منع تملُّك الأجانب الأراضي الزراعية والعقارات
«تحرص الأمم على حفظ كيان أملاكها الثابتة وجعل ملكيتها مقصورة على المواطنين؛ لأنها بوصف كونها ثابتة لا منقولة تُعتبر ملتصقة بأرض الوطن بل هي جزء منه؛ ومن ثَمَّ تمنع الحكومات تملُّك الأجناب لها حفظًا لكيان الوطن ذاته. ولقد سارت مصر على هذه القاعدة إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ كانت قوانينها المقتبسة من قوانين تركيا وقتئذٍ لا تجيز التصرف للأجانب في الأراضي والعقارات، وكانت هذه حجة الخديو إسماعيل في معارضة شروط الامتياز التي نالتها شركة قناة السويس في عهد سعيد باشا وحصلت بمقتضاها على ملكية رقعة واسعة من الأراضي المصرية، ولكن مصر تحللت من هذه القيود وجعلت حق الملكية العقارية عامًّا للمواطنين والأجانب على السواء، فانتقلت على تعاقب السنين ملكية جزء كبير من الأراضي إلى الأجانب أفرادًا وشركات. فبحسب إحصاء سنة ١٩٤٦ يتبين أن مجموع الأراضي الزراعية في المملكة المصرية تبلغ ٥٩٠٣١٤٣ فدانًا منها ٣٥٧١٩٢ فدانًا يملكها الأجانب عدا ما لهم من حقوق عقارية على جزء كبير من الأراضي المملوكة للمواطنين. ومما يستوقف النظر في هذا الإحصاء أن الملكية الزراعية التي يزيد نِصابها على ألفي فدان يبلغ عدد ملاكها ٣٥ مالكًا «عدا الوقف» منهم ثمانية عشر من المصريين ومجموع ما يملكونه ٥٤٨٨٢ فدانًا، وسبعة عشر من الأجانب ومجموع ما يملكونه ١١٤٦٠٧ فدانًا؛ أي إن كبار ملاك الأجانب يملكون أكثر من ضعف ما يملكه كبار الملَّاك المصريين؛ ولهذا الوضع من الدلالة ما لا يخفى.
وفضلًا عن أن في انتقال ذلك الجزء الكبير من الأملاك الثابتة إلى أيدي الأجانب خطرًا على الكيان القومي، فليس معروفًا إلى أي مدًى يستفحل هذا الخطر في المستقبل إذا تُرك انتقال الملكية العقارية إلى الأجانب مطلقًا من كل قيد.
فالتطورات الاقتصادية والمالية، والوسائل الاستغلالية، قد تتنوع وتغري الملَّاك المصريين بمختلف الأساليب بالتصرف في أملاكهم للأجانب إذا لمحوا بريقًا من الكسب الوقتي، ولو كان بريقًا خدَّاعًا لا يلبث أن يكون سرابًا. فعلى الدولة أن تحتاط لكيان الملكية العقارية وتضع من القوانين ما يمنع تسرُّبها إلى أيدي الأجانب أفرادًا أو شركات. وليست هذه القوانين بدعًا في التشريع؛ فإن معظم الدول حتى العظمى التي لا يُخشى على كيانها الاقتصادي تسير على هذا الوضع، إما بمقتضى قوانينها أو بموجب الأمر الواقع بحيث لا ترخِّص للأجانب بامتلاك أملاك ثابتة في بلادها، ويكفي لمن يريد أن يتثبَّت من هذه الحقيقة أن يجرِّب طلب شراء أرض زراعية أو عقارات مبنية في أي بلد من هذه البلدان فإنه يصطدم حتمًا بقوانين تحظر تملُّك الأجنبي لشيء منها أو يُرفض طلبه بحكم الأمر الواقع المعمول به في هذه البلاد.
فهذه الحماية للملكية العقارية في الدول المتحضرة هي التي يستوحي منها المشروع المعروض على هيئة المجلس أحكامه ونصوصه.
وليس في هذا المشروع مساس بالحقوق المكتسبة للأجانب؛ فإنه لا يسري على ما يملكونه قبل أن يصير قانونًا بل يبقى ملكًا لهم، ولا يسري كذلك على ما يئول إليهم بعد صدوره بطريق الإرث، وبذلك تصان الحقوق المكتسبة للأجانب من كل وجه.
