عندما دخلت الوزارة
كنت أصطاف في الإسكندرية سنة ١٩٤٩ حينما استقالت وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا يوم ٢٥ يوليو، وقد عهِد جلالة الملك إلى حسين سرِّي باشا تأليف الوزارة الجديدة، وهي وزارة ائتلافية تمثِّل الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين والحزب الوطني والمستقلين. ودعاني سرِّي باشا إلى الاشتراك في هذه الوزارة، وإذ كان لا يعرف المنزل الذي أصطاف فيه (رقم ١٤٣ بشارع الأميرة فوزية بسيدي بشر) فقد عهِد إلى أحد ضباط حرس الوزارة أن يستقل سيارة حكومية ليُبلغني رغبته في مقابلته بدار الوزارة ببولكلي، فجاء الضابط إلى المنزل حوالي الظهر يوم ٢٦ يوليو وسأل عني، فقيل له إني أتريض على الكورنيش وإني أعود بعد ساعة. فقال إن الأمر مستعجل فأرجو أن تعرِّفوني في أي جهة من الكورنيش يتريض «وليحضر معي خادم ليعرِّفني به.» فاصطحبه أحد الخدم في السيارة وذهب معه إلى الكورنيش، وما هي إلا بضع دقائق حتى رأياني عائدًا إلى المنزل، فوقفت السيارة ونزل الضابط والخادم. وحيَّاني الضابط وأبلغني رغبة سرِّي باشا في أن أقابله الآن، وبعد أن عدت إلى المنزل ذهبت معه إلى دار الوزارة، ووجدت هناك جمعًا من الصحفيين فقابلوني متهللين وقالوا لي: مبروك! فقلت: على إيه؟ فقالوا: مبروك الوزارة! وكنا في آخر أيام رمضان (وقفة العيد)، فقلت لهم: غدًا العيد فمبروك العيد! ثم دلفت إلى مكتب رئيس الوزارة وقابلت سرِّي باشا، وبعد تبادل التحية قال لي: هل تكون ثقيلًا هذه المرة أيضًا؟ فقلت: أنا لست ثقيلًا ولم أكن ثقيلًا في المرة الماضية، إشارة إلى اعتذاري عن دخولي وزارته الأولى سنة ١٩٤٠. واستوضحته برنامج الوزارة فأفهمني أنها وزارة قومية تعمل على توحيد الصفوف وائتلاف الأحزاب وإجراء انتخابات حرة، ألا توافق على ذلك؟ قلت: بل أغتبط به وأؤيده، ولكن ما هو موقف الوزارة تجاه معاهدة سنة ١٩٣٦؟ فقال: إني أعتبرها غير قائمة لأن البلاد أعلنت ذلك، وإن وزارتي مع أنها وزارة انتقال فإنها متمسكة بالجلاء ووحدة وادي النيل. فقلت: على بركة الله أقبل، وسألته في تلطُّف: وكم يكون للحزب الوطني من مقاعد في الوزارة؟ قال: مقعدان، وهذا تمييز مني للحزب الوطني فقد كان له في الوزارة السابقة وزيران في حين كان للأحرار الدستوريين ستة وزراء، وكذلك للسعديين، والآن سيكون له وزيران في حين أن لكل من الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين أربعة وزراء؛ أي إن نسبة الحزب قد ارتفعت في وزارتي. فشكرته على حديثه وعلى ثقته بشخصي ورجوت له التوفيق في مهمته، واستغرقت المقابلة نحو عشرين دقيقة، وانصرفت. فتلقَّاني الصحفيون بالأسئلة والاستيضاحات وعبارات «مبروك»، فتخلصت من زحمة الأسئلة بقولي: إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مشاورة. فقالوا: نريد أن نقول مبروك يا معالي الوزير، فأعدت عليهم قولي: مبروك على العيد لأن غدًا يوم العيد. فقالوا: بل نقصد الوزارة.
