الحياة العملية
(١) في المحاماة
(٢) في الصحافة
فما إن دعاني فريد بك إلى أن أشتغل بالصحافة محرِّرًا باللواء حتى قبلت دعوته، وبدأت حياتي الصحفية في أكتوبر سنة ١٩٠٨ على عهده، ومن يومئذٍ ازدادت صلتي به؛ إذ كان يُشرف على سياسة «اللواء» وتحريره ويكتب فيه كثيرًا ويتردد عليه يوميًّا، وكنت أسمع منه ثناءً على ما أكتب. وأذكر أني كنت أترجم إلى اللغة العربية مقالات المرحوم إسماعيل شيمي بك أحد أعلام الحركة الوطنية، وكان يكتبها بالفرنسية؛ إذ كان يتقنها دون اللغة العربية، وكانت آية في البلاغة، فجهدت نفسي في أن أُبرِزها إلى اللغة العربية في مستوًى لا يقل عن بلاغتها الأصلية، ولعلِّي وُفقت إلى بعض ما كنت أرجو، وكان فريد بك يراجع ترجمتي لمعظم هذه المقالات ويبدي لي إعجابه بها، فشجعني ذلك على الكتابة والترجمة.
وكنت أميل إلى كتابة المقالات المتسلسلة في موضوع واحد، ومن هنا نشأ ميلي إلى التأليف؛ إذ وجدت أن المقالة الواحدة في الصحف لا تتسع للموضوع الذي كنت أفكر فيه.
وأذكر أن أولى سلسلة مقالاتي كانت في موضوع الدستور، وعنوانها «آمالنا في الدستور»، بلغت عدتها سبع مقالات نُشرت باللواء في أكتوبر ونوفمبر سنة ١٩٠٨، وتوليت الرد على تقرير السير إلدون جورست المعتمد البريطاني عن سنة ١٩٠٨، فكتبت في ذلك تسع عشرة مقالة نُشرت في شهر مايو سنة ١٩٠٩ تضمنت عرضًا تحليليًّا للحركة الوطنية وموقف الاحتلال والحكومة حيالها.
وكتبت عدة مقالات عن حياتنا الاقتصادية وما يتهددها من خطر، وعن الاحتلالين السياسي والاقتصادي، والانقلابات الاقتصادية (اللواء ١١ و١٤ و٢١ يناير و٢٨ فبراير و٧ مارس سنة ١٩٠٩).
(٣) مدارس الشعب
وجَّه الحزب الوطني الشباب إلى المساهمة في بناء النهضة القومية في مختلف نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن أعماله في الناحية الاجتماعية إنشاؤه مدارس الشعب الليلية في أواخر سنة ١٩٠٨، وكان الغرض منها تعليم الفقراء والعمال مجانًا، وقد تطوعت مع لفيف من الشباب للتدريس في هذه المدارس، ووضع الحزب برنامجًا لها يتناول المواد الآتية: القراءة والكتابة، دروس الدين، قانون الصحة والاحتياطات الصحية، العناية بتربية الأطفال، القوانين الخاصة بالمعاملات اليومية، الشئون الاجتماعية، دروس الأشياء، الحساب، تاريخ مصر والتاريخ الإسلامي، جغرافية مصر، أخلاق وآداب.
وبلغ عدد المدارس التي أنشأها الحزب في القاهرة سنة ١٩٠٩ أربع مدارس في أقسام الخليفة وبولاق وشبرا والعباسية. تحوي كلٌّ منها نحو مائة وعشرين تلميذًا من مختلف الحِرف، وقد أُلقيت بعض الدروس في مدرسة الخليفة، وسمعت محمد بك فريد يُلقي فيها درسًا، وسمعت أيضًا أحمد بك لطفي يُلقي درسًا في مدرسة بولاق.
وأنشأ نادي المدارس العليا عدة مدارس أخرى على غرار هذه المدارس.
