مذهبي السياسي

ليس الجلاء ووحدة وادي النيل هو وحده مذهبي السياسي، بل أراه لا يكفي إلا إذا كان له سند من مذهب جوهري آخر، هو الأساس لكل المذاهب الصالحة، وهو الاستقامة السياسية؛ فهي في نظري الأصل والمذاهب الصالحة متفرعة عنها.

إن من طبيعة المجتمعات الحرة المتقدمة أن تتعدد فيها المذاهب والبرامج السياسية، فلا يمكن لمجتمع حر أن يتألف منه حزب واحد إلا إذا سادته روح الدكتاتورية التي لا تحتمل حرية الرأي في السياسة والاجتماع.

ولست أرى في اختلاف المذاهب السياسية غضاضة على المشتغلين بشئون البلاد العامة، ولا أرى ضررًا من تعدد الأحزاب وتعدد المذاهب في السياسة. ولكن هناك مبدأ يجب أن يكون أساس قيام الأحزاب وتعدد مناهجها وبرامجها ودعامة كفاحنا السياسي، وهو الاستقامة السياسية؛ فالاستقامة السياسية هي خير مذاهب السياسة، وهي الوسيلة الفعلية لإفادة البلاد من المشتغلين بالسياسة أحزابًا وجماعات وأفرادًا.

الاستقامة السياسية هي التزام المشتغل بالسياسة جادة الصدق والنزاهة والخُلق القويم في حياته العامة وفي حياته الخاصة أيضًا، لا أقول هذا مبالغة مني في هذا المذهب السياسي، بل لأني أرى الاستقامة السياسية غالبًا ما تكون نتيجة للاستقامة الاجتماعية والشخصية.

كثيرون من الناس يظنون أن الحياة السياسية لا تتفق والاستقامة، ويرون أن الذي يَنشد الاستقامة يحسُن به أن يبتعد عن السياسة؛ لأن السياسة في نظرهم كذب وخداع ونفاق ورياء وتسابق على اقتناص المنافع الشخصية، وهذا وهمٌ سرى إلينا من التواء السياسة عندنا؛ فعلينا أن نحارب هذا الوهم لأنه ولا شك من أسباب تأخُّر الحياة السياسية وتأخُّر المجتمع تبعًا لذلك.

الاستقامة هي أساس السياسة الناجحة، وأقصد بالسياسة هنا السياسة الداخلية؛ أي علاقات الناس بعضهم ببعض في الشئون العامة.

أما السياسة الخارجية فالاستقامة فيها موضع نظر وخلاف. قد تكون الاستقامة السياسية غير مرغوب فيها في السياسة الخارجية؛ أي في علاقات الدول بعضها ببعض؛ فالكذب، والخداع، والغصب، والعدوان، ونقض العهود والمواثيق، لا تزال مع الأسف من وسائل النجاح في السياسة الخارجية. ومع ذلك فإن محبي السلام والإنسانية في العالم يدعون إلى الاستقامة في السياسة الدولية؛ أي في علاقات الدول والأمم بعضها ببعض، ويدعون إلى المساواة بينها، واحترام حقوق كل دولة في الحرية والاستقلال، ويستنكرون سياسة الغش والغصب والإكراه ويرون فيها مصدر الكوارث التي تصيب الإنسانية. حقًّا إن هذه الدعوة لم تُستجب إلى الآن ولا يزال أمام الإنسانية زمن طويل حتى تستجاب وتعم الدول جميعًا.

وعلى أي حال فإذا كانت الاستقامة مشكوكًا في صلاحيتها في السياسة الخارجية، فهذا القول ليس صحيحًا قطعًا في الحياة السياسية الداخلية، بل يجب لكي تنهض البلاد وتتخلص من نقائصها أن يتذرع الساسة والقوامون على شئونها العامة بالاستقامة والنزاهة؛ فالحياة السياسية، والحياة الحزبية، والحياة البرلمانية، والحياة الصحفية، يجب أن تسودها روح الاستقامة لكي تكون حياة ناجحة منتجة خيرًا للمجتمع.