عدت إلى منزلي وأخبرت زوجتي بما حدث. فقالت: وهل قبلت الوزارة؟ قلت: نعم. قالت: ولكنك رفضتها فيما مضى. قلت: إن الظروف تغيرت؛ لأن برنامج الوزارة الجديدة لا يتعارض مع مبادئنا، ومع ذلك فإن الأمر لا يزال في دور المشاورة، فماذا ترين؟ قالت: إني أرى ما تراه فلتَقبل على بركة الله. فارتاحت نفسي لهذا الجواب، ولم أخبر أحدًا بالأمر. ومن حُسن الحظ لم يكن بالمنزل الذي أصطاف فيه تليفون فتخلصت بذلك من الأسئلة والأجوبة، إلى أن كانت الساعة العاشرة مساءً وإذا بطَرْق شديد على الباب، ففتحنا ووجدنا ضابطًا آخر غير الذي جاء ظهرًا يصحبه أحد أقربائي، وكان الضابط قد ظل يبحث عن منزلي ليلًا أكثر من ساعة وهو لا يهتدي إليه، إلى أن دله الناس على رافعيٍّ آخر هو الأستاذ جلال الرافعي، فطلب إليه في لهفة أن يصحبه إلى منزلي، فجاء معه وهنأني الاثنان بالوزارة، ورجاني الضابط أن أُسرع في ارتداء ملابسي لحلف اليمين أمام جلالة الملك، فقلت له: ولكن ليس عندي هنا ردنجوت. فأجابني: لا لزوم لها، والتعليمات أن يحضر أصحاب المعالي الوزراء بأي ملابس رسمية أو غير رسمية لأداء اليمين الليلة، فذهبت مع الضابط في سيارة الحكومة إلى دار الوزارة متأخرَين ووجدنا أن الوزراء قد سبقونا إلى سراي رأس التين فلحقنا بهم وهناك أقسمنا اليمين بين يدي جلالة الملك.
توليت وزارة التموين، وبدأت في فترة العيد أصرف بعض شئون الوزارة المستعجلة.
وقد قوبل دخولي الوزارة بارتياح عام، على أن صديقيَّ محمد محمود جلال بك والأستاذ محمود العمري لم يوافقاني على الاشتراك في الوزارة، وأرسل لي جلال بك خطابًا رقيقًا من جنيف يطلب مني فيه الاستقالة من الوزارة، وطلب مني ذلك أيضًا الأستاذ محمود العمري، ونظريتهما أن الاشتراك في الوزارة أيًّا كان برنامجها يتعارض مع سياسة الحزب الوطني، ولم يقنعاني برأيهما ولا أقنعتهما برأيي. أما نظريتي فهي أن الأمر مرجعه إلى برنامج الوزارة وسياستها، ورأيت في نظريتهما تشددًا لم أقرَّه، وأنا بطبعي أميل إلى الاعتدال وأراه أقرب إلى نشر الدعوة الوطنية واجتذاب الأنصار إليها، ومع اختلافي وإياهما في الرأي فقد حفظت لهما خالص الود والتقدير. ويطيب لي في هذه المناسبة أن أنوِّه بفضل الأستاذ محمود العمري؛ فهو من الوطنيين الملهَمين المغمورين في زحمة البلبلة والهرجلة التي يعيش فيها المجتمع، وقد اعتدت أن أشاوره في المسائل الهامة التي تحدثت فيها بمجلس الشيوخ وأفيد من أفكاره وآرائه ونظراته فيها، كبطلان المعاهدة، والتضخم النقدي، والأرصدة الإسترلينية، والمعاهدات ومواثيق الضمان، والميزانية، والمسائل الاجتماعية، وما إلى ذلك.
(١) مشاهداتي في الوزارة
تعلمت من الوزارة أشياء وحقائق كثيرة كنت في حاجة إلى تعرُّفها، حقًّا إني كنت أشعر ببعضها من قبلُ، ولكن الوزارة زادتني معرفة بها وعرَّفتني بغيرها.
لاحظت بعد دخولي الوزارة أن احترام الناس حتى أقاربي قد زاد على ما كان عليه أضعافًا مضاعفة. ولم تُرضني هذه الظاهرة؛ فإنها دلتني على قلة تقدير الناس للجهاد البعيد عن مظاهر الحكم بالنسبة إلى تقديرهم للجاه والمناصب، وقلة التقدير للخدمات التي تؤدَّى للبلاد ما لم يكن صاحبها ذا مركز حكومي كبير، ومعنى هذه الظاهرة أيضًا أني لم أكن محترمًا الاحترام الكافي قبل دخولي الوزارة، وهذا ما لم أرضَه لنفسي ولا للناس.
