استجوابي عن الأهداف القومية
انتهت الحرب العالمية في أوروبا في مايو سنة ١٩٤٥ حين استسلمت ألمانيا للحلفاء، وكانت وزارة المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا الأولى تتولى الحكم، وكنت أرى واجبًا عليها أن تبادر إلى المطالبة رسميًّا بأهداف مصر القومية، ولكنها تباطأت في هذه المسألة الهامة، فقدَّمت استجوابًا في هذا الصدد إلى رئيس الوزارة.
كان هذا الاستجواب من أهم الاستجوابات التي نُظرت في البرلمان، وقد اهتمت به الصحف واهتم به الرأي العام اهتمامًا كبيرًا يتناسب مع خطورة موضوعه، ولأنه أول استجواب قُدِّم في البرلمان عن هذه الأهداف بعد انتهاء الحرب العالمية مباشرةً.
حضرة صاحب السعادة رئيس مجلس الشيوخ
تحية وسلامًا. وبعدُ، فإني أرغب في استجواب حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء عن الأسباب التي دعت الوزارة إلى عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية وفي مقدمتها الجلاء وتحقيق وحدة وادي النيل، ومتى يحين الوقت لتطالب بهذه الأهداف، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
كتبت هذا الخطاب بعد تفكير طويل، لأني أردت أن أحدد فيه الأهداف القومية في أعقاب الحرب العالمية، تحديدًا يكون موضع اتفاق الجميع شعبًا وحكومة ويكون شعارًا للجهاد في هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر القومي، هل نطالب بالجلاء فقط ويكون مفهومًا منه أنه الجلاء عن مصر والسودان معًا؟ ولكن أين الوحدة بينهما في هذا الطلب؟ هل نطالب بالجلاء والسودان؟ لقد ترددت في أن نطالب بالسودان؛ لأن النداء بهذا الطلب قد يجرح شعور إخواننا المجاهدين من أبناء الجنوب؛ لأنهم يأبون فيما أعتقد أن نعبِّر عن السودان كقطعة من مصر، ويريدون تعبيرًا آخر يتفق مع تقدُّم الوعي القومي في جنوب الوادي ويوائم روح الاعتزاز بالكرامة في نفوس المجاهدين السودانيين. وإذا قلنا الجلاء عن مصر والسودان، ففي هذا التعبير ما قد يوحي بأن مصر قُطر والسودان قطر آخر، وهذا ما لا نرضاه كدعاة للوحدة. ثم إن الجلاء عن مصر وعن السودان قد لا يتعارض مع الدعوة الانفصالية التي خلقها الاستعمار في السودان؛ فالجلاء عن كليهما لا يمنع الانفصال التام بينهما، ولا بد من تعبير آخر يكون وجيزًا ويشمل الجلاء عن مصر والسودان مع ربط شطري الوادي برباطٍ من الوحدة لا انفصام لها، تلك الوحدة التي هي ضرورة طبيعية وتاريخية وجغرافية لكلا الجزأين. فرأيت أن أوجز تعبير للأهداف القومية هو «الجلاء ووحدة وادي النيل»، وقد لا يعرف إلا القليلون أن هذا التعبير قد ورد لأول مرة على لساني بجلسة ٨ ديسمبر سنة ١٩٤٢ (ص٩٩) وفي هذا الاستجواب، وصار شعار الجهاد في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة.
أخذ هذا الاستجواب يؤجل من جلسة إلى أخرى إلى أن نُظر بجلستَي ٦ و٧ أغسطس سنة ١٩٤٥ وفي كل مرة يزداد اهتمام الرأي العام به.
قالت الأهرام بعدد ٢٢ يونيو سنة ١٩٤٥: «وأما مصر فسيُفتح ملف قضيتها وشيكًا؛ فقد طلب الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك استجواب الحكومة عن «عدم المبادرة بالمطالبة بأهداف مصر الأساسية وفي مقدمتها الجلاء ووحدة وادي النيل.» وقد نمى إلينا أن دولة رئيس الوزارة ينتظر عودة مندوبي مصر من مؤتمر سان فرانسيسكو ليقف على ما لديهم من بيانات ومعلومات عن قرارات المؤتمرين النهائية وعن الاتجاهات الدولية فيجمع اللجنة السياسية التي جمعها قبل السفر إلى المؤتمر ولعله بعد ذلك يدلي بتصريح في البرلمان خلال مناقشة الاستجواب الذي تقدمت الإشارة إليه أو قبل ذلك.»