كان لمدارس الشعب فضل كبير عليَّ، فهي التي ألهمتني الفكرة الأولى لتأليف كتابي «حقوق الشعب»؛ فإن هذا الكتاب هو سلسلة دروس ومحاضرات لتفهيم الشعب حقوقه وواجباته، وكانت دروسي في مدرسة الشعب بالخليفة نموذجًا مصغرًا للأسلوب الذي انتهجته في هذا الكتاب.
(٤) عودتي إلى المحاماة
حدث تحوُّل في حياتي العملية في أواخر سنة ١٩٠٩، ذلك أن زميلي وصديقي المرحوم الأستاذ أحمد وجدي الذي كنت أُعزُّه وأُنزله من نفسي منزلة الأخ الشقيق، رغَّب إليَّ أن أترك الصحافة، وكان هو أيضًا يعمل فيها رئيسًا لتحرير جريدة الدستور التي كان شقيقه الأستاذ محمد فريد وجدي بك يتولى إصدارها، وقال لي إننا يمكننا أن نشتغل بالمحاماة مستقلين، وأن نكتب في الصحف ما نشاء من الآراء والمقالات، وإن ذلك أولى من الانقطاع للصحافة مما قد يُفقدنا ميزة الاستقلال في حياتنا العملية. وقد ترددت في قبول هذه الفكرة؛ إذ كنت منصرفًا عنها، وما زال يُقنعني بها حتى قبلت نصيحته بعد أن أمعنت النظر فيها ورأيتها في جملتها أصوب من انقطاعي للصحافة، وأدركت مع الزمن أنه أسدى لي أعظم نصيحة، وساءلت صديقي حين تبادلنا الرأي في تحقيق فكرته: كيف نشتغل بالمحاماة مستقلين وأنا لم أتمرن عليها إلا شهرًا واحدًا وهو أيضًا لم يقضِ مدة كافية في المران عليها؟ وانتهينا إلى أن الحياة يجب أن تنطوي على شيء كثير من المجازفة، فعوَّلت وإياه على الانقطاع عن مهنة الصحافة، وعملنا معًا في المحاماة بمدينة الزقازيق منذ يناير سنة ١٩١٠، وفتحنا في تلك السنة مكتبًا آخر لنا بالمنصورة كنت أتولى مباشرة قضاياه، ثم انتقلت بمفردي إلى المنصورة واستقر بي المقام فيها منذ أكتوبر سنة ١٩١٣ حين أُنشئت بها المحكمة الابتدائية، وظللت بها نحو عشرين سنة، إلى أن انتقلت نهائيًّا إلى القاهرة في ديسمبر سنة ١٩٣٢.
وقد ارتحت كثيرًا إلى التحول من الصحافة إلى المحاماة لأنني رأيتُني قد بدأت حياتي في المحاماة هذه المرة (سنة ١٩١٠) بداية حسنة، ولم أجد فيها الصعوبة التي كنت أتخيلها، بل شعرت كأني متمرن عليها، فألِفتها وأحببتها، وأدركت أنها هي المهنة التي يجب أن أختارها لأؤدي واجبي الوطني إلى جانب واجباتي الشخصية، وأخذت أكتب المقالات من آنٍ لآخر وأبعث بها إلى جريدة «العلم» لسان حال الحزب الوطني، وظهرت أول مقالة لي وأنا محامٍ في عدد ١٣ مارس سنة ١٩١٠ تحت عنوان: «قوة الرأي العام والحكومة». وكتبت في عدد ٣٠ مارس من تلك السنة مقالة مطولة عنوانها: «الشدائد خير مربٍّ للأمم»، هنأني عليها فريد بك؛ إذ جاءت مطابقة للظرف الذي نُشرت فيه مطابقة عجيبة؛ فقد أرسلتها إلى جريدة العلم في الوقت الذي صدر فيه قرار وزارة الداخلية بإيقافها شهرين، ولم أكن أعلم بصدور هذا القرار، فنشرها الحزب في أول عدد من جريدة «الاعتدال» التي اتخذها لسان حاله مدة إيقاف العلم، فهوَّنت على القراء أمر الإيقاف؛ إذ دعوت فيها إلى مقابلة الاضطهاد بالصبر والثبات، وكأنها كُتِبت ردًّا على قرار وزارة الداخلية، فكان لها ضجة استحسان كبيرة، وصارت حديث الناس في مجالسهم، وبخاصة حين علموا أني كتبتها دون أن أعلم بقرار إيقاف «العلم»، واستبشروا خيرًا بما أكتب، وطلب مني فريد بك المزيد من الكتابة، فكان ذلك التشجيع حافزًا لي على توكيد صلتي بالصحافة، وزاد في توطيدها أن أخي «أمين» كان محرِّرًا مقيمًا بصحيفة الحزب الوطني ثم رئيسًا لتحريرها.