هذا إلى أنه قد قصر الحظر بالنسبة لأراضي البناء والعقارات المبنية على المخصصة منها للسكن، فأباح بذلك تملُّك الأجانب لهذا النوع من الأملاك الثابتة إذا كان الغرض منها إقامة المصانع أو المتاجر. وقد رُوعي في هذا التمييز ألَّا يضيِّق التشريع مجال النشاط الاقتصادي الصناعي والتجاري والمالي في البلاد إذا ساهمت فيه رءوس أموال أجنبية؛ ففي هذه الحالة لا يسري الحظر الوارد في المشروع لأن الأصل فيه أن يقتصر على الأملاك الثابتة دون المنقولة. ولما كانت المنشآت الصناعية والتجارية لا تُعد من الأملاك الثابتة فلا تدخل ملحقاتها العقارية في مدلول الأملاك المقصودة بالحماية التشريعية؛ لأن هدف المشروع إنما هو حماية الملكية الملتصقة أصلًا وحكمًا بأرض الوطن والتي تُعد جزءًا لا يجوز أن ينفصل عنه.
ولقد سبق للمشرع المصري أن أخذ بهذه الحماية ولكن في دائرة ضيقة؛ إذ حظر في المرسوم بقانون رقم ١١١ لسنة ١٩٤٥ على كل شخص طبيعي أو معنوي أجنبي الجنسية أن يمتلك بأي طريق كان غير الإرث عقارًا كائنًا بأحد المناطق التي تقوم على إدارتها مصلحة الحدود، ويسري الحظر في هذا المرسوم على كل وقف على أجنبي وتقرير حقوق عينية له.
فإذا كانت هذه الحماية قد رآها المشرع واجبة في حدود الوطن وأطرافه، فأولى بها أن تعم أرجاء البلاد جميعها.»
(١) خطوات المشروع
مشى المشروع وئيدًا في مجلس الشيوخ، ومع أنه لقي من الرأي العام تأييدًا كبيرًا ولم يلقَ من محيط الأعضاء معارضة ما، لكن يبدو أن تيارات خفيَّة كانت تعمل على عرقلته.
عُرض لأول مرة على المجلس بجلسة ١٣ ديسمبر سنة ١٩٤٨، فقرر قبل نظره موضوعًا إحالته إلى لجنة الشئون الدستورية لبحثه من الوجهة الدستورية ومن جهة انطباقه أو عدم انطباقه على معاهدة مونترو.
وقد بحثته اللجنة من هذه الناحية وانتهت إلى أن المشروع مقبول دستوريًّا ولا يخالف أحكام معاهدة مونترو، ووافقت الحكومة على ذلك بلسان مندوبها الذي حضر جلسات اللجنة وقدَّمت تقريرًا مستفيضًا في هذا الصدد.
عُرض هذا التقرير على المجلس بجلسة ٢٤ يناير سنة ١٩٤٩، فوافق عليه بالإجماع، وقرر إحالة المشروع إلى لجنة الموضوع وهي لجنة العدل، وقد بحثته هذه اللجنة بحثًا مستفيضًا ووافقت عليه بعد إدخال تعديلات عليه أهمها قصر حظر عدم تملُّك الأجانب على الأراضي الزراعية دون العقارات المبنية أو المعدَّة للبناء. وحضر جلسات اللجنة مصطفى مرعي بك وزير الدولة في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا، وأعلن باسم الحكومة موافقته على المشروع بعد التعديلات سالفة الذكر ودافع عنه دفاعًا حارًّا شكرته عليه، وقال إن مجلس الوزراء بحث المشروع وانتهى إلى قبوله والموافقة عليه. وقد بذل مصطفى مرعي بك جهودًا موفقة لدى سفارات بريطانيا وفرنسا واليونان لإقناعها بأن المشروع لا ينطوي على روح عدائية للأجانب بل يهدف إلى صيانة الثروة الزراعية وأنه مشروع اجتماعي له نظائره في التشريعات الأوروبية والأمريكية، وقد اقتنعت السفارات بدفاعه.
قدَّمت لجنة العدل تقريرها عن المشروع بعد التعديلات التي اتفقت عليها مع الحكومة، وعُرض التقرير على المجلس بجلسة ١٠ مايو سنة ١٩٤٩، فوافق على المشروع من حيث المبدأ، ولكن عند تلاوة المواد ثارت اعتراضات على بعض أحكامه ترتَّب عليها أن قرر المجلس إحالته إلى لجنتَي المالية والعدل مجتمعتَين لبحثه من الوجهة الاقتصادية والمالية.