وقالت أيضًا بالعدد الصادر في ٢ أغسطس سنة ١٩٤٥: «عُقد مجلس الوزراء ظهر أمس برياسة حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا، وظل منعقدًا إلى منتصف الساعة الثالثة. وقد عُرض على المجلس في هذا الاجتماع البيان الذي سيلقيه دولة النقراشي باشا في مجلس الشيوخ يوم الاثنين المقبل لمناسبة الاستجواب المقدَّم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية وموقف الحكومة منها.»
وقالت بالعدد الصادر في ٦ أغسطس سنة ١٩٤٥: «يجتمع مجلس الوزراء ظهر اليوم برياسة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا للنظر في البيان الذي يلقيه دولته مساء اليوم في مجلس الشيوخ ردًّا على الاستجواب المقدَّم من الشيخ المحترم عبد الرحمن الرافعي بك في موضوع مطالب مصر القومية.»
شرحت استجوابي بجلسة ٦ أغسطس شرحًا وافيًا استغرق خمس صفحات من المضابط، وخلاصة حديثي في تلك الجلسة أنه كان يجب على الحكومة أن تبادر إلى المطالبة بأهداف مصر القومية منذ الساعة الأولى، منذ أن وضعت الحرب الأوروبية أوزارها، بل منذ عقد مؤتمر القرم في فبراير سنة ١٩٤٥، وكانت كل دولة تطالب علنًا بأهدافها وحقوقها، وحذَّرت من قبول الاحتلال الأجنبي تحت أي وضع سواءً كان انفراديًّا أو ثنائيًّا أو دوليًّا، وختمت حديثي بقولي: «لا يجوز لنا أن نقبل أن تكون مصر سوقًا دولية أو محطة استعمارية؛ لأن مصر ليست سوقًا، بل هي وطن، وهي وطن لأمة من أعرق الأمم في الحضارة والمدنية.»
وقد ردَّ المرحوم النقراشي باشا على استجوابي ردًّا وافق فيه على الجلاء ووحدة وادي النيل، قال رحمه الله في هذا الصدد: «إذا كان ما قصد إليه حضرة المستجوب هو السؤال عما إذا كانت الحكومة تعتزم السعي إلى تحقيق تلك الأهداف، فليس الجواب إلا أن هذا واجب وطني لا يسع الحكومة أن تتخلى عنه أو أن تتردد في أدائه أو أن تفوِّت فرصة القيام به.»
إلى أن قال: «ثم إن مصر أقامت الدليل تلو الدليل على حفظها العهد وقد ناصرت حليفتها وأبلت في ذلك خير بلاء، وأبدت صادق العزيمة في مقاومة المعتدين وبذلت من المعونة لقضية الديموقراطية ما اعترفت الأمم المتحدة بجليل قدره وببالغ أثره في انتصار الحلفاء، وليس فوق ذلك كله سبب أكثر تبريرًا وأقوى سندًا لإنهاء القيود التي أحاطت استقلال البلاد ولتحقيق مطلبها من جلاء الجنود الأجنبية عنها. أما وحدة وادي النيل بمصره وسودانه فإن المبادئ التي أطلعها على العالم هذا العهد الجديد جديرة بتحقيقها لا سيما وأن هذه الوحدة تتفق مع صميم رغبات أبناء الوادي جميعًا، ولا تتوقع الحكومة أي صعوبة في مفاوضة بريطانيا العظمى لأنها تلمس ما تكنُّه بريطانيا نحو مصر من حُسن النوايا وخالص الصداقة، ولا شك في أنها تشاطر مصر الشعور بملاءمة الظروف وتدرك حق الإدراك أن هذه الحكومة تترجم عن مطالب الأمة جمعاء لا مطالب فريق دون آخر.»
واكتفى المجلس بالمناقشات التي دارت في الاستجواب ولم يُصدر في شأنه قرارًا معيَّنًا.