وفي سبتمبر سنة ١٩١٠ انقطعت مؤقتًا عن مكتبي، وتولَّيت رئاسة تحرير العلم في غيبة شقيقي أمين الذي سافر إلى أوروبا لحضور جلسات المؤتمر الوطني الذي انعقد ببروكسل في ذلك العام وموافاة العلم برسائل المؤتمر، وكان الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس التحرير يقضي مدة السجن المحكوم بها عليه من محكمة جنايات مصر في قضية «وطنيتي»، وكانت إدارة العلم بشارع محمد علي بالمنزل رقم ١١٦.
(٥) في مؤتمر بروكسل سنة ١٩١٠
ولما رجع المرحوم أمين من بروكسل عدت إلى عملي في المحاماة.
(٦) في المؤتمرات الوطنية
كان الحزب الوطني يعقد مؤتمرات سنوية تجتمع فيها الجمعية العمومية للحزب ويستعرض فيها فريد بك تطور الحركة الوطنية في العام المنصرم، وكانت هذه الاجتماعات تُسمَّى المؤتمرات الوطنية، وأهمها مؤتمر سنة ١٩٠٨ و١٩١٠ و١٩١١.
وكنت أحضر هذه المؤتمرات كعضو في الحزب الوطني، وقد انتُخبت عضوًا في اللجنة الإدارية للحزب في مؤتمر سنة ١٩١١ الذي انعقد بدار العلم بشارع الصنافيري (علي باشا ذو الفقار الآن)، وانتُخب فيه فريد بك رئيسًا مدى الحياة.
(٧) مع فريد في أوروبا
في سبتمبر سنة ١٩١١ صحبت فريد بك في رحلته إلى أوروبا لحضور مؤتمر السلام الذي كان مزمعًا اجتماعه بروما في أواخر ذلك الشهر. وكان لمصاحبتي إياه في هذه الرحلة أثر كبير في نفسي وزادت صلتي الروحية به؛ إذ رأيت من عطفه وحنانه الأبوي، ودماثة أخلاقه، ورقَّة شمائله، ما حبَّبه إلى نفسي. وصحبنا في هذه الرحلة الأستاذ أحمد وفيق. وقد أفدنا كثيرًا منها لأن فريدًا كان يعرف أوروبا من قبلُ معرفة تامة، فكان يرشدنا إلى ما يجب أن نتعلمه ونعرفه ونشاهده في البلاد التي زرناها. وصحبنا في جزء من الرحلة الدكتور منصور رفعت، وأُخذت لنا صورة بباريس تذكارًا لسياحتنا مع الفقيد.
وفي هذه الرحلة زرنا إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وعرَّجنا بالآستانة، وعدنا منها إلى مصر. وكتبت خلال سفري عدة مقالات عن مشاهداتي وخواطري في السفر، منها مقالة بعنوان «الأمم سيف وأخلاق» أرسلتها من تورينو بإيطاليا ونُشرت في عدد ٦ أكتوبر سنة ١٩١١ من العلم، ومقالة عن «الإسلام في إفريقية، مسألة طرابلس الغرب والمسألة المراكشية» أرسلتها من باريس ونُشرت في عدد ١٦ أكتوبر، ومقالة عن «الوطنية والإنسانية وكيف يفهمونهما في أوروبا» نُشرت في عدد ٢٠ أكتوبر، ومقالة عنوانها «يومان في مجلس المبعوثان» أرسلتها من الآستانة ونُشرت في عدد أول نوفمبر سنة ١٩١١.