجنة الإدارية بين مُعارض لموقف حافظ باشا لمخالفته قرار اللجنة ومؤيِّد له في موقفه، وبقي هذا الخلاف قائمًا وشُعبتا اللجنة على خلاف بينهما إلى أن تم الصلح بين الفريقين وعادت الوحدة إلى اللجنة في نوفمبر سنة ١٩٤٦.
(١٢) الصلح بين فريقي الحزب الوطني (نوفمبر سنة ١٩٤٦)
ما فتئت المساعي تُبذل من وسطاء الخير في إزالة أسباب الخلاف والانقسام في الحزب الوطني، وكنت من ناحيتي أرحِّب بكل مسعًى لهذا الغرض، بل كنت أسعى بنفسي لذلك، لأني لم أكن مرتاحًا مطلقًا لوجود لجنتين إداريتين للحزب كل منهما تعارض الأخرى. وإذ كان الاشتراك في الحكم هو سبب الانقسام فإني كنت أسعى لصيغة للاتفاق تكون مقبولة من الطرفين، وقد اتفق الرأي على ألَّا يشترك الحزب في وزارة إذا كان برنامجها يتعارض مع مبادئه، وأن يكون هذا هو أساس الاتفاق؛ لأن الأصل في تأليف الوزارات وقيامها وتغييرها أن تقوم على تحقيق مبادئ وغايات معينة تؤمن بها الجماعات والأشخاص الذين يشتركون فيها. وقد تجدد هذا السعي في سنة ١٩٤٣، ولكنه أخفق، ثم استمر إلى سنة ١٩٤٦. وكان من أبرز وسطاء الخير في هذا الصدد محمد زكي علي باشا وفكري أباظة باشا؛ فإنهما — والحق يقال — كان لهما فضل كبير في إزالة أسباب الانقسام، وقد تم الصلح في نوفمبر سنة ١٩٤٦ واتفقنا على صيغة عامة أبلغناها إلى الصحف وهي:
«في الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد وحيال الأحداث التي تهددها في كيانها ووحدتها واستقلالها، رأى رجال الحزب الوطني أن يزيلوا ما بينهم من خلاف لكي يعيدوا الوحدة إلى صفوفهم ولتكون دعوتهم إلى وحدة صفوف الأمة أقوى وأدعى إلى الاستجابة؛ ولذلك اجتمعوا وتم الاتفاق بينهم وعادوا إخوانًا متضامنين في العمل والجهاد.»
ونشرت «الأهرام» هذه الصيغة بعدد ٧ / ١١ / ١٩٤٦ مع تعديل عبارة: «في العمل والجهاد» وجعْلها: «في خدمة البلاد»، وكانت الرقابة على الصحف لا تزال قائمة، ولعلها أشارت بهذا التعديل الذي لا يغيِّر من جوهر البيان شيئًا.
ولم نُدخِل في البيان شيئًا عن الاشتراك في الحكم، على أنه في صدد أحاديث الصلح كان الاتفاق على ألَّا يدخل الحزب الوطني الحكم منفردًا أو مشتركًا إلا إذا كان برنامج الوزارة لا يتعارض مع مبادئه، وأن الأمر في هذا الصدد يكون موكولًا للجنة الإدارية، واتفقنا على أن تكون اللجنة الإدارية مؤلَّفة من فريقَي اللجنة ومن انضموا إلى كل منهما أثناء الخلاف.
وقد حدث مع الأسف صدع جديد في الحزب سنة ١٩٥٠ أرجو أن يتلافاه وسطاء الخير ويعيدوا إلى الحزب وحدته.
(١٣) إذاعاتي بالراديو (١٩٤٠–١٩٥١)
كانت أول إذاعة لي بالراديو في الساعة الثامنة من مساء يوم السبت ١٠ فبراير سنة ١٩٤٠، وكان حديثي عن ذكرى مصطفى كامل لمناسبة مرور اثنين وثلاثين عامًا على وفاته. وقد فكرت في أن أجعل كلمتي عن ذكرى الزعيم عن طريق الراديو بدلًا من الصحف أو الخطب في المحافل، ورأيت في ذلك تنويعًا في أساليب الحديث عن الذكرى، وقد رأيت في هذه الوسيلة تعميمًا للحديث؛ فإن الذين يحبون أن يستمعوا إلى الراديو أكثر ممن يحبون القراءة في الصحف أو المجلات، وهم من بابٍ أَولى أكثر عددًا ممن يسمعون الخطيب في اجتماعٍ مهما كان كبيرًا (إلا إذا أذيع بالراديو).