ويدخل في هذا السياق أني لم أُهنَّأ في حياتي على عملٍ بقدر ما هُنئت على دخولي الوزارة، مع أن دخول الوزارة في ذاته ليس عملًا بل هو ابتداءٌ لعمل. فإذا كانت التهنئة مقصودًا منها الشكر على عمل نافع فلينتظر المهنئون حتى يعمل الوزير عملًا نافعًا للبلاد فيهنئونه عليه. ولكن الحال هنا على عكس ذلك؛ إن التهنئة هي على الوزارة في ذاتها؛ أي على تقلُّد المنصب، أو بعبارة أخرى على كرسي الوزارة. وإني لواثق أنه إذا عمل الوزير عملًا يستحق التهنئة فقلَّما يُهنَّأ عليه التهنئة الكافية، وأغلب الظن أن يمرَّ ولا يلتفت إليه أحد.
تلقيت بعد أن دخلت الوزارة نحو ستمائة تهنئة برقية وبريدية، عدا التهاني الشخصية وهي تُعَد بالمئات؛ أي إني تلقيت نيِّفًا وألف تهنئة. وقد كنت أتساءل في خاصة نفسي: ليت شعري ألم يسبق لي عملٌ في حياتي الوطنية يستحق مثل هذه التهاني أو نصفها أو ربعها أو واحدًا في المائة منها؟ إني مع شكري العميق لمن هنَّئوني وتقديري لشعورهم النبيل كان لي أن أسأل نفسي هذا السؤال فلا أجد جوابًا عليه.
(٢) عملي في الوزارة
توليت بدخولي الوزارة أول منصب حكومي في حياتي. وكان بعض الناس يظنون أني لعدم خبرتي بالروتين الحكومي سأرتبك أو أعجز عن الاضطلاع بأعباء وزارةٍ هي في ذاتها من أعْقَد الوزارات ومن أكثرها مسئوليات (وزارة التموين). ولكني والحمد لله وجدت في الأسبوع الأول من توليتي شئونها أني أفهمها وأديرها إدارةَ خبرةٍ ودراية، وأن الاستقامة في إدارة شئون أي وزارة مع الكفاءة حتى المتوسطة هي الكفيلة بإصلاح الأداة الحكومية وجعلها أقرب إلى تحقيق مرافق البلاد ومصالح الجمهور.
أيقنت في الأشهر التي قضيتها بالوزارة أن استقامة الوزراء هي أساس الإصلاح؛ فالوزير المستقيم يُشيع روح الاستقامة في نفوس موظفيه كبارًا وصغارًا، ومن السهل على الوزير المستقيم حتى إذا لم يكن فنيًّا أن يستعين بآراء الفنيين في الوزارة. وإني أعتقد أن المستوى الفني لموظفي الوزارات عندنا هو مستوًى حسَن وممتاز ويمكن الاعتماد عليهم في النهوض بمرافق البلاد. ولكن على الوزير أن يكون، إلى جانب استقامته، غيورًا على العمل رقيبًا على الموظفين، يكافئ المحسن الأمين ويجازي المسيء والمقصِّر منهم، وأن يكون دءوبًا على الدرس والبحث وعلى جانب من الذكاء ويكفي أن يكون متوسط الفهم، وبذلك كله يفهم شئون وزارته ويديرها بنجاح وتوفيق.
بعد أن توليت الوزارة بعدَّة أيام ولمناسبة ذهابي إلى دار الوزارة بالقاهرة جمعت رؤساء المراقبات والإدارات وبعض كبار موظفي الوزارة وألقيت فيهم كلمةً كانت وحي اللحظة. قلت لهم فيما قلت: «لقد دخلت الوزارة لأول مرة وأنا لا أملك إلا سمعتي وماضيَّ الطويل، وقد جعلت سمعتي وتاريخي وديعة في أيديكم، فأنتظر منكم أن تحافظوا على هذه الوديعة.» فكان لهذه الكلمة العابرة أثرٌ عميق في نفوسهم ولاحظت هذا الأثر باديًا على وجوههم.