(١) قرارات الحكومة في هذا الصدد (سبتمبر سنة ١٩٤٥)
في ٢٢ سبتمبر سنة ١٩٤٥ اجتمعت الهيئة السياسية الاستشارية التي ألَّفتها الحكومة وأصدرت القرار الآتي: «ترى الهيئة السياسية بإجماع الآراء أن حقوق مصر الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة وأعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية وتحقيق مشيئة أهل وادي النيل في وحدة مصر والسودان، كما ترى الهيئة أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للعمل على تحقيق أهداف البلاد القومية واتخاذ الوسائل لمفاوضة الحليفة للاتفاق على هذه الأسس، وترى الهيئة السياسية أن قيام التحالف على هذه الأسس يزيد ما بين البلدين من علاقات الصداقة والتعاون توثقًا ومتانة.»
ووافق مجلس الوزراء في اليوم التالي على هذا القرار.
تعليقي على هذا القرار
إن قرار مجلس الوزراء جاء إعلانًا صريحًا بأن حقوق البلاد الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة وأعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية وتحقيق وحدة وادي النيل، وكان هذا القرار مكسبًا للقضية الوطنية.
ولكن فيه ناحية نقص في الوسيلة، ذلك أنه جعل الوسيلة إلى تحقيق الأهداف القومية مفاوضة بريطانيا للاتفاق على هذه الأسس وجعلها أساسًا للتحالف بينهما.
وقد قدَّم المرحوم صبري أبو علم باشا في أكتوبر سنة ١٩٤٥ استجوابًا آخر عن الأهداف القومية نُظر بجلسة ١٦ أكتوبر سنة ١٩٤٥، ولاحظت في هذه الجلسة على قرار الهيئة السياسية هذا النقص في الوسيلة وقلت في هذا الصدد ضمن ما قلت: «أعود فأقول هل طالبت الحكومة المصرية الحكومة الإنجليزية بالجلاء عن وادي النيل؟ كلا لم يحصل، وكل ما تقدمت به الحكومة هو مذكرة رُفعت إلى مؤتمر الدول الخمس فيما يتعلق بتصفية المستعمرات الإيطالية؛ لذلك أستسمح حضراتكم أن أبيِّن لكم ملاحظاتي على هذه المذكرة، وأول ما ألاحظه أن الحكومة المصرية قد اهتمت بالفرع دون الأصل، والأصل هو الجلاء عن وادي النيل، وأنا أستسمح حضرات أعضاء الهيئة السياسية أن ألاحظ على قرارها أنها توصي باتخاذ الوسائل لمفاوضة «الحليفة» للاتفاق على هذا الأساس، وأنا لا أريد أن أعرِّض بالهيئة السياسة وإنما أوثر طريقة المطالبة على طريقة المفاوضة.»
- أحدها: مشروع قرار مقدَّم من محمد علي علوبة باشا هذا نصه: «يؤيد المجلس المَطالب الوطنية التي أعلنتها الحكومة، ويطلب إليها المبادرة بالعمل على تحقيقها.»
- والثاني: مقدَّم مني ونصه: «أقترح أن تبادر الحكومة إلى مطالبة إنجلترا رسميًّا بالجلاء الكامل العاجل عن وادي النيل.»
- والثالث: مقدَّم من محمد صبري أبو علم باشا وبعض زملائه الوفديين ونصه: «يعلن المجلس أنه بعد انتهاء الحرب وتغيُّر الظروف وبعد إبرام مصر لميثاق سان فرانسيسكو، أصبح من المتعين إعادة النظر فورًا في معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا وما توجبه من التزامات على مصر، حتى تصبح المعاهدة متفقة مع الأحوال الدولية الجديدة ومع ما يوجبه ميثاق سان فرانسيسكو.»
وقد أُخذت الآراء في هذه الجلسة فوافقت أغلبية المجلس على اقتراح علوبة باشا.
(٢) تكييف القضية الوطنية أمام الهيئات الدولية: مطالبة لا احتكام
كنت ولا أزال أرى في المفاوضات قبل الجلاء صرفًا للبلاد عن هدفها الأكبر وهو الجلاء.