ولا يظنن أحد أن البلاد تفيد من حياةٍ عامة تتنكب سبيل الاستقامة؛ قد يتقدم المرء في المجتمع بغير الاستقامة، ولكن هذا التقدم يكون على حساب مصالح الوطن العليا، وليس هذا هو السبيل لتقدُّم المجتمع.

فعلينا أن نتذرَّع بالاستقامة في حياتنا السياسية، وأن نُقيم بناءها على هذا الأساس؛ فإنه الكفيل بتحقيق أهداف البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع. يجب أن يكون قوام الأحزاب والجماعات إيمان أعضائها بمبادئ معينة يقتنعون بها ويعتقدون صلاحيتها للنهوض بالبلاد، ويسيرون عليها ويخدمونها، وينفذونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. أما قيام الحياة السياسية على أساس العبارات الجوفاء والكلمات البراقة المطاطة، والروابط الشخصية، والسعي وراء المصالح الذاتية؛ فإن هذا يؤدي لا محالة إلى تراجع الحياة العامة ويعرقل تقدُّم الأمة وإصلاح شئونها.

وعلى من يشتغل بالسياسة سواءً تحت لواء الأحزاب أو مستقلًّا — على أن يكون هذا الاستقلال استقلالًا حقيقيًّا — أن تكون له مبادئ عامة يعتنقها ويعمل على تحقيقها ويصدر عنها في أعماله وتصرفاته، لا أن يكون هدفه الوحيد أن ينال لنفسه مركزًا ممتازًا في المجتمع فحسب.

إن من أسباب تأخر الحياة السياسية اتخاذ المشتغلين بها انضمامهم إلى الأحزاب وسيلة لإدراك المراكز الممتازة فحسب؛ فإن هذا الهدف يصرفهم عن السعي للنهوض بالبلاد عامة. ولعل هذا يفسر لنا تلك الظاهرة التي تبدو أحيانًا عندنا، وهي سرعة تنقُّل بعض المشتغلين بالسياسة من حزب إلى آخر؛ فكثرة هذا التنقل لا تدل على إيمان عميق بالمبادئ السياسية، ولا على تقدير للاستقامة، بل تدل على الرغبة في الوجاهة؛ أي أن يكون المرء وجيهًا في المجتمع، وليس هذا هو الهدف القويم للحياة السياسية المستقيمة.

إذا عمَّت روح الاستقامة والنزاهة محيطنا السياسي أفادت كثيرًا في تقدُّم البلاد وارتقاء الروح العامة للمواطنين، وعلى الأحزاب أن تحرص على سلامة هذه الروح فإنها عُدة الأمة وعتادها في نهوضها مواجهتها للحوادث والأحداث، وعلى الأحزاب أيضًا أن تكون لها مذاهب وبرامج معيَّنة واضحة المعالم تعمل على تنفيذها سواءً كانت في الحكم أو في المعارضة، عليها أن تحترم برامجها وتحترم وعودها للناخبين لكي تكتمل ثقة الأمة بأحزابها وجماعاتها والقائمين على شئونها؛ فالثقة المتبادلة بين الأحزاب والأمة، وبين الحكام والمحكومين، هي من العوامل الفعالة في تقوية جبهة البلاد ومقاومة عوامل الضعف والفساد.

إن الاستقامة والنزاهة هي المذهب السياسي الأول لمن يريدون أن يخدموا البلاد عن طريق الاشتغال بالسياسة، وهي السبيل إلى إصلاح ما فسد من شئون الحكم وإلى جعل الأداة الحكومية أداة إنتاج وتقدُّم ومناعة وذود عن حقوق البلاد وكيانها. الاستقامة هي أساس كل صلاح وفلاح، وقد جمع فيها رسول الله أطراف الإسلام كافة؛ إذ سأله سفيان بن عبد الله الثقفي أن يقول له في الإسلام قولًا لا يسأل عنه أحدًا غيره، فأجابه رسول الله صلوات الله عليه بهذا الجواب الجامع المانع الحكيم: «قل آمنت بالله ثم استقم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