وقد تعطَّل المشروع أمام اللجنتين طويلًا إلى أن نظرتاه مجتمعتَين في ٢٤ مايو سنة ١٩٥٠ وأقرَّتاه من جديد بعد تعديلات يسيرة، وعُرض تقرير اللجنتين على المجلس ونظره بجلسة ١٢ يونيو سنة ١٩٥٠، وفيها أثيرت مناقشات جديدة أخرى وأُبديت اقتراحات عديدة، فرأى المجلس إعادة المشروع إلى لجنة العدل لبحث الاقتراحات التي قُدِّمت في تلك الجلسة، وانفضت الدورة البرلمانية بعد ذلك فلم يتسع الوقت لانعقاد اللجنة. ولما حلَّت الدورة الجديدة اجتمعت اللجنة يوم ١٢ ديسمبر سنة ١٩٥٠ ودرست الاقتراحات والمناقشات التي أثيرت حول نصوصه فقبلت بعضها ورفضت البعض الآخر وقدمت تقريرًا جديدًا بالنصوص التي انتهت إليها، وهي لا تختلف عن جوهر المشروع إلا في قصر الحظر على الأراضي الزراعية دون العقارات والمباني، وعممت الحظر بالنسبة للأراضي الزراعية فأضافت إليها الأراضي القابلة للزراعة والأراضي الصحراوية باعتبار أن مآل هذه الأراضي أن تكون أراضي زراعية من طريق استصلاحها، وأدخلت تعديلات يسيرة في المواد الأخرى، وعُرض تقرير اللجنة على المجلس مرفقًا به نصوص المواد كما عدلتها اللجنة فأقرها بجلسة ١٨ ديسمبر سنة ١٩٥٠.
وبعد إقرار المشروع في مجلس الشيوخ أحيل إلى مجلس النواب فأقرَّه أيضًا وصدر به القانون رقم ٣٧ لسنة ١٩٥١ في ١٠ مارس من تلك السنة، ونُشر في «الوقائع المصرية» عدد ١٧ مارس سنة ١٩٥١، وقد حمدت الله على صيرورته قانونًا نافذًا من قوانين الدولة مع رجائي تعديله في المستقبل بجعل الحظر شاملًا المباني المعدَّة للسكن وأراضي البناء.
(٢) عندما تتشابه الأسماء
يشترك معي في اسم «عبد الرحمن الرافعي» بعض الأفراد الممتازين من أقاربي، فمنهم عبد الرحمن أمين الرافعي بك وكيل محكمة استئناف مصر الآن (١٩٥١)، والدكتور عبد الرحمن الرافعي مراقب الصحة المدرسية بوزارة المعارف.
وقد سبَّب هذا التشابه في أسمائنا سلسلةً من الحوادث الطريفة؛ فكثيرًا ما يحدث اللبس بيننا في المكالمات التليفونية وفي الخطابات الخاصة والعامة؛ ففي التليفون يسألني الكثيرون على اعتبار أني عبد الرحمن بك الرافعي وكيل محكمة الاستئناف «والأفوكاتو العمومي ورئيس النيابة من قبلُ»، أو على اعتبار أني الدكتور عبد الرحمن الرافعي، فأجيبهم بلطف أن «النمرة غلط» وأني لست المقصود بالكلام وأُرشدهم عن مقصدهم، والخطابات قد ترِد لنا خطأً فيعيدها كلٌّ منا إلى المقصود بالخطاب. وقد حدث في سنةٍ لا أذكرها أن قرأ صاحب قضية هامة في الصحف نبأ تعيين «عبد الرحمن الرافعي بك» رئيسًا لنيابة مصر، فانزعج لهذا الخبر، وكنت وكيله في هذه القضية، وكانت في آخر مراحلها، وظن أنه سيتعذر عليَّ أن أترافع فيها في اليوم الموعود بعد تعييني رئيسًا للنيابة، وراح يبدي دهشته ويقول: كيف يقبل الرافعي أن يكون رئيسًا للنيابة وهو الذي اعتذر عن منصب الوزارة؟! وهرول إلى مكتبي يسأل عن الخبر ليطمئن على قضيته، فرآني على مكتبي، واطمأن بعد أن فهِم أن رئيس النيابة هو ابن عمي.
وكثيرًا ما أُلبِّي نداء التليفون، فإذا بالمتكلم يستنجد بي لإسعاف مريض أو لإنقاذ سيدة مشرفة على الوضع، فأُفهمه أني لست الدكتور بل المحامي، وأُرشِده إلى رقم تليفون الدكتور عبد الرحمن الرافعي.
وأذكر ذات مرة أن الدكتور احتفل بزواج كريمته ونشر نبأ الزواج في الصحف، وإذا بي أتلقَّى رسائل وبرقيات التهاني، وعلى الرغم من أن اسمه ذُكر مسبوقًا بكلمة «دكتور» إلا أن الذين هنئُوني لم يترددوا في الأمر؛ إذ ظنوا أني أنا المقصود وأني لا بد أن أكون دكتورًا في القانون! وكان في مقدمة الرسائل خطاب من المغفور له الأمير عمر طوسون، وقد رأيت أنه ليس من اللائق أن أكتفي بإحالة خطابه إلى الدكتور الرافعي، فكتبت لسمُوِّه خطابًا رقيقًا شكرته فيه بالنيابة عن قريبي الدكتور، وأَرسل إليه الدكتور من ناحيته خطاب شكر آخر على تهنئته.