فلما أعلنت وزارة المرحوم النقراشي باشا في أواخر يناير سنة ١٩٤٧ عرض قضية البلاد على مجلس الأمن اعتبرت ذلك مكسبًا للقضية؛ على أني مع ذلك لم أكن أثق بأن مجلس الأمن سينصفنا، فنظرت إلى عرض القضية عليه كوسيلة من وسائل الكفاح، وحذَّرت من ضرر الاحتكام إلى الهيئات الدولية.
عُرض هذا الموضوع على مجلس الشيوخ بجلسة ١٢ فبراير سنة ١٩٤٧، فأدليت بوجهة نظري وقلت في مستهل كلمتي: «لا شك أن إعلان الحكومة قطع المفاوضات وعزمها على رفع القضية المصرية إلى مجلس الأمن هو قرار يقابَل في ذاته بالغبطة؛ لأن إعلان الحكومة أن المفاوضات قد أصبحت غير مجدية — وقد كانت غير مجدية من قديم — يُعَد كسبًا للقضية المصرية لأنها مع الأسف الشديد قد خسرت كثيرًا بالالتجاء إلى طريق المفاوضات.»
ثم تكلمت عن طريقة تكييف القضية أمام مجلس الأمن، وقلت: «إن القضية الوطنية تنحصر في أمر واحد، هو جلاء الإنجليز عن مصر والسودان، هذا هو التكييف الصحيح الذي يجب أن تُعرض به قضيتنا على أية هيئة دولية. وهذا التكييف يستتبع اعتبار الاحتلال منذ ١٨٨٢ عملًا غير مشروع، وأن كل ما أُبرم أو عُقد في ظل الاحتلال نتيجة لوجوده هو عمل باطل ابتداءً من سنة ١٨٨٢ واستمر إلى اليوم، وهذا يستتبع أن اتفاقية سنة ١٨٩٩ الخاصة بالسودان هي اتفاقية باطلة، وأن معاهدة سنة ١٩٣٦ هي كذلك باطلة.»
لا احتكام في الجلاء
ثم عرَّجت بمسألة الاحتكام وحذَّرت منه، وقلت في هذا الصدد: «لا يصح لنا صيانةً لقضيتنا أن نعرضها كمحتكمين، ولا يصح لنا أن نلجأ إلى طريقة الاحتكام؛ لأن جوهر ما نطالب به هو الاستقلال في ذاته؛ لأن الجلاء هو الاستقلال، ولا يصح أن يكون الاستقلال موضع تحكيم، ولا توجد أمة تقبل أن يكون استقلالها موضع تحكيم. إنما يكون التحكيم في مسائل فرعية أو خلافات محلية بينها وبين بلد آخر، فتعرض الأمر على الهيئات الدولية محتكمة إليها لتفصل بينها وبين الدولة الأخرى التي يكون بينها وبينها خلاف. لقد قال الكثيرون بالاحتكام إلى محكمة العدل الدولية، ومعنى الاحتكام إليها أن نقبل قرارها، وفي هذا من الضرر ما فيه؛ ولذلك قلت إنه لا يصح الاحتكام، بل يجب أن يكون موقفنا أمام الهيئات الدولية موقف مطالبة لا موقف احتكام، يجب أن نطالب بالجلاء لأن هذا الجلاء هو حق طبيعي لنا، ولأن هناك سببًا من شأنه أن يضم إلينا مجموعة الأمم وهو أن الجلاء أمر لازم للسلام العام.»
وقلت في جلسة ١٣ يناير سنة ١٩٤٨: «إن الوقت المناسب لعرض قضية مصر على مجلس الأمن كان فبراير ومارس سنة ١٩٤٦ حيث عُرضت على هذا المجلس قضايا سوريا ولبنان وإيران، ولعلكم تذكرون حضراتكم أنه في هذا الوقت قد عُرضت هذه القضايا على مجلس الأمن وكسبت هذه الدول قضاياها؛ إذ تقرر فيها وجوب جلاء القوات الأجنبية عنها. فاسمحوا لي أن أقول إننا تأخرنا في عرض قضيتنا على مجلس الأمن عامًا ونصف عام، لقد تعطل عرض القضية لأن الحكومة لجأت إلى طريق المفاوضة.»