ومن الحق أن أقول إني، في الفترة التي تولَّيت فيها هذه الوزارة، وجدت كبار موظفيها ومتوسطيهم وصغارهم قد عاونوني بصدق وإخلاص، وحافظوا فعلًا على الوديعة التي ائتمنتهم عليها. وكانوا يرون مني أني في عملي لا أريد إلا الحق ورعاية مصالح الجمهور، ولا أريد لنفسي مغنمًا، لا في الحاضر ولا في المستقبل. وكنت ألمَح من طريقة عرضهم لشئون الوزارة وطريقة إبداء آرائهم في المسائل التي تستدعيها هذه الشئون أنهم يتوخَّون تلبية رغبتي في الوصول إلى الحق. وكانوا يرون من مناقشتي لهم أني أدرس مذكراتهم وآراءهم بروح الفحص والتدقيق، وأني رغم ميلي إلى الطيبة لا أتساهل في كل ما له علاقة بالصالح العام. فكان هذا حافزًا لهم إلى توخِّي هذا الصالح. ومن الحق أن أقول أيضًا إن أحدًا منهم لم يحاول أن يُدخل الغفلة عليَّ.
لم أُدخل الحزبية ولا الميول الشخصية في أعمالي ولا في معاملتي للموظفين، بل كنت أنظر إليهم جميعًا بعين العدل والمساواة؛ فمن كان له حق يناله، ومن لم يكن له حق لا أعطيه ما ليس له حق فيه. قد أكون أخطأت في التقدير، كالقاضي الذي يجوز عليه الخطأ في بعض أحكامه. ولكن ما دام الحق هو رائد الإنسان فإن هذا يكفي لاستقامة الأمور التي يضطلع بها. وبهذه الروح كنت أنظر إلى ذوي المصالح وطلاب الحاجات، كنت أنظر في طلباتهم كما لو كنت قاضيًا يقضي في دعاوى الناس ويُعطي كل ذي حق حقه. وكثيرًا ما كان يحضر لي أشخاص لهم طلبات في الوزارة ويصطحبون صديقًا أو قريبًا لي أو يُحضرون توصيات منهم، فكنت لا أعير هذه التوصيات التفاتًا ولا أعطي شخصًا إلا ما أعتقد أنه حقه.
لم أُعيِّن أحدًا من أقاربي أو أصهاري في الوزارة ولم أعطِ أحدًا منهم درجةً استثنائية.
لم أغيِّر أو أبدِّل في موظفي مكتب الوزير بل أبقيتهم كما كانوا في عهد الوزير السابق ولم أزد عليهم أحدًا. وخوطبت في إجراء ما أشاء من التغيير والتبديل أو الزيادة والنقص، فكنت أقول: ليبقَ كل موظف في مكانه، إني أعتبر نفسي أبًا ورئيسًا لجميع الموظفين، وهم في نظري سواء، فلا داعي للتغيير والتبديل.