ومما أذكره عن أول إذاعة لي أني قبل موعدها بشهر تقريبًا كتبت إلى وزارة الشئون الاجتماعية (التي كانت تتبعها الإذاعة) خطابًا بإبداء رغبتي في إلقاء حديث عن «مصطفى كامل» لمناسبة ذكرى وفاته، فرحَّبت الوزارة بطلبي، واتفقت مع دار الإذاعة (وكانت لا تزال شركة بريطانية) على تحديد الموعد الذي طلبته لإذاعة حديثي، وقبل الموعد بأسبوع جاءني خطاب من مراقب عام الإذاعة يدعوني فيه إلى الحضور إلى دار الإذاعة في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الجمعة ٩ فبراير «للتمرن على الميكروفون»، فاستغربت من هذا الخطاب، وابتسمت وأنا أقرؤه وقلت: يا عجبًا! هل يكون الكلام في الميكروفون أصعب من المرافعات أمام المحاكم أو الخطب في المحافل؟ وعلى كل حال فقد لبَّيت الطلب، وذهبت إلى دار الإذاعة في الموعد المحدد «للتمرين»، وقابلت سعيد بك لطفي «باشا» وهو صديقي وزميل لي، وقلت له مبتسمًا: ها أنا ذا قد حضرت لأداء الامتحان، فضحك وقال: لا تعجب لذلك؛ فإن الكلام في الراديو غير الكلام في المحافل أو المحاكم؛ إننا نريد أن يكون حديثك ناجحًا، خصوصًا وهذا أول حديث لك في الراديو، فلا بد أن تعرف طريقة الكلام في الراديو ودرجة علو الصوت أثناء إلقاء الحديث، والمسافة التي يحسُن أن تكون بينك وبين الميكروفون، وما إلى ذلك من الملاحظات الفنية، فقلت: حَسَنٌ، وأنا مرتاح لأداء الامتحان. فدخلت مع الموظف المختص إلى غرفة الميكروفون، وهي غرفة ضيقة مقفلة الأبواب والنوافذ، وأشار عليَّ بأن يكون صوتي هادئًا لا عاليًا ولا متهدجًا، وأبدى لي بعض الملاحظات الفنية، وكان الحديث مكتوبًا ووافقت عليه الإذاعة من قبلُ، فجلست أمام الميكروفون في الموضع الذي عيَّنه لي المذيع، وأخذت في إلقاء الحديث، وأخذ هو يسمعه وحده من سماعة وضعها على أذنيه، فبدا لي وهو يسمعه أنه مرتاح لطريقة إلقائي، وبعد أن ألقيت ربعه أو ثلثه قال لي: كفى يا بك، إنك تُلقي حديثك بأبدع ما يمكن، فقلت: الحمد لله، لقد نجحت في الامتحان …
وفي اليوم المحدد لإلقائه ألقيته على الطريقة التي أديتها يوم الامتحان، واستمع له الناس في مختلف المدن والمقاهي والمنازل، وسمعت إعجابًا به من كل ناحية، وقال لي بعض أصدقائي الفنيين إنك في الميكروفون أخطَبُ منك في المحافل، وقال لي بهذه المناسبة إنه قد يكون الإنسان من أعظم الخطباء ولكن صوته في الراديو لا يكون مرغوبًا فيه، والعكس بالعكس، وإن صوتك وطريقة إلقائك منسجمان تمامًا مع الراديو. وقد لاحظت أن الإذاعة بالراديو أعمُّ من الكتابة في الصحف ومن الخطابة في المحافل (إلا إذا أذيعت الخطابة بالراديو)؛ وهذا ما دعاني إلى أن أتابع أحاديثي في الراديو، فأخذت منذ ذلك العام أذيع كل سنة حديثين: الأول في ١٠ فبراير عن ذكرى وفاة مصطفى كامل، والثاني في ١٥ نوفمبر عن ذكرى محمد فريد، عدا ما تطلبه الإذاعة من أحاديث في مواضيع أخرى.