وأحسبني لم أغيِّر من طباعي بعد أن توليت الوزارة، لم أتعاظم على الناس، وبقيت محتفظًا بديمقراطيتي وشعبيتي. حقًّا أن منصب الوزير محاط عندنا بمظاهر كثيرة من التفخيم والتعظيم. ولكن هذه المظاهر لم تؤثر في نفسي ولم أُلقِ إليها بالي، بل كنت أُعرض عنها أحيانًا. دعك من التحيات والتعظيمات التي يلقاها الوزير في ذهابه إلى الوزارة أو خروجه منها، فهذه مسائل مألوفة ولا بد من قبولها. ولكني لم أستطع أن أهضم الطريقة التي يقابل بها الوزير في محطة العاصمة أو الإسكندرية عند انتقاله من إحداهما إلى الأخرى؛ فقد كان يحيط بي ضابط أو ضابطان وثلة من الجنود يتقدمهم جندي ممتاز (لعله شاويش) يُفسح الطريق لي على رصيف المحطة. لم أقبل هذا الوضع بالذات وطلبت من الضابط أن يأمر الجندي بالتنحي عن السير أمامي، فنفَّذ ما طلبت، وكان الطلب وإجابته يتكرران كل مرة. ولم أكن أحجز ديوانًا خاصًّا لسفري بل كنت أكتفي بمقعد في عربة تكييف الهواء. وعندما كنت بالإسكندرية لم أغيِّر عادتي من التريض سيرًا على قدميَّ في طريق الكورنيش بعد غروب الشمس إلا في الأيام التي كنت أضطر إلى العودة للوزارة مساءً. وكان الجندي المرافق لي من حرس الوزارة يطلب مني بإلحاح أن يرافقني في نزهتي ولو بعيدًا عني؛ لأن التعليمات تقضي عليه بذلك، فكنت آمره بألَّا يرافقني لا من قرب ولا من بُعد. وفي بعض الأحيان — ترويحًا للنفس وتحررًا من مظاهر الفخفخة الوزارية — كنت أركب ترام الرمل في بعض تنقلاتي وأصرف سيارة الوزارة، وكان يلمحني بعض معارفي وأصدقائي راكبًا الترام فيُدهشون لهذا المنظر: منظر وزير يركب الترام! وشاهدني مرةً في هذه الحالة أحد مراسلي «الكتلة» فاعتقد أن في الجو أزمةً وزاريةً وأن الوزارة وشيكة السقوط وأبرق إلى صحيفته بذلك لأنه لم يتصوَّر أن وزيرًا يركب الترام، إلا إذا كان على أهبة الاستقالة.
وكان جيراني في المصيف يلاحظون أني أعود إلى منزلي بعد رياضتي سيرًا على قدميَّ، ويلاحظون على وجه العموم أني لم أتغير عما كنت عليه قبل دخولي الوزارة، بالرغم من مظاهر العناية والرعاية الحكومية التي أحاطت منزلي، كالكشك وحرس الوزارة وما إلى ذلك. وقد أقامت بلدية الإسكندرية عمودًا من النور أضاء الرحبة التي أمام المنزل وكانت من قبلُ مُظلمة، وأصلح عمالها الرحبة نفسها وسوَّوا أرضها وأزالوا منها أكوام الطوب والحجارة التي كانت منتثرة فيها، فحمِد الجيران هذه الصدفة التي جعلت جارهم وزيرًا، وبدا منهم نحوي شعور من الانعطاف والتقدير إذ رأوني لم أفارق تواضعي.
كنت أهتم بشكاوى الجمهور وأتولَّى فحصها وتحقيقها بواسطة الموظفين المختصين، ولا أكتفي بإحالتها على المراقبات المختصة بل أؤشر عليها بنفسي بوجوب تحقيقها وعرض نتيجة التحقيق عليَّ لأُبدي فيها القرار الأخير. وكانت إشاراتي المكتوبة كلها بخطِّي تُشعر الموظفين المختصين بأني رقيب عليهم، وكنت أسأل فعلًا بين حين وآخر عن نتيجة تأشيراتي على هذه الشكاوى. وساعدني على ذلك أني كنت أدوِّن في مذكرة خاصة (أجندة) أهم الشكاوى وأنتظر الوقت المناسب فأسأل عما تم فيها، وإذا تأخر تحقيقها كنت آمُر بكتابة استعجال عنها، فأدرك الموظفون أن عين الوزير ساهرة ترقبهم، وهذا وحده يساعد على استقامة الأمور.
وكنت آخذ معي يوميًّا عند انصرافي من الوزارة محفظةً تحوي المذكرات والتقارير المهمة التي يُطلب فيها قرار من الوزير وأدرسها بمنزلي ليلًا أو في الصباح الباكر وأكوِّن فيها الرأي الصحيح وأستدعي في الوزارة الموظفين المختصين وأناقشهم في تفصيلات هذه المذكرات فيعرفون أني درستها دراسة دقيقة، ثم أُصدِر القرار الذي أعتقد أنه يطابق العدل والصالح العام بحضورهم دون إرجاء أو تسويف أو وضع للملفات في الأرشيف، وكنت أميل إلى سرعة البت في الأمور التي يستدعيها عمل الوزارة، فأتولى دراستها بنفسي بعد أخذ رأي اللجان أو الموظفين المختصين، وكثيرًا ما كنت أستعجل دراستها لكيلا يتأخر البت فيها.
إن وزارة التموين موضع احتكاك وتضارب في المصالح والاتجاهات بين المنتجين والمستهلكين، وخاصةً بين الجمهور وطبقة التجار والشركات والرأسماليين، فكنت أيضًا أفصل في خلافاتهم بروح العدل والإنصاف.
وكانت نزعتي — وستبقى دائمًا — شعبية لا رأسمالية، فكنت أميل إلى إنصاف الطبقات الشعبية وأقف في صفهم ضد بعض الرأسماليين، ومن هنا صادفتني متاعب وعقبات تغلبت على كثير منها ولم يُعمل برأيي في بعضها.
وقد نسبت إليَّ بعض الصحف — بإيعاز من بعض كبار الرأسماليين — أني تنقصني الكفاءة الفنية في شئون التموين، وأن بعض الوزراء شكا إلى رئيس الوزارة هذا النقص. وقد ابتسمت حينما قرأت هذه النبذة؛ فأي كفاءة يقصدها هؤلاء السادة؟ إني في المحاماة أستطيع أن أناقش آراء الفنيين في الطب والهندسة والصناعة والملاحة والشئون المالية وما إليها، وأن أوازن بين تقاريرهم وآرائهم التي يُدلون بها أمام المحاكم، وأن أتعرَّف وجه الحق والصواب فيما يقرِّرون، فهل أعجز عن فهم الآراء الفنية في شئون التموين وهي أسهل بكثير من الأمور المعقَّدة التي تُعرض في ساحات القضاء؟!
وقد اشتد الخلاف على الأخص بيني وبين شركة السكر؛ إذ كنت أراها تعمل على إنقاص مقررات السكر للعائلات والأفراد والمصانع وتتباطأ في شحن هذه المقررات في الوقت المناسب مما أدى إلى ارتفاع سعر السكر في السوق السوداء، وجاءتني شكاوى كثيرة في هذا المعنى من مختلف البلاد، فأصدرت التعليمات للشركة بأن تفي بالتزاماتها، ولكني رأيت منها تلكؤًا متعمَّدًا في تنفيذها، فأصدرت قرارًا وزاريًّا (رقم ١٤٤ لسنة ١٩٤٩) بتاريخ ٢٩ سبتمبر سنة ١٩٤٩ ألزمتها فيه بشحن مقررات السكر الشهرية إلى جميع مناطق الاستهلاك طبقًا لِما تحدده وزارة التموين وأن يتم شحن هذه المقررات في ميعاد لا يتجاوز الخامس والعشرين من الشهر السابق للشهر المخصصة له، وحظرت عليها التصرُّف في أي نوع من السكر الخام أو المكرر بغير ترخيص من الوزارة. وألزمتها بإرسال بيان إلى الوزارة بالمركز الإحصائي للسكر الذي في مخازنها، وأن ترسل في الأسبوع الأول من كل شهر بيانًا برصيد السكر المكرر الموجود في اليوم الأول من الشهر السابق بمصنع التكرير بالحوامدية وبمخازن الشركة كلٍّ على حدة، وفرضت في القرار عقوبات على عضو مجلس الإدارة المنتدب ومديري الشركة في حالة مخالفتهم لأحكام هذا القرار.
وقد نُشر القرار في الجريدة الرسمية في عدد غير اعتيادي صدر في اليوم نفسه، فصار قانونًا نافذًا، ولاحظت أن توزيع السكر قد انتظم بعد صدور هذا القرار وارتاح الجمهور من هذه الناحية. على أن عضو مجلس الإدارة المنتدب قد ثار وشكاني إلى رئيس الوزارة، وكان يظن أن صداقته لسرِّي باشا تجعله فوق القانون، وفي الحق أن سرِّي باشا قد وقف من هذا الخلاف موقفًا قويمًا وتركني أتصرف في حدود سلطتي، ولم يتدخل في اختصاصي ولا وجَّه إليَّ أي اعتراض فيما اتخذت من إجراءات. وقد أكبرت منه هذا المسلك الذي يدل على روح محمودة من الاستقامة والنزاهة.