ومن أهم الأحاديث التي طلبتها مني وأذعتها عدة أحاديث عن السودان سنة ١٩٤٧، وقد أذعت حديثي الأول في هذا الموضوع يوم ٨ مارس سنة ١٩٤٧ عن «وحدة وادي النيل: تكييفها وما هو الغرض منها»، والثاني يوم ١٥ منه عن «الدعوة الانفصالية في السودان فكرة استعمارية»، والثالث يوم ٢٢ منه عن «الاستفتاء وتقرير مصير السودان»، والرابع يوم ٢٩ منه عن «خدعة الحكم الذاتي في السودان»، والخامس يوم ٥ أبريل عن «النظام الحاضر في السودان»، وقد نُشرت هذه الأحاديث في مجلة الإذاعة المصرية عقب إذاعتها.
(١٤) مباراة مصطفى كامل الأدبية (١٩٤١)
في سنة ١٩٤٠ فكَّرنا في عملٍ تقترن فيه الدعوة الوطنية بالنهضة الثقافية لاعتقادنا أن الوعي القومي يساعد على الإيمان بهذه الدعوة، وهي فكرة سار عليها الحزب الوطني منذ تكوينه، وكان من آثارها نشره الصحف والمؤلفات والمجلات وإنشاؤه مدارس الشعب وما إلى ذلك.
فلما أزيح الستار عن تمثال مصطفى كامل في مايو سنة ١٩٤٠، اجتمعت مع إخواني أعضاء اللجنة الإدارية للحزب وقررنا فيما قررنا الدعوة إلى مسابقة تُسمى «مباراة مصطفى كامل الأدبية»، يشترك فيها شباب الجيل، وموضوعها كتابة بحث عن «جهود مصطفى كامل في نواحي النشاط الإنشائي القومي وبخاصة في التعليم والاقتصاد والاجتماع وعلاقة ذلك بدعوته الوطنية»، وتبرع صديقي وزميلي محمد محمود جلال بك بمبلغ خمسين جنيهًا تُعطى مكافأة لمن يحوزون قصب السبق في هذه المباراة. وكانت شروط المباراة: (١) أن يكون المشترك فيها شابًّا مصريًّا لا تزيد سنه عن ثلاثين سنة. (٢) ألَّا تزيد الكتابة في موضوع المباراة عن عشر صحائف من القطع الكبير. (٣) أن تُقدَّم المواضيع إلى لجنة المباراة التي أُلِّفت من: أنطون الجميل بك «باشا»، عبد الرحمن الرافعي بك، فكري أباظة بك «باشا»، الأستاذ محمود العمري، في مدة ثلاثة أشهر من تاريخ الإعلان عن المباراة.
وقد لبَّى الدعوة كثير من الشباب بلغت عدتهم عشرين متباريًا، وقدَّم كلٌّ منهم بحثه، وكانت بحوثًا قيِّمة دلَّت حقًّا على تقدُّم كبير في أفكار الشباب. وقد قرأت اللجنة كل هذه البحوث وراجعتها ووازنت بينها، ووجدت أن أربعة منها جديرة بالجائزة، فوزعناها بينهم بالتساوي، وأقمنا لهذه المناسبة حفلة شاي فخمة في صالة علي الدلة يوم ٩ فبراير سنة ١٩٤١ لمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لوفاة الزعيم، وفاز في المباراة كلٌّ من: الأستاذ نجيب تاوفيلس الموظف بمصلحة السكك الحديدية، وعلي منصور الطالب بكلية الحقوق، والأستاذ لبيب السعيد الموظف بتفتيش مراقبة القطن بالدقهلية، والأديب محمد الخالد توفيق ببني مزار.
وألقيتُ في هذه الحفلة كلمة نوَّهت فيها بفكرة المباراة وختمتها بقولي: «سادتي الأعزاء! إننا نحن الذين نؤمن برسالة مصطفى كامل نشعر بالغبطة والسرور إذ نرى الشباب يشترك معنا في حمل هذه الرسالة، وما رسالة مصطفى كامل إلا رسالة البعث والحياة، رسالة الحق والحرية، رسالة الوطنية المنزَّهة عن الهوى، الخالصة لوجه الله والوطن، رسالة الاستقلال والجلاء، رسالة وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه؛ فهي رسالة مجيدة جديرة بأن يشترك الشعب بجميع طبقاته في حملها، هي المثل الأعلى في حياة الأمة في حاضرها ومستقبلها، والأمم لا تنهض ولا تسير قُدُمًا إلى الأمام إلا إذا كانت لها مُثل عليا تنشدها وتعمل على تحقيقها. ويسُرنا ويُثلج صدورنا أن نرى الشباب يقدِّر هذه الرسالة ويدركها بفهمه وبحثه، ويؤمن بها بقلبه وفؤاده، ويخدمها بقلمه ولسانه، ولا غرو؛ فالحقائق الكبرى والمبادئ الإنسانية السامية مكتوب لها البقاء والخلود، والله نصير العاملين.»