وفي ظني أني تغلبت على أزمة السكر بوقوفي هذا الموقف تجاه شركة السكر ثم بمبادرتي باستيراد كميات كبيرة من السكر من الخارج لكفاية الاستهلاك المحلي. وقد وافقتني لجنة التموين العليا على ما عرضته عليها من استيراد خمسين ألف طن من السكر وردِّ بعضها أثناء وجودي بالوزارة وورد البعض بعد خروجي منها.
وقامت في عهدي مشكلة أخرى وهي أسعار الأقمشة التي تنتجها شركات الغزل والنسيج المصرية؛ فقد كانت تشكو من مزاحمة الوارد من الأقمشة الأجنبية وتطلب زيادة الرسوم الجمركية على هذه الواردات حمايةً للإنتاج المحلي. وقد وافقت ضمن من وافقوا من الوزراء على هذه الحماية بزيادة التعريفة الجمركية على الأقمشة الواردة من الخارج، ولكني اشترطت أن تتعهد الشركات بألَّا تزيد في المستقبل من أسعار الأقمشة الشعبية التي تنتجها. وقد تعهدت بذلك، وأشير إلى هذا التعهد في المذكرة التي أقرَّها مجلس الوزراء في ٤ سبتمبر سنة ١٩٤٩. على أن مندوبي هذه الشركات قد قابلوني في أواخر أكتوبر وطلبوا مني الموافقة على زيادة هذه الأسعار زيادةً تتناسب مع ارتفاع أسعار القطن، فرفضت ذلك وذكَّرتهم بتعهُّدهم السابق، وبقيت الأسعار كما هي. وأظن أن هذه الشركات وغيرها قد اغتبطت لخروجي من الوزارة في ٣ نوفمبر سنة ١٩٤٩ حيث استقالت الوزارة الائتلافية؛ فقد قرأت بعد أسبوعين في صحيفة «المقطم» بالعدد الصادر يوم ١٩ نوفمبر خبرًا تحت عنوان: «ارتفاع أسعار الأقمشة الشعبية بدون مبرر» جاء فيه أن شركات الغزل والنسيج رفعت أسعار منتجاتها في الأسبوع الماضي. وبعد أن ذكرت الصحيفة مقدار الزيادة في كل صنف من هذه المنتجات، أضافت إلى ذلك قولها: وقد علمنا بعد كتابة ما تقدَّم أن هذه المصانع قد أعلنت صباح أمس (١٨ نوفمبر سنة ١٩٤٩) أسعارًا جديدة تزيد على الأسعار التي أشرنا إليها بمقدار ٥٪.
وتساءلت الصحيفة: «هل عند الحكومة أو المسئولين فيها علم بذلك، وهل وافقت أو وافقوا على هذه الأسعار الجديدة التي سيتحملها المستهلك فوق ما يتحمل من أعباء جسام؟ وهل هذا يتَّفق وتصريحات المسئولين كل صباح ومساء عن مكافحة الغلاء وخفض الأسعار؟»
وفي يقيني أني لم أكن متجنيًا على الشركات الصناعية عامة في منعها من زيادة أسعار منتجاتها؛ لأن هذه الزيادة لم يكن منشؤها الموازنة بين التكاليف والأسعار كما تدَّعي بل الرغبة الملحَّة في زيادة أرباحها. وقد أشرت إلى هذه الحقيقة في مناقشة سياسة حكومة الوفد نحو الغلاء بمجلس الشيوخ؛ إذ قلت بجلسة ٨ مايو سنة ١٩٥٠ إن شركات الغزل والنسيج لم تحترم تعهُّدها في سبتمبر سنة ١٩٤٩ وإنها رفعت أسعار منتجاتها من الأقمشة أكثر من ٣٠ «ثلاثين» في المائة عما كانت عليه في ذلك التاريخ. وقارنت بين أرباح هذه الشركات من واقع تقاريرها عن سنة ١٩٤٩ وبين أرباح شركات الغزل والنسيج في إنجلترا، فوجدت أن متوسط أرباح هذه الشركات في تلك السنة بلغت ١٥٪ من رأس مالها في حين أن أرباح شركات الغزل والنسيج في مصر في نفس هذه السنة بلغت ٣٧٪. وقلت إن من واجب الحكومة أن تحدَّ من هذه الأرباح لتكون في مستوى أرباح الشركات في بريطانيا، وأن القانون رقم ٩٥ لسنة ١٩٤٩ الخاص بشئون التموين يخول الوزارة هذا الحق، ولكن وزير التجارة والصناعة غنام باشا عارضني في هذا الرأي.
(٣) روح الائتلاف
لم أجد في الوزارة الائتلافية ما كنت أَنشده وأنتظره من إشاعة روح الائتلاف بين أعضائها، بل رأيت تنافرًا شديدًا بين مختلف الكتل الممثلة فيها. وقد أسفت لهذه الحالة وعددتها من نقائص حياتنا السياسية. وطالما أفضيت لبعض زملائي في الوزارة أن يكبحوا جماح الحزبية العنيفة وأن يبذلوا جهودهم في تدعيم الائتلاف لأنه تجربة تشهدها البلاد بعد سنوات طويلة من التناحر والشقاق. وقلت لهم إن الأمة قد اغتبطت بهذا الائتلاف اغتباطًا كبيرًا وأمَّلت من ورائه خيرًا كثيرًا وأنها ترقب في لهفة نجاح هذه التجربة، فإذا فشلت فإن الأمة ستكون معذورة إذا تزعزعت ثقتها في الأحزاب وفي كفاءتها وقدرتها بل وإخلاصها. وبالرغم من أني كنت أسمع تحبيذًا لآرائي من زملائي فإن تيارات الشقاق كانت تفعل فعلها في هدم الائتلاف، وساعد على ذلك لهجة بعض الصحف؛ إذ كانت تعمل على خلق الأسباب والذرائع لفضه. وكان الخلاف على أشده في تقسيم الدوائر الانتخابية وتوزيعها. ويبدو لي مما كنت أشاهده أن الوزراء السعديين لم يعملوا على نقض الائتلاف بل كانوا يسيرون في فلكه، وكذلك الوطنيون، وكذلك أيضًا شأن الوفديين في بداية عهد الوزارة. ورأيت الثورة على الائتلاف تبدأ من معسكر الأحرار الدستوريين، والعجيب في هذا الصدد أن أغلبية وزرائهم كانوا ميالين إلى بقاء الائتلاف ولكن الأقلية الصاخبة قد تغلبت على الأغلبية الهادئة.
وكان يمكن لرئيس الوزارة أن يتغلب مع ذلك على تيارات الشقاق ويعيد إلى الائتلاف كيانه؛ لأن عقبات جوهرية قد تخطَّتها الوزارة واجتازتها بسلام، ولم يكن بقي سوى عدد قليل من الدوائر الانتخابية اشتد عليها الخلاف بين الوزراء الوفديين والأحرار الدستوريين. وقد وافقت اللجنة الوزارية الموكول إليها تقسيم الدوائر على تحكيم رئيس الوزراء في أمر هذه الدوائر، ولكن لسببٍ لا أعرفه تنحَّى رئيس الوزارة عن قبول هذا التحكيم، ولو أنه قبِله لانتهى الخلاف على الدوائر المعدودة التي كانت مثار الخلاف. ويبدو لي أن عاملًا جديدًا ظهر في محيط الوزارة وعجَّل بسقوطها قبل أن تُتم مهمتها، وهو أن الوزراء الوفديين أخذوا يتنكرون للائتلاف ويعملون على إسقاط الوزارة لتحل محلها وزارة محايدة، وتلك كانت أمنيتهم بل أنشودتهم القديمة.
ولَعَمْرِي ليست التشكيلات الوزارية هي جوهر الموضوع، وإنما أدعو الله من كل قلبي أن تصفو نفوس المواطنين وتخف حدة ما بينهم من خلاف وشقاق؛ لأن أمام البلاد من الأعباء ما يستدعي أن نواجهها بجبهة متحدة، وأن وحدة الكلمة هي من أقوى الأسلحة في تحقيق أهدافنا القومية.