(١٥) ضريح مصطفى وفريد
أقيم ضريح مصطفى كامل القديم في المدفن الذي شيده الزعيم لوالدته بشارع المغافر بمدافن الإمام الشافعي، وقد شيَّعها إلى مرقدها الأخير سنة ١٩٠٧، ودُفن إلى جوارها سنة ١٩٠٨، ومن يومئذٍ لم تعمل يدٌ في إصلاح هذا المدفن أو تجديده حتى أخذ التصدُّع يظهر في سقفه وجدرانه سنة ١٩٣٩، وصار يُخشى على الضريح الطاهر أن يُستهدف للأمطار والأعراض الجوية في شتاء ذلك العام. ففكرت مع لفيف من إخواني في تدارك هذا التصدع، وألَّفنا في أواخر سنة ١٩٣٩ لجنةً لإصلاح الضريح، وتم لها جمع مبلغ يسير اكتتب به تلاميذ الفقيد وأنصاره والمعجبون به، فرمَّمنا ضريحه ترميمًا جزئيًّا، ولم يعُد مع ذلك في حالةٍ تليق بمكانة الزعيم، فاقترحت في مجلس الشيوخ بجلسة ١٠ مايو سنة ١٩٤٤ لمناسبة نظر ميزانية وزارة الأشغال اعتماد مبلغ خمسين ألف جنيه لتشييد مدفن جديد يضم رفات الزعيم، ووعدت الحكومة في هذه الجلسة بتنفيذ هذا الاقتراح، ووضعت تصميم المدفن الجديد، وأقيم في ميدان صلاح الدين بجوار القلعة، وتم تشييده في أواخر سنة ١٩٤٩.
أما ضريح محمد فريد القديم فهو في مدفن العائلة بجوار مقام السيدة نفيسة رضي الله عنها، وقد أقيم القبر على عجل، وبقي طوال السنين عُرضة للعراء والأمطار في حالة لا تتفق ومنزلة الزعيم الشهيد الذي ضحَّى في سبيل مصر بماله وصحته ونفسه وحياته. وقد اقترحت عندما كنت وزيرًا في وزارة حسين سرِّي باشا الائتلافية أن يُنقل إلى جوار مصطفى كامل، فقرر مجلس الوزراء في ١٨ سبتمبر سنة ١٩٤٩ نقل رفات المرحوم محمد فريد إلى جوار مصطفى كامل بالمدفن الجديد، وهكذا يتاح للزعيمين العظيمين والصديقين الوفيَّين أن يلتقيا بعد طول النوى ويضمهما قبر واحد بعد أن فرَّق الزمن بينهما نيفًا وأربعين سنة، وأصبح الضريح الجديد «ضريح مصطفى وفريد».
وكتبت الأهرام بعددها الصادر في ١٥ ديسمبر سنة ١٩٣٥ تحت عنوان: «نجاح المساعي لتأليف جبهة وطنية، بشرى» فصلًا طويلًا عن نجاح هذه المساعي جاء فيه: «لقد بسطنا للقراء من قبلُ تفاصيل المساعي التي قام بها رسل الخير في سبيل تفاهم جميع الهيئات والأحزاب، وذكرنا ما قام به حضرات أصحاب السعادة والعزة أمين يحيى باشا وعبد الرحمن فهمي بك — وهما مستقلان عن الأحزاب — ومحمد حافظ رمضان بك رئيس الحزب الوطني، وعبد الرحمن الرافعي بك سكرتير الحزب العام، وهؤلاء ومن أيدوا مساعيهم في الائتلاف بعد ذلك جديرون بالشكر والتقدير. ولا يفوتنا قبل أن نسرد تفاصيل ما جرى من المباحثات والاجتماعات أن ننوِّه أيضًا بفضل الشبيبة في تحقيق فكرة الائتلاف؛ فقد نادى بها الطلبة من الساعة الأولى، ودعوا وسعوا إليها، وجهدهم في هذا جدير بالذكر، إلى جانب التضحيات الخطيرة التي قاموا بها في سبيل قضية الوطن والتي ستبقى على مر الدهور مخلدة في سجل حركة استقلال مصر.»